نحن والتاريخ: نحن والهوية دور الماضي في صياغة الحاضر والمستقبل رؤية استشرافية
الدكتور ناصر عبد الرزاق الملا جاسم
لعل التاريخ من بين أهم العلوم التي أثير بشأنها الجدل وخضعت وتخضع للاستجواب. ومهما طور المؤرخون من قدراتهم على الدفاع عن تخصصهم، تطورت الاعتراضات والنقود التي تتعرض لها عملية إنتاج التاريخ، ليس على مستوى العراق فحسب، وإنما على مستوى العالم بمجمله. لكننا في واقعنا العراقي الراهن بأمس الحاجة إلى التمعن في هذا الموضوع، ولربما نحن الآن - والآن بالذات - أحوج ما نكون إلى تمحيص العملية التاريخية، وتقديم مكاشفة حقيقية بالاعتراضات على منظورنا التاريخي القائم، وتطوير دفاعاتنا، لتعديل ما يجب تعديله منه، وتثبيت الأسس الحقيقية في مواجهة الاعتراضات. بمعنى إن مجتمعنا بحاجة ماسة لمكاشفة تاريخية حقيقية، لأن أخطر تحدٍ يواجه العراق ليس هو الخوف على مستقبله، وإنما الخوف على ماضيه، أي الخوف من تسخير ذلك الماضي لأغراض لا تكون في صالح العراق ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
فمن المفهوم إن كتابة التاريخ، ومنه تاريخنا الإسلامي - والعراقي على وجه الخصوص - تتألف من عمليتين: العملية الأولى هي عملية أكاديمية توثيقية مصدرية تقوم على جمع الوثائق والشواهد، وتُترك فيها الحقائق تتحدث عن نفسها. وهنا من البديهي أن العراق حقيقة واقعة برهنت عليها الحضارات التي قامت على أرضه منذ أقدم العصور، وحملت ميزات وخصائص ميزتها عن البلاد المجاورة، وإن الشعوب التي سكنت على أرضه، قد امتلكت قسمات مشتركة، صهرتها الحياة المشتركة، والتحديات المتنوعة التي فرضتها عوامل عديدة جغرافية واقتصادية وثقافية وغيرها. وبالتأكيد إن الآثار التي خلفتها هذه الحضارات المتعاقبة أصبحت ملكاً لجميع من سكن أرض ما بين النهرين، لأن هؤلاء كانوا جزءاً من مكوناتها دون استثناء، وإن آثارها اصطبغ بها الجميع، إيجابية كانت أو غير ذلك. فما نتج هو مساهمة الجميع، وليس فئة دون سواها، لكي لا يشعر أحدنا أن هذا التاريخ العريق يستبعده أو يلغيه، وبالتالي هو بحاجة إلى تاريخ مختلف يبحث عنه في مكان آخر..
أما العملية الثانية في كتابة التاريخ، وهو الأمر الذي تحدث عنه المؤرخ (إدوارد كار) في كتابه الشهير "ما هو التاريخ؟"، ومفاده أن التاريخ هو معالجة المؤرخ للحوادث التاريخية، والمؤرخ محكوم بعصره ومكانه. بمعنى أن الحوادث التاريخية إنما تُعرض بعدسة المؤرخ نفسه، بما يمتلكه من تحيزات أو إملاءات أو إمكانيات. وهذا يعيد إلى الذهن مقولة (كروتشه) الشهيرة: "التاريخ كله تاريخ معاصر". وفحوى ذلك أن النتاج التاريخي الماضي، هو نتاج قد جرت معالجته بأقلام أشخاص أعادوا صياغته وفقاً لنظرة ما، أو إمكانيات معينة، أو سوى ذلك...
هنا لا يستطيع أحد أن ينكر أن الكتابة التاريخية، في المرحلة السابقة من تاريخ العراق، شابها شيء مما يمكن أن يتضمنه هذا النوع، وإن بعض ما أنتج يقع ضمن محددات معينة، وتهدف إلى خدمة توجه معين.
والأخطر من ذلك، إن التاريخ - بوصفه حقلاً بحثياً - يواجه اليوم تحدياً يمثله نقد (مدرسة ما بعد الحداثة)، التي تحاول تفكيك كل خطاب، ومنها الخطابات التاريخية. وهذه المدرسة وصلت في أواسط التسعينات إلى خلاصة قاسية أنكرت فيها وجود شيء اسمه الحقيقة التاريخية، وتشدق البعض بالحديث عن موت التاريخ، انطلاقاً من تشدقهم السابق بموت المؤلف! هذا الأمر هو الذي دفع مؤرخاً اجتماعياً بريطانياً مرموقاً، وهو السير (ريتشارد ايفانز) لنشر كتاب، عام 1999، بعنوان (دفاع عن التاريخ)، سعى فيه لمناهضة الاتهامات التي تكال بحق التاريخ، بالاستناد إلى الأدلة التاريخية، والإنجازات البحثية المعاصرة.
ومع كل الاتهامات التي توجه للتاريخ، سواء على مستوى العالم، أو على مستوى العراق، نقف لطرح تساؤلين في غاية الأهمية: هل نحن بحاجة إلى التاريخ، وهل ثمة جدوى من تدريس التاريخ والتأليف فيه، وهل يمكن فعلاً أن نكتب تاريخاً حقيقياً؟
مما لا شك فيه أن العالم - والعراق تحديداً - بأمس الحاجة اليوم إلى التاريخ، لأن التاريخ هو ما يبرر وجود أي منا على هذه الأرض، فلا يستطيع أحدنا أن يدعي أنه عراقي، إذا لم يكن يملك تاريخاً على هذه الأرض. إذن التاريخ يعني عراقية أي منا. والتاريخ - وهذا هو الأهم - يعني عراقيتنا جميعاً، فمن لم يكن عراقياً فما له ولهذه الأرض، فليغادرها... وليس بمقدور أحدنا أن يكون عراقياً دون أن يملك صحيفة تاريخية تثبت عراقيته.. إذن نحن بأمس الحاجة إلى التاريخ للدفاع عن كينونتنا.
هنا يأتي الاعتراض: كيف نبرهن على كينونتنا تاريخياً، مع كل تلك الاتهامات التي تتعرض لها الكتابات التاريخية عالمياً أو عراقياً، كما جرى القول؟
هناك ثلاثة طرق ينبغي التأكيد عليها في تعاملنا مع تاريخ بلدنا، ومع التاريخ بمنظوره العام:
أولاً: هناك حقائق تاريخية لا يستطيع أحد أن ينكرها، أساسها أدلة تاريخية لا يرقى إليها شك، مهما كانت الأسلحة، أو الأدوات الشكية، أو التفكيكية، التي تستعملها جهات متنوعة، مغرضة كانت أو غير مغرضة. فالوثائق التاريخية، والشواهد العمرانية، والنقود، والمخلفات الأثرية الأخرى، أمور غير قابلة للنفي، فلا أحد يستطيع أن ينكر حوادث عاشها هذا البلد، من قبيل قيام امبراطوريات في العراق في بلاد بابل وآشور، وحوادث مثل تخريب نينوى على أيدي الميديين في عام 612 ق. م، أو احتلال الفرس لبابل على يد كورش في عام 539 ق.م، كما لا يستطيع أحد أن ينكر نتائج معركة القادسية أو اليرموك أو سوى ذلك. كما لا يختلف اثنان حول حقيقة أن أول ملك حديث حكم العراق هو (فيصل بن الحسين) بين عامي 1921-1933، وإن الأسرة المالكة قد تعرضت للإبادة شبه التامة صبيحة يوم 14 تموز عام 1958.
إذن فهناك حقائق ثابتة في تاريخنا العراقي والعربي والإسلامي، يجب علينا أن نضعها أسساً للحفاظ على تاريخنا، وحمايته من العبث والتزوير، وللدفاع عن العملية التاريخية نفسها.
ثانياً: الطريقة الثانية تتمثل بتطوير إمكاناتنا البحثية، من خلال الانفتاح على العلوم المساعدة الأخرى، مثل: اللغات، والعلوم الاجتماعية، والتطبيقية، على حد سواء، وخلق ما يعرف باسم الموضوعات "عبر التخصصية"، التي يمكن من خلالها توظيف إمكانيات تخصص معين لدعم وترجيح حقائق تاريخية. ويمكن أن نشير إلى محاولات لتوظيف منهج الإحصاء الكمي في التاريخ بطرق متعددة، وتقفز إلى الذهن محاولات المؤرخ الأمريكي المعروف (فرد دونر)، الذي سعى من خلال دراسته لقوائم الشهداء في (معركة القادسية)، إلى تحديد حجم مساهمة القبائل العربية في المعركة المذكورة. أو محاولة المؤرخ (ريتشارد بوليت) رصد عملية التحول إلى الإسلام، في القرون الأولى من التاريخ الإسلامي، من خلال دراسة ظهور الأسماء العربية ضمن سلاسل الأنساب، لتحديد الأزمنة التي تمت فيها عملية التحول إلى الإسلام. وكذلك سعي البعض لمعرفة خط هجرة العلماء المسلمين، من خلال دراسة لألقاب العلماء التي تنسبهم إلى مدن، من قبيل: البغدادي الدمشقي، أو المقدسي البغدادي، فيكون اللقب الأول للمدينة التي انطلقوا منها، واللقب الثاني للمدينة التي استقروا فيها، وإخضاع النتائج للتحليل الكمي، بما يدحض أي إمكانية للتزوير أو الاتهام بالتزوير.
ثالثاً: أما الطريقة الثالثة، فهي الإقرار بإمكانية التحريف، والتوجه لدراسة التاريخ بطريقة المنهج الهرمونطيقي، الذي يطرح الأسئلة ويبحث عن الإجابات، وينطلق من الإجابات وراء أسئلة أخرى، بمعنى أنه يسلح الباحث في التاريخ بالنزعة النقدية، التي تمكنه من تفحص النتاج التاريخي، وفهمه على ضوء زمنه ومكانه، بمعنى منح الشرعية لطرح الأسئلة، لكن من دون التحديد المسبق للإجابات. فإذا كان بعض الباحثين الطارئين الآن على حقل الدراسات التاريخية في العراق قد نصبوا معاول هدم النتاج التاريخي السابق بدعوى تحيزه القومي أو الطائفي، فإن النقد الذي يقدمونه نابع من أدلجة فكرية تضع النتائج قبل أن تجري عملية البحث. وإن ادعائهم بالموضوعية التاريخية باطل، لأنه ليس أكثر من استبدال تحيز سياسي أو ايدلوجي أو قومي أو مذهبي بتحيز جديد.
على ضوء ما سبق، يمكن تقرير الآتي:
1- إن تنمية الشعور التاريخي عملية بالغة الأهمية وبالغة الخطورة في الوقت نفسه، وهي جديرة بعناية فائقة، لأنها أساس بناء الإنسان العراقي الجديد، والاطمئنان لمستقبله.
2- الإقرار بأن التاريخ هو من بين أكثر التخصصات التي تعرضت للنقد والتشكيك، بواقع الأهمية والخطورة التي يتمتع بها، كما أشير سابقاً.
3- استغلال التاريخ سياسياً أو عقائدياً هو أحد أهم منافذ نقد التاريخ، وفي العراق تم القيام بذلك بطريقة تحتاج إلى وقفة ملية للتأمل.
4- بناء المجتمع الجديد يتطلب تمحيص الماضي، وبيان الأسس التي يجب البناء عليها منه، وما هو جدير بإعادة النظر فيه، فليس كل التاريخ صنيعة الأنظمة السياسية السابقة. وبعبارة أخرى لا بد أن نفرز بين الحقيقية التاريخية، وبين تصنيع التاريخ.
5- ما كان حقائق تاريخية يجب أن لا تطاله يد النقد بدعوى التغيير، لأن ذلك يؤدي إلى انهيار التكوين بمجمله، وهكذا تناول لن يقود إلا إلى تدمير الحاضر والمستقبل، فكلاهما ولادة الأمس.
6- إن الإقرار بوجود تحريف، أو فرض تصورات معينة على الدراسة التاريخية، هو عنصر مهم للتمسك بدراسة التاريخ، لا بنبذه، لأن ذلك يستدعي تنشيط المنهج النقدي التاريخي، وتطوير الآليات البحثية، من أجل الاقتراب من الحقائق، بمعنى أن الواقع الجديد يقتضي تطوير مناهج أكثر تقدماً في دراسة الماضي، وعدم الركون إلى الدوغمائيات التقليدية، والأحكام التي تقادمت عليها الأزمنة، وأصبحت أبعد من قدرة الباحث على نقدها، مهما أوتي من حجج وأدلة.
7- الديمقراطية عنصر مهم في إتاحة الفرصة للنظر إلى الماضي بروح نقدية، ومناقشته، لكن ثمة حدود معينة يجب أن تتوقف عندها هذه العملية، فجزء مهم من الماضي هو ما يتوافق عليه مجتمعنا الحالي، ولا يمكن هدم تلك الأسس المجتمعية بدعوى الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. فالتاريخ هو الأب والجد، ولن يرضى أحد عن سليل عبث بسيرة أسلافه، ونكل بهم، تحت أي مسمى من المسميات، لا بل لا بد من تشريع قانوني يجرم من يعتدي على الرموز الدينية والوطنية التي تحظى بإجماع أبناء العراق على محبتها وتقديرها.
8- تبقى مسألة أخيرة في غاية الأهمية، وهي ضرورة التمييز بين التدريس والبحث الأكاديمي في مستوياته العليا، وبين ما يقدم للطالب في المراحل الأولى من الدراسة، أو ما يوجه للمتلقي غير المختص، فنحن في هذا الشأن أمام تحدٍ كبير، إذ سيقع الأكاديمي المختص أمام ثلاثة خيارات:
أ- الانسياق وراء الإعلام والصيغ الجاهزة للماضي، ومحاولة إلباسها شرعية أكاديمية، إما طمعاً في اكتساب شرائح واسعة من القراء، أو كسب رضا السلطة، بأشكالها المختلفة.
ب- رفض الصيغ القائمة، ومحاولة دحض كل ما وصلنا من الماضي، بدعوى النزعة الشكية النقدية، والأدهى من ذلك هو الترويج لهذه الأفكار، ليس على المستوى الأكاديمي الرفيع، وإنما الانطلاق بها إلى الجمهور، بهدف السير خلاف المألوف لاكتساب المجد الشخصي، وركوب الموجة، ومحاولة صنع جمهور، واهتبال دعم عناصر لا تهدف فقط إلى نقض التصورات القائمة، وإنما تفكيك المجتمع بمجمله، تحت مقولات ظاهرها تنقيح التاريخ، وباطنها ما كان العراقيون وقوداً له أكثر من غيرهم، أي الحديث المر عن فكرة الفوضى الخلاقة (أي التدمير والشلل).
ج- البناء على ما هو إيجابي وأصيل في تاريخنا، ومهمة المؤرخ جوهرية في البحث عما نحن بأمس الحاجة إليه لإعادة بناء مجتمعنا، فلا يمكن بناء الحاضر والمستقبل بصورة سليمة، إذا ما تخلينا عن مهمة بناء ماضينا بصورة سليمة وصحية.
ختاماً: لكل أولئك الذين يسعون لبناء تاريخ مختلف لهذه الأرض وطمس هويتها الأصيلة، نقول: لستم منا في شيء.. اجمعوا أسماءكم وانصرفوا، فليس لكم اليوم ها هنا خليل
المصدر: http://alhiwarmagazine.blogspot.com/2014/06/blog-post_713.html