العرب وليس الغرب أول من عرف الصالونات النسائية

سهيلة عبد عبد

 

يعتقد المهتمون بالصالونات النسائية أن صالون (كاترين ده رامبويه) هو من أقدم الصالونات الفرنسية التي ظهرت بباريس في القرن السابع عشر، ويرون أن هذا الصالون كان مؤثراً في رواده، وكانت صاحبته شغلت الفرنسيين في زمانها، وفتنت أعلام عصرها، كانت تستقبل في صالونها النبلاء وكبار القادة والمفكرين وكبار الشعراء. ثم يتحدثون أيضاً عن صالون (مدام ده سيفينيه) في باريس الذي عاصر صالون نظيرتها (كاترين ده رامبوييه). ويتحدثون عن الصالونات النسائية التي ظهرت في فرنسا فيما بعد في القرن الثامن عشر، وهي كثيرة أشهرها صالون المركيزة (ده لمبرت) وصالون (مدام جوفرن) وصالون (مدام نكو)، ثم ظهر بعده صالون (مدام ده ستايل) وصالون (مدام ريكامييه). يرون أنه كانت تثار في تلك الصالونات موضوعات مختلفة: أدبية، اجتماعية، فكرية، سياسية،  وكن يدرن الجلسات في صالوناتهن بمهارة ولباقة وظرف، وكن يقدمن الضيافة للرواد، ويتبادلن معهم ومع أعلام عصرهن الرسائل، ثم أخذت الصالونات النسائية تخرج بعد ذلك من فرنسا إلى البلدان المجاورة، ثم تنتشر إلى بقية أنحاء العالم. ويرى الباحثون أن الصالونات النسائية دخلت بلادنا العربية أواخر القرن التاسع عشر، متأثرة بالصالونات الغربية خصوصاً الفرنسية، وأخذت تحاكيها. وكان صالون الأميرة نازلي أول صالون نسائي ظهر في القاهرة، حيث كانت الأميرة تستقبل في دارها بعابدين كبار المصريين والأوروبيين، وكان يحضره سعد زغلول وقاسم أمين والشيخ محمد عبده والشيخ جمال الدين الأفغاني، وكانت تناقش فيه أحوال البلاد السياسية والاجتماعية والثقافية. ثم ظهر أهم صالون نسائي عربي في بداية القرن العشرين، وكان أكثر الصالونات النسائية دافعاً للحراك الأدبي والثقافي والفكري؛ صالون الأديبة مي زيادة في القاهرة. استمر هذا الصالون نحو عشرين سنة، كان هذا الصالون ينعقد يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وكان يحضره كبار رجال الأدب والعلم والفكر والفن، كان يتناول بالدرس والبحث مختلف المسائل المثارة أو المعروضة عليه، وكانت صاحبة الصالون مثقفة، وأديبة وكاتبة، تتقن إلى جانب لغتها العربية اللغة الفرنسية، وتلم ببعض اللغات الأجنبية الأخرى، وكانت تدير جلسات صالونها بمهارة، وتقدم الضيافة لرواد صالونها. ويرى المهتمون أن الصالونات النسائية العربية تأثرت بالصالونات النسائية في فرنسا التي يعدونها رائدة في هذا المجال. 
والسؤال الآن: ما مدى صحة هذا الرأي؟ هل كانت فرنسا حقاً أول بلد أوروبي تظهر فيه الصالونات النسائية؟ ألم تعرف أوروبا صالونات نسائية قبل صالون (كاترين ده رامبويه) بفرنسا؟ لنتوغل في عباب الزمن إلى الوراء قبل ظهور الصالونات النسائية الفرنسية بخمسة قرون، ولنحط رحالنا إلى بلد أوروبي آخر مجاور لفرنسا اسمه الأندلس، ولنمض سراعاً إلى مجلس، والعرب تلفظه مجلساً، ولا تلفظه صالوناً، والصالون كلمة أجنبية، ترعاه أميرة أموية، اسمها (ولّادة بنت المستكفي)، قال الرواة: أحضر الخليفة المستكفي لابنته المدللة أمهر المؤدبين، ولما قتل، ورثت أسرته حصة من ثروته من العقارات والدور والقصور والأموال ساعدت ولّادة أن تعيش برفاه وترف أو في أقل تقدير بكرامة وإباء، كما ساعدتها على أن تنفق على مجلسها ما يحتاج إليه، وفي بلاط هذا القصر الجميل في قرطبة كان مجلس (ولادة) الذي يحتشد فيه الناس أجناساً شتى من عرب وبربر وموال وإسبان وغيرهم، وكان يسيطر عليه الرجال، ولم يخل من النساء، وكان بعضهن أو أغلبهن سافرات، يتردد إلى مجلسها الأمراء والوزراء والقادة والعلماء والأدباء والشعراء والمغنون والظرفاء والمضحكون متزينين بأجمل حللهم ولباسهم متعطرين بأفخر أنواع العطور، وربما كان الناس في مجلسها يتبادلون الرأي والمشورة لبيان ما يحدث في البلاد، ويخططون لما يمكن القيام به لإعادة توحيدها، أو في أقل تقدير استعادة الأسرة الأموية حكم قرطبة مرة أخرى، وكانت تعقد في مجلسها مناظرات وندوات ثقافية وشعرية وأدبية وفكرية،  وأشار القدماء إلى مجلسها بإيجاز، فقال ابن بَشكُوال في (الصلة): (وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها)، ويتحدث ابن سعيد في (المُغرب) عن مجلس (ولادة)، فيقول: (وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها، ينشدون فيه الشعر، ويلقون النثر، ويشيع فيه الظرفاء البهجة والمسرة بنوادرهم وفكاهاتهم وخفة أرواحهم عنها)، ويضيف: (كان لها صنعة في الغناء). وكانت ولادة مثقفة ثقافة واسعة، أنضجت شخصيتها، وضاعفت من ثقتها بنفسها، فكانت، كما قال ابن بشكوال في كتابه (الصلة) وأورده (المقري) في كتابه (من نفح الطيب) (تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء)، وكانت فاتنة الأندلس الشقراء ذات العينين الزرقاوين كأمها الإسبانية، تستقبل من يؤم مجلسها بوجه طلق، وثغر باسم، وكانت كما وصفها ابن بشكوال في (الصلة)، (غاية في الأدب والظرف)، و(كانت أديبة.. شاعرة.. وكانت جزلة القول.. حسنة الشعر). عكفت ولادة على تنشيط مجلسها، وأخذت تدفع من خلاله الحركة الثقافية لمجتمعها الأندلسي إلى الأمام. وأحسب (ولادة) سمعت بمجالس النساء العربيات اللائي سبقنها بقرون في المشرق العربي كمجلس (عُلَيَّة) بنت الخليفة المهدي العباسي في بغداد في القرن الثاني للهجرة، وكانت أديبة وشاعرة، وقبله كان مجلس عائشة بنت طلحة، ومجلس سكينة بنت الحسين في القرن الأول للهجرة في مكة والمدينة والبصرة، وكانتا أديبتين مثقفتين وناقدتين، وأحسبها سمعت بمجالس النساء اللائي سبقنها في بلاد الأندلس، فأرادت لمجلسها أن يتميز عن المجالس النسائية الأخرى، فكان له ما أرادت. خطف مجلسها الأضواء، وألقى سائر مجالس نساء الأندلس في الظل، ولا أستبعد أن تتعدى شهرة مجلسها حدود الأندلس إلى داخل البلدان الأوروبية كفرنسا وإيطاليا، وربما سمع النساء الأرستقراطيات في فرنسا وإيطاليا بشهرة مجلس (ولادة) من خلال تأثير الحضارة الأندلسية الوافدة إلى هذه البلدان، أو من خلال الإسبان أنفسهم المتأثرين بالحضارة العربية الإسلامية. ولست أدري ما إذا كان مجلس (ولادة) عمر طويلاً أو استمر لفترة قصيرة، لكنني أزعم أنه ظل مشعاً طوال وجوده، ولم ينطفئ إلا بعد أن سلبت السنون بريق صاحبته التي لم تتزوج قط، فرحلت عن الدنيا لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين، وقيل أربع وثمانين وأربع مئة للهجرة، سنة ألف وسبع وثمانين للميلاد عن عمر ناهز ثمانين أو بضعة وثمانين عاماً.
 

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك