أسئلة المعنى والقيم في التربية
أريد أن أستهل مداخلتي بفكرة للبيداغوجي الفرنسي ألان كيرلان، وردت في مؤلفه الموسوم بـ "الفلسفة من أجل التربية"[1]، جاء فيها أنّنا غالبًا ما نعتبر أزمة المدرسة والتربية انعكاسًا لأزمة القيم. ويرجع ذلك إلى كون الخطاب حول الأزمة يدمج بنوع من التسرع بين مفهومي المعنى والقيمة. فالمعنى حسب ما هو شائع يتوارى لأنّ القيم تضمحل، وفي ذلك حرمان لمفهوم القيمة من ديناميته وحرمان للتربية من إبداعيتها ومسؤوليتها. والحال أنّ التربية تحيي القيم من جديد وتعيد ابتكارها، وذلك هو هدفها الأساسي.
تلتقي هذه الفكرة مع أخرى سابقة عليها بعقود، وردت في نص شهير لحنا آرندت بعنوان "أزمة التربية"[2]، أكدت فيه أنّ قيام المرء بفعل التربية معناه تحمل مسؤوليته أمام العالم وأمام الأطفال الذين يربيهم. ولا يمكن لأي مربّ التملص من هذه المسؤولية دون أن يتخلى عن مهمة التربية ذاتها. لذلك ستكون التربية بمثابة تأكيد على مسؤولية الإنسان في تأسيس علاقة حقيقية بين القيمة والمعنى في عالم منفتح على المستقبل.
بدورها، تلتقي هذه الفكرة مع أخرى سابقة عليها بقرنين من الزمان وهي لكانط، وردت في نصه المعنون بـ "تأملات في التربية"[3]، أقر فيه بضرورة تربية الأطفال لا وفق الحالة الراهنة للنوع الإنساني، بل وفق حالته المستقبلية، الممكنة والأفضل، أي في تلاؤم مع فكرة الإنسانية ومصيرها الشامل.
يتضح إذن أنّ سؤال المعنى والقيمة في التربية هو مجال لاختبار فعالية الإنسان ومسؤوليته وتفاعله مع الآخرين ومع العالم. فكيف نفسر هذه الرابطة الحميمية بين التربية من جهة والمعنى والقيم من جهة أخرى؟ ثم، ألا يقترن هذا السؤال بآخر أشمل وهو سؤال النزعة الإنسانية وما تتضمنه من قيم كالحرية والمسؤولية والمواطنة والحق والواجب الخ؟
1) سؤال المعنى في التربية:
اعتبر البيداغوجي الفرنسي ميشال دوفلاي في مؤلف له بعنوان "إعطاء معنى للمدرسة"[4]، المشكلة الأساسية التي يواجهها الفاعلون في المؤسسات التعليمية وخصوصا المتعلمون، هي اكتشاف معنى هذه المؤسسات. ويرجع ذلك إلى أمرين أساسين وهما:
- تعقد العلاقة التي تربط المتعلم بالمؤسسة التربوية والتي تتخذ مظاهر متعددة، سوسيو ثقافية ومعرفية ووجدانية وإتيقية.
- ظهور تحديات عديدة أمام المتعلم (من الابتدائي إلى العالي) تتمثل في عدم ملاءمة البرامج المقررة والمناهج المتبعة لحاجيات المتعلمين، وفي غياب الترابط بين النجاح الدراسي والنجاح الاجتماعي وفي اعتباطية المعارف وعدم استجابتها لمتطلبات الواقع وفي عدم وضوح القيم المستهدفة من طرف التربية، هل هي قيم متعلقة بالطاعة أم بالاستقلالية واتخاذ القرار؟
لقد اقترح دوفلاي في مؤلفه المذكور مجموعة من الإجراءات لمواجهة هذه التحديات، نعرضها بإيجاز شديد: (للاستئناس بها خلال المناقشة)
- يقتضي إيجاد المعنى بناء مجموعة من القيم التي تسمح بتنظيم عالمنا الخاص والانخراط داخل عوالم الآخرين. فهو يوجد في صميم بناء الشخصية، لأنّ إعطاء معنى للفعل وللحياة هو تحديد الهدف والغاية والمشروع الشخصي، أي بناء الهوية الشخصية.
- لا يمكن للتعلم أن يكتسب معناه، إلا إذا ما تطابق مع الأهداف المنتظرة. فنحن نمنح المعنى للأشياء وللوضعيات التي نحياها، لأنّنا نعتقد بأنّنا نعرفها ونسيطر عليها. كما يكمن هذا المعنى في تأويلاتنا للأشياء وللمواقف والسلوك. بالتالي، فإنّ التعلم المحدد لعلاقتنا بالعالم، مستمد من علاقتنا الرمزية بالواقع وكيفية فهمنا له وتفاعلنا معه.
- يتطلب البحث عن المعنى، تلبية حاجة الذات ورغبتها. فالتربية هي انتقال من حالة إلى أخرى، أي انتقال إلى حالة مرغوب فيها، وهي تقترن بالرغبة في اهتمام الآخر، ويقتضي ذلك، إقامة علاقات مبنية على التحاور في إطار الصراع وعلى التضامن في إطار الاختلاف، فضلاً عن التعاون والتشارك، وهي مقتضيات ذات بعد إتيقي كما هو معلوم. وهنا تبرز الرابطة بين نظام التربية ونظام القيم، فما هي تجلياتها وأبعادها؟
2) سؤال القيم:
سننطلق من فكرة أساسية بخصوص هذه النقطة وهي أنّه لا توجد تربية بدون قيم[5]. وقد حدد كيرلان في مؤلفه السابق الذكر، أربعة مستويات لتحليل العلاقة بين هذين الطرفين نلخصها كما يلي[6]:
- يتعين التفكير في كل تربية باعتبارها تربية على القيم وليس مجرد نقل لها. فالمؤسسة التربوية هي الفضاء الذي يتم فيه تقييم ما هو أخلاقي وجمالي وسياسي، وإذا انتفى التقييم انتفت المسؤولية وسادت اللامبالاة.
- لذلك ينبغي التفكير في التربية – وهذا هو المستوى الثاني – بوصفه وعيًا بضرورة القيام باختيارات معينة وتحمل مسؤولية ذلك. فاختيار هذه القيمة أو تلك (التعاون، التضامن، التسامح، إلخ..) يقترن بمبدأ المسؤولية، وهذه إحدى القضايا الأساسية في الفكر الفلسفي المعاصر (هانز يونس ومبدأ المسؤولية مثلاً).
- يجب أيضًا التفكير في كل مذهب تربوي وفي كل ممارسة تربوية، وفق الغاية أو القيمة العليا المحددة من طرفهما، مثل الحرية (كما هو الأمر عند روسو وكانط) والرابطة الاجتماعية (دوركهايم) والعدالة (مع جون راولز) والفردانية (شارل تايلور).
- وأخيرًا، ينبغي من منظور القيم، أن تكون المؤسسة التربوية نموذجًا للمجتمع وليس العكس، لذلك علينا أن نبحث عن تسامي القيم داخل المؤسسة المذكورة. فداخل كل مجتمع تؤكد القيم على ضرورة التسامي التي تسمح بمواجهة خطر اللامبالاة والسقوط في اللامعنى. ونعتقد بأنّ التربية على المواطنة تشكل خير نموذج لهذا التسامي الذي يمكن الفرد من تفهم الآخرين وقبول اختلافهم والتفاعل معهم، انطلاقًا من مبادئ الحق والواجب والمسؤولية. وتندرج هذه المعطيات جميعها ضمن ما دعاه المفكر الكندي شارل تايلور في مؤلفه الموسوم بـ "حرية المحدثين"[7]، بأخلاق الأصالة. فبأي معنى تعبر التربية على المواطنة عن هذه الأخلاق؟
3) التربية على المواطنة وأخلاق الأصالة:
تستدعي التحولات التي يعرفها عالمنا (ظواهر التطرف والعنصرية والنزعات الاستئصالية بمختلف أشكالها)، مساءلة القيم وإقرار برامج تربوية متعلقة بحقوق المواطن وواجباته، ومسألة التضامن والتسامح والمسؤولية والاحترام. ويمكن أن نختزل جميع هذه المسائل في السؤال التالي: ما معنى أن يكون المرء مواطنًا في الوقت الحالي؟ كما هو معلوم، فإنّ سؤال المواطنة يحظى في الوقت الراهن باهتمام خاص من طرف الفلاسفة والسوسيولوجيين وعلماء السياسة. ويكفي أن نذكر أعمال يورغن هابرماس وكارل أوطو آبل وجاك دريدا وفرانسوا ليوطار ولوك فيري وجون راولز وشارل تايلور الخ.. وفي هذا الإطار اعتبر المفكر الأمريكي ميكائيا فالزر في نص له بعنوان "الجماعة المواطنة والتمتع بالحقوق"[8]، بأنّ المواطن هو في أبسط تعريفاته عضو بجماعة سياسية، يتمتع بحقوق ويتحمل مسؤوليات مرتبطة بهذا الانتماء. لكنه سيستدرك قائلاً إنّه بالرغم من كون الجماعة السياسية ضرورية، لأنّها تستدعي الانخراط في النشاط السياسي بمختلف تجلياته لفائدة الجماعة، إلا أنّ مصالح المواطنين تتجاوز الإطار السياسي الضيق، بحيث تتسع دائرتها لتشمل المجالات الثقافية والفنية والتربوية والدينية والاقتصادية إلخ.. وبذلك سنصبح أمام مواطنة نشيطة، تتطور داخل المجتمع المدني.
وقد اعتبر فالزر بأنّ المجتمع اليوم، هو مجال للتعاون بامتياز، حيث يتعلم المواطنون العمل جماعيًّا من أجل مصالحهم المشتركة. وتدفعهم المتابعة المشتركة لهذه المصالح نحو السياسة في معناها الواسع. وهو ما يتجلى في الممارسات غير النظامية للتشاور الجماعي والتنظيم الذاتي وعبر النقاشات المتعددة والتعبئة في مختلف دوائر المجتمع المدني، كما يسمح بتحقيق الوحدة داخل الاختلاف والتعدد.
ونتساءل في هذا الإطار: كيف يمكن للتربية المدرسية أن تساهم في تعزيز هذه الممارسات؟ مما لا شك فيه أنّ التحولات التي يعرفها عالمنا الحالي، في مختلف المستويات (ثقافيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وتواصليًّا إلخ..) حتمت على المؤسسة التربوية وعلى الفاعلين في إطارها وعلى أصحاب القرار التربوي والسياسي، العمل على ترسيخ قيم المسؤولية والمشاركة الفعالة التي تشكل أساس التربية على المواطنة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا عبر تكوين المتعلمين بشكل جيد وتعويدهم على اقتراح المشاريع وإنجازها بوصفها وسيلة للتواصل وللإدماج السوسيو مهني وللتشبع بروح المواطنة. لأنّ المشروع ليس مجرد برنامج إجرائي أو تنظيمًا لعمليات محددة، بل هو بالأساس، قصد رمزي يروم خدمة قيم أخلاقية وتصورات اجتماعية وتربوية محددة. والمطلوب من المؤسسة التربوية هو الاعتراف بقدرات المتعلم (التلميذ أو الطالب) على الابتكار، لهذا يتعين أن تكون حظوظ تلقي المعرفة واكتساب الكفايات وتعلم المهارات متساوية لدى الجميع.
صحيح أنّ المؤسسة التربوية ليست ديمقراطية في جوهرها، لأنّها قائمة على التراتبية ولأنّ التعليمات والتوجيهات تأتيها من أعلى السلم الإداري (على الرغم من الإقرار باستقلاليتها في مستوى التكوين والتدبير البيداغوجي والإداري والمالي، كما هو الشأن بالنسبة إلى استقلالية الجامعات في نظامنا التربوي). ومع ذلك، يمكنها أن تكون مؤسسة من أجل الديمقراطية. وهنا تبرز مهمة المدرس الذي يجب عليه المساهمة في تنمية الروح النقدية لدى المتعلم وتحفيزه على اتخاذ المبادرة والتعبير عن آرائه ومعتقداته بحرية.
ولا يمكن اعتبار المؤسسة التربوية فاعلة، ما لم تساهم في التربية على المواطنة، حيث تكون فضاء للدفاع عن مبادئ التسامح والمسؤولية والحق والواجب، وترسيخها من منطلق أنّ الجحيم ليس هو الآخر كما يسود الاعتقاد، بل إنّ تقدير الذات يبدأ من تقدير الآخر وتقبل اختلافه، وهذا هو السلوك المدني.
ونعتقد بأنّ التربية على المواطنة تشكل مطلبًا أساسيًّا بالنسبة إلى نظامنا التربوي، لأنّها تهدف في المقام الأول إلى تنوير العقول وتوعيتها بقيم الحرية والحق والواجب والعدالة والإنصاف. وهذا معناه، تفعيل التربية على حقوق الإنسان والتوعية بها وإقناع المتعلم بضرورة الدفاع عنها، مع التركيز على الحقوق القطاعية (مثل حقوق الطفل والمرأة والأقليات وذوي الاحتياجات الخاصة الخ..).
طبعًا، فإنّ ما قلناه بخصوص تبني قيم المواطنة والانفتاح على الآخر وتحمل المسؤولية والدفاع عن القيم الإنسانية (مثل التسامح والإنصاف والحرية والمساواة إلخ..) يندرج في إطار ما ينبغي أن يكون، لأنّ المتتبع لما يحدث في واقعنا الاجتماعي وداخل مؤسساتنا التربوية، سيقر بتدني روح المواطنة والمسؤولية والسلوك المدني؛ وتكفي الإشارة إلى ظاهرة العنف المتجلية في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والتربوية. وهنا تبرز مهمة فلسفة التربية المتمثلة في إذكاء الوعي التربوي وترسيخ روح المواطنة مطلبًا إتيقيًّا مستعجلاً. وكما يقول ألان كيرلان في مؤلفه المذكور، فإنّ هذا المطلب "يغطي مجالاً فلسفيًّا وسياسيًّا، يمتد من إتيقا الاهتمام بالذات إلى الاهتمام بالمبادئ الأخلاقية والحق والواجب والسلطة، مرورًا بالتأسيس الجديد للمواطنة والتربية على الديمقراطية والمسؤولية السياسية للمواطن"[9].
ختامًا، لا يمكن الحديث عن هذا المطلب دون استحضار مفكر راحل، عمق هذا المفهوم في العديد من كتاباته، وهو بول ريكور. فقد حدد هذا المفكر الفرنسي ثلاثة مكونات للعلاقة الإتيقية وهي الذات والآخر والمؤسسة. ولكي ينبثق الفعل الإتيقي يجب أولاً أن تنكشف الأنا وتعبر عن ذاتها وتكون لها القدرة على الفعل القصدي واتخاذ المبادرة وإعطاء المعنى وربط نظام المقاصد بنظام العالم. كما يجب أن تتوفر الحرية بضمير المتكلم بحيث تنعكس على أفعال الأنا. ولا يمكن لأيّ حرية أن تتجلى في عالم فارغ من القيم. فبالنسبة إلى كل واحد منا يوجد دومًا قصد داخل توجهاتنا الإتيقية، أي قضية يجب الدفاع عنها ومثال ينبغي تحقيقه وعمل يتعين إنجازه وقيم ندعوها بأسماء مجردة مثل العدالة والإخاء والمساواة الخ..[10].
وهنا تتحدد غاية التربية، فالاهتمام بالآخر يتضمن الاهتمام بالذات، والمشاريع المتجلية في الأدوار الاجتماعية وفي المهن والأعمال تقتضي فلسفة للتربية تكون من أولى مهامها، حل المشكلات ما أمكن والانفتاح على العالم الخارجي بشكل أفضل وتقدير الذات شرطًا أساسيًّا لتقدير الآخر والتفاعل معه، من أجل المصلحة العامة. فهذه الحركة بين "أنا" و"أنت"، أي بين الحرية بضمير المتكلم والحرية بضمير المخاطب، حسب تعبير ريكور، هي التي تشهد على الاعتراف المتبادل بوصفه قصدًا إتيقيًّا. وبطبيعة الحال، فإنّ التربية تمر من هنا، أي من هذه اللحظة الإيجابية للاعتراف التي تشكل تحديًا حقيقيًّا للامبالاة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] Alain Kerlan, Philosophie pour l’éducation, Paris, ESF éditeur, 2003
[2] حنا آرندت، أزمة التربية، ترجمة حماني أقفلي وعزالدين الخطابي، مجلة المدرسة المغربية، العدد 1، الرباط، ماي 2009
[3] إيمانويل كانط، تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر، ط.1 صفاقس، 2005
[4] ميشال دوفلاي، إعطاء معنى للمدرسة، ضمن ميريو، بيرنو، هاملين وآخرون، قضايا البيداغوجيا الحديثة ورهاناتها، ترجمة عزالدين الخطابي، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء، 2013، ص 45 وما يليها.
[5] Cf. Olivier Reboul, Philosophie de l’éducation, Paris, PUF, 1989.
[6] Alain Kerlan, op. cit., p. 50 et suiv.
[7] Charles Taylor, La liberté des modernes, Paris, PUF, 1997.
[8] Michael Walzer, Citoyenneté et jouissance des droits, in Esprit, mars – avril 1997.
[9] Alain Kerlan, op. cit., p. 68.
[10] Paul Ricoeur, Avant la loi morale, l’éthique, in Encyclopédie Universalis, 1985.
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D...