حديث التسامح: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا"

حديث التسامح: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا"
عبدالرحمن السالمي*

يقول أحد نقاد الأدب: إن النص قد يكون قناعاً بدلاً من أن يكون كاشفاً، لكن الوجه الآخر لمسألة علاقة النص بالواقع أنه لا يكون في حال من الأحوال انعكاساً له بالشكل الميكانيكي المتخيل أو المتوهم، بل إن الأمر الذي يشارك مشاركة أساسية في إثبات النص إنما هو الوعي الذي يملكه كاتب النص أو قارئه، والوعي بدوره يتشكل في عمليات شعورية وذهنية مركبة لها علاقة كبيرة بإدراكات الكاتب أو القارئ لموقعه من الواقع والآخر فيما تعرف برؤية العالم.

هناك رؤية قرآنية للعالم تعتبر أن الناس كانوا على ما خلقهم الله –عز وجل - أمة واحدة، ثم داخلهم الاختلاف الناتج عن تباين المنازع والأهواء والمصالح فجاءت الرسالات الإلهية للتسديد على أساس الرؤية الأصلية المتمثلة في التوحد من أجل تحقيق الوجود الإنساني ورعاية المصالح البشرية الكبرى، وهذا هو معنى الرحمة الواردة في نص الرؤية القرآنية: ﴿ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك﴾ (سورة هود/118) وذلك لأن رؤية العالم في المصطلح الفلسفي تتضمن مستويين:

مستوى الوجود، والتصورات الكبرى المتعلقة به بوصفه وجوداً إنسانياً هادياً ومستنيراً، ومستوى الترتيبات التفصيلية المتعلقة بحياة الناس الاجتماعية ومصالحهم، ومن الواضح أن الاختلاف البشري الناجم عن تعدد الإدراكات للمصالح أمر محتمل لا يتهدد الوجود لكنه إذا تفاقم وصل إلى المستوى الأول، وأدى إلى الفوضى الضارية التي يتوقف عندها الوعي وتترك تأثيراتها البالغة فيه، بحيث يغادر الإنسان فطرته الأصلية ويتحكم به وعي التردي من أحسن التقويم إلى "أسفل سافلين" فالحكم البشري هو حكم الرؤية القرآنية التي بمقتضاها يحدث الانتظام بين المستويين الأول والثاني، في حين يكون البديل الآخر الاضطراب والفوضى نتيجة تحكم وعي الخلاف والاختلاف في المستوى الثاني الواقعي أو العملي في الحياة الإنسانية.

والحق أن الاضطراب الذي يسود العالم اليوم إنما يعود إلى اضطرابات ترتيبات العالم الواقعي الذي شوهته مصالح متضاربة وقوى غاشمة، ويؤثر في اصطناع وعي يتجه بسبب ضيقه بمواقعه من المجتمع والعالم إلى تأييد الافتراق والاختلاف والفوضى.

وهكذا فإن الرؤية الإنسانية والإسلامية إنما تمثل في القول بوحدة العالم، ووحدة البشرية في سعيها لتحقيق المعاني الكبرى لوجودها، والتي حددها الفقهاء المسلمون قديماً بأنها مصالح خمس ضرورية هي: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسل، وحق الملك، وقد أضاف إليها حديثاً الفقيه التونسي المعروف الطاهر بن عاشور باستقراء القرآن: حق الحرية، وهذه الضرورية أو الحقوق الأساسية الستة والتي تقتضيها الرحمة الإلهية والفطرة الإنسانية هي مقتضى الرؤية القرآنية لتحقيق وحدة العالم ووحدة إنسانية الإنسان، ولكي لا تحدث الفوضى المخلة بالمقاصد الكبرى لهذا الوجود فينبغي أن تتجلى تلك المبادئ في الترتيبات التي يصطنعها البشر ويصطلحون عليها لإنجاز مصالحهم وتحقيقها في الواقع سيراً على هدي المثال الفطري والإنساني، والذي قدره الله - سبحانه وتعالى - بقول بعد ذكر الاختلاف الطارئ وللرحمة الهادية: ﴿ولذلك خلقهم﴾ أي أنه –عز وجل- إنما خلقهم للتحاور والتصالح والتوافق: ﴿... وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾ (سورة الحجرات/13) ففي مواجهة الواقع المتخلف عن المثال والوعي الشقي الناشئ نتيجة ذلك يبرز تحدي التعارف لاستيعاب الاختلاف وتجاوزه بحيث لا يكون التنازع على المصالح الحقيقية أو المتوهمة علة لاستمرار الانقسام وتفاقمه في الواقع كما هو في الوعي.

وإذا كانت الترتيبات العالمية غير ملائمة حتى اليوم لنصرة مقتضيات الفطرة والوحدة وقيم الحق والخير - فإنه قد سيطر في أوساط المسلمين وعي متضخم بهذا السوء الحاصل، تناسوا وسط ظلماته إمكانياتهم وقدراتهم ومشروعهم العالمي، فانصرفوا لتأكيد حصول مؤامرة كبرى على وجودهم ومصالحهم، وجهدت فئات منهم للإجابة على تحديات الوعي المنقوص بالانعزال والعنف بدلاً من وعي القدرة والهداية، وبدلاً من السعي الحثيث لطرح مشروعهم الأول للتوافق والتعارف عن طريق الحوار وتوخي الأدوات والآليات التي تغير الواقع، وتمضي باتجاه حلم إنسانيتهم وشراكتهم مع البشرية للتحرر والحرية وتحسين حياة الإنسانية، ومن ضمنها حياتهم ومصالحهم.

إن الوعي الأخير الإنساني والإسلامي يعني الإصغاء لدواعي الفطرة والحلم، ويعني وعي القدرات والإمكانات، ويعني الثقة بالله – عز وجل - وبالنفس، ويعني التحاور السليم والصحي بين النص والوعي والواقع بحيث يكون الانتظام المنشود الذي تستقيم معه حياة البشرية، ويكون المسلمون كما يكون سر دعمهم الإنساني في قلب هذا الانتظام: ﴿لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ (سورة البقرة/ 143).

********************

*) رئيس تحرير المجلة.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=112

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك