التقليدية النقدية: درس هندي في علاقة التقليد بالحداثة
بقلم يونس الوكيلي
يواجه المسلم المعاصر بحكم الانتماء إلى الزمن الحديث سؤالاً معرفياً مقلقا، تتعدد صيغه لكن جوهره يبقى واحدا: كيف يمكن أن نعيش الإسلام في الحاضر دون أن نشعر بالتناقض بين مقتضيات الإيمان الديني وخيرات العصر الراهن؟ لاشك أن هذا السؤال يقف خلف كل دعوات التجديد والتحديث على الأقل منذ القرن التاسع عشر، كما أن اختلاف الإجابات عنه هو الذي يحدد مواقع التيارات والجماعات على خرائط الإصلاح العربية. ويفسر في الآن نفسه أصل الصراع القائم داخل المجتمعات الإسلامية بين الحداثة والتقليد، أو الماضي والحاضر.
نحاول في هذا المقال، اكتشاف إحدى الإجابات الممكنة من خلال الإطلالة على مجال أكاديمي قلما نلتفت إليه في العالم العربي، أقصد المفكرين المنحدرين من الفضاء الثقافي الهندي. ولا يخفى ما يمكن أن تشكله تجربة هذا الفضاء الفريد في تنوعه الثقافي من دروس في تدبير علاقة الحداثة بالتقليد. فنهتم بتصور أحد أهم المفكرين المعاصرين المعروفين بمؤرخي ما بعد الكولونيالية، وهو المفكر الهندي ديبيش شاكرابارتي أستاذ التاريخ واللغات والحضارات في شرق آسيا بجامعة شيكاغو.
تندرج أبحاث ديبيش شاكرابارتي فيما يسمى بـدراسات التابع (Subaltern Studies)، وهي الدراسات التي حاولت إعادة تعريف مفهوم الحداثة الموروث عن التنوير الأوروبي، ومناهضة فكرة الشكل المثالي الوحيد للحداثة، وإعادة تثمين التواريخ المتعددة للمجتمعات، فالمجتمعات "ليست ألواحا بيضاء فارغة" في نهاية المطاف، والنظر إليها نظرة استعمارية بموجب فكرة "التخلف" بدأت تفقد إغراءها شيئا فشيئا. والحال الآن أن "الأمراض التي تعاني منها الهند لها علاقة بالطرق العلاجية التي اقترحتها الحداثة نفسها" كما يقول شاكرابارتي.[1]
لمناقشة هذا التصور الجديد حول الحداثة، نعرض سياق وروده في مشهد الجدل الذي جرى في الهند سنة 1987 حينما أقدمت امرأة تدعى "روب كانوار" على حرق نفسها بعد وفاة زوجها، وهو الطقس المشهور بـ «ساتي» الشائع بين شرائح اجتماعية واسعة من الهندوس. وقد أثار هذا الفعل ردود فعل متباينة بين التقليديين والحداثيين، فتم التساؤل: كيف يتعامل المرء مع ممارسات الماضي ويتخذ موقفاً إزاءها، خاصة وأنها تبدو غير محمودة وغير مُرضية؟ كيف تَفهم وتُمارِس ثقافة ما، قيماً ما، على الرغم مما تتضمنه من قسوة وعنف فعليين أو رمزيين؟
للإجابة عن هذا السؤال يتوكأ شاكرابارتي على مفكر هندي آخر يدعى آشيس ناندي طور نظرية متكاملة حول "التقليدية النقدية"، والذي استند بدوره أيضا في تطويرها على الكاتب الأنكلو-سيريلانكي آنندا كوماراسوامي.
لتوضيح مضمون هذه النظرية وأبعادها نواصل الاعتماد على المثال نفسه كما يناقشه ناندي بلغة شاكرابارتي؛ طقس «ساتي». يقر ناندي منذ البداية أنه ينبغي التمييز بين ممارسة ساتي الأسطورية وساتي التاريخية، إننا باعتبارنا معاصرين ننتمي إلى الزمن الحديث، ينبغي للمرء أن ينظر إلى أساطير الماضي نظرة احترام، ويوظفها للخوض في المعارك التاريخية من أجل إقامة مجتمع أكثر عدالة يتوق إليه الهنديون. ولذلك يمثل ناندي بشخصيات هندية عظيمة مارست هذه النظرية في تصورها للمجتمع وتقاليده وعلاقته بالحداثة وعلى رأسهم غاندي وطاغور، فتجربتهما تقليد تأملي، ناقد للذات، مستبطن للحداثة، وغير مهمل لها.
يكتب ناندي، لابد من "التمييز بين ممارسة «ساتي» في الزمن الأسطوري و«ساتي» في الزمن التاريخي، وبين ممارسة «ساتي» كحادثة وممارسة «ساتي» كنظام، وبين ممارسة «ساتي» الأصيلة ونتاجها غير الأصيل، وبين الذين يحترمونها وبين الذين ينفذونها في عصرنا هذا". على وجه التحديد، هذا ما يسمى التقليدية النقدية، وهي تخريجة تضمن احترام التقليد دون الدخول في صراع حول بقائه أو اجتثاثه، ويمكن صياغته بمبدأ: "نعم، أنا أحترم معتقداتكم، لكنها ليست معتقداتي". هذا ما يسميه ناندي، "الاستخدام الإبداعي والنقدي للحداثة في إطار التقاليد"، وذاك التمييز هو حسب ناندي ما يمكن من الانحياز إلى الضحايا من النساء الذين لقين مصرعهنّ جراء ممارسة هذا الطقس، وهو الأمر الذي لم يعد مقبولا من الناحية الحقوقية في الزمن الحديث.
يتبنى شاكرابارتي نظرية التقليدية النقدية ويحاول تسويغها انطلاقاً من ملاحظة عميقة لناندي يقول فيها أن"لكل ثقافة وجهها المظلم". وهو لا يقصد بالمظلم المعنى السلبي أو المَرضي، بل المعنى الأكثر حرْفية، المظلم، أي المكان الذي لا ينفذ إليه النور ولا يمكن إضاءته. بتعبير آخر، هناك مناطق في المجتمع لا تنفذ إليها العين النظرية للمحلل الحديث، وتبقى العلوم الاجتماعية قاصرة عن فهمها وتفسيرها.
يوضح ذلك بالقول إن الحداثيين والليبراليين الذي يدعون باستمرار لإلغاء عادة «ساتي» يفترضون أن المجتمع شيء شفاف يمكنهم النفاذ إلى قلبه والعثور على مفتاح توضيحي (الطبقة، النظام الأبوي، التكنولوجيا...إلخ)، في حين أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالمجتمعات لا توجد كما توجد الموضوعات، بل نحن الدارسون من ننشئها كأشياء قابلة للتحليل.
إن كل نشاط اجتماعي ممتد في التاريخ يمكن وصفه بأنه نصف شفاف في أفضل الأحوال، ولا تستطيع النظرية على الرؤية وراء حدود معينة. وحيثما لا تستطيع النظرية أن ترى، فإننا نعيش بشكل عملي فحسب. نعم، لا تخفى أهمية الطبقة أو النظام الأبوي في التحليل الاجتماعي، ولكن شفافية النموذج الموضوع ليست بمستوى شفافية الشيء الذي يمثله النموذج.
إننا بوصفنا حديثين ربما نريد أن نتحدى الماضي ونحيله إلى عدم، ويحملنا على ذلك وهْم جميل يفترض استقلاليتنا إزاء الماضي. وهذا غير ممكن؛ فنحن لا يمكننا التحكم في الماضي، لأنه يأتي إلينا بطرائق لا يمكننا رؤيتها أو إدراكها، إذ يأتي إلينا بوصفه ذوقا، وذكريات متجسدة، ومرانا ثقافيا للحواس، بوصفه انعكاسات، وفي أكثر الأحيان يأتي إلينا كأشياء لا نعرف أننا نحملها. وهكذا يستطيع أن يفاجئنا ويتملكنا ويصيبنا بالصدمة. لا يبقى أمامنا إذن إلا التدبير العقلاني لعلاقتنا بالماضي.
في مواجهة هذا، كما يعبر شاكرابارتي بعبارة لا تخلو من سخرية، أكفّ أن أكون البطل الذي يبتكر ذاته في الحياة الحديثة. وكما يحدث في العلاقة بين البشر واللغة، فنحن مجرد أداة في أيدي أنواع الماضي والتقاليد، إنها تتحدث بواسطتنا قبل أن نختارها اختياراً انتقادياً أو نتوجه إليها بالاحترام. إن أنواع الماضي تحمل، كما يقول جاك دريدا، القدرة على البقاء والملازمة، وهي بالأساس لعبة المرئي واللامرئي.
من هذا المنظور المعرفي ينتقد شاكرابارتي موقف الحداثيين والليبرالييين من التقليد الذي يتسم بالقرارات القطعية، لذلك لا يتردد في وصفها بالقرارات التي لا تنبني على أساس من الثقة واليقين، فتأتي لتنزل البلاء والمعاناة على الآخرين باسم التقدم. وبناءً على هذا يؤكد، بكثير من التواضع أو ما يفترض أن يتحلى به المفكرون الحداثيون، أن نظرياتنا ومواقفنا تجاه التقليد تتلمس الطريق، ولا تعدو أن تكون وَثبات في العتمة كما في جميع حالات التخمين.
إن الدرس الأهم الذي يقدمه شاكرابارتي ومدرسة دراسات التابع هو إعادة التفكير في علاقة الحداثة بالتقليد من خلال محاولة إبداع مفاهيم وأدوات جديدة ونماذج معرفية مبتكرة تقوم على "تأمل الذات" وفهم أفضل لتعقيدات الحداثة، والتحلي بقدر كبير من التنسيب والتريث إزاء ماض يتميز بقدرته على البقاء والملازمة والتكيّف، إنه اجتهاد يجنب المجتمع "وثبات العتمة". وثمرة كل ذلك، ترسيخ السلم الاجتماعي وتلافي احتمالات انزلاق الجدل الفكري بين دعاة الحداثة ودعاة التقليد إلى صراع عنفي.
[1] شاكرابارتي ديبيش، مواطن الحداثة: مقالات في صحوة دراسات التابع، تقديم هومي بابا، ترجمة مجيب الرحمان، مراجعة سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، الطبعة الأولى، 2011. وفي هذا المقال اعتمدنا بشكل أساسي على الفصل الثالث من الكتاب بعنوان: "الحداثة والماضي: تقدير نقدي لأشيس ناندي"، 103-120
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%84%D9%8A%D8...