نهاية التنوير الاستشراقي الفرنسي

د. واسيني الأعرج

 

كلما تأملت جامعة السّوربون العريقة، أو مررت على معهد الدراسات الشرقية، أو كوليج دو فرانس، أو المعهد العالي للأساتذة، شارع دولم، وهي الأماكن العلمية الكلاسيكية الباريسية التي خرجت منها أهم المدارس الفكرية والنقاشات العلمية، واهتمت بالثقافة العربية بجدية كبيرة، ومنحتها المكانة التي تليق بها في الأبحاث الأكاديمية أو في الدروس، كلما تأملت هذه المعالم إلا وتذكرت العظماء الخالدين من المستشرقين الفرنسيين الذين قضوا عمرهم كله أو الجزء الأهم منه، في العمل على النص العربي بكل تلوناته، الشعرية والثقافية، في تألقه ونبله وإشعاعه الإنساني، بلا مسبقات إلا ما تمنحه المناهج من فرص للتوغل عميقاً في استنطاق النص. كان جهدهم الاستشراقي ديناميكياً، حيوياً، منتجاً ومتعمقاً في أغوار الثقافة العربية، كاشفاً أسرار المكنون فيها إذ لا يمكن أن تكون الثقافة التي تسيّدت زمناً طويلاً على المعمورة عادية أو سطحية، أو بلا إبداعية وتمايز. استطاع هذا الاستشراق الفرنسي، والأوروبي عموماً، أن ينيط اللثام عن خفايا هذه الثقافة، لدرجة أن المثقفين من أبناء اللغة العربية، لم يعرفوها إلا بفضل هذه الجهود الكبيرة والموضوعية. فقد فتحت أمامهم أبواباً كثيرة لم تكن متاحة من قبل. فاعتماد الوسائط المعرفية والعلمية الدقيقة جعل ما كان غامضاً أو غير مرئي ممكن التأمل والقراءة. يكفي أن نستعيد في هذا السياق جهود الألماني بروكلمان والإيطالي كارلو نلينو والفرنسي ماسينيون وغيرهم كثيرون، لندرك كم أن هذه الجهود كانت مصيبة لو استمرت، مما يجعلنا نفترض اليوم أن جزءاً مهماً من نور الثقافة العربية ما يزال مدفوناً في ظلمة المكتبات وفي عمق المخطوطات القديمة، ورهينة الإرادات الفردية والجماعية. على الرغم مما يمكن أن يقال عن هؤلاء المستشرقين، وهو أمر وارد إذ لا أحد منوه عن الخطأ أو غوايات الحياة، إلا أن جهودهم العلمية كانت أسطورية لدرجة مثلاً أن عالماً ألمانياً كبيراً مثل نولدكيه، قضى العمر كله في متابعة تكون وتجميع النص القرآني، ولم يستطع أن ينهي كتابه (تاريخ القرآن) لولا تلاميذه الذين تابعوا جهده وأوصلوا مركب البحث إلى برّ الأمان، أي إلى المنجز التأليفي وطبعوا جهده بعد موته، بعد أن نقحوه وضبطوه نهائياً. جوهر اهتمام الكثير منهم كان تتبع العبقرية العربية في عز رقيها، وإظهار تألقها في زمن كان الظلام يعم الغرب بسبب القمع الكنسي الذي تبنته محاكم التفتيش المقدس. لقد قضى الكثير منهم حياته يبحث في شخصية واحدة، مقتفياً كل خطواتها الحضارية الكبيرة، أو متوغلاً في أبجدية ضائعة، أو في مخطوطة شاءت صدف البحث أن تقع بين يديه. لقد أمضى لويس ماسينيون مثلاً العمر كله يركض بين الأمكنة البعيدة والعواصم، باحثاً في تاريخ الحلاج، يجمع كتبه وتفاصيل رحلته الحياتية المعقدة التي انتهت به إلى الحكم بالإعدام والقتل، ويحقق نصوصه، قبل أن يختم جهوده المضنية بكتابه العظيم عن محنة الحلاج الذي يُعد اليوم مرجعاً كبيراً لكل المهتمين بهذه الشخصية وتاريخها. وهناك أمثلة كثيرة ممن وضعوا الثقافة العربية في سقف اهتماماتهم من أمثال ريجيس بلاشير الذي ترجم القرآن الكريم وبسط النحو العربي، جاك بيرك، الرجل المستميت من أجل إدخال الثقافة العربية الكلاسيكية إلى المؤسسات الجامعية الفرنسية الكبرى، ومنها جامعة السوربون العريقة. فهو الذي ترجم مختصر الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ونصوص الشعر العربي القديم، وعندما توفّي أوصى بجزء من مكتبته الغنية والنادرة، لمكتبة فرندة بالجزائر، مسقط رأسه. نبل وكرم وحس ثقافي وإنساني عال. ليخلفه في جهوده، الباحث ومترجم الثقافة العربية نحو اللغة الفرنسية، أندري ميخائيل، الذي اهتم بالشعر العربي القديم، وقدمه لقارئ فرنسي غير متعود على النظام الشعري العربي، فحبّبه فيه لدرجة أنه خلق لديه أفق انتظار دائم للجديد. قبل أن يخصص الجزء الأخير من عمره لترجمة ألف ليلة وليلة برفقة صديقه الروحي والعلمي، الشاعر والباحث وأستاذ السوربون المميز، جمال الدين ابن الشيخ الذي سبق أن ترجم نصوص الإسراء والمعراج إلى اللغة الفرنسية من النصوص العربية والفارسية وغيرها، وخلفت جدلاً مهماً حول فكرة المخيال الإسلامي والعربي وتمايزه وغناه، كما ترجم لاحقاً محمود درويش وكتاباً عرباً آخرين. بفضل جهودهما الكبيرة، استطاع الباحثان أن يدخلا ألف ليلة وليلة في ترجمتها الجديدة التي قاما بها، إلى محراب سلسلة لابلياد (الثرية) أو النصوص الإنسانية الخالدة. يمكنني أن أضيف إلى هؤلاء جهود المعجمي والنحوي الكبير دانييل ريق، الذي أنجز قاموس لاروس السبيل عربي-فرنسي- عربي، وكتاباً مهماً عن النظام الصرفي في اللغة العربية الذي يشكل اليوم مرجعاً طلابياً مهماً لكل الباحثين المهتمين باللغة العربية. وهناك أسماء أخرى كثيرة من الرعيل الاستشراقي الأول، منحت للغة العربية حياتها كلها. وتفرغت في جهودها للبحث العلمي في الثقافة العربية في مختلف الجامعات ومراكز البحث العلمي الفرنسية. بهؤلاء انتهت للأسف، حقبة التنوير الاستشراقي الفرنسي التي أخرجت الثقافة العربية من ظلمة النظام التعليمي التقليدي، وأدخلتها في مدارات البحث والتأمل. كان لعمل هؤلاء تأثير غير مباشر حتى في السياسي. فقد كانوا الضامن الكبير لتوازن السياسات الفرنسية تجاه العرب. الصداقة العربية الفرنسية ليست نتاج الصدفة ولكن بفضل ثقل هؤلاء وتأثيرهم في الرأي العام السياسي والثقافي. فالعرب في منظور هذا الجيل من المستشرقين، حملة معرفة وتنوير، والحافظون لشعلة الإنسانية الثقافية التي مست أوروبا بنورها. هذا الجيل أيضاً هو من صفى الأجواء بإدانته الحقبة الاستعمارية من خلال بعض رموزه، وخلق مناخاً جديداً ارتكز بالدرجة الأولى على العلم والثقافة والإبداع بوصفهم الشيء الوحيد المالك للديمومة والاستمرار وإزالة الأحقاد والضغائن، فقرب بين الأمم التي كان الاستعمار قد أحدث في عمقها شروخاً قاسية، صعبة الترميم. جيل، الكثير منه، بدأ مترجماً عسكرياً وعرف عن قرب الآلة الاستعمارية قبل أن يتخلى عنها ويتفرغ للعلم فقط، مستفيداً مما راكمه من معرفة، وخبرة ترجمية، فحمل على عاتقه مسؤولية ثقافية إنسانية كان العرب فيها طاقة ثقافية منتجة وفاعلة. اليوم الوضع تغير جذرياً للأسف. ذهاب هذا الجيل الذهبي من المستشرقين، خلف وراءه فراغاً كبيراً لا يمكن سده بالمعطيات الحاضرة. حتى التواصل بين الأجيال انتهى عند لحظة معينة، بعد أن عاش قرابة القرن في عطائه الإنساني والثقافي والمعرفي، غرب كما تغرب شمس انتهى فجأة نورها وتجليها. اليوم، يعاني البحث الاستشراقي حالة خواء حقيقية، في ظل الاختزالات السياسية والإيديولوجية، وتقليص كل الغنى العربي واختصاره في مفردات عممت على العربي كالإرهابي، والمتخلف، والجاهل، والحاقد، والبربري المعادي للحضارة والحداثة والإنسانية في ممارساته وحياته. المستعربون الموجودون اليوم أغلبهم جيش احتياطي لتبرير السياسات القائمة إلا فيما ندر. الاستشراق الذي كان سلاحاً حقيقياً للتوازن وللوجه العربي النير، لم يعد له حضور كبير اليوم. انتفى الباحثون الكلاسيكيون وعوضوا بمدرسين في الجامعات أو بباحثين تسميهم وسائل التواصل والقنوات الإعلامية، خبراء مختصين، هم في الجوهر ساسة أكثر منهم مثقفين، معرفتهم باللغة العربية محدودة جداً، أغلبهم لا يتكلمها لأنه ببساطة لا يعرفها ولا يدرس بها ولا يعمل بها ولو جزئياً، كما هو الحال بالنسبة لكل اللغات العالمية التي تدرس في الجامعات الفرنسية، وهو ما جعل جهود المستعربين الجدد محدودة من حيث الأثر الثقافي والحضاري. فقد انفصلوا نهائياً عن جهود الرعيل الأول من المستشرقين الذين شكلوا مثلاً ثقافياً. بعد وفاة المعجمي الكبير دانييل ريغ، لم يبق على الساحة إلا أندري ميكيل، الذي خانه العمر والمرض فلم يعد منتجاً ولا مشاركاً في أية تظاهرة ثقافية كبيرة كما كان يفعل، أو كما قال لي ذات مرة: لم أعد أعرف المجتمع الفرنسي اليوم. انتهى جيل المستشرقين العظام وانتهت حقبتهم الكلاسيكية التي جعلت من الثقافة العربية رهانها الأسمى ومصدر علمها وعملها، وحلت محلها الوظيفية والعمل التدريسي بدون رهانات مستقبلية حقيقية، مما ينبئ بأفول كلي للجهد الاستشراقي في الأراضي الفرنسية.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4263

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك