الثقافة الدينية وقيم السلم والعدالة والرحمة

دوغلاس ليونارد

العدالة والرحمة جنبا إلى جنب: لاهوت التعافي المسيحي والمسلم:

منذ ست سنوات خلت، وتحديدا في الثاني من أكتوبر عام 2009، اقتحم رجل اسمه تشارلز روبيرتس عنوة مدرسة تمتلكها طائفة الآميش مسلحا ببندقية، واحتجز عشر فتيات بريئات رهائن. وما إن وصل أفراد الشرطة إلى المكان -بغاية إنقاذ أرواح الفتيات- حتى باردها المسلح بإطلاق النار، جارحا منهن خمسا، وقاتلا خمسا أخريات، ومصوبا فوهة السلاح ضد ذاته قاتلا نفسه. وكم تحطمت نفوس جماعة الآميش بهذا الفقد.



والحال أن طائفة الآميش -لمن ليس يعرفها- جماعة بروتستانتية تقليدية تقطن ببلدة لانكاستر في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وتعيش تبعا لمبادئ المسيحية الصارمة. وأهلها معروفون على وجه الخصوص باقتياتهم على الزراعة المعيشية، وببساطة عيشهم، وبتحريمهم استعمال الكهرباء وسائر وسائل التكنولوجيا الحديثة؛ وذلك بناء على اعتقادهم بأن من شأن اتخاذ مثل هذه الوسائل الحديثة أن يلهيهم عن معرفة الرب. 

على أنه توجد ألوان من التوتر بين طائفة الآميش الدينية هذه وجيرانهم الذين يحيون حياة دنيوية ويعاملون الآميش بمزيج من مشاعر الريبة والافتتان. 

ولما رُميت الفتيات بالرصاص وقُتلن بالمدرسة في فصل واحد من فصول الدراسة، فاجأ ردُّ الآميش على هذه الجريمة النكراء العالمَ برمته؛ فقد منحوا الرحمة والمغفرة والمحبة للقاتل ولزوجه ولأبنائه، وقد صلوا من أجل [نجاة] روح القاتل، ومن أجل أن تشمله قدرة الرب تعالى برحمته، وقال شيخ منهم: "لست أعلم أحدا هنا يريد أن يفعل أمرا غير الصفح والتحاور مع أسرة الرجل الذي اقترفت يداه تلك الأفعال". وقد عمد أحد الآميشيين إلى ضم الأب المكلوم بين ذراعيه ساعةً حتى يخفف عنه آلامه. وكان أن جمعت جماعة الآميش الأعطيات وأحدثت صندوق إحسان من أجل مد يد العون إلى زوجة وأبناء القاتل المشمول برحمته. وقد ذهلت الزوجة لردة فعل الآميشيين، فقالت: "إن محبتكم لأسرتنا ساعدتنا على توفير الشفاء الذي كم تمنيناه يائسين، والهبات التي منحتمونا إياها مست شغاف قلوبنا مسا يأبى اللسان أن يطاوعنا في التعبير عنه، وشمولكم لنا بالعطف تجاوز حدود أسرتنا، بل وحدود جماعتنا، وإنه لسائر نحو تغيير عالمنا، لهذه الدواعي مجتمعة نشكركم شكرا صادقا خالصا".

إن ما بدر عن جماعة الآميش هذه من أفعال رحمة إثر هذه الفاجعة المؤلمة التي يصعب التعبير عن مدى هولها، لهي الأفعال الذي يعتقد المسيحيون أن الرب يقتضيها من كل شخص يواجه الفاجعة والفقد؛ فالمسيحيون مطالبون بأن يحاكوا رحمة الله محاكاةً، وأن يتخذوها قدوة. على أن الأمر الذي حدا بالعالم إلى أن يفاجأ بتصرف طائفة الآميش هو أن المسيحيين نادرا ما يحيون بوفق الآمر الأخلاقي الحاث على الغفران وعلى المصالحة وعلى إبداء الرحمة في وجه الظلم. 

ويعتقد المسيحيون أن أعمال البشرية أشد ضآلة وأضعف دلالة في جناب أعمال الرب تعالى، وأن المحبة الأشد ودا وتعاطفا التي يمكننا -معشر بني البشر- أن نمنحها غيرنا ليست بشيء بالمقارنة إلى محبة الرب الكاملة التي بمقدوره أن يمنحنا إياها، وأن الرحمة التي يقتدر بنو الإنسان على إبدائها -بين الفينة والأخرى- بعضهم نحو بعض ليست بشيء بجانب رحمة الله التي تتصف بالكمال والتي بمستطاعه أن يشملنا بها. 

ثمة قولة مسيحية مأخوذة من الإنجيل -إنجيل متى الإصحاح 7/9-11- يقول فيها المسيح: "أي إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزا يعطيه حجرا؟ وإن سأله سمكة يعطيه حية؟ فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه"(1). فالمسيحيون يعتقدون أن رحمة الرب تقتدر على أن تكون أكبر وأشمل من الرحمة التي وسعت بها جماعة الآميش تشالز روبيرتس. 

وفي اعتقاد المسيحيين -كما في اعتقاد المسلمين أيضا- فإن الله يمنح العدالة والرحمة بوفق إرادته الواسعة، والمسيحيون مدعوون إلى إقامة العدالة وسلوك مسلك الرحمة التي أبداها الرب في قصص الكتاب المقدس وفي شخص يسوع المسيح. 

لكن، أَوَ ليس رد طائفة الآميش -المستند إلى الرحمة- من شأنه أن يمس بغاية إحقاق العدالة؟ هب أن القاتل بقي على قيد الحياة، وأن طائفة الآميش صفحت عنه وأولت العناية إلى أهله، أَوَ لا يكون آنها فيما أتته من فعل مسٌّ بالعدالة وبالنظام، وذلك بفعل رحمتها التي وسعت بها القاتل؟ الحال أنه -بحسب ما يذهب إليه اللاهوت المسيحي- ما كانت الرحمة لتنفي العدالة؛ إنما من شأن الرحمة أن تتقدم العدالة، وأن تتلو اللا عدالة. وفي المسيحية، فإنه ما كان المؤمن يتبع مسلك إقامة العدالة طمعا في كسب منن الرب، وإنما يتم اتباع طريق العدالة هذا في إطار العرفان والامتنان؛ أي عرفانا للطف الإلهي والمدد، وامتنانا لرحمته وللمحبة التي يفيض بها بحرية على المؤمنين قبل أن يفعلوا ما من شأنه أن يجعلهم يستحقونها. أَلَا إن فضل الله ومننه سابقة، فمباركة الله إنما تأتي في البداية، والمؤمنون -إن هم فهموا حقَّ الفهمِ دلالةَ الرحمة والمنّة التي يمنحهم الله إياها- مدعوون إلى أن يستجيبوا، وذلك بطاعة كل ما يأمر الرب به؛ والرب إنَّما يطلب إقامة العدالة على الدوام.

وفي اللاهوت المسيحي، فإنه لئن كانت العدالة مطلوبة لكسب نعمة الله ومنته، فإنه سرعان ما تنبثق ههنا مسألتان: أولاهما: أنّ ثمة إقرارًا في اللاهوت المسيحي بأن العدالة الكاملة أمر مستحيل أن يتحقق لبشر. وثانيهما: أننا إن آمنا أن صلاحنا واستقامتنا إنما هي مبنية على بذلنا الجهد بذلا، وعلى مدى خيريتنا، فإننا آنها سوف يعترينا الشعور بالمَخيلة، فننسى أن قرار الرب بأن يمنحنا وافر مننه إنما هو قرار للرب وحده. ويمكننا آنها أن نشرع في الاعتقاد بأنه بفضل صلاحنا وأفعالنا المستقيمة يمكننا أن نؤثر في إرادة الرب. والأمر الذي يدعو إلى المفارقة هنا هو أن مثل هذا الخيلاء وهذا الزهو القائم على الاستقامة يمكنه أن يتولد عنه ضده، فيؤدي بنا إلى عدم الاستقامة وإلى عدم الصلاح. وبالجملة لئن كان علينا أن نسعى إلى أن نطيع الرب، وأن نتبع العدالة الكاملة التي يقتضيها منا؛ فإنه -ومع ذلك- علينا أن نتسم بالنزاهة حتى اتجاه أنفسنا، فنقر بأننا أخفقنا في العيش في طاعة الرب طاعة تامة. 

هذا وقد أعلن أحد علماء اللاهوت المسيحيين -الذين عاشوا في القرن السادس- أنه لكي يصير المسيحي مطيعا طاعة تامة لعدالة الرب، فإن عليه أن يحب الله بملء روحه، وبكل قلبه، وبجملة عقله، وبكامل قوته في كل وقت من أوقات حياته. وأن عليه أن يحب كل الكائنات البشرية الأخرى، كل الناس على وجه الأرض، حتى لو كانوا له أعداء؛ وذلك بمثل ما يحب نفسه؛ لأن من شأن محبة الرب أن تكون ممتنعة من غير محبة ما خلق الرب. ولقد ذهب رجل اللاهوت هذا إلى وضع المبدأ القائل: لو أنه كان على المسيحيين أن يتنسموا الحياة لبرهة واحدة، فإنهم لئن هم أخفقوا في محبتهم الكاملة للرب ولبقية بني البشر ولو للحظة واحدة، فسوف يبقون آنها مدينين للرب كل الدَّين، وهو دَيْن لن يمحى أبد الدهر. وإنهم سوف يكونون مدانين من لدن الرب بسبب إخفاقهم في إتيان كل ما تطلبه الرب منهم في كل لحظة من لحظات كينونتهم. قد يقول قائل: "يستحيل درك هذا المستوى من الصلاح والاستقامة"، ويمضي محتجا: ذلك أن ما من كائن بشري إلا والشأن فيه أن يتجرع طعم الإخفاق في لحظة ما من لحظات عمره في أمر محبته الأغيار بمثل ما يحب نفسه، وأن يفشل في أن يحب الرب في حياته بملء قلبه وعقله وروحه وقوته. فما من كائن بشري إلا وسبق له أن أخفق في طاعته لمولاه، وفي تدبيره لأمر العدالة الكاملة. والذي يترتب عن هذا أن بني البشر كلهم يحملون العار في ضميرهم، وهو عار ليس يمكن أن يمحوه سوى الرب، عار منوط بالتمام بشمول الله البشر برحمته وغفرانه وحفظهم بعنايته.

هذا، وقد روى لنا يسوع -في إنجيل متى الإصحاح 19/16-26- حكاية عن استحالة قيام المرء بالفعل العادل قياما تاما, ومفاد الحكاية أنه تقدم رجل ثري إلى يسوع وقال له: "أيها المعلم الصالح، أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟" فقال له: "إن أردتَ أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا"، قال له: "أية وصايا"؟ فقال يسوع: "لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك، وأحب قريبك كنفسك". قال له الشاب: "هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، فماذا يعوزني بعد؟" قال له يسوع: "إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني". فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا؛ لأنه كان ذا أموال كثيرة. فقال يسوع لتلاميذه: "الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات (...)" فلما سمع تلاميذه بهتوا جدا قائلين: "إذن من يستطيع أن يخلص؟" فنظر إليهم يسوع، وقال لهم: "هذا عند الناس غير مستطاع، ولكن عند الله كل شيء مستطاع"(2). 

أن يبيع المرء أحد ممتلكاته، وأن يتصدق بالمال للفقير: هذا مسلك ملموس إلى محبة غيرك وقد أعوز. وما العدالة بشيء سوى تقويم الظلم الواقع على الناس. وإن عدم التكافؤ الاقتصادي الواقع في عالمنا هذا غير عادل. وببيع المرء لأحد ممتلكاته وبتصدقه بالمال للمحتاج، إنما يكون قد أتى أرفع الأفعال التي تقتضيها العدالة الاقتصادية، وهذا خاصةً ما يتطلبه الرب من المسيحيين، وإنني لأعرف العديد منهم ممن أقدم على فعل ذلك.

وفي اعتقاد المسيحي، فإن تحقيق الفرد لنجاة روحه -بتدبير عدالة تامة- أمرٌ هو في الوقت عينه مطلوب الطلب المطلق ومستحيل التحقق، إذا ما نحن عولنا على إرادتنا وحسب؛ ذلك أننا -معشر البشر- أَمْيل ما نكون -لطبع فينا- إلى إتيان الأفعال التي تغلب عليها أنانيتنا الكبرى. فنحن لا نهب للفقراء بما يكفي، ونحن نمسك عن إبداء المحبة الكاملة لأولئك الذين خلقهم الرب، بل وحتى للرب نفسه. والحال أن التقتير في المحبة لهو الظلم بعينه. وهكذا، فإنه بوفق مقتضى اللاهوت المسيحي ما من مؤمن إلا وهو مرتهن بالتمام والكمال إلى رحمة الرب في أمر خلاصه ومنجاته. 

وبالنسبة إلى حياة المسيحي في الإيمان، فإنه بافتداء يسوع المسيح، تمت تأدية الدَّين، ووسعت رحمة الرب الإنسان بسخاء، وتحرر المسيحي من عبودية العار والذنب. 

ولقد حدث ذات يوم أن ابتدرني أحد أصحابي الجيدين، وكان إماما متدربا، بأن قال لي: "لو أنا كنا واثقين من رحمة الله لنا لصرنا سعداء أيما سعادة في بحثنا عن العدالة؛ ولئن وُجد فرد مسيحي يعوّل على رحمة الله، أَوَ كان هذا لا يفضي إلى إخلال بالعدالة؟ ولئن كان المسيحي يؤمن بأنه خلص ونجا، فهل بقي -يا ترى- من حافز يحضه على إقامة العدالة التي يتطلبها الله منه؟". ذاك كان منه سؤالا وجيها وعميقا, وبوسمنا مسيحيين نؤمن بأن الرب يفيض علينا من رحمته بلا حساب، وأنه ما كانت رحمته تنال ببذل الجهد وحده، ما دام كل الناس يخفقون في إقامة العدل وإفشاء الرحمة التي يتطلبها منا الرب، فقد ترتب عن هذا أننا نبقى رهن أن يخلصنا الله وينجينا. 

ومن شأن الاعتقاد والإيمان في منن اللطف الإلهي -التي ينفحنا بها الرب بلا حد- أن تُسلم بنا إلى إحساس عميق بالامتنان وبالعرفان. ثم إن للمؤمن المسيحي أن يجتهد بعد ذلك في طاعة الرب بكامل الطاعة، وأن يتصرف تصرفا أكثر عدلا وإنصافا؛ امتنانا منه بهبة اللطف، وبالمدد والعون الذي منحه الله بلا حساب وبلا مقابل. 

ثم ما كان من صاحبي إلا أن استأنف السؤال: "لكن، أنّى لك أن تعلم أنك مُنحت الرحمة؟ أَوَ ليس من الخطورة بمكان أن يكون المرء ذا مَخِيلة وعُجْبٍ إلى هذا الحد، واثقا كامل الثقة من أن الله منحه منته؟". قال الحواري بولس في رسالته إلى أهل رومية -الإصحاح 11/20- في معرض حديثه عن الخلاص: "لا تستكبر؛ بل خَفْ". إنما الرحمة مأمولة وممكنة؛ بيد أنها غير مأمونة من جنابه. وما كنا إلا مرتهنين إلى الرب في رحمته إيانا. إنما مقامنا مقام من هو في مسيس الحاجة إلى رحمته، وأظن أننا من الأفضل لنا أن نؤمن بأن الله منحنا إياها. 

الحق أن لِإيمان المرء بخلاصه، ولاعتقاده بأن رحمة الله متاحة له أثرٌ في التخلص من عبء الذنب والعار غير المتحمل. والحال أن العار الذي يبقى قائما معلقا يكون مدمرا بالنسبة إلى كل أولئك الذين يلاقونه. 

تُرى، ما الذي حمل تشارلز روبرت على أن يَقْتل بهذه الوحشية والفظاظة؟ وما الذي دفعه إلى أن يهاجم؟ وجواب ذلك: أنه عارُهُ الذي ما كان قد مُسح. فحسب ما ورد في مدونته قبيل قتله نفسه، سبق للرجل أن اعتدى اعتداء جنسيا على صبيتين، وكان يدبر للاعتداء على فتيات طائفة الآميش. وكان يعتقد أن العار الذي يلصق به أكبر من أن ينفلت من ملاحقته له ولزومه إياه. فكان -لهذا الداعي- يؤمن بأنه قد أدين يوم الدينونة. وإذ حسب هو أن روحه أصابها شر لا شفاء له، وبسبب كونه كان يرزح تحت عبء عار لا انفلات له منه، فإنه عمد إلى إزهاق روح خمس فتيات بريئات وإلى قتله نفسه. 

ولي أن أتساءل عما لو أنه آمن بأن رحمة الله يمكن أن تمتد لتشمله أيضا، أكانت هذه المعرفة -يا ترى- قد طهرت روحه؟ أَوَ كان علمه برحمة الله قد رفع عنه وزر عاره وأعتقه من قوته التدميرية؟ أكان بمكنته أن يقتدر على أن يؤمن بأن شفاءه كان أمرا ممكنا، وأن يستغفر على ما اقترفته يداه ويتوب عن فعلته؟ أترى كان هو يقتدر آنها لو حدث هذا على أن يمضي حياته في امتنان وعرفان لتطهير عاره، ولربما كان أعان غيره ممن يغشى الأطفال على أن يحصل على المدد لإنقاذ الصغار الأبرياء من الضرر الذي يلحق بهم؟ الحق أنا ما كنا لنعلم ذلك. على أنه من البيِّن أن أفعال الرحمة التي قامت بها جماعة الآميش هذه نحو أسرة القاتل خففت من آلامها، وحولت كراهيتها للآميش إلى محبة جيرانهم وإلى محبة الرب. 

وبعد، فإن للرحمة المقدرة على ترميم ما انكسر وإشفاء ما اعتل، لها المقدرة على توحيد الجماعات التي تكون -في أي مجتمع كان- قد نشأت على الريبة بعضها تجاه بعض، بل وعلى العداء. 

ولسوف تدفع معرفة العدالة بالفاعل العاقل إلى التفكير قبل أن يقدم على فعلته، وأن تقي من العنف. ولسوف تعمل العدالة على صون المساواة وعلى حفظ النظام. لكن، ما كانت العدالة لتقتدر على فعل ما تفعله الرحمة. فليست تقتدر العدالة على جبر العار ومحوه، لا ولا هي تقتدر على المصالحة بين الأعداء. ووحدها الرحمة تستطيع أن تفعل ذلك. أَلا إن الرحمة تشفي، ألا إن الرحمة تُجبِر. وإنما من شأن الرحمة أن تمحي العار الذي يقود إلى العدمية. 

ولكي يتم خلق وفاق وانسجام دائم في المجتمع، وحتى يتم البلوغ إلى سلم دائم بين جماعات يقوم بينها التوتر، فإنه ينبغي على العدالة والرحمة معا أن تتآزرا وأن تتساندا؛ ذلك أن السلم الحقيقي والدائم إنما هو نتاج توازن بين العدالة والرحمة. وإن الرغبة في العدالة لرغبة في الانسجام والوئام والوفاق، وفي النظام الحسن الإيالة، وفي تحقيق المساواة في المجتمع. والحال أنه تقع العدالة والرحمة على طرفي خط متصل. وإذ تقع العدالة في جانب واحد، فإنها تقتضي الالتزام بمراعاة قواعد النظام. فإن هو زاغ في شيء عن الضوابط، فإن العقاب والثواب ينتج، لا عن رغبة في إبداء القسوة، وإنما عن رغبة في الحفاظ على حسن النظام. وتقع الرحمة على الطرف الآخر من الخط المتصل. وما الرحمة الخالصة إلا غفران كل تجاوزات تصيب العدالة، مهما كانت هي خطورة الجرم المقترف. 

أجمع الإسلام والمسيحية على أن يعلِّما لاهوتا وكلاما يضع العدالة ورحمة الله جنبا إلى جنب، فالعدالة تحظى بأهمية كبرى في الإسلام والمسيحية، وقد كشف الله لبني البشر عن طريق القرآن وحياة النبي محمد عن قوام الفعل العدل في العالم. وإن القانون والقواعد المتعلقة بتبني العدالة لقابلة بالأولى أن تُتَّبع. وفي غياب عدالة تنفيذية كاملة، تصير الرحمة مطلوبة. وفي الإسلام، فإن أحد أسماء الله الحسنى الرحمن الرحيم. والرحمة الكاملة إنما مأتاها من الرب. ويحتفظ الإسلام بفهم خاص لسيادة الله، ومن ثمة ليس يمكن لرحمة الله أبدا أن تُضمن وتُؤمن. وعلى المسلم على وجه الدوام أن يكافح من أجل العدالة، وأن يأمل في الرحمة؛ لكن ارتيابا صحيا وسليما في إمكان أن يُشمَل أي امرئ بالرحمة يبقى دوما أمرا قائما. 

وبالمثل، فإن في المسيحية أيضا يلزم اتباع العدالة والرحمة معا؛ إذ ثمة مقطع مستل من الكتاب المقدس (التوراة) عادة ما يتم الاستشهاد به، وهو عبارة عن قبس من حكمة النبي عاموس: "وليجر الحق [=العدل] كالمياه، والبر [=الصلاح أو الاستقامة] كنهر دائم" (سفر عاموس، الإصحاح 5/24)(3). كما أن ثمة مقطعا آخر من الكتاب المقدس مستل من سفر أشعيا يبدي أن مطلب الرب للعدالة يقع فوق مطلب العبادة؛ إذ ينقل واضع السفر عن الرب قوله: "رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت علي ثقلا، مللت حملها، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع، أيديكم ملآنة دما. اغتسلوا تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر، تعلموا فعل الخير، اطلبوا الحق، أنصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة. هلم نتحاجج، يقول الرب: إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، إن كانت حمراء كالدود تصير كالصوف. إن شئتم وسمعتم تَأْكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمردتم تُؤكلون بالسيف؛ لأن فم الرب تكلم. كيف صارت القرية الأمينة زانية ملآنة حقا كان العدل يبيت فيها وأما الآن فالقاتلون. صارت فضتك زغلا وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمردون ولُغَفَاء اللصوص كل واحد منهم يحب الرشوة، ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم، ودعوى الأرملة لا تصل إليهم. لذلك يقول السيد رب الجنود عزيز إسرائيل: آه إني أستريح من خصمائي وأنتقم من أعدائي" (سفر أشعيا1: 14-20)(4). 

في هذا المقطع، المستل من أشعيا، العدالة مطلوبة، والرحمة مأمولة، وفيما يتصل بالمسيحيين، فإن ثمة معتقدا جوهريا في اللطف الذي يمنحه الرب بغاية الخلاص، وبغية غفران الخطايا، ومحو العار. ومحو العار هذا إنما هو ما يؤهل المسيحي لكي يصفح عن الآخرين، وأن يبدي الرحمة ويعدل إزاء الأغيار. وبالنسبة إلى المسيحيين، ما كانت أفعالنا الخيرة تقام بغاية كسب منن الرب، وإنما عرفانا بالمنن التي نؤمن -سلفا- أن الرب قد أعطانا إياها كل العطاء في شخص يسوع المسيح. 

وبما أن عالمنا يواجه على الدوام توترا ما يفتأ يتصاعد متمثلا في عدم الأمان الاقتصادي، وفي عدم اليقين السياسي، وفي تنامي ساكنة العالم المهول، وفي الوسائل التكنولوجية التي تدفع أجيالنا الفتية إلى تلقي المعرفة بسرعات فائقة وبلا رقابة أو تربية من ثقافتهم؛ فإننا نحتاج بصورة ملحّة إلى صون ممارسة الرحمة حية في وجه اللا عدالة المتنامية. فدعنا نأمل في أن تقتدر الرحمة على كسر دورة اللا عدالة. دعنا يا هذا نأمل في أن تقتدر ممارسة الرحمة على ترميم عدالة أكمل وجبرها وإشفائها من عللها. ولنجعل من أنفسنا أدوات مسخرة متواضعة في يد قدرة الله تعالى لخلق الانسجام والوئام والوفاق في مجتمعاتنا وفي عالمنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) Holy Bible, New International Version, Gospel of Matthew 7: 9-11.

2) The Holy Bible, New International Version, Gospel of Matthew 19: 16-26.

3) Holy Bible, New International Version, Amos 5: 24.

4) Holy Bible, New International Version, Isaiah 1: 14-20.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/7/142

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك