الصراع على الإسلام في زمن الهيمنة والخيارات الأخرى في الزمن الجديد
رضوان السيد
I
عندما أطلق البابا الراحل يوحنا بولس الثاني نداءه من أجل نُصرة الإيمان والحرية 1979/1980 ما استند في ذلك إلاّ إلى تمرد نقابة" التضامن" في دانزيغ ببولندا على السيطرة الشيوعية؛ لكنّ ذلك وافق فوز رونالد ريغان بالرئاسة في الولايات المتحدة، والذي رفع شعار إسقاط "محور الشر" من طريق حرب الفضاء. وقام الاتحاد السوفياتي بحملته الأخيرة للدفاع عن نفسه ومعسكره، بالتوجيه بقمع الاضرابات العمالية في بولندا، والقيام بانقلاب شيوعي في أفغانستان سُرعان ما أرسل جيوشه لمساعدته على الصمود. وكان ذلك هو الفخُّ الذي استدرج نفسَهُ إليه، والذي سارع إليه "المجاهدون" المسلمون من كلِّ حدبٍ وصوب، تدعمهم الولايات المتحدة، ويثيرون الكثير من نزعات الحرية بين سكان آسيا الوسطى والقوقاز للخروج من النير السوفياتي. وفي أوساط الثمانينات من القرن الماضي، كان قد صار واضحاً أنّ هناك ثلاث ديانات كبرى وعالمية شكّلت بطريقةٍ واعيةٍ أو غير واعية محوراً هائلاً لتحدي العالم الشيوعي: الديانة الكاثوليكية، والديانة البروتستانتية، والديانة الإسلامية. وهكذا انتشر التمرد في أطراف بلدان حلف وارسو، وكانت هناك حربان عليه: حرب باسم الحريات السياسية، وشعوب أوروبا الشرقية والقوقاز والبلقان هي الفاعلة فيها، وحرب ثقافية/ دينية يشارك فيها المسلمون والكاثوليك والإنجيليون الجدد ضدّ الإلحاد الذي رأوا أن الشيوعية عَلَمَهُ الأكبر. وفي عام 1987 أعلن غورباتشوف الزعيم الجديد للاتحاد السوفياتي عن بدء الانسحاب من أفغانستان، على أن ينتهي ذلك عام 1989. وقد عدّ الجميع ذلك انتصاراً للإسلام على الشيوعية. وفي عام 1989 انهار جدار برلين، إيذاناً بتحقُّق الآمال في تحرر شعوب أوروبا الشرقية. وما نفعت المشروعات الفيدرالية التي حاولها غورباتشوف، فبدأت الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى بالانفصال، وتحول زعماؤها الشيوعيون إلى اعتناق القومية تارةً أو الإسلام باعتباره قوميةً للدول الجديدة!
لقد كانت التوقُّعات كبيرةً وهائلة، وانتظر الفاتيكان -كما انتظر المسلمون- أن يصبحوا شركاء فاعلين في "النظام العالمي الجديد" الذي أعلن عن قيامه الرئيس بوش الأب؛ لكنّ الخيبة جاءت سريعةً على البابا وعلى المسلمين؛ فقد اجتاح الإنجيليون الجدد مواطن الكاثوليكية في أوروبا وفي أميركا اللاتينية، وسارعت الولايات المتحدة - تقود تحالفاً دولياً ضخماً- إلى شنّ حربٍ على العراق لإخراجه من الكويت؛ وهي حرب روَّعت العرب والمسلمين، وسقط فيها نصف مليون قتيل. وجاءت ردةُ الفعل الأولى على تبلوره أيديولوجيا الهيمنة والسوق التي تقودها الولايات المتحدة من جانب البابا الكاثوليكي؛ إذ اشتدّت به الخشية على وحدة الكنيسة وانتشارها العالمي، فقاد -رغم تقدمه في السنّ- حملةً عالميةً على مدى عقدٍ ونصف، لمكافحة الفقر، وللحريات السياسية، وللصداقة مع المسلمين والأرثوذكس، ولتقوية الأُمم المتحدة، وتقوية وكالاتها المتخصصة، ورعاية الطفولة وضحايا الفقر والمرض بإفريقيا وآسيا في وجه العولمة ووحشية السوق الرأسمالية.
وكان الأمر على المسلمين أصعب؛ فهم لا يملكون قيادةً دينيةً مركزية، كما أنّ منظمة المؤتمر الإسلامي ظلّت ضعيفة الفعالية منذ إنشائها عام 1968 على إثر حريق المسجد الأقصى على أيدي المتعصبين اليهود. ونتيجة حرب الكويت تعذر على الجامعة العربية الاجتماع على مستوى الوزراء لسنوات، وتعطلت مؤتمرات القمة، وظلَّ العراق مُحاصَراً، واُضيف إليه حصار ليبيا. بيد أنّ الأفظع كان الحرب الدينية والثقافية التي شُنّت على الإسلام في أوساط اليمين الأوروبي والأميركي، باعتباره الخَطر الأخضر الذي حلَّ محلَّ -أو يحاول أن يحلَّ محلَّ- الخطر الأحمر الشيوعي. وقد بدت آثارٌ لهذا الحصار أو لتلك الحرب في تصرفات المسلمين المهاجرين بأوروبا، وتصرفات الأوروبيين شعوباً وحكوماتٍ ضدَّهم. وينبغي ألا ننسى أنّ الشيخ عمر عبد الرحمن -الذي ما يزال مسجوناً بالولايات المتحدة- جرى اتهامه عام 1993 للمرة الأولى بتدبير مؤامرة لنسْف مركز التجارة العالمي. وما فشل فيه عمر عبد الرحمن ما لبث أُسامة بن لادن أن نجح فيه عام 2001 كما هو معروف. وبنتيجة هذه الضغوط الثقافية والأمنية والعسكرية، توقّع كثيرون أن يحدث انفجارٌ كبيرٌ في بقاعٍ شتّى من العالمين العربي والإسلامي، فقد نشطت دعاوى وأيديولوجيات "صراع الحضارات"، التي روَّج لها كثيرون في طليعتهم برنارد لويس، وفي عام 1993 -كما هو معروف- أصدر صمويل هنتنغتون مقالته: صراع الحضارات (في مجلة فورين أفيرز، عدد الخريف)، والتي تحولت إلى كتابٍ عام 1996 جاء فيه: إنّ الإسلام يملك تخوماً دموية؛ أي أنه دينٌ أصوليٌّ يرفض الآخَر ويتمسك بالخصوصية، ويميل أتباعه الشديدو الإيمان به لممارسة العنف ضد أبناء الحضارات والثقافات الأُخرى. وفي عام 1994 أصدر الباحث الأميركي المصري الأصل نزيه الأيوبي كتابه: "تضخيم الدولة العربية" توقّع فيه - بسبب الانسدادات والضغوط الشديدة- أن تحدث تمرداتٌ عنيفةٌ ومسلَّحةٌ باسم الإسلام، تُقمع بشدة، فتزيد الأوضاع تأزماً، ويبقى الأُفُق مسدوداً. وتوقّع عدةُ مراقبين - وسط صعود الأُصوليات في قلب الإسلام السُنّي- أن يحدث الانفجار في فلسطين، وبخاصةٍ بعد فشل اتفاقية أوسلو بمقتل إسحاق رابين عام 1995، وصعود حركة حماس وعملياتها الاستشهادية المدمّرة(1995-1997). لكنّ الانفجار الموعود حدث في أفغانستان التي نُسيت بعد خروج الروس منها عام 1989، فدار صراعٌ على السلطة بين "المجاهدين"، الذين أزالتْهم بسرعةٍ حركة طالبان بمساعدة باكستان المجاورة، والحركة نفسها احتضنت تنظيم "القاعدة" بزعامة أُسامة بن لادن العربي السعودي، والذي طوَّر تنظيماً جهادياً تصدّى للمصالح والسفارات الأميركية بإفريقيا وآسيا، ثم شنَّ هجومه الكبير على الولايات المتحدة ذاتها في 11 سبتمبر عام 2001 مُوجِّهاً ضربةً كبيرةً لهيبة أميركا ورموز هيمنتها، وفي الوقت نفسِه ضربةً قاتلةً لكل جهود المصالحة أو التواؤم بين الإسلام وعالم العصر وعصر العالم. وقد حدث ما كان متوقَّعاً وما كان غير متوقَّع. فما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب (والتي شارك فيها العالم كلُّه بالفعل) انطلقت لاحتلال أفغانستان، ثم لاحتلال العراق المُتعَب بالحصار. أمّا غير المتوقَّع تماماً فكان "حرب الأفكار" التي جرى شنُّها على الإسلام مباشرةً، تحت شعار أنّ هؤلاء الأُصوليين إنما يكرهون "عالم الغرب" بسبب حرياته وقيمه الإنسانية، وطريقته الحضارية في الحياة. وقد استخُدمت في الحرب الثانية مئاتُ مراكز الأبحاث والبقاع الاستراتيجيّة، وما تركت شيئاً في الإسلام الحديث أو القديم إلاّ وتناولته بالتحليل والتفكيك والشرذمة راميةً إلى "حرمان الأصوليين العنيفين" من أسلحتهم الفتّاكة! وفي ذلك الوقت، نشرتُ كتابي: "الصراع على الإسلام" لقراءة الصراع الدائر على هذا الدين، والجهات المشاركة فيه. وقد استظهرتُ أنّ الصراع يدور على "القبض على روح هذا الدين"، وتشارك فيه ثلاث جهاتٍ رئيسة: الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب والشرق كلُّه (روسيا والصين والهند)، وهي ترمي إلى كسْر شوكة الجهاديين بالحِجاج الأيديولوجي إلى جانب الأساطيل، وقد قسمته إلى إسلامٍ متطرف، وآخَر معتدل، والرؤية التي تريد نشرها أن المتطرفين قد خطفوا الإسلام، ولا بُدَّ من استعادته أو مُساعدة "المعتدلين" على ذلك من طريق إطلاق شعارات وممارسات مثل حوار الحضارات أو ائتلاف الحضارات، ومن طريق الديمقراطية. والجهة الثانية: الأطراف الإسلامية أنظمةً ومؤسساتٍ دينية، والتي وقعت في حَيصَ بَيص، فهي لم ترد الظهور بمظهر مَنْ يشارك المحافظين الجدد، والإنجيليين الجدد في حملتهم على الإسلام، كما أنها ما أرادت في الوقتِ نفسه ترك الأُصوليين والجهاديين يدمّرون أعراف الفكر والعيش في المجتمعات الإسلامية التاريخية. والجهة الثالثة: الجهاديون أنفسهم والذين قسمّوا العالم إلى فسطاطين، في فسطاط الإيمان لا أحد سواهم، وفي فسطاط الكفر والطغيان كلُّ الآخرين بمن فيهم كثرةٌ كاثرةٌ من المسلمين!
إنّ الضغوط العسكرية والأمنية والثقافية والدينية في العقدين الماضيين دفعت إلى الواجهة بتياراتٍ عريضةٍ طقوسيةٍ وشعائريةٍ وتعبديةٍ في أوساط عامة المسلمين، وقد ضربت هذه التياراتُ في فورانها ما كان يُعرفُ بالإسلام التقليدي؛ إسلام المذاهب والمؤسَّسات العريقة، وليس معنى ذلك أنّ العنف صار البديل للتهافُت الذي أصاب الإسلام التاريخي؛ فمعظم الناس ظلُّوا ساكنين ومسالمين؛ لكنهم أحاطوا أنفسهم ودينهم بهذه الأحجبة من التشدد والخصوصية والمحافظة في المظهر والمخبر. وأولُ آثار ذلك اندمام الديني والتعبدي والشعائري في العامّ والسياسي. ومن آثار ذلك الاندمام تحوُّل كل مظهرٍ من مظاهر الحياتين الاجتماعية والعامة إلى رموز ذات قُدسية متجددة ومكرورة، والبحث دائماً في جنبات النفس والآخَر عن الشرير والمتآمر والمشكوك في أمانته لدينه وعِرضه، والإعراض عن ذاك الآخَر الذي بدا نائياً وبعيداً وشديدَ التنمُّر للإسلام والمسلمين. ولأنّ الدينَ ذا الوجه التعبُّدي صار هو السائد والأَوحد؛ فإنّ أعراف العيش والتصرف وأخلاقياتهما توارت، وسقطت من الاعتبار، بوصفها لا تنتمي إلى الأصالة الطهورية، ولذا فإنّ حركات التغيير التي انطلقت من تونس ومصر في العامين الأخيرين، كانت مُفاجئةً من كلّ وجه؛ فالشبان المدنيون (المتدينون) الذين أطلقوها وشاركوا فيها تحولوا بسرعةٍ قياسيةٍ إلى جمهورٍ زاخر. وقد كانت لكل بلدٍ خصُوصياته، لكنّ العامّ والسائد أنّ الأوائل في هذه الحركات كانوا من أبناء الطبقات الوسطى المتعلمة، وقد أصرُّوا على السلْمية المطلقة، وإن لم يستطيعوا المحافظة عليها في كلٍّ حالٍ، ليس بسبب ما ووجهوا به فقط؛ بل ولأنهم أرادوا تحقيق التغيير الجذري. أمّا المفاجأة الثانية، فكانت الشعارات التي رفعوها: الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية ومكافحة الفساد وإقامة الحكم الصالح. لقد رأى كلُّ المراقبين الأجانب في هذه الحركات تغييراً قيمياًً وأخلاقياً، لا يتفق مع الصورة التي كوَّنوها عن المجتمعات العربية في العقدين الأخيرين، في هيامها التعبدي والشعائري من جهة، وفي دمجها للديني بالعامّ؛ إذ لم ترتفع في حركات التغيير التي عُرفت بالربيع العربي أيُّ شعارات دينية، حتى عندما دخلت الأحزاب الدينية/السياسية على خطّ تلك التحركات ودفعت بجماهيرها إلى الميادين. بيد أنّ المشهد بدا معقدا أو مُركبا، فعندما بدأت- في بلدان الجمهوريات المأزومة التي غمرتها تلك الحركات- عمليات تكوين السلطات الجديدة من طريق الذهاب إلى صناديق الاقتراع؛ فإنّ حركات الإسلام السياسي الصَحَوية حصلت على نِسَبٍ كبيرةٍ في التصويت أو أكثريات. لقد بقيت الشعاراتُ التي انطلقت في بداية حركات التغيير؛ لكنّ الفائزين عادوا لرفع أو إضافة شعارات وممارسات الهوية التي سادت في المرحلة الماضية، والتي لا تتلاءمُ ظاهراً مع الحرية والحكم المدني والديمقراطية والتعددية. وكما كان انطلاقُ حركات التغيير مفاجئاً، وكانت آفاقها وشعاراتُها المدنية مفاجئة؛ فإنّ هذا التشبُّثَ لدى العامة في الأرياف على الخصوص بالشعائريات الرمزية ما كان أقلَّ مفاجأة. وما نشهده هذه الأيام (شهر سبتمبر عام 2012) من ثورانٍ شعبيٍّ في سائر الأنحاء، -بسبب الفيلم المُسيء للنبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه- لا يقلُّ عن ذلك مفاجأةً وغرابة؛ فقد حسب كثيرون منا أنه ما دام الجمهور قد ملك زِمامَ أمره؛ فإنّ هذه الثقة المُستعادة بالنفس ستنعكسُ ثقةً بالآخَر من الناحية النفسية والشعورية، وتصرفاً بما تقتضيه الحرية والمسؤولية، وعدم انجرارٍ إلى موطن الإضرار بالنفس والآخر؛ إنما الذي يبدو أنّ جراحات العقدين الماضيين كانت عميقةً وفاغرةً، بحيث ظلّت تتكرر في صورة هَيعاتٍ لا تنضبط بالمقاييس العادية.
II
هل هو زمنٌ جديدٌ أم أنّ التاريخ يعيد نفسه؟ إنه زمنٌ جديدٌ بالفعل، والتاريخ لا يعيدُ نفسَه لا في صورة مأساةٍ ولا ملهاة؛ لكنّ التاريخ ذو مستويين: الأمواج المتحركة على السطح، والتي تجرف السدود والقيود، والأُخرى المتهادية في الأعماق والتي تؤمِّنُ الاستمرارية أو لا يبقى بحرٌ ولا موج. وأولُ مظاهر التغيير وأكثرها دلالةً أنه في الزمن المنقضي فإنّ الصراع على الإسلام كان دائراً بين أقطاب الهيمنة، والحركات الجهادية والأصولية، أمّا اليوم فإنه صراعٌ داخليٌّ بحتٌ؛ أو شبه بحت. بمعنى أنّ ناسَنا وحدهم تقريباً هم الذين يقررون فيه. وهو صراعٌ زاخرٌ وقد يكونُ أشدَّ هَولاً من الصراع السابق؛ لكنّ المجتمعات العربية هي التي تفصل فيه وبطرائق سلمية، تتحول بالتدريج إلى آلياتٍ منتظمة. إنّ الأمواجَ الظاهرة تُمثل تلك المجتمعات التي انطلقت بعد طول جمودٍ وضياعٍ وانكفاءٍ أو انكماش، أما الأمواج أو التيارات العميقة فهي المنظومات القيمية الكبرى والأعراف الكبرى التي تحكم اجتماعنا الإنساني والإسلامي. وإذا كنا قد شهدْنا في الشهور الأخيرة عودة شعاراتٍ ارتفعت في أزمنة الهيمنة والاستبداد مثل تطبيق الشريعة أو الإسلام هو الحلّ أو مدنية الدولة أو عدم مدنيتها، وكسبت جماهيرية؛ فإنّ حركة الناس المنطلقة بحريةٍ أكثر من اللازم أحياناً ستعمل وبفعالية على التمييز بين الديني التعبدي، والأخلاقي والقيمي والعُرفي والاختياري والتنظيمي الذي يحكم إدارة الشأن العامّ في ظلّ الحرية. ففي وقتٍ ليس بعيداً سيدرك الجميع أو الكثرة الساحقة أنّ الشريعة مطبَّقةٌ كما لم تُطبَّقْ منذ زمن الراشدين. ولذا فإنّ رفع شعاراتٍ لتطبيقها ليس أكثر من أثرٍ سطحيٍّ من آثار المرحلة الماضية، وإلاّ فما معنى اعتبار أنّ الدين ناقصٌ، والله سبحانه يقرر في الآية المشهورة أنه أكمله، وقد كان الجمهور يرى في المرحلة الماضية أنّ هناك من يحول بين الإسلام وبين السواد في المجتمع والدولة، وهو في الغالب خارجيٌّ ومهيمنٌ، أمّا اليوم فإنّ الناسَ أنفُسَهُمْ وبقيم دينهم وأخلاقهم العريقة هم الذين يتولَّون الأمر من دون حواجز أو موانع من أحد؛ فالأمر أمر ثقةٍ بالنفس وبالدين وبالأمة. لقد أدّى التوتُّر والانسداد إلى وضع الشريعة في موضع الأمة، لافتقاد الثقة والتشبُّث بالثوابت والأركان. أمّا اليوم فإنّ الأمة تحضر حضوراً كاملاً بدينها وإرادتها ويقينها وحريتها، ومن دون توتُّرٍ أو توتير. ونحن نقول ونؤمن أنّ الإسلام هو نهجٌ للحياة، ولدينا عباداته الناهية عن الفحشاء والمنكر، ولديْنا قيمه الهادية؛ لكنّ الإيهام بأنه يملك نظرية ثابتةً ومُوحاةً في السياسة والاجتماع والاقتصاد وتسيير أُمور الدولة، فهو تكليفٌ للدين والإنسان بما لا يُطاق. وقد كان ذاك شعاراً من موقع المعارضة والمُقاومة، أمّا اليوم فإنّ ناسنا هم الذين يمتلكون سائر الخيارات في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهم مسلمون مخلصون لدينهم، وليسوا بحاجةٍ إلى إيكال شؤونهم العامة لفئةٍ تحكمهم باسم الدين، وتقرر عنهم باعتبار أنها تعرف من وحي الله وإرادته ما لا يعرفونه، أو تملك حقَّ التقرير في الدين والشأن العامّ دونهم، لاعتبارات النسب أو المنصب أو طموح الاستئثار بالدين والدولة معاً. والدين حريةٌ داخليةٌ وقناعاتٌ لدى الأفراد، أما الدولة فهي تنظيمٌ لتأمين الحقوق الأساسية للناس وضمانها انطلاقاً من مبدأ المواطنة. والسلطة حقُّ الناس وهي مصلحيةٌ وتدبيريةٌ وليست عقائدية أو دينية، وهذا رأي علمائنا القُدامى فكيف باليوم والغد. والشرعية منوطةٌ بتحقيق المصالح، ورضا الناس، وليس بأي أمرٍ ديني، ولكل دولةٍ هويةٌ عامةٌ هي هوية المجتمع الذي أقامها، وهي هويةٌ معروفةٌ وواضحةٌ ولا حرج في ذكْرها سواء أكانت دينيةً أم قوميةً أم لغويةً في دستور الدولة؛ لكنّ تلك الهوية لا يصحُّ ولا ينبغي أن تتحول قيداً على حقوق الأفراد أو حرياتهم الأساسية؛ فليس للدولة بهذا المعنى وظيفة دينية إلاّ إذا كان معنى ذلك صون وحماية الحريات الدينية عقيدةً وعبادةً وممارسةً لسائر مواطنيها. إنها كما يقول الماوردي قبل أكثر من ألف عام: صون الدين على أعرافه المستقرة. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين التشابُك والتداخُل من جهة، والالتباس من جهةٍ ثانية؛ فهناك تشابُك وتداخُلٌ بين الجوانب الدينية والعامة في حيوات كل الأُمم والأديان. وما نجح العلمانيون المتشددون في إزالة هذا التشابك في أوروبا، وسيظلُّ هذا التداخُلُ موجوداً، وقد يكونُ ذلك من الخير ومن المألوف. أمّا الذي تختصُّ به حالتُنا العربية والإسلامية فهو ذلك الالتباس بين المفاهيم، بحيث يميل كثيرون إلى إدخال الدين في بطن الدولة، أو الدولة في بطن الدين. وقد عرفنا في تاريخنا من أولي الأمر مَنْ أراد إخضاع الناس من طريق امتلاك الدين، كما عرفنا في التاريخ والحاضر من أراد قهر الدين باسم جبروت الدولة. والدولةُ دولتُنا، والدينُ ديننا، وقد ساد الانسجام بينهما في أكثر تجربتنا التاريخية، وما تخرب هذا الانسجام إلاّ في الزمن الماضي للجمهوريات الاستبدادية والوراثية الخالدة، وها نحن أولاء نخرج منها ومن زمنها، فليس من الطبعي أن يبقى هذا الالتباس الموروث من المرحلة السابقة. ولدينا تجارب عالميةٌ مختلفةٌ لعلاقة الدين بالدولة، ولكلٍ منطقُها وميزاتُها. والتجربةُ الإسلامية التاريخية تجربةُ انسجامٍ وتشابُك، مع احتمالاتٍ لغلبة هذا الجانب أو ذاك في العهود المختلفة، والتجربة الفرنسية الحديثة تجربة إقصاء للدين عن الدولة والمجتمع، وما نجحت في الواقع رغم شدة الاعتزاز بها، أما التجربة الأميركية الحديثة فإنها تجربةُ فصلٍ للدين عن الدولة ليس من أجل حماية الدولة، بل من أجل حماية الدين؛ فبحسب الدستور الأميركي لا يستطيع الكونغرس أن يشترع في أمرٍ ديني.
ولا يملك المسلمون مؤسسةً دينيةً مقدَّسة؛ فالدين شائعٌ في المجتمع، ولا تنفرد جهة بالفصل في أموره؛ لكنّ المسلمين احتاجوا عبر تاريخهم إلى مؤسساتٍ دينيةٍ تقوم على أداء العبادات، والتعليم الديني، والقضاء، والأوقاف، والفتوى، والإرشاد العامّ. وقد وقعت المؤسسات في الحقبة الماضية -في الجمهوريات الخالدة- في حمأة الصراع بين السلطات والأحزاب الإسلامية فتهمّشت وتشرذمت، وضعُفت حجيتها كما ضعُف تأثيرها. وقد عاد النظام العام أو الانتظام العام أو يوشك أن يعود إلى المجتمعات، فيكون على المجتمع في عهد الحرية أن يصون مؤسَّساته الدينية بالإجماع والاختيار والتبنّي والحرية؛ تمكيناً لها من القيام على تربية الأبناء، والنهوض بالمنظومة القيمية للدين، والإرشاد العامّ. وتشهد مصر نقاشاتٍ حاميةً حول دور الأزهر، وهي نقاشاتٌ ناجمةٌ عن وجود جهاتٍ سياسيةٍ تريد الاستئثار بـ"السلطة" الدينية، وإذا كانت الدولةُ حياديةً؛ في الأساس؛ فإنّ المؤسسة الدينية ينبغي أن تكون أشدَّ وأكثر حيادية لأنها مِلْك المجتمع كُلّه، وليس من حق أحدٍ أو جهة مهما بلغت سطوتُها أن تتدخل في عملها، لما في ذلك من إمكان تلاعُبٍ بقيم المجتمع الأساسية وعقائده.
وفي الزمن الجديد، تُكثر جماعاتٌ إسلاميةٌ وأحزابٌ من استخدام الدين في المنافسات، وفي الصراع على السلطة والمناصب، ولا شيء أخطَر من إدخال الدين في بطن الدولة، أو من استخدام الدين في التنافُس السياسي؛ وذلك لأنّ الدين ضمير المجتمع، والتنافُس باسمه يشرذمه ويشرذم المجتمع وعباداته ومنظومته القيمية. إنّ معدة الدولة قاسية، ولا يمكن ولا يحسُنُ تعريضُ الإسلام لخطر المضغ والتفتيت وإن يكن باسم نصر الدين ونُصرته، أو المزايدة في الاعتزاز به والدعوة لشريعته.
إنّ كل الناس مهتمون اليومَ بقضايا ومسائل الشأن العام، بيد أنّ المتخصصين منا والمهتمين والمعنيين بالمسائل الدينية، يكونُ عليهم- إذا صحَّ التعبير- تكوين "مرقب" لتتبع سيرورة المسائل الدينية في الحياة العامة في الزمن الجديد، والحيلولة دون سوء استخدام الدين في مجال الاستيلاء السياسي والغلبة المقسِّمة. كما يكون على ذوي الرؤى والبصائر الاندفاع في استحداث نهوضٍ إسلاميٍّ يجلو المفاهيم ويميز بينها، ويصنع الفرصة لإصلاحٍ دينيٍّ، يضعُ الأمور في نصابها بالداخل العربي والإسلامي، ويضعُ ديننا وحضارتنا في الموضع اللائق بهما على المستوى العالمي. لا نريد أن نخيف العالم، كما لا نريد أن نخافه. وقد شاعت جراحٌ كثيرةٌ في الجسم الإسلامي الفكري والثقافي بسبب الصراع عليه في المرحلة الماضية، ولا شفاءَ من تلك الجروح والبثور إلاّ بنهوضٍ محرِّر، أو يظلَّ الآخرون قادرين على التأثير سلباً على ديننا وحضارتنا وتوجهات جمهورنا. ولنتأمَّل الآثار المفجعة للفيلم المُسيء للرسول صلواتُ الله وسلامُهُ عليه، والذي تمكنت بواسطته مجموعةٌ صغيرةٌ متآمرة من إنزال الناس للشارع للتخريب علينا وإلهائنا عمّا يكونُ علينا أن نحققه اليومَ وغداً من استقلالٍ بالقرار، وصَونٍ للدين وللأمة من" تحريفات الغالين، وتأويلات المبطلين"، ومن تلاعب الخارج بنا في استعادةٍ لعمليات "الصراع على الإسلام".
لقد كانت المرحلة الماضية مرحلة "صراعٍ على الإسلام"، والرجاء أن تكون المرحلة المقبلة اطمئناناً إليه، وعيشاً في ظلاله، وخروجاً به من مواطن ومواقع الانقسام والفتنة والتضييع، إلى فضاءات القيم السامية، وصنع الحضارة مع العالم وفيه، وصدق رسول الله صلواتُ الله وسلامُه عليه حين قال: إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق.