نيكولا ماكيافيلي؛ السياسة فيما وراء الخير والشر
بقلم عادل حدجامي
"الحرب والعقل هما الشيء نفسه". هايدغر
"فَسُموّكم يعرف أنّي لا أستطيع أن أهديكم أعظم من هذا الكتاب.... فهو سيمكّن سموّكم من التعرف في وقت قصير على كلّ ما اكتسبته طوال حياتي، وهو ما تحملت لأجله الكثير من الأخطار والفقر، طوال سنوات عمري الطويل".ماكيافيلي
للنصوص الفكرية قدرها الخاص المستقل عن بواعث كتابتها الأولى وعن إرادات أصحابها، إنّ لها تاريخاً آخر غير "إطارها التاريخي" الذي تقدم فيه وتفهم به، بل ربما إنّ هذا القدر هو الذي يصير العلة غير الواعية التي تفسر، بعدياً، هذا الذي نسميه مدرسياً بـ"الإطار التاريخي". هكذا فإنّ النصوص توجد أولاً، ثم نصنع الإطار الذي يلائم تأويلنا لها بعدياً وليس العكس. هذا ما يجعلنا نجد أنّ نصوصاً كتبت لدواعي ظرفية، تحيا وتستمر وتعلو "سومتها" في بورصة التاريخ، وأخرى تنطفئ ويخبو وهجها، حتى وإن كانت الغاية من تحريرها عند صاحبها، أن تكون "حاسمة" وفاتحة، فللتاريخ تاريخ آخر يحكمه ويفسر صيرورته.
غير أنه إن كان هناك من نص ينطبق عليه هذا الأمر بالضبط فهو نص "الأمير"[1] لنيكولوس ماكيافيلوس" (بتسميته اللاتينية)، هذا النص الصغير الذي كتبه صاحبه وفي نفسه أنه ليس إلا جملة وصايا "عملية" موجهة لآل الميديتشي تحديداً، بعد أن طرد من حياض السلطة، وتنكرّ له الزمان وأهله وقلبوا له ظهر المجنّ، ليتحول فيما بعد إلى واحد من أهم كتب تاريخ الفكر السياسي، حتى صار دليلاً إلى صاحبه، بل يمكننا القول إنه لولا هذا النص الصغير لما كان لصاحبه ذكر عند الخلف، مع أنّ الرجل أجهد نفسه في تأليف كتب أخرى كثيرة، لعله كان يعتقد أنها ما سيخلد لاسمه أثراً.
ما المثير في هذا النص؟ وما هذا الشيء الخاص فيه الذي جعله يبزّ غيره من كتب ماكيافيلي؟ أمور كثيرة، قتلها مؤرخو الفلسفة السياسية درساً، منها ما قاله بعضهم من كونه النص الذي فصل مع مفهوم السياسة القديمة التي ظلت، نظرياً، واقعة تحت ثقل التقليد اليوناني الروماني، أو كونه النص الذي فرّق، كما يذهب الكثيرون، بين ما للآلهة وما للبشر؛ ما للأرض وما للسماء، ثم ربما، مع كل التحفظ الواجب، كونه فضح حقيقة الفعل السياسي، كما يحب آخرون القول، بما هو فعل لا أخلاقي، قوامه القوة والحرابة والغلبة، وهو ما تفرق حوله هؤلاء بين من يدّعي أنه كان يعتقد في هذا وينظّر له فعلاً، فاستحق بذلك مجد أن تسمى الانتهازية السياسية باسمه "الماكيافيلية"، ويكون مرجع الطغاة اللاحقين كلهم، وبين من ذهب منهم للقول حتى إنّ فعله هذا الظاهر، يضمر "نقداً" لاذعاً للسياسة وانتصاراً للأخلاق، ليكون بذلك بحسب هذا التصور الغريب، بطلاً رومانسياً، يعلن الانتصار لعنف وبطش الحكام، في حين أنّ الغاية عنده هي فضحهم أمام الشعب. كلّ هذا صحيح ربما، لكنّ المثير في هذا النص على الخصوص، بحسب تقديرنا، والذي كان هو الباعث على هذه التأويلات المتضاربة كلها، ليس في منطوقه، بل في رؤيته، كونه نصاً حاول أن يفكر في السياسة خارج منطق "الماهيات"؛ كونه لم يسعَ للحكم بل للفهم، وهكذا فعوض أن يقيم محكمة لما هو مسموح به وما هو غير مسموح "أخلاقياً" في السياسة، أي أن ينظّر لمبادئ "قبلية" للسياسة، اختار أن يتجاوز الرؤية المبدئية أصلاً، وأن يرصد خارج أفق الحكم والمعيار كيف تتحقق السياسة؛ كونه جاء نصاً "تشخيصياً" وليس توجيهياً، وكون صاحبه اختار أن يكون طبيباً وليس واعظاً، رغم عبارات التوجيه والنصيحة التي تظهر فيه، فلم يقف مع أو ضد، بل شرح ميكانيزم السياسة، لهذا بدا مفكراً مفارقاً فلم يقبل به أحد، وهذا ما يفسّر تعدد التأويلات حوله الذي قدمنا سابقاً، فرفضته الأكثرية، حتى عمدت الكنيسة إلى منع كتبه من التداول في أواسط القرن السادس عشر، بل إننا نجد اليوم المترجم العربي يتحرّج أيّما حرج ويستسمح ويطلب لنفسه الأعذار لإقدامه على الترجمة، والتي وجد من بينها أننا بترجمة هذا النص سنعرف من أين يتسلل إلينا الشر، وأنه نص، رغم ما فيه "من شرور"، قد يفيدنا في معرفة قتال الأعداء وفنونه (كذا)[2].
إذا تناولنا النص من هذه الزاوية، أي من زاوية رؤيته، ستنفتح لنا في قراءته آفاق، وسيظهر لنا نصاً كبيراً، سيظهر لنا قولاً تراجيدياً يقع "فيما وراء الخير والشر" بلغة نيتشه، وهي كونه لا يقيس السياسة على الأخلاق، بل يعكس الآية، أي يناقش مسألة السياسة والأخلاق من باب كيف تنفع الأخلاق السياسة وليس العكس، وهذه الرؤية عينها تتأسس على رؤية أبعد غوراً وأكثر عمقاً من الناحية الفلسفية الصرف، وهي ألّا "ماهوية" للأشياء، فيصير كلّ مفهوم أو قيمة عرضيين، فالعالم والتاريخ لا خير ولا شر في ذاتهما، إذ العالم هو فيما وراء الخير والشر، وكلّ الأدلة التاريخية والسياسية التي يستحضر الرجل سنقرؤها حينها كمجرد أدلة وتمثيلات على هذا الأمر.
نحن إذن أمام مفكر تراجيدي، مفكر طبيب، يعتمد التاريخ والوقائع ويبسطها في حقيقتها الصادمة وقساوتها، إذ وحده التاريخ وتجاربه القاسية تعلّمنا [3]، لهذا فهو ينبهنا منذ بداية نصه بالقول: "لم أتعمد بأي حال أن أجمل كتابي هذا بالمحسنات والكلمات"[4]، بل هو لم يعط لنفسه الحق حتى في الحديث عن ذاته، والوقت الوحيد الذي نجده يسمح فيه ببعض النجوى والبوح هو المقدمة التي تلت الإهداء. لكل هذه الاعتبارات فإنّ قراءة الكتاب ينبغي أن تكون مقلوبة، وهذه أهم المفاتيح الممكنة لقراءة هذا النص بحسب ما يبدو لنا، فعوض أن تكون السياسة فعلاً وفق معيار هو الأخلاق، تصير الأخلاق ذاتها "وسيلة" سياسية، فلا يتم فهمها إلا في إطار اقتصاد الوسيلة، ثم عوض أن نبحث للسياسة عن نموذج متعالٍ، نطرحها كفعل محايث لا نموذج يرد إليه، لأنّ العالم نفسه خالٍ من النماذج الكليّة والأوثان المتعالية التي يمكن أن نفزع إليها.
الأخلاق، السم والترياق
في نص بديع عن ماكيافيلي لميرلوبونتي[5] يبين الفيلسوف أنّ ما هو لافت في نص الأمير هو كونه يشوش على كلّ أشكال التلقي، إذ هو نص يدافع عن القيم في الوقت نفسه الذي يزعج فيه الأخلاق، وما ذلك إلا لأنّ محركه الداخلي كان هو رغبته في حلّ مفارقة وهي: كيف يمكن أن نجعل من الأخلاق سلاحاً ناجعاً؟ وكيف يمكننا بالمقابل أن نُخضع السياسة لشيء يتجاوز السياسة كممارسة؟ ومحاولته لحلّ هذه المفارقة هو ما يفسّر ظهور ما يبدو لنا متناقضاً في هذا النص، كونه مثلاً يهاجم النوايا الحسنة ويعادي العنف في الآن نفسه، وهو ما جعل مفهومه عن العنف وعن القوة يحضر بشكل واضح، لكن ليس كمقابل ونقيض للفضيلة والعفّة.
غير أنّ هذا الإشكال، في تصورنا الخاص، يمسّ جانبا أكثر عمقاً من هذا، ويتعلق، كما مهدنا لذلك، بفلسفة ماكيافيلي العميقة في فهم العالم نفسه، ومن ثمّة التجربة الإنسانية كلها، سياسة وأخلاقاً، فلا يمكن أن نفهم ماكيافيلي مؤرخاً ومفكراً سياسياً ما لم ندرك أنه مفكر غير معياري، مفكر لا يؤمن بإمكان بناء تصورات متعالية أصلاً؛ التناقض يرتفع، في نظرنا، إن فهمنا أنّ السياسة عنده، كما هو كل شيء، ليست ممارسة تحمل "ماهية" ثابتة في ذاتها، إذ هي ممارسة إنسانية وليست طبيعية، ومن طبيعة ما هو إنساني أن يكون متغيراً ومفتوحاً، وأن يسبق فيه الوجود الماهيّة، فالسياسة صراع وهذا صحيح، لكنه صراع بين البشر، وهذا يغير كلّ شيء، وهذا ما يجعله غير قابل لأن يُحتوى في خطاطة ساكنة تسعى لأن تقبض على ثابت ما، فلا ماهيات خالصة فيما هو إنساني، وهذا ما يجعلنا نحن، من يريد القبض على ثابت السياسة عنده، نقف حيارى أمام جملة من الأمور التي يصرّح بها نصه، كأن يقول مثلاً إنّ القوة هي ما يحفظ السلطة من الكراهية، ويصرح في الآن نفسه بأننا "إذا نظرنا إلى الأمور نظرة صحيحة، فسنجد أنّ ما يبدو لنا فضائل قد يهلكنا لو طبقناه، والبعض الآخر من الرذائل قد يسبب سلامة الإنسان وسعادته"[6]. وكأن يقول مثلاً إنّ القوة بما أنها دائماً مهددة، فإنّ العنف ينبغي دائماً أن يكون وسيلة وليس غاية، إذ الأمور تقاس بنتائجها، وما يبرر هذا هو أنّ الغاية من كلّ ذلك هي "سعادة الإنسان". يبدو من الغريب أن نضع "السعادة" هنا مع العنف والقوة والبطش في السياق نفسه، بل أن نضع السعادة غاية للعنف والموت حتى، إذ أننا، وربما ببعض من "ماهويتنا"، نعتبر السعادة، كما عند القدامى، مسألة قيم، لكن هذه الغرابة ترتفع حين نفهم أنّ ماكيافيلي لا يعتقد، سياسياً، في وجود قيمة ما في ذاتها مهما كانت، فضيلة أو رذيلة، بل يؤمن بتدبير ما نعتبره نحن قيماً، لأنّه لا شيء يملك "حقيقته" قبلياً، هنا يصير ما نسميه نحن فضائل أو رذائل "وسيلة" لتدبير الحياة، وهذا انقلاب في التصور المعتاد كله، لأنّ الأخلاق لا تظلّ حينها "الأنا الأعلى" لما هو سياسي أو سلوكي، بل تصير أدوات عمل لا غير؛ أدوات لا تحمل في ذاتها أي ماهية قبلية، وهذا ما يفسر، في نظرنا أيضاً، كيف أنه في الوقت الذي يقدم فيه حكايات مقززة وبشعة دونما إبداء أي موقف نقدي تجاهها (من مثل حديثه في بداية الفصل الثامن عن الكيفية التي استولى بها أكاثوكل الصقلي على الحكم في سيراكوزا ببشاعة متناهية الدقة) يورد في السياق نفسه حديثاً عن فضل محبة الشعب لحاكمه وكرمه معه، ويستفيض في الحديث عن منافع هذه المحبة والكرم، فيقرن إعجابه الواضح بهذا الرجل الذي كان ابن صانع فخار فتحول أميراً، بوصفه له كرجل قاس وبربري، ويترك كلّ هذا للبحث عن سبب كون الشعب لم يثر عليه، ويجد هذا السبب في مسألة أبعد ما تكون عن المحبة والكرم نفسهما، وهي كونه "أحسن" ارتكاب القتل[7]، ولا يجد ما يلومه عليه في كل هذا إلا أنه نسي في لحظة أنّ البربرية ليست مرغوبة لذاتها بل لنتائجها، فيستنتج أنّ خطأه لم يكن في البربرية ولا في الكرم، بل تجسّد كون هذا الحاكم سقط، في لحظة، في خطأ اعتماد "البربرية" في ذاتها. بهذا المعنى فإنّ الخير والشر عند ماكيافيلي لا يحملان قيمة في ذاتهما، إذ هما مجرد أدوات ينبغي أن تستخدم دونما حرج "ماهوي"، وأن تستخدم على الخصوص في وقتها، وإلا ما كانت هناك من فائدة منهما[8]، هنا تصير أخلاق الحاكم وفضائله، وتصير والرذيلة والعنف مسألة سياسية، ينبغي أن تعتمد بحسب ما يضمن سير الحكم واستمراره[9]، وهذا المعنى هو ما نجده يتكرر في كل ثنايا نصه تقريباً، فالعنف ليس مرغوباً لذاته بل لنجاعته[10]، المسألة إذن لا علاقة لها بالنوايا والتصورات، فالنوايا الحسنة لا تطيل الحكم، بل تتعلق بإخضاع كلّ هذا لما يقتضيه الظرف[11]، ومع ذلك فلا نتيجة مضمونة قبلياً، فالأعمال الصالحة قد تجلب الكراهية كالأعمال الشريرة تماماً، لهذا كان على الأمير الذي يريد أن يحافظ على ملكه أن يرتكب بعض الشرور[12]، لكن ليس هذا هو الأهم، الأهم هو "المقدار والتوقيت"، فقد تقتل مثلاً ولكن لا تستحوذ على المال، لأنّ الإنسان يمكن أن ينسى قتل أبيه لكنه لن ينسى الاستحواذ على ميراثه[13]، لهذا كذلك كانت الهيبة جيدة، لكن متى؟ ما لم تعقبها الكراهية، فأنت إن لم تستطع خلق الحب، فلا تخلق الكراهية، وهذا معيار الهيبة، فحب الناس أو كراهيتهم، وهنا أيضاً، ليس مطلوباً لذاته، بل هو مطلوب لإدامة الحكم[14].
يتعجب القارئ من كلّ هذا الحديث، بل قد يجد فيه تناقضاً، فهو كما تقدّم يصف بأبشع ما يكون رذائل كثيرة ويمدحها، ثم يعرض محاسن كثيرة ويذمها، كلّ هذا بروح باردة، لكن العجب والحيرة ترتفع حين نفهم أنّ العلة في كلّ ذلك كما تقدم هو أننا مع مفكر لا يؤمن بـ"الأشياء" بل بمفعولات الأشياء، فالأشياء هي الأشياء، لا خير ولا شر، فلا ينبغي في السياسة أن نحكم على أي شيء في ذاته، إذ السياسة ليست مسألة رؤى قبلية وصور ثابتة، بل مسألة إطالة حكم، وهذا يتطلب استعمال كلّ شيء ونقيضه، لكن بمقدار. نحن هنا مع تصور "كيميائي" عن العالم والسياسة، فكلّ شيء مضر وكلّ شيء نافع، المسألة "كالسم والدواء" مسألة تدبير ومقادير، فلا الحاكم ولا أساليب الحكم بماهيات، بل إنّ الشعب نفسه إن اعتبرناه ماهية وأسقطنا عليه حكماً قبلياً، تهنا عن مطلوب السياسة، وهذا خطأ كلّ تحليل قبلي في نظر ماكيافيلي.
1- ضد الشعب، لأجل سعادته
اجتهد كثير من القراء في بيان التصور الذي يبنيه ماكيافيلي عن الشعب، ومن ذلك أنهم حاولوا بيان التصور الميتافيزيقي الذي يقدمه الرجل عن ماهية الإنسان، كونه مثلاً ذئباً وشريراً بطبعه، ومن ذلك قوله في جملته المعروفة: إنّ الشعب قطيع من الذئاب، لذلك وجب على الحاكم أن يكون كائناً عجيباً برأسين: رأس إنسان ورأس حيوان؛ ورأس الحيوان نفسه ينبغي أن يحمل وجه أسد ووجه ثعلب، أسد لتخافه الذئاب، وثعلب ليعرف كيف يتفادى الفخاخ[15]، بيد أنه يبدو لنا أنّ همّ الرجل لم يكن هو هذا، إذ لم يكن شاغله أن يقدّم تصوراً ميتافيزيقياً عن ماهيّة الإنسان، ومن ثمّة الشعب، فتماشياً مع منطقه المحايث و"الطبي" في التحليل، كلّ ما كان يسعى إليه هو بيان كيفية التعامل مع الشعب حسب كلّ وضع، فالتقلب والتحوّل والظرفية هي الثابت الوحيد في السياسة، لهذا يبدو لنا أنّ التأويل الذي يذهب للبحث عن تصورات "مفهومية" عن الشعب لا يترجّح، أو على الأقل أنّ أدلته غير كافية، بل إنّ ماكيافيلي نفسه لا يستعمل كلمة الشعب إلا قليلاً، ويستعيض عنها بكلمة الناس في الغالب، ولأنّ الناس لا طبيعة ثابتة لهم، فإننا نجده يرجح أشياء في حين، ثم يدعو لتركها في أحيان أخرى، فالمسألة لا تحتمل "مواقف" بما أنّ الشعب ليست له "طبيعة" ثابتة، وهو لأجل هذا يعّدد الأمثلة ليبين كيف أنّ الفعل الذي يكون سليماً في بعض الأوضاع لا يكون كذلك في بعضها الآخر، فهو من جهة يدعو الأمير لأن يبدو عفيفاً، لأنّ الناس تحب الأمير الذي لا يفضح رذائله[16]، وأن يجتهد للانتقام لهذا الشعب من ظالميه (يمثل لذلك بفرانشيسكو سفوتزا الدوق بن الإسكندر السادس، وكيف شطر واليه روميو أمام الناس نصفين بعد أن ضمن له ولاء الناس بالعنف)[17]؛ وفي الآن نفسه يدعوه لأن يظهر أقصى درجات الشراسة معه، وألا يصون العهد مع الناس، لأنّ الأفعال لا تقاس بثناء الناس عليها بل بالفائدة منها[18]، وليس عليه أن يخشى من ذلك شيئاً، لأنّ الناس تنسى بسهولة[19]، لهذا ينبغي أن يواليهم أحياناً وأن يحسن استغلال حقدهم على حكامهم السابقين لاستمالتهم[20] أحياناً أخرى، وأن يبطش بهم أحياناً كثيرة، لكن كل هذا لا ينبغي أن يكون بدافع الحب فيهم أو الكراهية، فالشعب قد يكون حاجزاً أمام الحكم، كما قد يكون مطيّة للوصول إليه[21]، المسألة تقدر بظرفها دائماً، فمع شعب حديث العهد بالاحتلال مثلاً ينبغي للحاكم أن يداهن ويعايش الممالك وفق نمط عيشهم بداية حتى يضمن الاستقرار، هكذا فلا ينبغي له أن يغيّر ما اعتاد عليه القوم خصوصاً مع أمم ديدنها الحرية[22]، فالناس لا تتخلى عمّا اعتادته بسهولة [23]؛ لكن بعد ذلك له أن يشتد عليهم وأن يجتهد في إضعافهم بتفريقهم بين المستعمرات، لأنّ الناس لا ثقة فيهم، إذ هم لا يسامحون فيما تطلبه غرائزهم[24]، فالشدة والقسوة هي ما يضمن الولاء، أكثر من الحب، حين تستقر الأمور.
فروابط الحب وجدانية أمّا روابط الهيبة فمادية [25]، لكن في الآن نفسه هو محتاج لأن يبيّن كرمه وإحسانه إليهم ويلحّ عليه، وإن كان لا بدّ من الإجرام فالجرائم ينبغي أن ترتكب لحظة واحدة، أمّا الفوائد والعطايا فينبغي أن تقدّم جرعة جرعة لتثبيتها في الأذهان[26]. فمن الجيد إذن للأمير أن يتصف بالصفات الحسنة، لكن الأجود أن يتخلى عنها عند الحاجة، فالسياسة مجال القوى، وفي سبيل ذلك يصير كلّ شيء وسيلة بما في ذلك الأخلاق، إذ الأخلاق كالقلاع والأسلحة تستعمل بحسب الحاجة[27] ولا عيب في ذلك فالناس تحترم من يحقق بالقوة رغباته ويفرضها على الغير.
نحن هنا بحسب ما يبدو أمام موقف "يميني" ورجعي عن معنى الحكم، ولعل هذا يتبدى أكثر عندما يتحدث ماكيافيل عن الثورات وينتقدها بشكل تام بدعوى أنه ليس من المضمون أن تأتي هذه الثورات بما هو أحسن[28]، وقد يكون هذا الحكم على ماكيافيلي صائباً من نواحي كثيرة، لكن هذا ليس هو الأهم في نظرنا، الأهم كما تقدم هو التنبه إلى هذا التصور الظرفي عن طبيعة السياسة والناس حكاماً ومحكومين، وتحرره من كل نظرة "ميتافيزيقية" عن العالم، فنحن هنا أمام "ممارس" طبيب، يبحث عن المقادير والجرعات التي تناسب كلّ حالة، وهنا أيضاً، كما في الطب، وكما يقول هو نفسه أيضاً، كلما كان التشخيص مبكراً سهل العلاج والعكس[29]، هكذا فالحاكم إن لم يكن له أن يحب شعبه فلا ينبغي له أن يكرهه، لأنّ الكراهية تعمي، بل الواجب أن يصل لتركيبة من الخصال الحسنة والقبيحة التي تضمن استمراره في الحكم[30]، فالأمر مع الحكم كما في كلّ شيء لا يحمل أي تصور في ذاته، فالعالم كاووس قوى وصراع إرادات ورغبات، وهذا طبيعي لأنّ "الرغبة في تملك الأشياء أمر طبيعي وعادي جداً"، "ومن ينجح في تحقيق رغباته يمدحه الناس ولا يلومونه"[31].
2- العالم كرمية نرد
ممّا يثير في خطاب ماكيافيلي هو إلحاحه في كلّ مرة على عنصر الحظ، فهو كلما ذكر شيئاً للأمير أعقبه بذكر الحظ، بل هو يفرد فصلاً كاملاً[32] لهذا الأمر تأكيداً له، وكأنه يريد أن يذكّرنا، بين ثنايا كلامه، أنّه لا شيء متعالياً في السياسة لنستند إليه، ولا إرادة سامية ترعى كلّ ما هو قائم وتضمن توافق أحكامنا مع العالم، فالعالم مفتوح للصراع المطلق، فما يبقى إلا فعل ما يجب وتوخي الحذر وحسن البخت، إذ هناك، مهما حرصنا، هامش لا يمكننا التحكم فيه يحمل عنده مسمى "سوء الحظ الشديد"[33]، هكذا فهو حتى عندما يعرض لبعض أمثلة الحكام ممن أحسنوا البلاء وفشلوا، فهو لا يجد لهم ما يلومهم عليه إلا سوء الطالع، كذلك يقول إنه عندما يراجع أعمال الدوق الإيطالي الشهير فالنتينو[34]، فإنه لا يجد ما يلومه عليه إلا سوء الحظ، بل هو يذهب في لحظة لأكثر من هذا فيهدم كلّ ما ضرب من أمثلة سابقة وما قدّمه من أفكار حين يقول إنّه ليس على أي حاكم تقليد من سبقه، إذ ليست هناك وصفة جاهزة، لأنّ عوامل عدة تتداخل في فترة الحكم الواحدة [35]، وليس هناك من شيء يبقى في منأى عن سوء الحظ والطالع.
من أهمّ عناصر الرؤية المجردة من الوهم والطوبى هذه، الواعية بطبيعة العالم في ذاته من حيث هو صراع قوى، أنّ الرجل حتى عند تحليله الأمور المتعلقة بالدين والنماذج التي يسوقها من النصوص المقدسة، يظلّ يلحّ على القوة فيصلاً، هكذا فالدين أيضاً عنده ليس مسألة معجزات[36]، بل هو مسألة إرادة قوة، فالدين في عمقه يبقى مسألة سياسية، وهكذا فموسى هو في العمق رجل سياسة مثله قورش تماماً، حتى وإن كان قد استدرك وقال فيما بعد إنه ليس من حقنا قول هذا[37]، فإنه سيكتب بعدها بقليل إنه لولا كون اليهود مضطهدين "سيكولوجياً" لما استطاع موسى نفسه الهيمنة عليهم[38]، فموسى كقورش وروميلوس لم يكونوا، لولا السلاح، ليستطيعوا الانتصار، لهذا كان الأنبياء المسلحون ينجحون أكثر من غير المسلحين، ودليله في ذلك النبي شاؤول في الكتاب المقدس وخبرته الحربية واجتهاده في اختيار السلاح[39].
تزكية للرؤية نفسها يعمد ماكيافيلي، حين يتجرد للحديث عن الكنيسة، إلى تحليلها باعتبارها قوة سياسية لا علاقة لها بأي شيء متعالٍ، ويضرب المثل لذلك بملك فرنسا الذي أحسن استعمال الكنيسة ضد خصومه، بأن قوّى من "سلطتها" واستغلها في مغالبة الإسبان والإيطاليين، لهذا ينبغي على الأمير أن يجعل من سلطة الباباوات شيئاً يقع تحت سيطرته[40]، وهذا ما تعلمنا تجارب التاريخ كلها. السلطة الدينية هنا تتقدم مع ماكيافيلي كأداة سياسية، والنصوص المقدسة من حكايات الأنبياء وأعمالهم تتقدم "كتاريخ"، فالرسل المقدسون يردون مع الحكام الآخرين أخياراً وأشراراً في الإطار نفسه، ففي عرف ماكيافيلي - المؤرخ قبل كل شيء - كلّ الأمور ترد للتاريخ وترد للحرب التي هي أم الجميع بحسب قول الفيلسوف اليوناني القديم؛ التاريخ من حيث هو مقصلة الأوهام ورحاها التي تعرك بثفالها أحلام الجميع؛ الحرب من حيث هي الوضع الطبيعي الدائم لمن أراد هذا الأمر كله (السياسة)، لهذا كان على كلّ من يريد الحكم أن يصرف غايته ومعرفته واهتمامه للحرب وحدها وفي كلّ الأوقات[41]، إن لم يكن "فعلياً" فاستعداداً على الأقل، فمن يريد السلم يستعدّ للحرب.
نحن نرى بوضوح هنا أننا مع مفكر تراجيدي، تماماً كما كان قبله في سياق فلسفي خالص، لوكريس أو ديمقريطس، أو كما سيكون بعده هوبس وسبينوزا ونيتشه، مفكر تنبّه إلى أنّ العالم إرادة قوة، وأنّ الأمور هي هكذا لا تدعو للعجب، لهذا فقد جمع في اسمه كلّ علامات الكراهية والمقت، تماماً كما جمعها قبله أولئك ومن بعده هؤلاء، والعلة في ذلك أنّ هذه هي طبيعة الأشياء، فواهمٌ من يأنس لطيبة أولى أو أصلية في أي شيء بما فيه الناس، فقدر الناس أنهم لا يحبون الحقيقة إلا قليلاً، ولا يحبون من يشوّش على عاداتهم الراسخة في الفهم، كما قال هو نفسه مرّة[42].
* نشرت هذه المقالة في مجلة "يتفكرون"، 2015، العدد 6
[1] نعتمد هنا طبعة كتاب "الأمير" التي صدرت عن المطابع الجامعية الفرنسية باللغتين الإيطالية والفرنسية، التي أشرف عليها: Jean-Louis Fornel et Jean Claude Zarkanini، باريس 2000.
أما في الترجمة العربية فنعتمد ترجمة أكرم مؤمن الصادرة عن دار ابن سينا، القاهرة، 2004. والإحالات على الفصول أرقامها موحدة، أما الصفحات فالإحالة ستكون على الترجمة العربية.
[2] نفسه، كلمة المترجم.
[3] نفسه، ص 20
[4] نفسه، ص 19
[5] Maurice merleau– Ponty , signes , Gallimard, Paris, 1960, chapitre X, notes sur Machiavel.
[6] الأمير، ص 81
[7] نفسه، ص 54
[8] نفسه، ص 55
[9] نفسه، ص 81
[10] نفسه، ص 46
[11] نفسه، ص ص 16-17
[12] نفسه، ص 97
[13] نفسه، ص 87
[14] نفسه، ص 23
[15] نفسه، ص ص 90ـ91
[16] نفسه، ص 22
[17] نفسه، ص ص 46ـ47
[18] نفسه، ص 89
[19] نفسه، ص 22
[20] نفسه، ص 26
[21] نفسه، ص 56
[22] نفسه، ص 24
[23] نفسه، ص 37
[24] نفسه، ص 57
[25] نفسه، ص 77
[26] نفسه، ص 55
[27] نفسه، ص 105
[28] نفسه، ص 23
[29] نفسه، ص 27
[30] نفسه، ص 49
[31] نفسه، ص 29
[32] نفسه، الفصل الخامس والعشرون "دور الحظ في العلاقات البشرية وكيف يمكن التصدي له".
[33] نفسه، ص 44
[34] انظر الفصل السابع، والمقصود هو الدوق والأمير سيزار بورجيا، César Borgia, (Il Valentino), 1475, 1507
[35] نفسه، الفصل 19، حيث يقدم أمثلة كثيرة من تاريخ الإمبراطورية الرومانية وحكامها.
[36] نفسه، ص 27
[37] نفسه، ص 38
[38] نفسها.
[39] نفسه، ص 74
[40] نفسه، ص 50
[41] نفسه، ص 77
[42] نفسه، ص 32
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D9%86%D9%8A%D9%83%D9%88%D9%84%D8%A7-%D...