المراسلات بين زمنين

نرمين الرفاعي

 

رسائل البريد الإلكتروني حجبت الكثير من المراسلات بين الأدباء عن القراء، خصوصاً في حال اشتملت الرسالة على مكاشفات شخصية قد لا يكون من اللائق نشرها لما تحويه من معلومات قد لا تفيد القارئ.
تبوأت المراسلات الأدبية منزلة رفيعة بين باقي الأجناس لما تحمله من تفاعل بين الشخوص، وامتزاج بين أكثر من لحن أدبي مما يجعل القطعة الأدبية أشبه بمعزوفة تشاركت أكثر من آلة موسيقية في نسجها.
كما أن الصياغة الوجدانية بين شخصين تستلزم عادة تشابهاً في الروح الأدبية، حتى وإن اختلفت الآراء أو اشتملت على النقد أو اللوم والعتب، مما ينفض عن القطعة الأدبية سكونها وجمودها، ويحرك فيها نبضين على وقع واحد.
ولا نغفل عن أن الرسائل تعرضت للدراسات اللغوية والعروضية والبلاغية، وبالتالي تعد مصدراً مهماً من مصادر دراسة النقد الأدبي ويمكن من خلالها مراقبة التطور الحثيث والحركة الدائبة في أجناس الأدب وصنوفه.
ورغم التطور الذي يعيشه العصر، فإنه من الصعب أن تختفي المراسلات بين الأدباء لأكثر من سبب، قد يكون أهمها هو أنها تعد وسيلة تفاعلية بشرية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها. كل ما في الأمر هو أن شكل هذه المراسلات اختلف واكتسب صبغة جديدة تختلف عن رسائل الجاحظ على سبيل المثال.
ففي السابق مثلاً كان الأدباء يعتمدون إطالة الكلام وحشي الجمل والاستطراد في الشرح وعرض المهارات اللغوية بشكل قد يميل إلى المبالغة.
إن رسائل البريد الإلكتروني حجبت الكثير من المراسلات بين الأدباء عن القراء، خصوصاً في حال اشتملت الرسالة على مكاشفات شخصية قد لا يكون من اللائق نشرها لما تحويه من معلومات قد لا تفيد القارئ أو تسبب الحرج للطرفين المعنيين بالرسالة.
ولكن السجالات والحوارات الأدبية الجميلة التي تحدث على جدران الفيسبوك والتويتر وغيرهما من البرامج أسهمت في الوصول إلى شريحة أوسع من القراء، وأصبح من الأسهل تداول الرسائل والردود عن طريق استخدام الروابط وتحويلها إلى صور أو غيرها مما تتيحه التطبيقات التكنولوجية الجديدة.
كما أن الردود التفاعلية اللحظية تعد عنصر تشويق وجذب للقارئ الذي يبحث أحياناً عن قطعة أدبية مميزة يستطيع تصفحها بسرعة خلال نهاره المزدحم.
من جهة أخرى، فإن اتساع الصفحة الإلكترونية للمراسلات بين أكثر من أديبين قد يتيح المجال لتوسيع قاعدة الرسالة الواحدة -باعتبار أن الرسائل مجتمعة هي قطعة أدبية واحدة- ولكنه في الوقت نفسه قد يشتت اتساق الروح الواحدة للقطعة. أي أن الأمر سلاح ذو حدين، فهو قد يثري النص ويملؤه بالجمال حد الإشباع، أو يبعثره ويخرجه عن انسجامه بحيث يفقد معناه للكاتب والقارئ على حد سواء. 
وعلى الرغم من اختلاف شكل المراسلات وطرق نشرها وأنماط وصولها للقراء، فإنها كانت وما زالت تحفة فنية لها حمولتها اللغوية والجمالية والرمزية التي أثبتت قدرتها على تجديد نهجها وأساليبها بطريقة ذكية تضمن لها دوام استمرارها وتناقلها بين الأجيال. 
وعلى الرغم من اختلاف الظروف الزمانية والمكانية، إلا أن المراسلات الأدبية ما زالت تحرص على أن تبرز جمال اللغة ومتانة الكلمة، وتميل إلى دمج السرد الروائي بالأبيات الشعرية والآيات القرآنية. كما أنها لا تغفل عن استخدام المحسنات اللفظية وتحرص على دقة الكلمة بحيث تنتقل الفكرة بانسجام وسلاسة بين المتراسلين وقرائها.
ولقد شغلت الكتابة الإلكترونية حيزاً لا يستهان به في عصرنا الحالي، كما أن تطور تطبيقات الاتصال الصوتية والمرئية أسهم في تحويل جزء من المراسلات الكتابية إلى شكل شفوي قد يصعب تدوينه وتوثيقه ونقده إلا في حالات استثنائية.
كما أن المراسلات الشفوية قد تميل إلى صياغة الجمل بلغة عامية مما يخل أحياناً بالقوافي والأوزان وقواعد اللغة، خصوصاً أنها تعتمد التواصل الفوري العفوي السريع والذي لا يعطي مجالاً كبيراً للتنقيح والتنميق.
ومن المهم هنا الأخذ بعين الاعتبار أن الرسائل والردود بلهجة معينة لا تقل أهمية لغوية عن تلك التي تعتمد اللغة العربية الفصحى التي هي أساساً دمج لعدد من لهجات القبائل البدوية إبان انتشار الإسلام. كما أن ذلك قد يستحدث في المستقبل القريب صنفاً جديداً من الرسائل الأدبية لا تقل أهمية وتأثيراً عما سبقها في تاريخ الأدب القديم.

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك