المسلمون والتسامح ·· موقف متميز

المسلمون والتسامح ·· موقف متميز

لعل ألصق القواعد بموضوعنا هذا تلك التي تنص >على إباحة الحريات: حرية العقيدة، والإقامة والتنقل، ومزاولة الحرف من دون تقييد مادامت هذه الحريات لا تضر بمصلحة المجموع وتراعي المبادئ الأخلاقية في السلوك الفردي وفي العلاقات الاجتماعية<(15)·
ومهما يكن الأمر في استخلاص دلالات هذه الصحيفة في جانبيها السياسي والتنظيمي أو في التحرير الفقهي لبنودها، فإنها حافلة بدلالات أخرى تتعلق بما وراء بنودها من التوجه نحو وحدة الشعور بالجماعة الإنسانية، وحميمية العلاقات فيما بين أفرادها على اختلاف الانتماء الديني والقبلي، ومن ثم في الصحيفة إشارات لابد أن نتدبرها الى >المعروف والقسط< اللذين اعتبرا مدخلا عاماً لها، وتكرر تسع مرات فيها، وإلى أن >ذمة اللّه واحدة<، و>أن سلم المؤمنين واحد<، و>أن النصر للمظلوم<، و>أن الجار كالنفس غير مضار<، و>أن الله على اتقى ما في هذه الصحيفة وأبره<، و>أن البر دون الإثم<، و>أن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة<، وأن اليهود مواليهم وأنفسهم >على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة<، و>أن الله جار لمن بر واتقى<·
إن هذه الصحيفة قد صدرت عن رؤية إيمانية شاملة ترى الإحسان الى الآخر المختلف عقديا أو دينيا على أنه توسعة للذات وميدان لفضائلها ولما تتمتع به من معروف وقسط وبروتقوى وصدق، وحسبك من ذلك كله التماساً لوحدة الشعور الإنساني في المجتمع الواحد أو تعزيزا لوحدة الخلق، على تنوع مللهم ونحلهم وألسنتهم، في مقابل وحدانية الخالق الذي شاء سبحانه أن يجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، وأن يجعل لكل منهم شرعة ومنهاجا، وقضت حكمته ألا يزالوا مختلفين حتى يبلوهم أيهم أحسن عملا وأيهم أتقى له وأقوم سبيلا·
وقد سار خلفاء الرسول [ على منهاجه القويم، في عدم الإكراه في الدين، فجاءت امرأة إلى الخليفة >عمر بن الخطاب< في حاجة وكانت مشركة فدعاها للإسلام فأبت، فقضى حاجتها، لكنه خشي أن يكون في تصرفه هذا ما ينطوي على إكراهها للدخول في الإسلام، فاستغفر اللّه عما فعل وقال: >اللهم إني أرشدت ولم أكره<(16)·
ونصت معاهدة >خالد بن الوليد< لبلاد عانات(17) على >أن لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة وعلى أن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم<، كذلك معاهدة >حذيفة بن اليمان< مع أهل >ماه دينار<(18) على >إعطاء الأمان على أنفسهم وأموالهم وأرواحهم ولا يغيرون عن ملة ولا يحال بينهم وبين شرائعهم ولهم المنعة<·
وفي مصر استطاع >عمرو بن العاص< أن يعقد مع من سلموا له حصن >بابليون< صلحا شرط لهم فيه أن لا تباع نساؤهم وأبناؤهم ولا يسبون وأن تقر أموالهم وكنوزهم في أيديهم(19)، أما صلح الإسكندرية فقد حوى أيضاً >أن يكف المسلمون عن أخذ كنائس القبط وألا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل ويتاح لليهود الإقامة في الإسكندرية<(20) وحرص >عمرو بن العاص< في أول خطبة ألقاها على الجند الذين دعاهم الى الذهاب إلى الريف في مصر أن يوصيهم بحسن معاملة الأقباط وقال: >واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا<(21)·
وفي ضوء العهود السابقة وغيرها في عصر الراشدين وكذلك عصر الأمويين، تأكد لنا أنه كانت تقوم على أساس المعاملة المتسامحة مع أهالي الأديان الأخرى، وإتاحة الحريات والحقوق كافة، فأعطيت لهم الحرية الدينية في ممارسة شعائرهم وطقوسهم، كذلك نالوا الحرية المدنية من خلال ما أتاحه لهم المسلمون من حماية وأمان على أرواحهم وأموالهم وأنفسهم، وما إلى ذلك مما يجعلهم يعيشون كيف شاءوا·
كما أن المسلمين لم يكتفوا بهذه العهود التي تبرم مع غير المسلمين التي تكفل لهم هذه الحريات السابقة، ومن ثم وجدنا الخليفة >عمر بن الخطاب<] حريصا على أن يلحق هذه العهود بوصايا من قبله موجهة إلى جميع كل القادة والولاة بأن يمنعوا المسلمين من ظلم أهل الذمة وأن يوفوا لهم بعهودهم وألا يكلفوهم فوق طاقتهم(22)·
وهذه الروح التي نصت عليها تلك العهود لم تكن مجرد إطار نظري وضع للمعاهدين، لكنه طُبق عمليا في كل البلاد المفتوحة، ولم يكن فرض الجزية على أهل الذمة عقابا لهم لامتناعهم عن الدخول في الإسلام، بل كان مقابل الحماية لهم وتأمينهم في دار الإسلام، فإذا كان المسلم يتحمل كثيرا من الأعباء باعتباره دافعا للزكاة ويؤدي الخدمة العسكرية للذود عن الإسلام، فلا أقل من فرض الجزية على الذمي، لذلك كان هناك ارتباط بين المنعة والجزية حتى يتعادل الفريقان في تحمل المسؤولية باعتبارهما رعاية لدولة واحدة، كما تعادلا في التمتع بالحقوق وتساويا بالتمتع بالمرافق العامة للدولة·
في ضوء المبادئ الإسلامية النبيلة، وهدي الدين القيم، وأهدافه السامية· وعلى أساس من إقامة ميزان العدل وإشاعة الحرية والمساواة ورفع مشعل الهداية جاء الفتح الإسلامي لبيت المقدس مرتين، مرة في أيام >عمر بن الخطاب<، والثانية في أيام صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنهما·
وتأتي رسالة >عمر< الى أمراء الشام نموذجا للتسامح الديني والسلوك الحضاري الراقي فلا تهدم كنائسهم ولا يكرهون على دينهم، وحين دخل >عمر بن الخطاب< بيت المقدس، وكان في كنيسة القيامة، حان وقت الصلاة، فصلى >عمر< على مقربة من الكنيسة، ولم يصل داخلها خشية أن يتخذ المسلمون صلاته داخل الكنسية ذريعة فيضعوا يدهم عليها· ثم زار >عمر< ] مكان الهيكل ولاحظ أن الأقذار قد تجمعت عليه فراح يحمل التراب بكفيه وتبعه الصحابة، إلى أن برزت الصخرة التي كلَّم الله عليها يعقوب، وأمر ببناء المسجد عليها (العام 637م)·
وبينما >عمر< يتفقد المدينة ويبحث شؤونها أتاه رجل من النصارى له ذمة مع المسلمين في كرم عنب، فشكا إليه همَّه، وعندما استوثق >عمر< من أن المسلمين قد أكلوا ما في الكرم في أثناء الفتح لشدة ما أصابهم من جوع، أعطى الرجل ثمن ما أكلوه، وقد أمر رجاله بالعدل قائلاً قولته الشهيرة: >متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا<·
وقد حظي نصارى بيت المقدس بالرعاية التامه، بحيث كفلت لهم الدولة الإسلامية الحرية المطلقة في ممارسة عقائدهم الدينية وأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية، وقد عنى بهم سلاطين المماليك حتى إن رئاسة بطريرك السريان كانت تصدر بمرسوم من السلطان في القاهرة، وأعفوا من الرسوم المفروضة على كنسية القيامة وكانت التوصية عليهم بالإحسان لهم ومعاملتهم معاملة حسنة، وفي عهد السلطان >برسباي< استمرت هذه الامتيازات·
ولقد سكن بيت المقدس الروم الأرثوذكس، وشملتهم سماحة الإسلام كغيرهم من الطوائف الأخرى - مثل الأرمن - وقد اكتسب وجودهم شكلا شرعيا من خلال مراسيم سلطانية تحافظ عليهم وترعى حقوقهم وتوصي بهم خيرا، وقد حدد >محمد بن قلاوون< هذه المزايا من خلال مراسيم عدة لعل من أهمها >ألا يتعرض أحد إلى أديرتهم ولا إلى كنائسهم ولا لشيء من أراضيهم<(23)·
وبمثل هذه الروح الطيبة فتح المسلمون أبواب بلادهم أمام اليهود، ليدخلوا آمنين، وينتقلوا بين ربوعها سالمين، وسمحوا لهم بممارسة نشاطهم الخاص والعام على أوسع نطاق، وأباحوا لهم التتلمذ على أيديهم والأخذ عنهم، وأجازوا لهم الكثير من المهام والاعمال والمناصب الرسمية وغير الرسمية، فكان منهم التجار والصيارفة والأطباء والوزراء، ولا أدل على ذلك من تسامح المسلمين مع اليهود بالسماح لهم بالاحتفاظ بهياكلهم ومعابدهم في بيت المقدس في الوقت الذي أمرت الكنسية في غرب أوربا بتحطيم هياكلهم وإهدار دمهم·
وتشير مصادر التاريخ الأيوبي إلى أن القدس في عهد >صلاح الدين< شهدت قدرا عظيما من التسامح أتاح لساكنيها من غير المسلمين الفرصة لممارسة أنشطتهم اليومية بحرية مطلقة، مما أتاح الفرصة لـ >صلاح الدين< أن يعنى بالخدمات العامة وإنشاء >البيمارستانات<(24)·
وإذا كان المسلمون قد تعاملوا مع أهل الذمة بقدر عظيم من التسامح أملته قيم الإسلام وتعاليمه إلا أن الصليبيين حينما استولوا على بيت المقدس العام 492م وظلت تحت وطأتهم زهاء قرن من الزمان قتلوا من أهلها خلقا كثيرا وانتهكوا حرماتهم، وكانوا لا يطلقون أسيرا إلا بفدية، ولم يحفظوا جميل المسلمين الذين صانوا آثار أهل الكتاب صيانتهم لآثارهم(25)·
إن التسامح الذي نراه هنا فعل إيجابي ومروءة نفسيه وتوجه صادق نحو الآخر، لا موقف سلبياً اضطرارياً، وخصوصاً أن الاختلاف بما هو حقيقة كونية وإنسانية لا ينبغي أن يحول دون استشعار معنى الرحمة الجامعة لبني الإنسان، ولعل مقاربة أخرى من الصحيفة وأخواتها تطلعنا على اعتراف الإسلام بالتعددية المليّة في الأرض، وعلى ذلك شرط موضوعي للتعارف الذي يتجاوز معرفة الآخر إلى (القسط بالمعروف) معه وإلى أن يكون >كالنفس غير مضار< و>أن يكون البر المحض< هو ضابط العلاقة معه وميزانها·
ومن مظاهر تسامح المسلمين مع غيرهم من أصحاب الملل الأخرى، ما ألفيناه في الأندلس من منح المسيحيين واليهود حرية العبادة وإقامة الكنائس والأديرة والبيع، وممارسة شعائرهم الدينية، فضلا عن استخدامهم في وظائف الدولة إلى حد اتخاذ بعض الوزراء والكتَّاب منهم، حتى اشتهر من اليهود والنصارى عدد من أعلام الأندلس في الطب والفلسفة والأدب وسائر العلوم والفنون، بل أيضا تجلى هذا التسامح في مشاركتهم بالإحتفال في بعض أعيادهم·
وقد بلغ من تفشي هذه الظاهرة في الأندلس أن وضع الأندلسيون فيها كتبا منها كتاب >بستان الأنفس في نظام أعياد الأندلس< لـ >أبي العامر محمد أحمد السالمي<، وكتاب >الدر المنظم في مولد النبي المعظم< لــ >أبي القاسم العزفي<، وجزء لطيف جمعه >أبو القاسم خلف عبدالملك بن بشكوال الأنصاري القرطبي<، وقد عنى بإيراد أخبار هذه الاحتفالات مؤلفو كتب الفقه مثل >الطرطوشي وابن رشد والعزفي والونشريسي< وغيرهم، كما عنى بها المؤرخون ومؤلفو الكتب الأدبية بالإضافة إلى الشعراء والكتَّاب والزجالين مما يشي بمدى شيوع هذه الظاهرة في المجتمع الأندلسي على اختلاف طبقاته وطوائفه·
وحين سقطت غرناطة العام 1492م آخر معاقل المسلمين في الأندلس لم يجد يهود الأندلس إلا البلاد الإسلامية ملاذا آمناً من الإبادة الجماعية، وكانت القدس واحدة من المدن الإسلامية التي وفد إليها يهود الأندلس واستقروا على أرضها، وأمنوا على أنفسهم في ظل سماحة الإسلام، ولعل قدرا كبيرا من التحسن قد طرأ على أوضاع اليهود في القدس بعامة نتيجة لهجرة يهود الأندلس إليها لأن المهاجرين الجدد لم يجلبوا معهم الثقافة المزدهرة فحسب، بل جلبوا الثراء وسرعان ما احتل هؤلاء (السفارديم) مكانة ممتازة في الحياة العامة بحكم ثقافتهم الرفيعة التي اكتسبوها في الأندلس(26)·
وخير مثال يمكن أن نسوقه كدليل على ما لقيه اليهود في ظل الحكم الإسلامي من تسامح وأمن واستقرار، وما تعرضوا له على يد المسيحيين في العصور الوسطى من اضطهاد، أن مدن الشام التي كانت فيها جاليات ضخمة من اليهود تحت حكم المسلمين قد أصبحت قفراء منهم بعد استيلاء الصليبيين عليها (27)، لقد نعمت الطوائف الدينية بقدر هائل من الحرية التي كفلتها سماحة الإسلام، فمع قيام الدولة الفاطمية في مصر والشام تمتع اليهود بحرية كاملة من خلال طوائفهم، وأصبح لكل طائفة رئيس مستقل، فصار لليهود في القاهرة والقدس وكل المدن التابعة للفاطميين رؤساء، وصار لليهود عموما رئيس مستقل لقب بأمير الأمراء، وخُولت إليه مهمة تعيين أحبار اليهود في مصر والشام، وكتب له توقيع برئاسة سائر الفرق اليهودية في جميع أنحاء مصر والشام(28)·
وفي ظل التسامح الإسلامي الذي يعبر عن جوهر الإسلام تمتع اليهود بحرية واسعة في مباشرة نشاطهم الاقتصادي فاحتكروا التجارة بين الشرق والغرب، واتخذوا من المدن الإسلامية في شرق البحر المتوسط ·· نقاط ارتكاز أساسية حيث باشروا مهامهم مع المدن الأوربية، وما كان لهم أن يحققوا ذلك إلا بفضل تسامح المسلمين معهم في شرق العالم وغربه·

المصادر والمراجع:

15- المرجع السابق ص 80
16- د· علي عبدالواحد وافي: بحوث في الإسلام والمجتمع ص 73 القاهرة العام 1977م
17- حميد اللّه: المصدر السابق وثيقة 297 ص 225
18- المرجع السابق وثيقة 332 ص 246
19- المرجع السابق وثيقة 365
20- المرجع السابق
21- البلاذري: فتوح البلدان ص 218
22- أبو يوسف: الخراج ص 152ط القاهرة العام 1397هـ
23- انظر عبدالرحمن سعيد: بيت المقدس في عهد المماليك، ماجستير غير منشورة من كلية اللغة العربية جامعة الأزهر ص 77 - 104 العام 1979م·
24- كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة أمين فارس ص 360، وانظر د· علي السيد علي: القدس في العصر المملوكي، ص22، القاهرة العام 1986م
25- تاج الدين السبكي: طبقات الشافعية ج5 ص 332
26- د· علي السيد علي: القدس في العصر المملوكي ص 168، وانظر محمد صابر عرب: التسامح الديني في ظل الإدارة الإسلامية للقدس، التسامح العدد 1 ·
27- د· عبدالعزيز محمد الشناوي: أوروبا في مطلع العصور الحديثة ص 97 - 98
28- آدم ميتز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص63، ترجمة د· محمد عبدالهادي أبو ريدة، القاهرة العام 1981م·

المصدر: http://server/2011/warehousing.php?do=item_addnew&message=%CA%E3%CA%20%DA%E3%E1%ED%C9%20%C7%E1%C5%D6%C7%DD%C9%20%C8%E4%CC%C7%CD

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك