جغرافية القدس الروحية

شمس الدين الكيلاني

يصدر التعلق الروحي للمسلمين بالقدس عن دمجه العميق للمثلث المؤلف من مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبيت المقدس داخل جغرافية الإسلام الروحية المنجذبة بقوة نحو البيت العتيق، البيت الحرام، الذي يشير المعتقد الإسلامي إلى أن إبراهيم أبا الأنبياء قد بناه، ومعه ابنه إسماعيل. والأساس في هذا التصور أن المسجد الحرام يتبادل الموقع المركزي مع القدس (المسجد الأقصى) في وحدة عضوية ما بين تكويناتها الثلاثة؛ إذ أن هناك في المتخيل الإسلامي وحدة عميقة بين أطراف الجغرافية المقدسة الإسلامية، وهو ما عبر عنه ماسينيون بقوله: (ما من مسلم مؤمن يقبل التنازل عن الخليل، ولا عن القدس خصوصاً، وهي ثالث الحرمين (بين مكة والمدينة)، إن أورشليم القدس هي نقطة تلاقي الإسلام الذي ولد في الصحراء العربية وتلاحمه مع الإنسانية العالية، إنها منطلق وبرهان في صحة مشيئة الله إلى إبراهيم الذي دفع محمداً أثناء إسرائه في المعراج نحو هذا "الهيكل السحيق"، الذي كان آنئذ حسب تفكيره "محراب زكريا، وقد أصبح فيما بعد المسجد الأقصى، كما أنه سيصبح قبلة الإسلام الأخيرة، ويحل بذلك محل مكة (الكعبة) في آخر الزمان، فلا يمكن للإسلام أن يتنازل عن الأقصى من دون التنكر للنبي"(1).

وهذا يعكس التصور الإسلامي لوحدة الأصل الإبراهيمي في الأديان السماوية الثلاثة، ولعل الاعتقاد الراسخ بتلك المنظومة الجغرافية المقدسة هو ما دفع المسلمين إلى أن يجعلوا جميع الأضرحة والأبنية المقدسة في العالم الإسلامي تحاكيها رمزياً. وقد تجلت تلك الوحدة بين مكة (المسجد الحرام)، والمدينة المنورة (المسجد النبوي)، والقدس (المسجد الأقصى)، في العديد من المعاني والرموز التي أسبغها المسلمون على تلك الأماكن المبجلة.

ولعلَّ الإسراء والمعراج أول تجسيد لوحدة تلك المنظومة الجغرافية، فكانت بمثابة استعادة لرحلة النبي إبراهيم من الخليل إلى الكعبة (مكة)، ومنها إلى الخليل، حيث كانت رحلة إبراهيم إسراءً أرضياً سبقت رحلة "إسراء" النبي من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه عرج إلى السماء، وليتمم بذلك قوس الدائرة القدسية لرحلة جدّه إبراهيم من الأقصى إلى البيت الحرام، برحلته المعاكسة من المسجد الحرام إلى الأرض المباركة(2) كما أنها -في الوقت الذي ربطت فيه ما بين رسالات التوحيد من إبراهيم إلى محمد- قد شدت الوثاق بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد، وكأنها أرادت أن تعلن -حسب سيد قطب- بوراثة محمد لرسالات الأنبياء السابقين جميعاً(3).

وقد ذكر الإسراء في الآية: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير﴾(الإسراء: 1)، ولقد اختلف المفسرون حول ما يعنيه الإسراء والمعراج، وكما قال أبو الفداء: اختلف أهل الله هل كان بجسده أم كان رؤيا صادقة، فالذي عليه الجمهور أنه كان بجسده، وذهب آخرون إلى أنه كان رؤيا صادقة.وروي عن عائشة أنها كانت تقول: "ما فقد جسد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ولكن الله أسرى بروحه"، ومنهم من "جعل الإسراء إلى بيت المقدس جسدياً، ومنه إلى السموات السبع، وسدرة المنتهى روحانياً"(4).

ويروي شداد بن أوس أن النبي وصف رحلته: "فانطلقت بنا (أي البراق) تهوي، يضع حافرها حيث أدرك طرفها حتى بلغنا أرضاً ذات نخل، فانزلني، فقال: صليتَ بيثرب (المدينة) وطيبة، فانطلقت بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها، فقال: انزل، فنزلت، فقال صل، فصلّيت، ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم، قال: صليت ببيت لحم، حيث ولد المسيح بن مريم، ثم انطلقت بي حتى دخلنا المدينة فأتى قبلة المسجد (المسجد الأقصى)، فربط بها الدابة، فصليت في المسجد حيث شاء الله"(5).

هكذا، ربطت هذه الرحلة (الإسراء) ما بين أطراف الجغرافية الإسلامية المقدسة، مكة والمدينة والقدس، وما جاورها مثل بيت لحم التي ولد فيها عيسى بن مريم، وأيضاً ما يذّكر بالنبي موسى، وداوود كتعبير عن وحدة الوحي النبوي.

الإسراء والمعراج:

تجلَّت وحدة الوحي أكثر ما تجلت في المعاني التي يذخر بها "المعراج"؛ إذ يروي ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري عن النبي، أنه صعد "عارجاً إلى السماء السابعة، والتقى أثناء عروجه الأنبياء السابقين، "ففي السماء الأولى التقى بآدم، وفي الثانية التقى بعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا، وفي الثالثة بيوسف بن يعقوب، وفي الرابعة بإدريس، وفي الخامسة بهارون بن عمران، وفي السادسة بموسى بن عمران، وفي السابعة، وعلى عتبة "سدرة المنتهى" "تعرف على أبيه إبراهيم الخليل"(6). ومما له دلالة رمزية أيضاً على هذه الوحدة ما يروى عن أن النبي صلى بالأنبياء جميعاً في المسجد الأقصى؛ أي في قلب القدس، فعبر هذا الحدث رمزياً عن وحدة الوحي من جهة، وعن وحدة المنظومة الجغرافية المقدسة من جهة أخرى، فيروى ابن مسعود عن النبي قوله:"... ثم مضينا حتى أتينا ببيت المقدس، ونشرت لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم، فصليت بهم، غير أولئك الثلاثة عيسى وموسى وإبراهيم"(7). وينقل السيوطي حديثاً نبوياً عن أبي حاتم، يذكر فيه أن جبريل قدّم النبي على جميع من في المسجد، "فصليت بهم، فلما انصرفت قال جبريل: يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قلت لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله"(8)، وهو ما يرفع شأن القدس من جهة، ويؤكد وحدة الوحي من جهة أخرى، وترسيخاً لفكرة أن محمد خاتم الأنبياء جميعاً، ومتمماً لرسالتهم، كما أن صعود النبي من على صعيد القدس، من فوق الصخرة التي في المسجد الأقصى، إلى سدرة المنتهى يضفي المزيد من القداسة والرفعة على المسجد، وعلى المدينة.

قِدم تاريخها الروحي وتبادل مواقعها:

وتتجسد وحدة أطراف الجغرافية الروحية أيضاً في اشتراكها بصفة "القدم" في الزمان، إلى درجة أن قدسيتها تسبق زمان بنائها على أيدي البشر، بل إن بعض آثارها تبدو لبعض المسلمين وكأنها ذات مصدر سماوي، حيث يجري الحديث على أصل سماوي للحجر الأسود (الكعبة)، وللصخرة الشريفة (المسجد الأقصى)، فضلاً عن أن تبادل كل من مكة والمقدس لموقع القبلة، فبعض المرويات تتحدث عن أن المسجد الأقصى والكعبة شيدتهما الملائكة قبل أن تبنيهما يد الزمان من هنا، فإن قداسة موقعهما سابقة لبنائها من قبل البشر، أو النبيين، تروي عائشة عن النبي قوله: "إن مكة بلد عظَّمه الله، وعظَّم حرمته، خلق مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق أي شيء من الأرض يومئذ كلها بألف عام ووصلها بالمدينة، ووصل المدينة ببيت المقدس، ثم خلق الأرض كلها بعد ألف عام خلقاً واحداً"(9).

ومما له دلالته في هذا السياق حديث رواه أبو ذر الغفاري، قال: "قلت لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أي مسجد وضع على وجه الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة"(10)، والحال أن الأربعين سنة هنا إنما تنتمي إلى زمن قدسي، لا يقاس بزمن الدهر، كما يشير هذا الفارق إلى قرابة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ولا تختلف قداسة مكان المسجد النبوي في المدينة وقدمه عن حالي المسجد الأقصى، والمسجد الحرام؛ إذ يروي ابن إسحاق أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ركب ناقة، وأرخى لها الزمام، وهو يدخل المدينة في هجرته إليها، والناس تدعوه إلى النزول عندهم، فيقول لهم: "خلّوا زمامها فإنها مأمورة"؛ أي أن هناك قوى علوية تقودها، "حتى انتهت إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده"(11)، فكان أن أمر النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بعمارة مسجده هناك، وهو ما يشير إلى أن قداسة المكان سابقة لبنائه، وأن اختياره تم بأمر علوي، كما أن إبراهيم -عليه السلام- عندما بنى القواعد للمسجد الحرام، ﴿وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك السميع العليم﴾(البقرة: 127) فإنما بناه تبعاً للنموذج السماوي الذي بنته الملائكة من قبل، ويذكر ابن هشام في كتابه (التيجان): "أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه، فبناه، ونسك فيه"(12)، ويذهب الإمام أبو العباس القرطبي في تفسيره بأنه يجوز أن يكون الملائكة هم الذين بنو بيت المقدس بعد أن بنوا البيت الحرام بإذن الله(13).

ويرى شهاب الدين المقدسي أن ماذهب إليه القرطبي إنما يتفق مع الآية: ﴿إن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين﴾(آل عمران)، وفي المقابل فإن هناك الكثير من الآيات المشيرة إلى قداسة القدس، كالآية القائلة ﴿ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾(الأنبياء: 71).

كما أن بعض الروايات الإسلامية تتحدث عن أصل سماوي للحجر الأسود، وللصخرة المشرفة، يروي الغزالي عن الترمذي حديثاً نبوياً: "إن الحجر الأسود ياقوتة من يواقيت الجنة"(14)، ويروى عن عبد الله بن عمر قوله: "إن الركن والمقام من الجنة"(15)، وفي ضوء هذه الرؤية الرمزية للمكان المقدس، ترى الرؤية الإسلامية أيضاً أن صخرة بيت المقدس تصدر عن نموذج سماوي مصدره الجنة، كحال الحجر الأسود، فيروي ابن عباس قول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس"، كما يروي الصحابي أنس بن مالك" أن الجنة لتحن شوقاً إلى بيت المقدس، وبيت المقدس من جنة الفردوس"(16).

ويروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: "سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: سيد البقاع بيت المقدس، وسيد الصخور صخرة بيت المقدس"(17)، فضلاً عن رواية عمر بن الخطاب "أن الحرم محرم في السموات السبع بمقداره في الأرض، وأن بيت المقدس مقدّس في السموات السبع بمقداره في الأرض"(18).

لقد تواترت المرويات وتكاثرت، تلك التي تشير إلى أن للمسجد الحرام، والمسجد الأقصى ما يوازيها في السماء، وليست القدس ومكة في المنظومة الرمزية الإسلامية مكانين منفصلين، بل صعيداً مقدساً واحداً، يؤمئ كل منهما إلى الآخر ويستبطنه، ودفعت تلك الرؤية لجغرافية المسلمين المقدسة إلى أن يذهب المفسرون إلى استخدام المعاني من الآيات القرآنية، التي تكرم تلك الأماكن وتوحدها في الآن نفسه، كالآية ﴿والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين﴾ (التين: 1-3) فيفسر أبو هريرة (التين) بأنه طور سينا، والزيتون يرمز إلى مسجد بيت المقدس، وهذا البلد الأمين يعني مكة المكرمة.

يذهب هذا التفسير الرمزي لوحدة الصعيد المقدس الإسلامي ذروته مع تمثل تبادل البيت الحرام والمسجد الأقصى لدور "القبلة"، فإن كانت القدس قبلتهم الأولى إلى أن نزل الوحي الإلهي بتوجيه المسلمين وجههم صوب المسجد الحرام؛ فإن القدس تأخذ موقع القبلة في نهاية الزمان يوم النشور، يوم الحشر والنشر، فتزف الكعبة بجميع ما فيها إلى بيت المقدس، ومعها جميع مساجد الأرض(19).

ويروي كعب حديثاً: "لا تقوم الساعة حتى يزور البيت الحرام بيت المقدس فينقادا إلى الله جميعاً، وفيهما أهلوهما، والعرض والحساب ببيت المقدس"(20)، ويعبر هذا التناقل لوظائف القبلة، وأوبة جميع المساجد في النهاية إلى بيت المقدس، عن الوحدة البدئية الجوهرية القدسية مابين المساجد الثلاثة، ومدنها.

ابتدأ المسلمون دعوتهم في أداء صلاتهم شطر (المسجد الأقصى) في القدس، يؤدون ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها على ملة إبراهيم، مستقبلين بيت المقدس(21). فالقدس -تبعاً للاعتقاد الإسلامي- كانت قبلة جميع الأنبياء، "فلم يبعث الله منذ هبط آدم على الأرض نبياً إلاّ جعل قبلته صخرة بيت المقدس"(22).وتشير بعض الأحاديث إلى أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يجمع في صلاته ما بين القبلتين، فحسب ابن عساكر، كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يصلي وهو بمكة، نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعدها هاجر إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صُرف إلى الكعبة"(23) فكانت القدس في العهد المكّي وبداية العهد المدني قبلة المسلمين، فكان النبي يصلى في البيت الحرام، في العهد المكي ويتلو القرآن فيه، إلاّ أنه أمر المسلمين بالتوجه بصلاتهم نحو القدس، ربما ليظهر تميز الإسلام عن العقائد الوثنية التي تملأ برموزها البيت الحرام، فكان توجّه المسلمين شطر القدس -المركز الروحي لأهل الكتاب- بمثابة علامة على استمرار دين الوحي، ثم بعد هجرة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى المدينة ظل يوجه صلاته نحو بيت المقدس، إلى أن أتاه الأمر الإلهي، بنقل وجهة صلاته إلى الكعبة، وذلك بالآية ﴿فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره﴾(البقرة: 144).

ولقد وصفت أرمسترونغ هذا التغيير على أنه علامة على عودة المسلمين إلى عقيدة إبراهيم الأصلية قبل انقسامها نتيجة تشرذم اليهود والمسيحيين في طائفتين متناحرتين، ومثّل محاولة لاستعادة وحدة مفتقدة، يمثلها البيت الحرام، الذي أعاد بناءه إبراهيم المسلم الحق(24).

وقد أضاف المتخيل الإسلامي الكثير من المعاني التي تؤكد عمق الوحدة التي تربط أطراف الجغرافية الروحية الإسلامية، بعد أن أكد على جاذبيتها الروحية، فيروي أبو هريرة عن النّبي قوله: "لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"(25). فقد عمّق المسلمون الصلات الوحدوية بين تلك (الأمكنة) المقدسة، كتلك التي تخيلوا وجودها ما بين عين زمزم في مكة، وعين سلوان في القدس، فرووا عن النبي جملة من الأحاديث عن وحدتهما، واتصالهما العميقين، وعن تبادل وظائفهما، وبقرابتهما الحميمة، فيروي خالد بن معدان عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قوله "زمزم وعين سلوان التي ببيت المقدس من عيون الجنة"(26)، وانطلاقاً من هذا التصور التوحيدي ما بين سلوان وزمزم، ومن ورائهما القدس ومكة، يقول أبو العلاء المعري: 

وبعين سلوان التي في قدسها طعم يوهم أنه من زمزم

وعن زوجة الإمام أحمد بن حنبل أم عبد الله: "من أتى بيت المقدس فليأت محراب داوود، فليصل به وليسبح في عين سلوان، فإنها من الجنة"(27). ويذهب المخيال الرمزي الإسلامي في تصوره للوحدة ما بين بيت المقدس والبيت الحرام إلى أن "سفينة نوح طافت بالبيت الحرام أسبوعاً، ثم طافت ببيت المقدس أسبوعاً ثم استقرت على الجودي"(28).

وبيت المقدس هو أحد البيوت المقدسة الثلاثة عند المسلمين، التي يتضاعف فيها أجر الصلاة، وهو ما يرويه أبو الدرداء أن الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة"(29)، وأيضاً هو أحد المساجد الثلاثة التي تحرسها الملائكة، وهو ما يتحدث عنه علقمة عن عبد الله بن عمر عن النبي، أنه قال: "لله أملاك: ملك موكّل بالكعبة، وملك موكّل بمسجدي، وملك موكّل في المسجد الأقصى"(30).

رموز إجلال القدس: 

لم يبدل نقل اتجاه قبلة المسلمين عن القدس إلى مكة من مكانه القدس وقلبها الروحي (المسجد الأقصى) في الضمير الديني الإسلامي، بل رأى التصور الإسلامي ان "القبلة" ستعود إليها في نهاية الزمان، الذي بنته -تبعاً لحديث مسند إلى ابن عباس- "الأنبياء، ما فيه من موضع شبر إلاّ وقد صلى فيه نبي أو أقام فيه ملك"(31)، والمسجد الأقصى، كما يذكر (الحديث) أحد ثلاثة بيوت مقدسة تُشدُّ إليها الرحال.

وأحياناً نجد بعض المرويات الإسلامية ترفع من شأن إجلال القدس، لتتقدم على المدينة المنورة، رغم الترتيب الثالث لبيت المقدس في المنظومة الجغرافية الروحية الإسلامية، فعن عمران بن حصين "قلت يا رسول الله: ما أحسن المدينة، قال كيف لو رأيت بيت المقدس، فقلت: أهو أحسن؟ فقال النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: وكيف لا، وكل ما فيها يزار ويزور، وتُهدي إليه الأرواح ولا يهدي روح ببيت المقدس إلاّ إلى الله، الذي أكرم المدينة (يثرب) وطيّبها بي، وأنا فيها حي، وأنا فيها ميت، ولولا ذلك ما هاجرت من مكة، فإني ما رأيت القمر في بلد قط إلا وهو بمكة أحسن"(32).

وقد ذاعت في الأدب الشعبي الإسلامي رؤية مسيانية تبشر بعودة المسيح في آخر الزمان في القدس، وقضائه على المسيح الدجال، أو الأعور الدجال، وقد استندت هذه (البشارة) على جملة من الأحاديث المنسوبة إلى النبي، تجعل من القدس أرضاً للمحشر والمنشر، فلقد روى الإمام أحمد بن حنبل وابن ماجه عن ميمونة مولاة الرسول: "أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- لما قيل له: أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر، ائتموه فصلوا فيه؛ فإن الصلاة فيه كألف صلاة"(33). وروي أن الصحابي عبادة بن الصامت (ت:34 ﻫ، 654م) قام على سور بيت المقدس الشرقي بعد الفتح العمري، فبكى، فسأله بعضهم "ما يبكيك يا أبا الوليد؟ قال: من هنا أخبرني النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنه رأى جهنم"(34). وتحضر هذه المعاني نفسها عند تأويلهم لبعض الآيات القرآنية، كتفسيرهم للآية ﴿واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب﴾(ق: 41) بأن المنادي هو إسرافيل، "ينادي من بيت المقدس بالحشر، وهو (أي بيت المقدس) وسط الأرض"(35). وعن عبد الله بن عمر (ت:65ﻫ/684م) قال: "إن السور الذي ذكره الله في القرآن: ﴿فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب﴾(الحديد: 13) هو سور بيت المقدس الشرقي، باطنه الرحمة؛ أي المسجد، وظاهره قبله العذاب: وادي جهنم"(36).

ثم تكتمل هذه الصورة بحزمة من الأحاديث المروية عن النبي، تركز على قيامة المسيح في القدس، حيث يجتمع المسلمون هناك، ويكون المسيح إمامهم، يبادر فيقتل الدجال الذي يسانده سبعون ألفاً من اليهود، وهو ما يتجلى في رواية أم شريك بنت أبي العكر، التي تسأل النبي: "يا رسول الله، أين المسلمون (آنئذ)؟ قال: ببيت المقدس، وإمام المسلمين يومئذ رجل صالح، فإذا كبر ودخل في الصلاة نزل عيسى بن مريم، فإذا رآه الرجل (الصالح) عرفه فيرجع يستقدم عيسى -عليه السلام- وراءه، فيضع عيسى يده بين كتفيه. ثم يقول له: تقدّم فصلّ، فإنها لك أقيمت، فيصلِّي بهم. فإذا انصرف، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحونه ووراءه الدجال، ومعه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سلاح وسيف، فإذا نظر إلى عيسى-عليه السلام- ذاب كما يذوب الرصاص في النار، وكما يذوب الملح في الماء، ثم يخرج هارباً، فيقول عيسى: إن لي فيك ضربة لا تفوتني بها، فيدركه عند باب الله الشرقي فيقتله"(37)، فيملاً المسيح بعدها الأرض عدلاً بعد أن مُلئِت جوراً، "فترتفع الشحناء والبغضاء والتباغن"، حتى تلقى الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم فلا يأكلها، ويملأ الأرض من السلم"(38). فضلاً عن ذلك فإن الإقامة في القدس -بحد ذاتها- تكتسب في المرويات الإسلامية رمزية مقدسة، فيروي الإمام أحمد بن حنبل عن ذي الأصابع، قال: "قلت: يا رسول الله، إن ابتلينا بعدك بالبقاء، أين تأمرنا؟ قال: عليك ببيت المقدس، فلعله أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون"(39). بل ذهب البعض إلى تحبيذ البدء بالحج إلى بيت الحرام انطلاقا من بيت المقدس، ففي حديث رواه أبو داوود وابن ماجه: "من أهّل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنوبه وما تأخر"(40).

وهناك الكثير من المرويات الإسلامية التي ترسّخ في المتخيل الإسلامي الرفع من جلال القدس في الضمير الإسلامي، كاقتران ذكر بعض الأنبياء بجغرافية القدس، فانطلاقاً من القصص القرآنية يتحدثون عن "أن موسى -عليه السلام- كلّم الله في أرض بيت المقدس، وتاب الله على داوود وسليمان -عليه السلام- في بيت المقدس، ورد الله على سليمان ملكه في بيت المقدس، وبشّر الله زكريا بيحيى في بيت المقدس، وسخر الله لداوود الجبال والطير في بيت المقدس، وكان الأنبياء يقربون القرابين ببيت المقدس، وأوتيت مريم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء ببيت المقدس، وولد فيه عيسى -عليه السلام- كما تعلم في المهد هناك، وأنزلت عليه المائدة في أرض بيت المقدس، وماتت مريم، ودفنت فيها"(41).

وقد اكتسبت أرض المسجد الأقصى -بما فيها الصخرة المشرفة- بالإسراء والمعراج، قدسية عميقة، فذكروا الكثير من المرويات تشيد بجلالة الصخرة، ولا سيما ان الصخرة كانت -حسب الاعتقاد الاسلامي- هي النقطة التي عرج بها النبي إلى سدرة المنتهى، فصارت روحنة الصخرة جزءاً من المخيال الرمزي الإسلامي.

وتأتي السردية الرمزية الإسلامية لترسخ من قداستها، فعن فضل بن عياض، يقول: "لما صرفت القبلة (إلى البيت الحرام) قالت الصخرة: "إلهي لم أزل قبلة عبادك حتى إذا بعثت خير خلقك (النبي محمد) صرفت قبلتهم عني؟ قال: أبشري، فإني واضع عليك عرشي، وحاشر إليك خلقي، وقاض عليك أمري، وناشر منك عبادي"(42).

وفي حديث مسند إلى كعب يقول: "ما من نقطة عين عذبة إلاّ ومخرجها من تحت صخرة بيت المقدس"(43)، بل يذهب حديث إلى اعتبار الصخرة مركز العالم، ففي حديث روى مقاتل: "صخرة بيت المقدس وسط الدنيا"، وفي رواية أخرى أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أجاب عن سؤال عبد الله بن سلام عن سبب تسمية مسجد الأقصى بالمسجد الأقصى: بـ "لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئاً ولا ينقص"(44).

ويذهب المخيال الإسلامي، إلى رفع موقع الصخرة عن الأرض، وما هذا الارتفاع المادي إلا رمزاً لرفعتها الروحية، واقترابها الرمزي إلى السماء، فيروى عن الكلبي أن الصخرة "هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وروى عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عباس وحذيفة: "أن المكان القريب إلى السماء هو صخرة بيت المقدس"(45).

كما أن الصخرة اقترنت بالذاكرة الإسلامية بحدث جليل للغاية، وهو حادث (الفداء)، أو التضحية بالرغم من ذهاب أغلب المفسرين إلى أن ابن إبراهيم المراد بالتضحية به هو إسماعيل، وإن مكان التضحية يقع في مكة، فإن بعضهم الآخر رأى أن المكان الذي حدثت عليه التضحية هو الصخرة الشريفة حيث اختارها إبراهيم الخليل -عليه السلام- لتكون مكاناً ليضحي عليها بولده، والذي تم استبداله باللحظة الأخيرة بكبش سمين بإرادة إلهية، فشكل ذلك (الحدث الجليل) الأصل التكويني لعيد الأضحى المبارك عند المسلمين(46)، بتسمية ذات مغزى "العيد الكبير"، والذي يقع فيه موسم الحج، في هذا العيد تنحر فيه الخراف استعارة رمزية للحادث التأسيسي ذاك، ويذكره القرآن في الآية: ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾(الصافات: 107).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- يواكيم مبارك، القدس قضية، ترجمة مهاة فرح خوري، مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيروت 1996 ص79.

2- محمد مصطفى الباش، القدس بين رؤيتين، دار قتيبة، دمشق، بيروت 1997. ص111، 112.

3- محمد محمد حسن شراب، بيت المقدس والمسجد الأقصى، دار القلم 1994، دمشق، ص333.

4- عماد الدين إسماعيل أبو الفداء، المختصر في تاريخ البشر (تاريخ أبي الفداء)، الجزء الأول، بيروت، دون تاريخ، ص119.

5- شهاب الدين أبي محمود بن تميم المقدسي، مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام، تحقيق أحمد الخطيبي، دار الجيل، دون تاريخ، بيروت، ص267.

6- ابن هشام، السيرة النبوية القسم الأول والثاني، تحقيق مصطفى السقا وعبد الحفيظ الشبلي، وإبراهيم الأبياري، ط2، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1955، ص306 – 307.

7-ابن عساكر، الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي، تهذيب تاريخ دمشق الكبير، ج1، تحقيق: الشيخ عبد القادر رتبة بدران، ط2، دار المسيرة، بيروت 1979، ص329.

8- شراب، بيت المقدس، ص329.

9- شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص132، وضياء الدين المقدسي، فضائل بيت المقدس، تحقيق: مطبع الحافظ، دار دمشق، دمشق 1985، ص48.

10- ياقوت الجموي، معجم البلد، ج1، جمع عبد الإله نبهان، وزارة الثقافة، دمشق، ص379–380.

11- المصدر السابق، ص113.

12- ابن هشام، السيرة النبوية، ص495-496، وأيضاً راجع: بن جرير الطبري، تاريخ الرسول والملوك، ج2، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة 1961، ص396.

13- شراب، بيت المقدس، ص298–299.

14- مجيد الدين الحنبلي، الأثر الجليل بتاريخ القدس والخليل، ج1 دون مكان، دون تاريخ، (نسخة في المكتبة الوطنية بحلب)، ص8.

15- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، المجلد الأول، دمشق 1994، ص288.

16- أبو الوليد الأزرقي محمد بن عبد الله بن أحمد، أخبار مكة. ج1 دار الثقافة، مكة، 1965، ص325.

17- شمس الدين السيوطي، إتحاف الأخصى بفضائل المسجد الأقصى، تحقيق أحمد رمضان أحمد، القسم الأول، القاهرة 1982، ص101.

18- مجيد الدين الحنبلي، الأثر الجليل بتاريخ القدس والخليل ج1، مصدر سابق، ص209. والسيوطي، ج1، ص132.

19- السيوطي، إتحاف الأخصاص، ج1، ص101.

20- ياقوت الحموي، معجم البلدان ج1، مصدر سابق، ص377-378.

21- شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص220. وأيضاً إسحاق موسى الحسيني، عروبة القدس، مركز أبحاث منظمة التحرير، بيروت 1969، ص79.

22- محمد حبش، سيرة رسول الله، دمشق 1993، ص43.

23- شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص214.

24- المصدر السابق، ص54، وأيضاً ابن كثير أبو الفداء الحافظ؛ البداية والنهاية ج9، مكتبة المعارف والنصر، بيروت، الرياض، 1966، ص253.

25-كارين ارمسترونغ، القدس، مدينة واحدة وعقائد ثلاث، ترجمة فاطمة ناصر. ومحمد عناني، سطور، القاهرة، 1998، ص377. 

26- شرح جلال الدين السيوطي، سنن النسائي، ج2، القاهرة، دون تاريخ، ص37. قارن مع أبي عبد الله البخاري، صحيح البخاري، ج2، القاهرة 1387ﻫ، ص324.

27- شراب، بيت المقدس، ص171.

28- ابن الجوزي أبو الفرج بن علي، فضائل القدس، تحقيق جبرائيل سليمان جبور، بيروت 1979، ص79.

29- السيوطي، إتحاف الأخصى، ص337.

30- شراب - بيت المقدس، ص337.

31- الإمام أحمد بن حنبل، المسند ج4، القاهرة 1317ﻫ، ص67.

32- ياقوت الحموي، معجم البلدان.مجلد1، ص379.

33- سنن النسائي، مصدر سابق، ص34. 

34-شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص219، قارن الباش، القدس بين رؤيتين، ص116.

35- المصدر السابق، شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص146. وأيضاً ضياء الدين المقدسي، ص44-45.

36-المصدر السابق، شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص74.

37)-المصدر السابق، ص74.

38 ابن عساكر، تهذيب تاريخ دمشق، ص192-193.

39- المصدر نفسه 193، وأيضاً ضياء الدين المقدسي، مصدر سابق، ص65-76. وأحمد بن حنبل في مسند، ج8، مصدر سابق، ص117. والنسائي في سننه، ج3، ص111-112.

40- الإمام أحمد بن حنبل، المسند، ج4، ص67.

41- الحنبلي، مصدر سابق، ص143. وشراب، ص337. 

42- الحنبلي، الأثر الجليل، ص52.

43- ياقوت الحموي، مثير الغرام، ص380.

44- شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص218.

45- السيوطي، إتحاف الأخصى، ص93.

46- شهاب الدين المقدسي، مثير الغرام، ص74-75.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/176

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك