الجزية في التراث الإسلامي وإشكالية العلاقة مع الآخر

خالد بن سعيد المشرفي

بكثير من الحساسية، وقليل من الإنصاف، تتناول أغلب الدراسات الاستشراقية موضوع الجزية؛ نتيجة نظرة متجذرة تتمثل في أن الفقهاء المسلمين يقصدون إلى معنى الدونية في التعامل مع الآخر الكتابي، ودون مواربة، فإن هذه النظرة لها ما يبررها، فقد كرستها بعض آراء المذاهب والتنظيرات الفقهية، ينضاف إليها كثير من الممارسات التاريخية، أسهمت هي أيضا في ترسيخ هذا المعنى في العقلية الإسلامية، وامتدت حتى سيطرت على العقل الاستشراقي، ليس منهم بطبيعة الحال (توماس أرنولد)، في كتابه: الدعوة إلى الإسلام، ولا (أ س ترتون)، في كتابه: أهل الذمة في الإسلام، بل كانت كتابتهما في الموضوع أكثر موضوعية وإنصافا.

تهدف هذه الدراسة إلى إعادة النظر في التراث الفقهي، ومحاولة البحث عن رؤية جديدة، ليس بالضرورة أن تمثل الرؤية العامة للفقه، أو الرأي الأوسع انتشارا، بقدر ما نكتفي بعرض وجهة نظر فقهية، نرى أنها تسهم في تبديد تلك النظرة، والتخفيف من غلوائها، وتساعد على فهم المضامين المختلفة، وتطرح فكرة قد تكون جديدة، ما يدفع باتجاه آفاق من الحوار البناء، والتفاهم القائم على معرفة صحيحة، ومضامين أكثر نضجا، وأهدى سبيلا. 
وبنظر الباحث، فإن مبعث تلك النظرة عدّ البعض الزكاة والجزية دائرتين منفصلتين، ولكل منهما استقلاليته التامة، دائرة الزكاة موضوعها مال المسلم، ولها مصارفها، ودائرة الجزية موضوعها أهل الكتاب، ولها مصارفها، فهما بذلك فضاءان منفصلان، وتنفرد الزكاة بكونها شعيرة تعبدية، يدين بها المسلم لله تعالى، وهو ما لا يمكن إلزام غير المسلم به، احتراماً لشعائره الدينية، وخصوصية معتقداته، كما لا يمكن إلزامه بالصوم، مهما كانت منافعه الصحية، وبتعبير النووي: حق لم يلتزمه الذمي فلا يلزمه(1).
لكن الباحث مع ذلك يطرح هذا السؤال: هل فعلاً هاتان الدائرتان منفصلتان؟ أم أن هناك نقاط التقاء أو منطقة تقاطع بينهما؟ هذا تحديدا ما تحاول هذه الدراسة الحفر والتنقيب فيه.
ففي حين تفترض القراءة التقليدية وجود فضاءين منفصلين، تلوح في الأفق ملامح منطقة تقاطع، قد تكون كبيرة فيما أحسب بادئ الرأي، بحاجة إلى كثير من التنقيب في الآثار الفقهية، من أجل البحث والكشف عنها، وهذا أمر مهم؛ إذ لطالما مارس فقهاء تكريس فكرة الفصل بين هاتين الفريضتين الماليتين، على اعتبار أن فريضة الزكاة أعلى شأنا وأرفع، ودون ذلك الجزية؛ أي أنها تأتي في مرتبة أدنى من الزكاة، ومؤكد أنه كلما كان التمايز والانفصال بين الدائرتين كبيرا، نكون أمام إشكال أعمق، وهوة أوسع بين الذات الإسلامي، والآخر الكتابي.
مقاربات:
يذكر صاحب اللسان أن الجزاء: القضاء، جزى هذا الأمر: قضى، ومنه قوله تعالى: (لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)، قال الأزهري: أي لا تقضي(2). ويعرف صاحب القاموس الجزية بأنها خراج الأرض وما يؤخذ من الذمي(3). وتتضح العلاقة بين الدلالة اللغوية والمعنى الاصطلاحي، بما تحمله الجزية من معاني (الفرض)، فهي مفروضة ومقدرة، و(الإلزام)، فهي ملزمة، شأنها في هذا شأن فريضة الزكاة، التي هي أيضاً فريضة إلزامية على المسلم.
وينظر الدهلوي إلى موضوع الجباية عموما بشكل أكثر حيادا وموضوعية، فهو يرى أن نظام المدينة، يتوقف على مالٍ يكون به قوام معيشة الحفَظَة، والذابين عنها، والمدبرين السائسين لها، ولما كانوا عاملين للمدينة عملاً نافعاً، مشغولين به عن اكتساب كفافهم، وجب أن يكون قوام معيشتهم عليها، والإنفاقات المشتركة لا تسهل على البعض، أو لا يقدر عليها البعض، فوجب أن يكون جباية الأموال من الرعية سُنة(4).
وكما عدّ الصدِّيق الزكاة رمزاً للولاء للدولة، ومعنى من معاني سيادتها، واستجاز قتال مانعيها، رغم عدم إنكار فريق منهم لفرضيتها، فكذلك الشأن في الجزية، حيث عدّها عطية عبد الحليم بالنسبة للذمي دليلا على أنه دخل مع المسلمين في أمان، وأنه أقر بالولاء والتبعية السياسية للدولة الإسلامية(5)
فالجزية تقابل الزكاة في كونها حقاً من حقوق الدولة على مواطنيها، (بالتعبير الحديث للمواطنة)، لها كامل الحق في استيفائه وعقاب مانعه، وإن كانتا تختلفان في المقدار؛ لاعتبارات سيأتي الحديث عنها لاحقاً. ولم تكن الجزية أمراً أحدثه الإسلام؛ بل هي نظام مارسته دول كثيرة سبقت وهو أمر منطقي فإن العدل يقتضي أن يستوي الجميع في تحمل أعباء الدولة؛ لأن الجميع يتمتع بحمايتها، ويعيش آمناً في كنف نظامها على نفسه وماله، وينعم بخيراتها.
والغرض من الجزية هو نفسه الغرض من الزكاة، وهو الإسهام في تحمل أعباء الدولة، وتقديم العون لها، للقيام بواجباتها تجاه رعاياها، وهذا ما أشار إليه الشقصي عرضا بقوله: وذلك إذا كانوا حيث تجري عليهم أحكام المسلمين، وحمايتهم، ورعايتهم، وعدلهم في برهم وبحرهم(6). والمعنى أن ما يتم دفعه هو في مقابل ما توفره الدولة من الحماية والرعاية والتمتع بالحقوق. 
ومع ذلك تورد كثير من الكتابات الإسلامية والاستشراقية فكرة أن الجزية تحمل مضامين نظرة دونية للآخر الكتابي، وهذا وإن كان يستند إلى ممارسات تاريخية وبعض تنظيرات فقهية -كما أسلفنا ذكره- فإنه لا يصح اعتباره الممارسة الرسمية، وذات الشرعية للإسلام، ولا هي تحظى بقبول الشريحة العريضة من الجماهير المسلمة؛ فهي لا تستند إلى أي أساس علمي أو موضوعي، سوى ممارسات تاريخية في عصور مظلمة اختلط فيها الدين بإفرازات الواقع السياسي، ومراحل الصراع التاريخي، فالإسلام دين لا يجد أي غضاضة في التعامل مع أهل الكتاب، أو الحوار معهم، واعتبارهم مواطنين يتقاسمون مع إخوانهم المسلمين الأرض: منافعها وخيراتها، ويؤدون للدولة والمجتمع واجبات الولاء والوطنية. لكن يروق للبعض ترديد الآية: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(7) في عرض للأفكار الشخصية باسم الدين، مخرجاً الآية من سياقها الموضوعي، فالآية -على الأقل بنظر الباحث- تتحدث عن قوم ألجأوا الدولة إلى قتالهم بمنعهم الجزية، فالصغار واقع بهم لا محالة بعد أن تجبرهم الدولة على دفعها، وما هذا عن مانعي الزكاة أيضا ببعيد، فقد لحق الذل والصغار أيضاً بمانعيها بعد أن قاتلهم الصديق، وكتب التراث التاريخي الفقهي تؤكد ذلك، فالصَّغار عند الشقصي هو أن يسلموها بأيديهم أو وكلائهم لمن أمر بقبضها منهم، وذلك إذا كانوا حيث تجري عليهم أحكام المسلمين وحمايتهم ورعايتهم(8) وهو ما يحيل إلى معنى الخضوع للدولة، والإذعان لسلطتها، وهو قدر يشترك فيه جميع رعايا الدولة.
والجزية لا تجب على صبي ولا امرأة ولا شيخ فانٍ، مما يؤكد عدالة الدين ونزاهة مقاصده، ولم يُرم بما رمي إلا من قبل أفكار شخصية، وممارسات تاريخية، لا تستند إلى أساس علمي، في ظل انحراف عن مقاصد الدين وكلياته.
من فقه التاريخ:
روى ابن سلام بسنده عن داود بن كردوس قال: صالحت عمر بن الخطاب عن بني تغلب، بعدما قطعوا الفرات، وأرادوا اللحوق بالروم، على أن لا يصبغوا صبيانهم(9) ولا يُكرهوا على دين غير دينهم، وعلى أن عليهم العشر مضاعفاً، من كل عشرين درهماً درهم(10).
وفي رواية أخرى عن زرعة بن النعمان، أو النعمان بن زرعة، أنه سأل عمر بن الخطاب، وكلمه في نصارى بني تغلب، وكان عمر قد هَمّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرقوا في البلاد، فقال النعمان أو زرعة بن النعمان لعمر: يا أمير المؤمنين أن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال، إنما هم أصحاب حروث ومواشِ، ولهم نكاية في العدو، فلا تعن عدوك، عليك بهم، قال: فصالحهم عمر بن الخطاب على أن أضعف عليهم الصدقة، واشترط عليهم ألاّ ينصّروا أولادهم(11).
رفض هذه الرواية مالك، وبمعنى أصح وأدق لم يأت عليها ذكر عنده، ولا عند أصحابه، حسب رواية سحنون عن ابن القاسم: ما سمعت من مالك في هذا شيئاً أحفظه، قال: ولو كانت الصدقة تؤخذ من نصارى بني تغلب مضاعفة عند مالك ما جهلناه، ولكن لا نعرفه(12). ورفض الرواية أيضا ابن حزم، فهي في غاية الاضطراب حسب تعبيره(13). وإضافة إلى رواية ابن سلام تكررت مضامين هاتين الروايتين أيضا لدى يحيى بن آدم(14).
ورغم رفض ابن حزم للرواية؛ فإنها لقيت قبولاً واسعاً في الأوساط الفقهية، وما كان اضطراب السند -بتعبير ابن حزم- ليحول دون اهتمام وعناية الفقهاء بها من كافة المذاهب، فالشقصي ينقل عن أبي سعيد القول: إن نصارى بني تغلب -مثل نصارى العرب- لا أعلم لهم حكماً غير حكمهم(15). أما ابن وصاف فيرى أن نصارى العرب يؤخذ منهم الفرض، كما يؤخذ من المسلمين الصدقة، وهو الخمس ولا جزية عليهم ولا صدقة(16).
وذهب أيضا إلى أخذ الزكاة مضاعفة من بني تغلب الشافعيُّ وأبو حنيفة وأحمد والثوري.
النص وقراءة مختلفة:
عدّ أبو حنيفة والشافعي مضاعفة الزكاة خاصة ببني تغلب بحسب ابن حزم(17)، ويستدل السرخسي لهذا الرأي بأن ظاهر قوله تعالى: ﴿حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾ يتناول كل كافر، إلا أنه خص من هذا الظاهر بني تغلب، باتفاق الصحابة(18) والذاهبون إلى هذا الرأي يقصرون النص على مورده، وهو ما يشي بعدم رغبة في التوسع في أخذ الزكاة بدلاً من الجزية، على اعتبار أن الزكاة هي فريضة المسلم، وأن الجزية هي فريضة الكتابي، وأنهما فضاءان منفصلان.
وفريق آخر يذهب إلى تعليل النص، وفهم ملابساته، والإحاطة بمضامينه، فابن جعفر يرى أن نصارى العرب يؤخذ منهم الضعف، وهو الخمس، ولا جزية عليهم(19) وهو رأي ابن النضر، وهو أيضاً رأي ابن وصاف، وعبارته: ونصارى العرب يؤخذ منهم الفرض، كما يؤخذ من المسلمين من الصدقة، وهو الخمس، ولا جزية عليهم ولا صدقة(20)، ثم أتبعه بالحكم نفسه في اليهود العرب، وعلى ذلك جرى الشقصي؛ لكنه أوضح المجمل بمزيد بيان، فقال: وأما نصارى العرب فإنه يضاعف عليهم ما يؤخذ من المسلمين من أموالهم، وهو من جميع الأملاك التي تجب فيها الزكاة الخمس مما فيه العشر، والعشر مما فيه نصف العشر، ونصف العشر مما فيه ربع العشر، وأرجو أنه لا شيء عليهم حتى يبلغ من أملاكهم من ذلك ما تجب فيه الزكاة من أموال المسلمين(21). وهو يرى أن نصارى بني تغلب مثل نصارى العرب؛ إذ لا فرق بينهم، ومن ثم قال بالقول نفسه في اليهود العرب والصابئين. 
أما ابن قدامة فيحكي تصريح الشافعية والحنابلة، بأنه إذا كان قوم غير مسلمين، لهم قوة وشوكة، وامتنعوا عن أداء الجزية، إلا إذا صولحوا على ما صولح عليه بنو تغلب، وخيف الضرر بترك إجابتهم إلى طلبهم، ورأى الإمام إجابتهم إلى طلبهم دفعاً للضرر جاز إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية وزيادة(22).
لكن ثمة فرقاً بين ما صرح به الشافعية والحنابلة - حسب ابن قدامه - وما قاله الإباضية، فالمفهوم من الشافعية والحنابلة أن جواز أخذ الزكاة مضاعفة متوقف على حدوث مثلما حدث بين عمر وبني تغلب، فإذا حدث ما حدث حكم بالجواز مما يقتضي عدم الحكم عند عدم السبب، أما رأي الإباضية، ففيما أتبين أرى أنهم نظروا إلى المسألة من ناحية اجتماعية؛ حيث قالوا: بما أن بني تغلب أنفوا من دفع الجزية، وقبِل منهم عمر دفع الزكاة مضاعفة، فليس بنو تغلب بأفضل من غيرهم من قبائل العرب؛ إذ الجميع متساوون في الدين، نصارى كانوا أو يهودا، ومتشابهون في الجنس، فهم عرب، ولعلهم نظروا إلى المسألة من جانب آخر سياسي، وهو الرغبة في إغلاق باب الرفض المتكرر من أي قبائل أخرى، فحسماً لأي نزاع تقبل الزكاة مضاعفة، ما دام عن تراض بين الطرفين.
فنحن في حقيقة الأمر بين يدي ثلاثة أقوال متمايزة: 
الأول: ينظر إلى النص من منظار حرفي بحت، ويقصر الجواز على بني تغلب مورد النص.
الثاني: ينظر إلى العلة وراء النص ويدور معها وجوداً وعدماً.
الثالث: ينظر إلى المسالة في ضوء كليات الشريعة والمبادئ العامة، كمبدأ المساواة بين الناس؛ إذ لا تمييز لأحد على آخر، وكذلك سد ذرائع الفساد بتلافي أي اضطرابات سياسية أو التخلص من أشكال التمييز الاجتماعي دون التقيد بحرفية النص، ولا الحدود الضيقة والإمكانات المحدودة للفقه المستخرج من الدلالات اللفظية للنص وحدها، فإنها تظل محدودة إذا ما قارناها بالاستنباط المستلهم من المقاصد الكلية وملاكات الأحكام.
كما ألمح عدم الرغبة في التوسع في أخذ الزكاة بدلاً من الجزية في القول الأول بنسبة أكبر، وفي القول الثاني بنسبة أقل، أبرر ذلك بالإطار التعبدي الذي أحيطت به فريضة الزكاة، كونها عبادة للمسلم فقط؛ لكن أمام النص لم يجدوا بداً من التزامه حرفياً حسب الرأي الأول، ومعللاً حسب الرأي الثاني.
مزيد تفتيت: 
تساءل الفقهاء: هل مضاعفة الزكاة شرط أساسي في قبولها بديلاً عن الجزية؟ جرى الصلح بين عمر بن الخطاب وبني تغلب على مضاعفة الزكاة عليهم، لما أنفوا من دفع الجزية، وقطعوا الفرات، وهموا باللحاق بالروم، مما حدا بعمر للنظر في الحادثة في ضوء مستجدات الواقع، ورهانات الحدث مستلهماً مقاصد الشريعة، والمصلحة الكبرى للأمة.
وعندما نمعن النظر في رواية ابن سلام للواقعة، نجد أن دافع بني تغلب لرفض الجزية أمران اثنان: 
الأول: أنهم أنفوا من دفع الجزية، ربما بالنظر إلى من حولهم من القبائل التي تدفع الزكاة، فهم "قوم عرب"، والظاهر أنه سبب اجتماعي.
الثاني: أن القوم ليست لهم أموال، إنما هم "أصحاب حروث ومواش"؛ أي أنه سبب اقتصادي، فهم لا يريدون أن يدفعوا نقداً مقدراً دنانير ودراهم، بل أن تؤخذ من حصائد حروثهم، ونتاج مواشيهم، فذلك أخف عليهم وأهون؛ لأنهم ليسوا بأصحاب أموال.
هكذا جرى الصلح على مضاعفة الزكاة، لكن عهوداً أخرى أبرمت مع أهل الذمة، لم تكن فيها مضاعفة الزكاة شرطاً بديلاً عن الجزية، فقد أورد الطبري أنه عندما توجه عبد الرحمن بن ربيعة إلى ناحية الباب جهة قزوين، عرض عليه عامل الفرس شهر براز الصلح على أن يؤدي الجزية قائلاً: إني بإزاء عدو كلب(23) وأمم مختلفة... ويدي مع أيديكم... وجزيتنا إليكم النصر، والقيام بما تحبون، فلما رفع ذلك إلى سراقة بن عمرو -الذي كان قائد الجند قبله، وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب- أجازه وحسنه(24).
وأورد البلاذري أيضا أنه عندما فتحت الجرجومة في شمال سورية، طلبوا الصلح على أن يكونوا أعواناً للمسلمين، وعيوناً ومسالح في جبل اللكام، فقبل منهم ذلك(25) فالخيارات كانت مفتوحة كبديل عن الجزية، وجاءت مضاعفة الزكاة إحدى تلك البدائل، التي وقع التصالح عليها.
ويرى بعض الباحثين أن مضاعفة الزكاة ليس بشرط، فيمكن التصالح على ثلاثة أضعافها، كما يصح دفعها بالمقدار نفسه، حسب ما يمليه الواقع، ويقره ولي الأمر، للاعتبارات الآتية: 
أ- أن صنيع عمر اجتهاد محض، توخى فيه المصلحة قدر المستطاع، وليس الاجتهاد حكراً على أحد، وقد قرر عمر مبدأ الجواز، أما مضاعفة الصدقة، فأمر سياسة ومصلحة، ويقع في إطار ولاية التدبير، والصلح بابه السياسة الشرعية، التي لا تقف عند حدود، سوى توخي المصلحة، بدليل الحادثتين السابقتين(26).
ب- يجيز بعض الفقهاء أخذ الزكاة من الذمي إذا اشترى مالاً عشرياً، دون أن ينصوا على مسألة مضاعفة الزكاة، ذهب إلى هذا الرأي الشقصي(27)، ومحمد بن الحسن(28).
جـ- أن الزكاة عبادة مقدسة، يؤديها المسلم تديناً، ويرجو ثوابها عند الله، ولهذا لا يمكن إلزام غير المسلم بها، كونه لا يعتقدها ديناً، لكنْ في الزكاة بُعْدٌ آخر وهو البعد المالي، فإذا التزم الكتابي هذا المقدار من المال تحت أي اسم كان فلا مانع من ذلك(29).
د- أن الجزية في الأصل لا تقدير فيها، بخلاف الزكاة، بل توضع بما يطيق أهل الذمة، فقد وضعت مرة ديناراً، وأخرى (48) درهما، أو (24) درهماً، أو (12) درهماً(30).
ومن ثم يمكن تقديرها بمقدار الزكاة، كما أنه ليس هناك ما يمنع من مساواة الأفراد في الوطن الواحد، من دفع مقدار الزكاة نفسه، باعتبارها نظاماً ضريبياً موحداً، لا يفرق بين أبناء الوطن والأرض الواحدة.
لذا جاء ضمن توصيات الندوة الأولى لقضايا الزكاة المعاصرة، المنعقدة بالقاهرة 1988م: دعوة الحكومات الإسلامية التي تطبق فريضة الزكاة إلى الأخذ برأي القائلين من الفقهاء المعاصرين بفرض ضريبة تكافل اجتماعي على مواطنيها من غير المسلمين بمقدار الزكاة(31).
وقد حاول البعض الوصول إلى هذه النتيجة من طريق آخر، وهو أن الجزية إنما كانت بمثابة ضريبة مالية، للإسهام في واجب الدفاع، نظير ضريبة الدم التي كان يدفعها المسلم في حومة القتال، للدفاع عن الدولة كلها(32).
وهو رأي لا يمكن التسليم له، ولي حوله ملاحظتان: 
الأولى: أن الجزية لم تكن في مقابل القتال وحده، إنما في مقابل القتال ودفع الزكاة معاً، لذلك كانت مضاعفة، فمع القول بأن الجزية في مقابل القتال، لا يصح أخذ الجزية عندما يشارك أهل الكتاب في الدفاع عن الوطن، شأن نظرائهم من أبناء المسلمين، وهكذا يبقى عبء الزكاة على كاهل المسلمين، دون أن تكون هناك ضريبة توازيها، تفرض على أهل الكتاب للإسهام في نفقات الدولة، والقيام بواجب الخدمات العامة، وهذا المعنى هو الذي دفع عمر إلى مضاعفة الزكاة على بني تغلب، حتى تكافئ الفريضتين.
والثانية: هل الحروب التي تخوضها الدول هي فقط لدفع الأعداء، ولماذا يُلزم أهل الكتاب في الدولة الإسلامية بواجب القتال في ظل دولة تجدّ في التوسع لنشر دينها، نعم يبدو الأمر منطقيا في حالة ممارسة الدولة لواجب الدفاع عن الوطن؛ لكنه لا يبدو كذلك في الحالة الثانية. 
ومع ذلك فإن من صلاحيات ولي الأمر أن يحدد مقدار الجزية المناسب، بما يحتمله المكلف، وحسب قدرته المالية، ومراعياً حاجة الدولة، وآخذاً بالاعتبار مبدأ العدالة في توزيع أعباء الدولة على الشركاء في الأرض.
مشكل العنصرية:
لكننا مع ذلك بين يدي إشكال ومأزق فقهي آخر، يتمثل في اختصاص العرب دون غيرهم بهذا الامتياز المعنوي، وهو ما يعني -ولو بادئ الرأي- نزعة عنصرية، تتعارض مع مبدأ عالمية الإسلام وإنسانيته، ينصب هذا الإشكال على الرأي القائل بتعدية أخذ مقدار الزكاة من بني تغلب إلى سائر العرب دون غيرهم من الأجناس الأخرى، ويتجه هذا الإشكال رأسا إلى فقهاء الإباضية، بحكم أنهم يرون تعدية الحكم على أساس عرقي، فيما يقصره الآخرون على مورده، ولا إشكال على هذا الرأي؛ لأن التزام النص، والإحالة إليه عادة تكفي مؤونة إعمال العقل، وتطلّب العلل، والنظر في المقاصد، والبحث في الأصول والفروع، مع ما قد يجره ذلك من عنت، وما أكثره.
وعلى الرغم من تلك الاعتبارات الاجتماعية والسياسية التي راعاها الإباضية إلا أن إلحاح الإشكال سيظل موضع قلق فكري، ليس من السهل التخلص من إلحاحه، ومع ذلك فليس من مهمة الباحث أن يجد جوابا لكل إشكال، بقدر ما يثير من تساؤلات، ويفتح من نوافذ للتفكير، بعيدا عن أي أفكار عنصرية، العنصرية تلك التهمة المعلبة والجاهزة في عالم السياسة، ويتساءل الباحث: أليس من حق الدول منح بعض الامتيازات لاعتبارات تراها؟ وباب السياسة الشرعية يتسع لذلك؟ وهل يخرج ذلك عن مبادئ التصرفات التدبيرية التي تحكم الدول والأفراد في العالم أجمع؟
أم أن الدائرة الفقهية وهي تستقي مبادئها وتصوراتها من الوحي ينبغي أن تسمو فوق كل الأغراض الدنيوية؟ وتستلهم قيم العدالة والمساواة التي هي مطلب إنساني جاء الدين الإسلامي ليؤكدها؟ 
وبين كل تلك التساؤلات المفتوحة أضع هذا النص بين يدي القارئ، ففيه شيء من حل معادلة ربط الجزية بالعِرْق أو الدين، يذكر الشقصي أن الأمة متفقة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين اليهود والنصارى، إذا لم يكونوا عرباً؛ لكنهم اختلفوا في الكتابي العربي، وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم، وأجملَ ذلك في أربعة أقوال، صدرها بالقول: إن الجزية على الأديان لا على الإنسان فتؤخذ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، ولا تؤخذ من أهل الأوثان، واستدل لذلك بعدد من الأدلة(33).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) المجموع، دار الفكر، بيروت، (د.ت)، ج5، ص328.

2) ابن منظور، باب (جزي).
3) الفيروزبادي، باب (جزي).
4) حجة الله البالغة، ضبطه ووضع حواشيه: محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1995م، ج2، ص70.
5) الضريبة الموحدة في ميزان الشريعة الإسلامية، جامعة الأزهر، كلية الشريعة والقانون، القاهرة، (د.ت)، ص46.
6) منهج الطالبين، تحقيق: سالم بن حمد الحارثي، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عُمان، 1982م، ج5، ص240.
7) التوبة، الآية (29).
8) منهج الطالبين، ج5، ص240.
9) ذكر المفسرون أن أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويجعلون ذلك تطهيراً لهم، فإذا فعلوا ذلك قالوا: الآن صار نصرانياً حقاً، فرد الله عليهم بقوله: "صبغة الله" أي الإسلام، وسماه صبغة استعارة، ومنه قول بعض شعراء همدان: 
وكل أناس لهم صبغة... وصبغة همدان خير الصبغ 
صبغنا على ذاك أولادنا... فأكرم بصبغتنا في الصبغ
الشوكاني، فتح القدير، ج1، ص162.
10) الأموال، تحقيق وتعليق: محمد خليل هراس، دار الفكر، بيروت، 1988م، ص36.
11) ابن سلام، الأموال، ص37.
12) المدونة الكبرى، رواية الإمام سحنون عن ابن القاسم، ضبط النص: محمد محمد تامر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2004م، ج1، ص341.
13) ر: المحلى، تحقيق: عبد الغفار سليمان البندادي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988م، ج4، ص231.
14) ر: الخراج، ليحيى بن آدم، ومعه الخراج، لأبي يوسف، والاستخراج لابن رجب، دار المعرفة، بيروت، (د.ت)، ص65.
15) منهج الطالبين، ج5، ص231.
16) شرح الدعائم، تحقيق: عبد المنعم عامر، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عُمان، 1982م، ج1، ص309.
17) المحلى، ج4، ص231.
18) المبسوط، قدم له: خليل محيي الدين الميس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2000م، مج1، ج2، ص165.
19) الجامع، تحقيق: عبد المنعم عامر، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عُمان، مطبعة الألوان، 1988م، ج3، ص141.
20) شرح الدعائم، ، ج1، ص309.
21) منهج الطالبين، ج5، ص231.
22) المغني، دار الفكر، بيروت، ط1، 1984م، ج10، ص585.
23) أي شديد.
24) تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر، بيروت، ط1، 1987م، ج5، ص143.
25) فتوح البلدان، ص159.
26) يوسف، النفقات العامة في الإسلام، دار الثقافة، الدوحة، ط2، 1985م، ص73.
27) ر: منهج الطالبين، ج5، ص241.
28) ر: الكاساني، بدائع الصنائع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1986م، ج2، ص55.
29) مسعد، نظام الزكاة بين النص والتطبيق، ص69.
30) يوسف، النفقات العامة في الإسلام، ص73.
31) الأشقر وآخرون، أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة، دار النفائس، الأردن، ط1، 1998م. ج2، (ملاحق)، ص877.
32) الريس، الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، دار الأنصار، ط4، 1977م، ص164.
33) منهج الطالبين، ج5، ص237.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/174

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك