دور الأديان في سيادة مفهوم السلام العالمي

إميل أمين

مقدمة:

في الحادي والعشرين من أيلول سبتمبر من كلّ عام تحتفل الأمم المتحدة باليوم الدولي للسلام، والذي هو دعوة لوقف إطلاق النار ونبذ العنف حول الكرة الأرضية، وكانت الجمعية العام للأمم المتحدة قد أنشأت وكرست فكرة الاحتفال بهذا اليوم في عام 1981م، والهدف الرئيس هو بلورة المثل العليا للسلم داخل جميع الأمم والشعوب، وفيما بينها على حد سواء ولتعزيز تلك المثل".

ما الذي يشير إليه نص إنشاء سنة دولية للسلم ويوم دولي للسلم في قرار الأمم المتحدة (1)؟

يشير إلى أن تعزيز السلم على الصعيدين الدولي والقومي على حد سواء هو أحد المقاصد الرئيسة للأمم المتحدة وفقا لميثاقها. 

غير أن المنظمة الأممية وهي تؤكد من جديد أنه -حسبما جاء في ديباجة دستور منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة- إذا كانت الحروب تتولد في عقول البشر ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام. 

ولما كان السلم المبني على مجرد الاتفاقات السياسية والاقتصادية بين الحكومات لا يمكن أن يحظى من شعوب العالم بمؤازرة جماعية ثابتة مخلصة، فإن من المحتّم بالتالي أن يقوم هذا السلم -إذا أريد له عدم الإخفاق- على أساس من التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر.

يخلص الباحث إذن من هذه الدعوة إلى وجود رغبة دولية في أن يسود العالمَ سلامٌ حقيقي فعال على الأرض، لا أن يكون الأمر مجرد أحاديث نمطية غير بناءة، وربما يحاول إنسان أواخر القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين أن يجد في حربين عالميتين ما يكفي من دروس لردع كل من يفكر في إفساد السلام العالمي وإشعال الحروب مهما كانت العقبات على الأرض، فالحوار والجوار عبر السلام الفاعل كفيلان بوقف إطلاق النار ونبذ العنف، ومحاولة الاقتراب من حد المدينة اليوتوبية الفاضلة، وحتى لو كان مجرد حلم طوباوي، فإن السعي إليه كفيل بتغيير وجه الكرة الأرضية. 

على أن الحديث عن السلام ليس سهلاً كما يبدو؛ بل مركب تركيبا هرميا ومعقدا بشكل كبير، بمعنى هل يتفق العالم بأجمعه على مفهوم واحد للسلام العالمي؟ وهل من قيم أولية تجمع عليها كل الدول الأعضاء في المنظمة الدولية الأممية بوصفها معيارا ثابتا تقاس عليه القضايا التي تتشارع وتتنازع عليها وبسببها الدول؟

ثم يبقى هناك سؤال جوهري: "هل السلام العالمي أمر ممكن بالفعل في مجتمع بشري عرف الصراعات الإنسانية منذ بواكيره؟

وإذا كان شأن تحققه بالمطلق غير وارد، فماذا عن أقصر الطرق التي يمكن السير في دربها للوصول إلى أقرب نقطة من هذا الحلم البشري؛ حلم سيادة مفهوم السلام العالمي حول الأرض؟

هنا نتساءل في هذه الورقة البحثية هل يمكن للأديان أن تكوّن هذا الطريق؟

إننا نتحدث حكما عن الأديان التوحيدية الثلاثة: الإسلام، والمسيحية، واليهودية، هذا من دون أن نغفل أن نصف الكرة الأرضية أو يزيد حتى الساعة لا يدين بأي من الديانات الإبراهيمية الثلاثة.

غير أن الدخول في تحليل المشهد الديني العالمي أمر يخرج عن مساحة المسطح المتاح للكتابة, وربما لنا معه رجعة أخرى في جزء لاحق. 

ولعله قبل محاولة إعطاء إجابات تفكيكية أو تحليلية يتحتم علينا أن نقدم مفهوما متفقاً عليه إسلاميا ومسيحيا ويهوديا حول السلام من منظور الأديان وماهيته. 

في مفهوم السلام وقيمته الأولية:

في تلخيص أولي وجوهري لمفهوم السلام يمكن القول: إنه الحالة المقابلة للحرب والعنف، وهو كذلك سيادة أجواء الطمأنينة والسكينة والهدوء، عوضا عن الخوف والقلق والاضطراب. والسلام هو الضد للخصام، والمفهوم المفارق للعنف اللفظي والجسدي سواء أكان ذلك بين الأفراد أم الجماعات والدول. 

والشاهد أن الأصل في كيان الإنسان هو السلام، غير أن القتال وجد على وجه الكرة الأرضية منذ أن كانت الأسرة البشرية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولاحقا تطور المشهد إلى الصراع بين الإنسان والبيئة، وفقدت الأرض سلامها، وهناك مرويات تاريخية عن الأعمال العدائية التي ارتكبها الإنسان الأول في قارة أطلانطيس ما أدى إلى ثورة الطبيعة فيها، فاحترقت وغرقت بمن عليها من البشر جزاء مخالفة النواميس الطبيعية لاحترام الإنسان لأخيه الإنسان، عطفا على الأرض المستخلف فيها.

منذ ذلك الوقت كان الإنسان يسعى للسلام، غير أنه عادة ما كان يوحل في الحرب، ولهذا فإن حلم السلام الدولي تجلى في كتابات الآباء الأولين بصورة تنزع ناحية المدنية السماوية بأكثر من محاولة إدراك مدنية الأرض العالمية التي تسودها قيم ومفاهيم العدالة والمساواة والإخاء. 

في هذا السياق يكتب القديس أوغسطينوس الفيلسوف والمفكر الأمازيغي الأصل عبر كتابه أو بالأحرى موسوعته الخالدة مدنية الله (2) De Civitate Dei يقول: إن الحرب حالةٌ عرضية ستزول حين يستطيع مجتمع الإيمان أن يقهر عَبَدَةَ الشيطان ويحقق السلام الأبدي. 

وفي ثنايا حديث أوغسطينوس عن القيم الأولية للسلام يشتمّ المرء رائحة عزوفه عن القول بوجود تلك المنظومة القيمية على الأرض بالمرة، ويجزم بأن المدينة الأرضية لا تعرف السلم لكونها مدينة الملذات والشرور، وأن حالة السلام المطلقة لن يجدها الإنسان الفاضل إلا في مدينة الله، التي هي النموذج الأمثل للإنسانية جمعاء. 

لماذا يذهب أوغسطينوس هذا المذهب، وهل في نموذج مدينة الله هذا مفتاح لمفهوم السلام وقيمته التي يجب أن تتوافر على الأرض حال أردنا انتشار سلام حقيقي لا براجماتية سياسية مؤقتة أقرب إلى الهدنة، وهذا بالفعل الذي جرى بعد الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، وكاد يتكرر بشكل آخر خلال الحرب الباردة، ولا يزال يتكرر حول العالم، من خلال حروب إقليمية صغيرة ومتنوعة، وإن بات اليوم هناك هاجس بأنها ستتسع رقعتها بشكل أو بآخر لتهدد سلام العالم؟

عند أغسطينوس القديس والفيلسوف أن مدينة الله تغلفها العناية الإلهية، وتحيط بها من كل جانب. أما أبواب المدينة الكثيرة فمفاتيحها معلقة في مبادئ العدل والخير، وفي اتساق دائم أبدي مع النظام والغاية المبنية عليها، والأسس المرتكزة إليها قوامها الفضيلة الخاصة... هل هذه مدينة بشر أم ملائكة؟ وأين تتقاطع الرؤية الثيولوجية "اللاهوتية" عند أوغسطينوس مع الواقعية السياسية على الأرض؟

في كتابه "إشكالية السلام العالمي بين ابن رشد وإيمانويل كانط"(3)، يشير المؤلف "عبد القادر بوعرفة" إلى مفهوم مثير للتأمل تجاه رؤية أوغسطينوس؛ إذ يرى أن الحديث لم يكن يدور عن مدينة سماوية إلا مجازا؛ فمدينة الله أرضية نموذجا ومنهاجا، لكن الفرق هو أن أهلها يحاكون عشيرة الملائكة، ويكون السلام باسطاً أجنحته على ربوعها.

ويؤكد كذلك على أن أوغسطينوس كان يقصد بمدينة الله المدينة الخالدة روما، قبلة المسيحيين في ذلك الوقت، أولئك الذين يسعون إلى أن يحققوا وصية السيد المسيح في الإنجيل " طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون " 4"، وذلك في مواجهة مدينة العالم؛ أي مدينة الإمبراطورية الرومانية المملوءة إثما وشرا، وفي محاولتها لإخضاع العالم برمته لنيرها وعبوديتها... ماذا يفهم من ذلك؟

بوضوح لا ضبابية تشوبها، فإن الفكر الديني الطوباوي يمكن أن يجد له طريق على الأرض من خلال المؤمنين به، وإن مدينة الله يمكن السعي إليها عبر نموذج يقدم فكرة السلم والخير والعدل على منظومة العنف والشر والظلم. 

السلام والأديان فكرة أولية عامة:

حتى قبل أن تتنزل الأديان على الأنبياء كانت الفطرة الطبيعية التي خلق الإنسان عليها تؤكد رفض القتل والاقتتال، وضرورة تعلية مفاهيم السلام. 

وليس من دليل على ذلك أفضل من الوصف التفصيلي للمعركة الأولى في تاريخ الإنسان، عندما اقتتل ابنا آدم واستطاع قابيل قتل أخيه هابيل، في ذلك الوقت لم تكن هناك نواميس أو شرائع وضعية، غير أن الناموس الفطري الأول الذي تسلمه آدم عليه السلام -وبالضرورة سلّمه إلى ولديه- كان يحوي قطعا حثًّا على العيش بسلام، وتجريماً للعنف والخصام، ولهذا فإنه غداة فعلته النكراء المتمثلة في قتل أخيه، فر هاربا من على وجه الأرض حتى لا يقتله كل من يجده، ووضع على جبينه علامة لهذا الغرض(5). 

وبتسلسل ظهور الأديان يجد المرء مكانة واضحة لفكرة السلام العالمي في كل دين، على أساس أن مصدر الأديان التوحيدية واحد، وهو إله محب للسلام، والسلام اسم من أسمائه الحسنى.

والثابت أنه في عقيدة كل يهودي ومسيحي ومسلم لا يستقر العالم في نفسه، بل يصدر في كل لحظة من الخالق سبحانه ومن قدرته اللاهوتية الإلهية، وما يفعله الإنسان كجزء من الخليقة هذه عليه أن يؤدي عنه حسابا أمام خالقه الذي سيرجع إليه.

هذا الإيمان يربط بين المسيحيين والمسلمين واليهود، في نطاق عميق مشترك، وإن اختلفوا في قضايا أخرى. هذا النطاق الذي نحن بشأنه نطاق مشترك أعظم وأعمق من كل ما هو مختلف بينهم... هل من نتيجة أوليةٍ ما لهذا الإقرار المبدئي؟

دون جدال يمكننا القول: إن هذا الإيمان يعترف بأن الله هو وحده الإله الحي القيوم، وهو مصدر السلام، لذا فإن كل شيء آخر، وأي قيمة أخرى مضادة للسلام، أو تحاول أن تنصّب نفسها شيئا مطلقا تعد طاغوتًا مرفوضًا، يتوجب على أتباع التوحيد لا الإعراض عنها فحسب؛ بل مساءلتها والعمل بجد في مواجهتها؛ لأن الإيمان الذي يحثنا عليه الإسلام والمسيحية وحتى اليهودية (التي تشوهت كثيرا بفعل قيام دولة إسرائيل)؛ هذا الإيمان يقول إن الله هو الحقيقة المطلقة الواحدة والوحيدة، وكل ما سواه نسبي يأتي منه كمخلوق ويعود إليه في مصيره. 

هل الأديان مصدر مقاربة أولية للسلام بين البشر؟

يقرر محمد عابد الجابري هذا الأمر(6)، ويرى أنه رغم وجود فروق واختلافات بين الأديان الثلاثة في تقرير الحاجيات والتحسينات التي تحتاجها الإنسانية، إلا أنها ثلاثتها تتفق على ضرورات كانت ضمن رسالة كل نبي وهي: 

- حفظ النفس. 

- حفظ العقل.

- حفظ المال.

- حفظ الدين. 

وجعلوا من هذه الضرورات أصلا للحاجيات والتحسينات والتكميلات. 

ويؤكد المفكر الكبير على أنها تصلح كبناء لتصور مشترك لثقافة السلام؛ ذلك لأنها أساس كل سلام ومن دونها لا يتحقق السلام، لا السلام مع النفس، ولا السلام مع الجار، ولا السلام بين الأمم.

ولا يتوقف الأمر عند هذا فقط؛ بل إنه يرى أنه بالإمكان تأسيس رؤية جديدة سلمية وسليمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها الضمير الديني والأخلاقي في عصرنا، والتي تغذي الخصام وتعوق السلام. 

يخلص المرء من تلك الأسس إلى أن الدين هو المرجع الأساس والرئيس في ترسيخ مفهوم السلام العالمي، والذي لن يتحقق إلا من خلال دعوة ربانية لا اجتماعية، فالدين يصبح أكثر تحررا من التوظيف البشري عند وجود الوازع والرادع الغيبي. 

ومما لا شك فيه أن رسالة الأديان كافة دون تخصيص هي رسالة سلام، فهي تسليم لله تعالى بالوجود، وتسليم لقانونه ونواميسه الإلهية بالاحترام والتقديس والالتزام. 

من هذه الضوابط " السلام " للأديان -إن جاز صك هذا المصطلح- يتكشف للمرء أن كافة خطوط وخيوط القوانين واللوائح والشرائع الوضعية -محلية كانت أو دولية- إنما وجدت من أجل تعزيز السلام بين المرء وخالقه والإنسانية بعضها مع بعض، وكذلك بين الدول والقارات حول البسيطة، ما يعود بنا إلى الأصل: أصل مدينة الله، وإن بعُد عنها الإنسان بفعل أوهام السيطرة وصبْغ -أو محاولة صبغ- الزمان والمكان بصبغة استعلائية لا تتسق والمشيئة الإلهية في استخلاف الإنسان في الأرض، وجعله قيّماً عليها منذ خلقه وحتى قيام الساعة. 

مفهوم الشالوم " السلام " في اليهودية:

رغم أن مبحثنا هذا يتوقف أساسا عند مفهوم السلام وتجاذباته في الإسلام والمسيحية بشكل خاص، فإننا رأينا أن نلقي نظرة ولو سريعة على المواقف والكلمات التي تجذر للسلام في اليهودية وعبر الكتاب المقدس، لاسيما العهد القديم.

يرى اللاهوتي الألماني "غوتفريد فانوني(7) Gottfried Vanoni " أن هناك ذكرًا لله تعالى والسلام معا في سياقات ذات أهمية كبرى، ويدلل على ذلك بما أشار إليه أحد كبار أنبياء بني إسرائيل "أشعياء" في سفره بالعهد القديم، "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام، المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون: قد ملك إلهك"(8).

يكتسب التعبير العبري شالوم من خلال إشارات العهد القديم بُعدًا أولياً يتفهمه المرء من خلال سياقات الألم والحرمان، بل القهر والذل اللذين عرفهما سبي بابل طوال خمسة قرون، غير أن ترجمة الكتاب المقدس اليونانية نقلت كلمة شالوم في غالبية الحالات إلى كلمة "ايريني" أي سلام، والأذن اليونانية تفهم هذه تلقائياً على أنها تعني نقيض الحرب. 

وفي حقيقة الأمر فإن تعبير شالوم ليس بمختلف تماما عن "ايريني"؛ ولكنه يتجاوزه في المعنى، موحيا جزئيا بمعان أخرى، فالنقيض الرئيس لتعبير شالوم ليس "الحرب" بل الشر أيضا والفساد. 

وفي البحث عن السلام في العهد القديم يتوقف المرء أمام مزامير داود بن سليمان "الزبور" والذي يقدم وجهة نظر خاصة في بعض تلك المزامير عن السلام، بوصفه صنوًا للعدالة. ففي المزمور 85 يقول: "الرحمة والحق تلاقيا، البر والسلام تعانقا"، وهو هنا يكشف عن خيط قديم للصلة بين العدل والسلام، تعود جذوره إلى الدين الكنعاني السابق لإسرائيل، وتمتد كخيط أحمر حتى العهد الجديد. 

هل من صفات أخرى في الشالوم اليهودي مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذا المفهوم، مفهوم السلام الذي تعمل الأديان على تعزيزه؟

بالطبع نعم وفي هذا السياق لابد من العودة إلى الصفات الأخرى مثل " الطمأنينة والأمان، لكن عن أي طمأنينة يمضي هذا المفهوم؟ هل طمأنينة الواثقين بأنفسهم الممتلئة من الدسم والشبع أم براحة الكسالى المترفة؟

كلا، إن الشالوم في "الطمأنينة والأمان" يتعذر الحصول عليه دون عدل، "ويكون عمل البر سلاماً وفعل البر راحة وطمأنينة للأبد، ويسكن شعبي في مقر السلام، وفي مساكن الطمأنينة وفي أماكن الجلبة"(9). والمثير أن العهد القديم -وبخاصة في كتابات أشعياء النبي- يرسم السلام طريقًا يتعلم الصاعدون فيه السمات والخصائص الخاصة بالشالوم اليهودي، فيقول عن شعب إسرائيل الذي عاد من بابل إلى أورشليم بعد السبي البابلي(10) -في مقاربة لا تخطئها العين بين الساعين للسلام والأشرار-: 

"أرجلهم تسعى إلى الشر، وتسارع إلى سفك الدم البريء، أفكارهم أفكار الإثم، وفي مسالكهم دمار وتحطيم، لم يعرفوا طريق السلام، ولاحقَّ في سُبُلهم، قد جعلوا دروبهم معوجة كل من سلكها لا يعرف السلام(11).

هناك أيضا رؤى ترتبط بمعايير الحكمة والتأديب في طريق السلام، هذا ما نجده في الأسفار الحكمية والشعرية من العهد القديم، فعلى سبيل المثال يقول سليمان الحكيم في سفر الأمثال: "المكر في قلوب الذين يضمرون الشر، وللمشيرين بالسلم فرح"(12)، وقد عمل أنبياء بني إسرائيل على إشاعة مدلول السلام السياسي بين اليهود، فيقول أشعياء: "وجميع بنيك يكونون تلامذة الرب، وسلام بنيك يكون عظيما، تثبتين في البر"(13). 

وفي مفهوم الشالوم اليهودي إشارة سابقة لدور الأديان في حفظ السلام، ليس فقط بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ إنما بين الإنسان والبيئة والطبيعة من حوله. 

لم يكن بمقدور الإنسان اليهودي منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة أن يتوقع الخطر الذي تتعرض له الكرة الأرضية بيئيا كما هو حادث اليوم، غير أن الأنبياء الكبار صوروا لنا نتائج تعامل الأغنياء الباغي والمتعجرف مع الفقراء: "الأرض المسكونة والمزروعة تصبح برية خالية مقفرة"(14). 

والنص يقصد طبعا الخراب الناتج عن الحرب، وهذا يعني أن دمار الطبيعة ليس إلا نتيجة للظلم الاجتماعي لكن بطريقة غير مباشرة، ولكن اللغة الشعرية تسمح بتفسير يجعل الارتباط بين الظلم والعنف ودمار الطبيعة أشد. 

هل كان للملك والدولة والسلام والحرب ذكر في مفهوم الشالوم اليهودي؟

حكما، نعم كان ذلك؛ ففي سفر زكريا نقرأ ما نصه "ابتهجي جدا يا بنت صهيون واهتفي يا بنت أورشليم؛ هوذا ملكك يأتيك باراً مخلصاً وديعاً راكباً على حمار وعلى جحش ابن أتان.. واستأصل المركبة من افرائيم والخيل من أورشليم، وتستأصل قوس القتال ويكلم الأمم بالسلام ويكون سلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" "15". ما الذي تلفت إليه تلك القراءة النبوية؟

تلفت أول الأمر وآخره إلى ارتباط العدل والسلام معا؛ ذلك أن مَلِك السلام الذي يتحدث عنه زكريا النبي هو نموذج وصوره معاكسة لما عرف في تاريخ بني إسرائيل بـ"الملوك الداوودين"، نسبة إلى نموذج مُلك داود بن سليمان، أولئك الذين فرضوا السلام بقوة السلاح، كحكام ذلك الزمن بدءا من الفراعنة المصريين وصولاً إلى القياصرة الرومان. 

إن صورة ملك السلام عند زكريا النبي(16) تعرضه ممتطيا حيوانا متواضعا غير شامخ ولا منتفخ ولا متكبر، وهو المضاد للجواد الحربي للملوك التقليديين.

ويبقى السؤال المهم والجوهري والذي يجمل معنى ومبنى الشالوم في اليهودية والعهد القديم: "ما هي إرادة يهوه إله إسرائيل النهائية تجاه الخليقة كلها في نهاية الأزمنة، هل السلام أم الخصام؟.

الجواب نجده عند أشعياء الباكي النبي الحزين في إسرائيل، والذي يجمل إرادة يهوه في قوله " فيطبعون سيوفهم محاريث، ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتدربون على الحرب فيما بعد" "17". 

هذه العبارة محفورة الآن على ما يعرف بحائط أشعياء في جزيرة مانهاتن بمدينة نيويورك الأمريكية عند الأفنيو الأول وتقاطعه مع شارع 43، وذلك في مواجهة مبنى الأمم المتحدة؛ وذلك للتذكير بأن الهدف الرئيس للمؤسسة الأممية والفكرة التي نشأت من أجلها كانت الحفاظ على السلام العالمي، ودلالة الكلمات لا تحتاج إلى شرح، فالسيوف الموجهة إلى الصدور تضحى محاريث للأرض تبحث عن الزرع والنماء وشبع الإنسان، والرماح تتحول إلى مناجل تحصد خير ما زرع الإنسان، ولا تعود بذلك الأمم تتطاحن ولا يبقى مجال للحرب، بل يسعى الذئب مع الحمل دون تفكير في الفتك به، هذا هو المناط بالهيئة الأممية, ومن أسف فإنها تجاوزت الدور المرسوم لها يهوديا في تلك الجزئية تحديدا. 

إلى أي حد يفارق التنظير الثيولوجي اليهودي لواقع دولة إسرائيل اليوم؟

الواقع أن الفارق بعيد للغاية؛ إذ غابت روح الشالوم وروح العدالة، وفي سعي إسرائيل الدولة لإقامة كيان وطني فارقت روح يهوه، الذي كشف عن إرادته عبر تحطيم الرماح والسيوف، وهو أمر يتكرر لاحقا في حياة المسيحيين والتي تباعد كثيرا عن المعنى الروحي للمسيحية. 

يذكر جبران خليل جبران في كتابه الخالد رمل وزبد " أنه مرة كل عام في بستان بين تلال لبنان يلقى عيسى الناصري، عيسى النصارى، ويتحادثان طويلاً وفي كل مرة يمضي عيسى الناصري، وهو يقول لعيسى النصارى: يا صديقي إني لأخشى ألا نتفق أبدا، أبدا"... هل يقودنا ذلك المدخل للحديث عن علاقة المسيحية بالسلام؟

ربما يتحتم علينا قبل ذلك أن نخلص من الرؤية السريعة لمفهوم الشالوم اليهودي، إلى ما قاله الشيخ مصطفى عبد الرازق، من أن الدين -أي دين- جميل في إخلاصه ويقينه وجميل فيما يمسح من آلام البشر بيمينه، إنما يشوه الدين أولئك الذين يريدونه كيداً وتضليلاً وقيداً للعقول والقلوب".

جدلية العلاقة بين السلام والمسيحية: 

يلفت النظر في بداية الحديث عن العلاقة بين المسيحية والسلام أن ساعة مولد السيد المسيح كانت الملائكة في السماء تزف للأرض البشري بلغة ملؤها السلام؛ إذ قالت: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"(18).

هكذا ومن اللحظات الأولى لمولد المسيحية كان السلام والمسرة أي الفرح صنوين لا يفترقان.

هل كان السلام وتبعاته الإيجابية جوهر ومنهج رسالة السيد المسيح نفسه عندما بدأ حياته العلنية وكرازته من أجل بني الإنسان؟

مما لاشك فيه أن شخصية السيد المسيح كانت جوهرًا للحب والوداعة المرتبطين والمتصلين أصلا بكل ما له علاقة بالسلام، سواء سلام النفس، أو السلام مع الآخر. وعندما أرسل تلاميذه وحوارييه في مهمة التبشير الأولى قال لهم: "أي بيت دخلتموه فقولوا أولا: السلام لهذا البيت، فإن كان هناك ابن سلام فسلامكم يحل عليه، وإلا فيرتد إليكم، وامكثوا في ذلك البيت تأكلون وتشربون مِمَّا عندهم، فإن العامل مستحق أجرته، لا تنتقلوا من بيت إلى بيت، وأية مدينة دخلتم وقبلوكم، فكلوا مِمَّا يقدم لكم واشفوا المرضى الذين فيها، وقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله"(19).

أما عن تحية السيد المسيح الرسمية التي كان يستخدمها على الدوام مع تلاميذه ورسله " الحواريين"، فلم تخرج أبدا عن السياق "السلام لكم"(20). 

والثابت تاريخيا أن زمن ولادة السيد المسيح كان زمن السلام الذي عم المسكونة كلها، ففي السنوات التي سبقت ظهور المسيحية كان السلام يعم الإمبراطورية الرومانية، فمع حلول سنة "15ق.م " كان الأخوان طيباربوس ودروزس ربيبا الإمبراطور أوغسطس قد أخضعا الأقاليم الواقعة من جبال الألب حتى نهر الدانوب، وفي عام 13 أخضع أغربيا صهر أوغسطس دلماتيا وبانونيا، وبدءا من عام 12 أطلق حملته ضد الشعوب الجرمانية باسطا سلطان روما عليها. 

وبدءا من عام 8 ق.م تمكن الرومان من إحكام قبضتهم على أرجاء الإمبراطورية، وبدأت بذلك فترة سلام شملت الإمبراطورية كلها، لم يكدر صفوها إلا بعض الاضطرابات التي وقعت في بداية العصر المسيحي من جانب الجرمان وبعض الأقاليم الأخرى. 

في ذلك الوقت كان الإمبراطور أوغسطس صانع "السلام الروماني" قد وصل إلى أوج مجده، حتى ساد اعتقاد أنه لا يجب أن يموت، فهو سيد العالم الذي حظي بتكريم وإجلال لم يعرفهما إمبراطور من قبله فشيدت، له معابد ومدن كاملة، وعدّه قومه من سلالة إلهية، وهو زيوس الجديد كبير آلهة الرومان والكوكب الذي سطع على العالم. 

إلا أنه برغم كل ما أطلق عليه من ألقاب رفيعة لم يطلق عليه لقب "رئيس السلام"، وقبله بسبعة قرون أطلق أشعياء النبي على الماسيا المنتظر هذا اللقب وغيره لم تطلق على أغسطس: "لأنه قد وُلد لنا وأُعطى لنا ابن فصارت الرئاسة على كتفه، ودعي اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبا أبديا رئيس السلام"(23). هل وضع السيد المسيح ما يمكن أن نطلق عليه بلغة عصرنا هذا دستورا حداثيا للسلام في تاريخ الإنسانية بوصفه ابن الإنسان كما كان يطلق على ذاته؟

ذلك كذلك بالفعل، وهذا ما نقرأه في الفصل الخامس من إنجيل القديس متّى، أو الفصل السادس من إنجيل القديس لوقا والمعروفة بالعظة على الجبل أو التطويبات... ماذا في تلك العظة؟

يقول يسوع لتلاميذه ما نصه: "طوبى لفقراء الروح فإن لهم ملكوت السموات، طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض، طوبى للمحزونين فإنهم يعزون، طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون، طوبى للرحماء فإنهم يرحمون، طوبى لأطهار القلب فإنهم يشاهدون الله، طوبى للساعين للسلام فإنهم أبناء الله يدعون، طوبى للمضطهدين من أجل البر فإن لهم ملكوت السموات، طوبى لكم إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذب من أجلي، افرحوا وابتهجوا فإن أجركم في السموات عظيم، فهكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم"... هل هذه عظة أم ثورة؟ 

إنها في حقيقتها ثورة سلام، وموضوعات مفاجئة لم يسمعها العالم من قبل، وتختلف عما ألفه الناس، فقد اتفقت البشرية -مهما اختلفت- على أن الطوبى تتركز في السعادة والشبع، في الامتلاء والمتعة، في إرضاء الرغبة وفي رفعة الشأن والمكانة عند الناس، وحول هذا المضمون كانت تدور الخطب التي اعتادها الناس من قبل. 

وإذا كان الفلاسفة الرواقيون قديما يعدّون كل رأي يتعارض مع الرأي السائد مناقضا للواقع، فقد قلبت عظة الجبل الأوضاع في عقول البشر، فما كان من قبلُ أبيضَ أصبح أسود، وما كان أسود أصبح ناصع البياض، وما كان شرا أضيف إلى قائمة الخير، وبمقارنة الثورة التي وضع يسوع أسسها في موعظة الجبل بالثورات التي مرت بها البشرية، فإن هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون معارك وهمية أشبه بعبث الأطفال. 

هذه الثورات الجديدة ليست وليدة مهاترات واجتهادات فكرية ومصادمات اجتماعية، بل تستند إلى أوامر ومبادئ لا رد لها... لماذا؟

لأنها تعتمد على سلطان قائلها: "هو هكذا لأني أنا أقول لكم" "قالوا لكم من قبل... أما أنا فأقول لكم".

كان السائد في شريعة موسى: "عينٌ بعين، وسِنٌ بسنِ"؛ لكن شريعة المسيح "من طلب ثوبك فأعطه رداءك أيضا، ومن سخّرك ميلا فامشِ معه ميلين"(24).

في زمن البشارة العلنية للسيد المسيح كان شعار الإمبراطورية الرومانية السيف والرمح والدروع الحديدية والآلة العسكرية التي أخضعت العالم لعنفها؛ لكن السيد المسيح يتحدث عن السلام وعن صانعي السلام، ويصفهم بأنهم أبناء الله يُدعون؛ لأن الله تعالى هو السلام بعينه. 

الساعون للسلام في نظر السيد المسيح -وبحسب إنجيل القديس متى- ليسوا هم فقط الذين ينعمون بالسلام مكتفين بذلك، بل الذين يصنعون السلام ويرسون دعائمه، أما المضطهدون والمهانون فجزاؤهم البهجة والفرح؛ لأن أجرهم في ملكوت السموات عظيم. 

وفي هذا السياق يتساءل المرء ما هي مواصفات ذلك السلام الذي يتطلع إليه السيد المسيح في حواريه ويتركه من بعده في الأرض إرثا مشتركا لكل البشرية؟

في كتابه "تأملات لأجل الاكليروس والعلمانيين" يشير الأب "م.هامون" الفرنسي الأصل إلى أن هذا السلام هو سَكينة القلب الذي يضبط ويملك دائما ذاته من غير أن يضطرب أو يتسرع، هو كبح لجماح الأهواء والشهوات وقمع التسرع والنَّزَق وحدة الطبع وضبط حركات النفس لكي نسيطر عليها فلا تكون سبيلا للاضطراب والقلق إلينا.

السلام الذي يبغيه السيد المسيح إذن هو تلك الحرية العذبة التي تصنع كل شيء في وقته بنظام وترتيب وحكمة، وتتجه إلى موضوعها، وتهتم به دون أسف أو حزن على الماضي، وبغير تعلق أو تمسك بالحاضر، وبغير قلق أو خوف على المستقبل. 

وأخيرا فإن السلام المسيحي الحقيقي هو هذه السَّكينة أو الطمأنينة الباطنة التي تشع وتظهر إلى الخارج، فتسم كل حركات الجسد وأعماله بميسم بديع من الرصانة والوداعة واللطف والاعتدال، مِمَّا يكون مثالا صالحا للغير. 

والشاهد أن هناك إشكالية حقيقية يواجهها الباحث عن السلام في علاقته الجدلية بتاريخ المسيحيين، وليس بمسيحية السيد المسيح؛ ذلك أنه بحسب "غوتفريد فانوني" أيضا فإن هناك في تاريخ المسيحيين "إرثًا من العنف" لا يتوافق أبدا مع الجذور الإنجيلية للسلام، لقد خاض بعض المسيحيين -الفرنجة- باسم الله وباسم الصليب حروبا مقدسة، وإن أية محاولة لتجميل هذه الحقيقة هي ضرب من التهكم الممزوج بالاستهتار، كما أن تبني بعض المسيحيين لاعتقاد عدد من علماء السلوك أن الإنسان مفطور بطبيعته على التدمير ومحكوم عليه حتميا بارتكاب العنف(25)، هو أيضا تهكم واستهتار إزاء الضحايا؛ ذلك لأن رأياً كهذا -من وجهة نظر لاهوتية- يشكل تعبيرا عن انعدام ثقة عميق بالله الخالق، وعن غياب الإيمان بمعجزة السلام التي منحها الله. 

كيف نظر فلاسفة المسيحية الأوائل لفكرة السلام المسيحي الحقيقي، بعيدا عن المفاهيم المزيفة والمنحولة التي قادت إلى الصراعات الدينية، لاسيما في القرون الوسطى وبخاصة في زمن السلام الصليبي؟(26).

الجواب يلزمنا بالعودة إلى الكتاب الخالد "مدينة الله" للقديس أوغسطينوس؛ إذ يقر بأن السلام هو ما يتوق إليه كل مخلوق بالفطرة، وهو الهدف الأخير من كل حرب(27)، ويتوسع أوغسطينوس إلى فكرة ارتباط الحرب بالسلام؛ إذ يشير إلى أنه ما من إنسان إلا ويريد السلام، وأولئك الذين يريدون الحرب لا يبغون شيئا سوى النصر، ورغبتهم الوحيدة هي في الوصول عن طريق الحرب إلى السلام المجيد. 

ويؤكد على أن الحرب تعلن في سبيل السلام، والسلام هو هدف الذين يسعون إليه من خلال القيادة والمعارك الحربية وممارسة قدرتهم العسكرية. وعليه فالسلام هو ما يشتهيه الإنسان من خلال الحرب؛ لأن كل إنسان في أي حرب يشنها يسعى إلى السلام. وما من أحد يطلب السلام لا يسعى إلى الحرب. 

لكن هذا المفهوم توجه له سهام النقد، ويغلب عليه فكر زمن الإمبراطورية الرومانية وما يعرف بالPax Romana أي زمن سيادة السلام الإمبراطوري الروماني، ويبدو أن أوغسطينوس ذاته قد التفت إلى هذا الشقاق، ولهذا رأيناه يشير في موضع لاحق إلى أن استعمال ما في الأرض يرتبط بمصلحة السلام الأرضي في مدينة الأرض، وفي المدينة السماوية لمصلحة السلام الأبدي. 

ولهذا -في تقدير أوغسطينوس- لو كنا حيوانات عجماء لكنا نتوق فقط إلى ما يتجاوب مع الأعضاء في الجسد، ومع راحة شهواتنا، ونكتفي بما يرضي الجسد ويشبع اللذة، بحيث يكون سلام الجسد في خدمة سلام النفس. وفي الواقع إن لم يكن الجسد في سلام اضطرب سلام النفس غير العاقلة لعدم تأمين الراحة لما يشتهيه الجسد... 

ما الذي يخلص إليه المرء من رؤية أوغسطينوس؟ باختصار غير مخل، إن عملية البحث عن السلام في المفهوم المسيحي هي رؤية متجددة ومتطورة يوميا، غير ثابتة بل متحركة، وخير دليل على ذلك وجود أشخاص في تاريخ المسيحية عرفوا أهمية الدور الذي تلعبه الأديان في نشر السلام حول العالم... هل من مثال؟ 

واقع الحال هناك أكثر من مثال؛ فمن العصور القروسطية -والمواكبة لما عُرف بالحملات الصليبية- يمكننا الحديث عن "فرنسيس الأسيزي... قديس ضد الحروب الصليبية"(27)، كان فرنسيس ضد الحملات الصليبية؛ حيث كان يحارب المسيحيون لاستخلاص الأماكن المقدسة من أيدي المسلمين حسب منطوق الدعوة لتلك الحروب، لذلك فقد كان من الطبعي أن يرتفع صوته عاليا، داعيا إلى صليبية أخرى لا تعرف إلى الفتك سبيلا، ولا إلى القتل والترويع طريقا؛ كان يدعو إلى صليبية المحبة. 

لم تكن المسيحية حاضرة أبدا في تلك الحروب التي قادها كبار الإقطاعيين والتجار الطامعين، الذين رأوا فيها فرصة سانحة لتحقيق مطامعهم المادية التي لا تشبع، أما صليب المسيح الذي كانوا يحملونه ويرفعونه فما كان إلا ستارا لتغطية تلك المصالح والأغراض والمطامع السياسية والاقتصادية، والتي شوهت الأخلاق المسيحية ومُثُلها العليا. 

رأى فرنسيس(29) أن صليبية المحبة هي الطريق إلى الآخرين، وأنه في سبيل ذلك لا يخشى اقتحام الصعاب وبذل ذاته حتى الدم إذا لزم الأمر، وقد تجلى ذلك في تحذيراته المتكررة للصليبين في دمياط، من أن الهزيمة قادمة لا محالة، وقد اتهموه بالجنون. 

كانت المكاسب التي حققها الأسيزي بالسلام من لقائه مع سلاطين العرب والمسلمين في الشرق، وبالمحبة في حواراته قادرة على بناء جسر من التواصل، وتحقيق فوائد تفوق -بوصف معاصريه- مكاسب أربعين معركة حربية. 

لخص الأسيزي حياته ودعوته المسيحية وسط العالم المتخم بالحروب في النشيد الأشهر في الأدب الروحي الغربي: "يا رب استعملني لسلامك... فأضع الحب حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة، والاتفاق حيث الخلاف، والحقيقة حيث الضلال، والرجاء حيث اليأس، والنور حيث الظلمة، والفرح حيث الكآبة... يا رب استعلمني لسلامك".

هناك أيضا أمثلة أخرى في المسيحية تلك التي وقرت لها وعندها رسالة يسوع الناصري الحاملة للسلام، والرافضة للعنف والحرب، منها على سبيل المثال "مارتين" أسقف تور Martim von tours الذي تخلى عن مهنته العسكرية بعد أن صار مسيحياً قائلا: "أنا جندي للمسيح، ولا يسمح لي أن أحارب"، وقد عمل بعد أن صار أسقفا في سبيل إحقاق سلوك لا عنفي في التعامل مع الهراطقة.

هناك أيضا "نيكولاس فن فلو"، الذي أمكنه دوما تسوية خلافات عن طريق حض الطرفين المتخاصمين على التنازل والسهر بهذه الطريقة على قيام صلح حقيقي "نصيحتي أن تسويا المسألة وديا؛ لأن عملا صالحا يولد الآخر"(30).

والشاهد الأخير هو " ماكمسيمليان كولبه Maximiliam Kolbe الذي ضحى بحياته في سبيل إنقاذ بعض اليهود في مخيمات التعذيب النازية في بولندا، وقد أثار ببذل حياته ذعرا في أوساط زبانية مخيم التعذيب، ويقول أحد الشهود: إنه بعد أن قدم كولبي ذاته فداءً عن بعضنا، ما عدنا نُضرب غالبا وبشكل مرعب كما كان يحدث لنا من قبل. 

أما الشاهد المسيحي الأخير في ستينات القرن المنصرم فكان "مارتن لوثر كنج" الذي ما استطاع أن يرقد بسلام إلا عندما عاد لا يملك بندقية خاصة به "سأكون لا عنفيا؛ لأني بهذا أرى الجواب على مشاكل الإنسانية".

هل تفيد السير المتقدمة شيئاً؟

بلا شك أنها جميعا قصص اهتداء لمسيحيين عرفوا المعنى والمبنى الحقيقي لمسيحية يسوع الناصري، وللسلام غير الممكن دون اهتداء القلوب، ولهذا باتوا نبراساً للساعين من أجل السلام، الذين قال عنهم السيد المسيح: "إنهم أبناء الله يُدعون".

في عام 1997 صدر عن حاضرة الفاتيكان وثيقة إرشاد رسولي تحت عنوان "رجاء جديد للبناء"، يقول فيها البابا يوحنا بولس الثاني: "إنني أحث اليوم جميع الكاثوليك، وأدعو في الوقت عينه سائر المسيحيين وأصحاب الإرادات الطيبة في العالم للقيام بأعمال دنيوية وتقلد سلاح السلام والعدالة، وإنه من الأمور الملحة تطوير وتنمية سلاح السلام والعدالة، وتربية الضمائر على السلام والمصالحة والوفاق بين الناس. 

ويضيف الراحل الكبير: "ينبغي ألا يغيب أبدا عن البال أن القيام بمبادرة سلام قد يجرد الخصم من سلاحه، وغالبا ما يحمله على التجاوب بإيجاب وبيدٍ ممدودة؛ لأن السلام الذي هو الخير الأسمى يميل إلى الانتشار، ويذكر لنا التاريخ الديني أن قديسين كانوا ينبوع المصالحة بمواقفهم المسالمة المرتكزة على الصلاة وعلى الاقتداء بالسيد المسيح رسول السلام".. هل يعني ذلك شيئا للقارئ؟

دون مواراة أو مداراة يفيد بأن هناك قناعات مسيحية على أعلى المستويات الكنسية في المسيحية، تؤمن بعمق الدور المنوط بها في نشر السلام. 

في علاقة الإسلام بالسلام معنى ومبنى:

يبقى السلام اسم من أسماء الله الحسنى في الإسلام، قال تعالى: ﴿هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم﴾ (الحشر:22-24) "لماذا السلام" اسم من أسماء الله الحسنى في الإسلام؟

بداية يمكن القول: لأن الله -عزَّ وجلَّ- خالق السلم والسلام، ويضمن ذلك للناس بما شرعه من مبادئ، وبما رسمه من خطط ومناهج، وبمن بعثهم من أنبياء وأوصيائهم، وبما أنزله من كتب، فهو تعالى مصدر السلم والسلام والخير والفضيلة. 

هل من تصور أولي عن السلام في الإسلام؟

الشاهد أن السلام طبقا للتصور الإسلامي يعد عملا من أعمال الإنسان، وفي الوقت نفسه يعد نعمة من نعم الله على البشر. 

ويرى حمدي زقزوق(31) أن الله تعالى قد وصف نفسه في القرآن الكريم بأنه "السلام" (الحشر: 23) والمصطلح العربي للسلام مشتق من الأصل ذاته الذي اشتق منه لفظ الإسلام، فهناك تطابق بين الإسلام والسلام. 

والتجارب العامة تبين لنا أن الإنسان الذي تنطوي نفسه على السلام يستطيع أن يسهم في نشر السلام من حوله في عالمه الذي يعيش فيه، والقرآن الكريم حين يبين أن الناس جميعا ينتمون إلى الأسرة الإنسانية الكبيرة وينحدرون جميعا من أصل واحد، فإن ذلك يعني أن الإنسان الذي يبحث عن السلام لا يبحث عنه لنفسه فحسب بل للآخرين أيضا، فالسلام من شأنه أن يوحد نفوس البشر... هل يقدر البشر على هذا الفعل دون سند أو عون إلهي؟

هذا ما يوضحه الإسلام؛ أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك وحدهم دون هداية من الله الذي يريد الخير لكل الناس. 

وهذه الهداية تبدأ بالدعوة إلى السلام، أو إلى دار السلام وهي دعوة صادرة من الله إلى الإنسان " والله يدعو إلى دار السلام" (يونس: 25).

ومما لاشك فيه أن المسلمين حول الكرة الأرضية يعدون القرآن الكريم كتاب سلام ومحبة(32)، ويكفي للدلالة على ذلك أن تحيتهم اليومية" "السلام عليكم".

والله يدعو المسلم أن يجنح للسلم في حالة جنوح الآخر له؛ ولكن هذا لا يعني ألاّ يكون المسلم محاربا ومستعدا للقتال، وقد فهم المسلمون أن الله لا يحب القتال والحرب بين البشر، غير أن الضرورة تفرض القتال، كما أن أصل الحياة في القرآن الكريم هو التدافع والصراع. 

والثابت كذلك أن الشريعة الإسلامية حافلة بالإشارات التي يمكن للمرء أن يرتكز عليها في تبيان عضوية العلاقة بين السلام والإسلام، وكيف أن تلك الشريعة تريد أن تجعل من السلام مشاركا أعظم في فكر وسلوك أمة المسلمين، فعلى سبيل المثال يتفكر المسلم في ليلة القدر -أهم ليلة من ليالي السنة- إذ أن الله زينها وجعلها سلاما حتى مطلع الفجر ﴿سلام هي حتى مطلع الفجر﴾ (القدر: 5). والناظر إلى التشريع الإسلامي فيما يختص بإلقاء التحية بين الإخوان عند لقائهم يجد استحسانا كبيرا لاستخدام لفظ السلام، قال تعالى: ﴿فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من الله﴾، وقال تعالى: ﴿لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها﴾.

تستوقفنا علامة استفهام أمام مغالطات استشراقية غربية وشرقية كثيرة: "هل عمد الإسلام إلى الترويج للسلام كفعل إيجابي وإرادة حاضرة منذ بدايات الدعوة حتى الآن؟ 

الجواب مهم للغاية؛ لأن الإسلام -بوصفه صالحا لكل زمان ومكان- يضحى اليوم كذلك دافعا في طريق السلام العالمي بتعاليمه، ولا يتوقف أثرها على الماضي فحسب. 

والمؤكد أن الإسلام حرص في تعاليمه على أن يغرس إرادة السلام في نفوس أتباعه ويريبهم على ذلك، ولا يعني هذا إقامة السلام فيما بينهم فحسب بوصفهم أتباع دين واحد؛ ولكنه يعني أيضا إقامة السلام مع كل الناس بصرف النظر عن أجناسهم وأديانهم وألوانهم. 

هناك إذن تطابق تام بين الإسلام والسلام؛ فكلمة الإسلام في العربية مشتقة من الأصل نفسه الذي اشتقت منه كلمة السلام، وتحية المسلمين فيما بينهم هي السلام. 

والمسلم يتجه في نهاية كل صلاة من الصلوات الخمس اليومية بتحية الإسلام، وهي السلام يمينا وشمالا، الأمر الذي يرمز إلى نصف العالم يمينا ونصفه شمالا، معبرا بذلك عن أمنية المسلمين بالسلام للعالم كله. 

هل وضع الإسلام دستورا بدوره لنشر السلم العالمي منذ بداية التنزيل؟

الحادث أن ذلك كذلك، وهو الدستور الذي يكفل حتى اليوم للعالم المتنازع أن يجد حالة من السلم والتعايش الآمن، وهذا ما ورد في سورة الممتحنة ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين﴾ (الممتحنة: 8)... ماذا تعني الآية الكريمة؟ باختصار تؤكد على أن الإسلام وضع للمسلمين مبدأ عاما للتعايش السلمي بينهم وبين غيرهم من الشعوب، يتلخص في ضرورة التعايش مع الآخرين أيا كانوا، ومعاملتهم بالعدل والإنصاف والتسامح طالما أن هؤلاء لم يصدر عنهم أي عدوان على المسلمين، ولم يتعاونوا مع أعداء المسلمين ضد المسلمين. 

على أن الحديث عن العلاقة بين الإسلام وقيمه ومفهوم السلام يحتاج إلى وقفة خاصة تجاه فك الاشتباك إن جاز التعبير بين إرادة السلام وحدود العدل؛ ذلك أن القرآن لا يطلب من المسلمين فوق ما يطيقون... ما معنى ذلك؟

إن كانت الآية الكريمة السابقة تتحدث عن حالة عدم الاعتداء على المسلمين وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم فماذا حال اضطرارهم إلى مواجهة المعتدين؟ وهل مجابهة هؤلاء أمر يخرج عن سياق السلام العالمي؟

يرى غالبية المفسرين الثقات أن التسامح مع الأعداء المستمرين في عدوانهم ليس أمرا مستساغا، والقرآن يعترف بهذا الواقع الإنساني، ومن هنا فإنه ليس من العدل والتسامح أن يتخذ المسلمون من أعدائهم الذين يريدون تدميرهم أصدقاء؛ لأنهم بذلك يظلمون أنفسهم ويساعدون الآخرين على ظلمهم، ولذلك فإن القرآن ينهى عن مصادقتهم حيث قال عقب الآية السابقة: ﴿إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون﴾ (الممتحنة: 9).

فإذا توقف المعتدون عن ظلمهم للمسلمين فينبغي على المسلمين أن يكونوا على استعداد للتجاوب معهم إذا رغبوا في السلام، كما يقول القرآن: ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله﴾ (الأنفال: 61). 

هل التضامن الإسلامي حول العالم داعم لنشر السلام العالمي أم مقوض له؟

سؤال ثقيل على النفس طرْحه؛ لكن هناك مزاعم كثيرة في الغرب تجبرنا على طرحه انطلاقا من كونهم يرون ذلك ناقضاً للسلام العالمي... كيف ذلك وما هو الرد المنطقي على مثل تلك الدعاوى؟

يقول مؤلفا كتاب "الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة" جراهام أي. فوللر "ايان او. لسير"(33) متسائلين: إن الغالبية العظمى من المسلمين يرون أن التضامن بين الدول الإسلامية أمر مستصوب ولو من حيث المبدأ على الأقل، وهذه رؤية طبعية جدا، ولكن إذا تحدثنا حديثا واقعيا فإننا نسأل إلى أي مدى يمكن للإسلام أن يكون هو عامل التلاحم ويهيئ للأقطار الإسلامية في مجموعها إمكانية إنجاز درجة جديدة من التضامن موجها ضد الغرب بخاصة؟

الجواب نجده عند عبد العزيز بن عثمان التويجري(34)، والذي يرى أن هذا السؤال محمل بالألغام المضادة لفكرة توافق السلام مع الإسلام، وكأنهما ضدان لا يلتقيان، وأن الطرح السابق مغالطة وقع فيها الكاتبان الغربيان كما يقع فيها زملاؤهم كُتاب الغرب في الغالب الأعم؛ إذ إن التضامن الإسلامي ليس بالضرورة أن يكون موجها للغرب أو الشرق هو وإنما هو موجه لتحقيق المصالح العليا للأمة الإسلامية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وعلميا، فهو تضامن يستهدف الخير والقوة والمنفعة والمناعة، ويسعى إلى امتلاك أسباب التقدم تحت راية السلام العالمي، وعليه فإن التعاون العربي/الإسلامي ليس فقط صانعا لمستقبل الوطن العربي والعالم الإسلامي، بل هو صانع لمستقبل الإنسانية وحافظ للسلام العالمي. 

على أنه إذا كانت العقود الثلاثة الماضية قد حملت بعض وسائل الإعلام الغربية على اتهام الإسلام بالعنف والعمل على إفشال السلام حول العالم، فإنه يتوجب علينا أن نتساءل ما هو موقف الإسلام من الذين يمارسون العنف ويقطعون الطريق على السلام؟

إن الإسلام عند جمهور المفكرين دين سلام ومحبة ووئام، والمسلم يشرق قلبه دائما بنور الإسلام، وقد علّمنا الإسلام أننا إذا خفنا من أحد فعلينا ألا نخونه؛ بل نُعْلِنهُ حتى يكون على بينه من الأمر(35). 

يقول الله تعالى: ﴿وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين﴾ (الأنفال: 58). 

ولعل أفضل ما يمكن أن يقدمه الإسلام للعالم على صعيد السلام العالمي هو إيضاح مدى الحلم والصبر والتأني والروية التي يحتم أن يكون عليها المسلم تجاه الإنسان بشكل عام، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة أو العمر. 

على المسلم أن يستقبل الرافضين ويناقشهم في الأمر ويتوصل معهم إلى الحل، ربما تتضح أمامه الرؤية، يقول الله تعالى: ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون﴾ (التوبة: 6). 

إن رسالة الإسلام تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، حتى يعيش العالم في أمن واستقرار وسلام، يقول القرآن الكريم: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ (آل عمران: 104). 

هل يمكننا أن نحمل رؤيتنا للسلام في التصور الإسلامي عبر دوائر بعينها؟

يمكن أن يكون ذلك كذلك، أما الدائرة الأولى فإنها تتمثل في السلام النفسي الذي يحظى به الإنسان في داخله، وهذا السلام النفسي يكون ممكنا عن طريق الدائرة الثانية؛ أي عن طريق السلام مع الله، كما يتمثل ذلك في العقيدة الدينية وكلتا الدائرتين تجعلان الدائرة الثالثة ممكنة، وهي التي تتمثل في السلام مع الآخرين ومع العالم الذي يحيط بنا والدوائر الثلاث جميعها يؤثر كل منها في الآخر. 

وإذا كان المسلم -طبقا لعقيدته- مطالبا بالسلام مع الآخرين ومع عالمه المحيط به؛ فإن هذا يعني أن المسلمين مطالبون بالسلام مع العالم الذي يعيشون فيه، وفكرة السلام العالمي تتضمن أن كل شعوب العالم ينبغي أن تتاح لهم فرصة السلام وبالتالي المشاركة في صنعه. 

والمسلمون يرون أن السلام العالمي يعد ضرورة لإنقاذ العالم، ومن ثم يريدون أن يكون لهم نصيب في المشاركة في صنعه. 

والشاهد أنه يجب أن نقر بأن العالم الإسلامي اليوم يشكل نحو خمُس سكان العالم وربما أكثر قليلا، وعليه فإنه مطالب بالمشاركة بفاعلية من أجل إحلال السلام حول العالم، غير أن هذا أمر يتطلب إتاحة الفرصة أمامه لكي يستطيع أن يجند في سبيل ذلك جهوده دون عوائق داخلية أو خارجية؛ حتى ينطلق إلى آفاق رحبة للتعاون المثمر مع كل القوى المحبة للسلام في العالم. 

في هذا الشأن تحديدا نذكّر بأن هناك خاصية يتسم بها الإسلام دون الأديان الإبراهيمية التي سبقته؛ إذ إنه يعترف من حيث المبدأ بكل تلك الأديان، ومن أجل ذلك يستطيع أن يعيش في سلام مع كل الأديان الأخرى، وأن يتعاون معها من أجل إرساء دعائم السلام في العالم. 

يرى فيصل عبد الرؤوف في مقال له عبر موقع قنطرة الألماني الإصدار، والذي يهتم بالحوار مع العالم الإسلامي تحت عنوان: "الديانات السماوية كمفتاح لحل الصراع الشرق أوسطي" أن الإسلام قادر -لاسيما في هذه الأيام- على أن يؤدي دورا بالغ الأهمية والفعالية على صعيد نشر مفهوم السلام العالمي. 

عبد الرؤوف -للذين لا يعرفونه- هو رئيس مبادرة قرطبة، وهو مشروع إسلامي مستقل لا حزبي متعدد القوميات، يعمل مع مشاركين من الدولة وخارجها لتحسين العلاقات بين المسلمين والغرب، وقد ألف كتاب "ما هو صحيح للإسلام صحيح لأمريكا". 

يقول عبد الرؤوف: إن الإسلام يعرّف نفسه ليس كدين محمد؛ إنما دين الله تعالى، الذي أسسه النبي إبراهيم أصلا، انطلاقا من هذا الإرث المشترك يشار إلى اليهود، وكذلك إلى المسيحيين بصفة خاصة في القرآن الكريم، وهما "أهل الكتاب"، ويشير القرآن إلى طريقة تقديم المسلمين لأي أطروحات عالمية أو نقاش جدي يهم البشرية بالقول: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل ألينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون﴾(36).

ماذا يعني ذلك؟ يعني أن التكليف الرئيس للمسلم هو البحث عما يجمع لا ما يفرق، وعدم التسبب بانقسام المجتمع البشري إلى فصائل معادية بسبب الدين؛ بل أن يكون الدين منصة انطلاق من أجل السلام العالمي الآن وكل أوان. 

وفي نهاية هذه السطور القليلة التي لا تحيط بشكل مطلق وواف بأبعاد السلام في الإسلام يتحتم علينا أن نتساءل: هل تستغل الشعوب العربية والإسلامية النهضة التي تنتابها مؤخرا والثورات التي تعمها من أجل تعميق مشاركتها العالمية في نشر مفهوم السلام بفعالية ودون عوائق داخلية أو خارجية؟

حكما إن المرحلة القادمة ستحمل حكما عالميا على دور المسلمين حول العالم في نشر الوئام ووقف الحروب والاقتراب من حدود المدينة الفاضلة كما رآها كذلك الفيلسوف المسلم الفارابي. 

لا سلام بين الأمم دون سلام بين الأديان:

في كتابه الشهير "الإسلام رمز الأمل... القيم الأخلاقية المشتركة للأديان" يؤكد اللاهوتي الكاثوليكي السويسري الشهير هانس كونج على أنه لا سلام بين الأمم ما لم يوجد سلام بين الأديان.

والحاصل أن القراءة المتعمقة لفكر هانس كونغ تقودنا إلى القول بأن الرجل يبحث في عمق الأديان كرسائل للسلام لا كأدوات للخصام، وعنده أنه في زمن يملك فيه الإنسان من الوسائل التقنية الحديثة القديمة والوسطي ينبغي على جميع الديانات -لاسيما الديانات النبوية الثلاث، التي كثيرا ما تكون عدوانية أكثر- أن تفعل ما في وسعها لتجنب الحروب ونشر السلام، ولتحقيق ذلك لا غنى عن إعادة القراءة والتفسير الدقيق لكل رواية من الروايات التي تشكل تقاليدها الدينية، وتتضح أهمية وجود فهم معاصر للقرآن في المجال التالي لا ينبغي قبول المقولات التي تتحدث عن الحرب دون نقد على أنها مبادئ قاطعة أو قواعد قانونية جامدة؛ بل لابد من فهمها بشكل نقدي في سياقها التاريخي والانتقال بها من هذا السياق إلى الوقت الحاضر. 

ولتحقيق تفسير ديني يحمل في طياته روح السلام يشير هانس كونغ باتباع النهج الثنائي التالي: 

أولا: ينبغي تفسير الأقوال والأحداث النضالية في كل رواية من الروايات في التقاليد الدينية في السياق التاريخي للزمن الخاص بها دون التغاضي عن شيء، ويصدق هذا على الديانات الثلاث وهنا: 

- ينبغي فهم حروب يهوه القاسية ومزامير الثأر التي لا تلين في العهد القديم في سياق الاستيلاء على الأرض وما أعقبها من الدفاع عن الذات ضد أعداء أكثر قوة.

- حروب التبشير المسيحية والحروب الصليبية التي ظهرت في الفكر الكنسي في أوائل وأوج العصور الوسطى.

- دعوات القرآن إلى الحرب تعكس الحالة المحددة للنبي في فترة المدينة، والطبيعة الخاصة للسور المدنيّة -تحديدا تلك السور التي تدعو للقتال ضد أهل مكة المشركين- لا يمكن استخدامها اليوم كمبدأ لتبرير اللجوء إلى القوة.

ثانيا: ينبغي اتخاذ الكلمات والأفعال التي تشجع على السلام في التقاليد التي يتبعها المرء على محمل الجد كإلهام للعصر الحديث.

يتساءل كونغ هل سيظل السلام بين أتباع الديانات وهْماً؟ وهل من الممكن أن يكون أعظم رجل دولة في عصرنا هذا أو الحكيم الأعظم هو الذي باستطاعته أن يقيم السلام بين المسلمين والمسيحيين واليهود؟ وخاصة السلام بين العرب واليهود أو بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟

الجواب: أن القتلى يتساقطون في البلقان وفي الشرق الأوسط تطلق النيران بصورة عشوائية ويومية والجميع يقف مكتوفي الأيدي في انتظار الحرب السادسة بين العرب وإسرائيل، وعلى الرغم من ذلك يتساءل الكثيرون إذا كان قد أمكن تحقيق السلام بين الكاثوليك والبروتستانت بعد كل ما دار بينهم من حروب باردة ومواجهات ساخنة، فلماذا لا يمكن تحقيق ذلك تدريجيا بين اليهود والمسيحيين والمسلمين؟ وإذا كان السلام قد أمكن تحققه بين الفرنسيين والألمان الأعداء الألداء فلماذا تظل إمكانية تحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين مستبعدة؟

هنا تتجلى عدالة رؤية هانس كونغ في الجواب وهو أن السلام الذي تحقق بين الكاثوليك والبروتستانت وكذلك بين الألمان والفرنسيين تحقق عندما تخلى كل طرف عن محاولات "نفي الآخر"؛ بينما المشروع الصهيوني قائم على نفي الوطن الفلسطيني المستقل، وحرمان أهل فلسطين من حقهم الفطري والطبعي في تقرير المصير، فاستحالة السلام هنا قائمة في طبيعة المشروع الصهيوني وليس في الإسلام أو اليهود. 

وباختصار فإن رؤية اللاهوتي المستنير هانس كونغ يمكن تلخيصها في مقولته: إن كلاّ من الأديان النبوية الثلاثة لديها قوة كافية مؤثرة من أجل المستقبل على أساس الثراء الروحاني والأخلاقي، وإن كلاّ من الأديان الثلاثة يمكن أن تسهم بشكل أكبر من خلال التفاهم والتعاون، وإن أديان العالم الثلاثة جميعها سوف تقدم إسهاما لا يمكن الاستغناء عنه لعالم أكثر سلاما وأكثر عدلا. 

وهذه المنظومة تختزل في القول: لن يكون هناك سلام بين الأمم دون سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان دون حوار جدي بين أتباع الأديان. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) سنة دولية للسلم ويوم دولي للسلم:http://www.un.org/ar/events/peaceday/2010/sgmessages.shtml

2) كتاب مدينة الله... دار المشرق بيروت. طبعة ثانية 2007.

3) إشكالية السلام العالمي بين ابن رشد وإيمانويل كانط عبد القادر بوعرفة http://www.facebook.com/AlmnzmtAlrbytLlslamAldwly/timeline

4) إنجيل متى 5.

5) سفر التكوين 1: 1-16.

6) www.balagh.com/mosoa/pages/tex.ph

7) كلمة أمام المؤتمر الدولي المسيحي الإسلام السلام للبشرية... فينا 30 آذار/مارس 1993.

8) أشعياء 52-7.

9) أشعياء 32: 17-18.

10) سبي بابل Babylonian Exile، هي فترة في التاريخ اليهودي تم فيه أسر يهود مملكة يهوذا القديمة على يد نبوخذ نصر الكلداني ابن نبوبولاسر في بابل في العراق القديمة حيث قام نبوخذ نصر بإجلاء اليهود من فلسطين مرتين؛ مرة في عام 597 ق.م، والمرة الثانية في عام 586 ق.م. وقد تمت العوده لليهود إلى أرض فلسطين مرة أخرى بعد سقوط الدولة الكلدانية على يد قورش الكبير حاكم فارس في ذلك الوقت، والذي وعد اليهود بالعودة إلى أرض فلسطين مرة أخرى.

11) أشعياء 59: 7-8.

12) أمثال 2: 20.

13) أشعياء 54: 13-14.

14) أشعياء 32: 9-14.

15) زكريا 9: 9-10.

16) زكريا النبي 17. أشعياء 2: 4.

18) لوقا 2-14.

19) لوقا 10: 5-9.

20) يوحنا 14: 27.

22) حياة يسوع المسيح، تأليف الإيطالي يوسف ريتشوتي.

23) أشعياء 9: 5.

24) لوقا 6-29.

25) KULTUR UND KONFLIKT S. ASSMANN- D. HARTH 

26) السلام الصليبي: توماش ماستناك، ترجمة: بشير السباعي.

27) مدينة الله، دار المشرق، الكتاب التاسع عشر, المجلد الثالث، بيروت، 2007.

28) جسور لا جدران، تأليف إميل أمين، المكتب المصري الحديث، القاهرة, 2005.

29) سيرة القديس فرانسيس الاسيزي، الأب يوسف لويس، القاهرة، 1965.

30) NIKLAUS VON FLUE IN BERICHTEN VON ZEITGENO, SSEN.

31) الإسلام وقضايا الحوار، مكتبة الأسرة، 2007.

32) إشكالية السلام العالمي، مرجع سابق.

33) الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة، جراهام أي فوللر، ايان أوليسر.

34) الحوار من أجل التعاون، دار الشروق، ص43, 1998.

35) الإسلام وموقفه من العنف والتطرف والإرهاب، منصور الرفاعي عبيد، مكتبة الأسرة، 2006، ص16. 

36) سورة العنكبوت، 46.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/7/144

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك