الركن الأخلاقي للمناظرة

بقلم: اشريف مزور

قد لا يختلف اثنان في أن المناظرة تفاعل حواري يحتاج إلى دليل قواعد يؤشّر إلى محطاته المختلفة، ويكشف عن منزلقاته وآفاته. إنّ المحاورات الفكريّة تكون مرعية بآداب يصح الكف عنها إذا تمّ الإخلال بها. وممّا يدعو إلى الحرص على أهميّة ونجاعة التناظر هو ظهور الحقّ في صور متعددة، وبإمكانات لا حصر لها، لاسيّما في مجال الإنسانيات حيث الرجحان والتقريب، الشيء الّذي يقتضي الشروع في حوار مع الآخر من أجل تكثير الحقائق. وفي هذا الصدد، وبعد أن عمل على فصل المقال في مراتب الحواريّة: الحوار والمحاورة والتحاور، كلّ صنف يختصّ بمنهج استدلالي وآلية خطابيّة وبنية معرفيّة ونماذج نظرية وشواهد نصيّة تتفاوت في قدرتها على أداء الحواريّة وتأصيلها (بخصوص المناظرة فهي تحقق مرتبة المحاورة) مبرزا انطباق الفعاليّة الحجاجيّة على كلّ خطاب طبيعي (بما في ذلك الفلسفة الجامعة للبعدين العباري والإشاري)، خلص طه عبد الرحمان إلى أنّ المناظرة تقوم على تعديد منهجي، إذ الطرق إلى الحقّ كثيرة، ومذاهب المتناظرين شتىّ، بخلاف المنطق البرهاني القائم على توحيد منهجي وتجرّد من كلّ العلائق التداوليّة(8). وارتباطا بذلك يصير كلّ خطاب استدلالي يقوم على المقابلة والمفاعلة مناظرة(9)، “ولا يزال المرء فيلسوفا ما ناظر غيره أو ناظره غيره، فإذا صار إلى إنكار مناظره ونظر بمفرده وبرهن، قصر عن غرضه واغتصب ما لسواه (أي ذهب مذهب الرياضي والمنطقي)” (10).

من دأب الرواد التمييز في المناظرة بين ركنين: أدبي ومنطقي، يهتمّ الأول بأخلاقيات المناظرة، بينما ينشغل الثاني بالبحث في وظائف كلّ من السائل (المعترض)، والمعلل (العارض) الّتي ينبغي الالتزام بها أثناء المناظرة. وبعبارة أخرى يتعلّق الأمر بتقويمين للمناظرة أحدهما خارجي (خلقي) والآخر داخلي (منطقي) (11).

إذا كانت المناظرة بحثا ونظرا من جانبين بغية تحصيل الحقّ في أمر من الأمور مختلفا بشأنه، لزمها ضوابط وأخلاقيات تحفظها من الجنوح عن الهدف المجعولة له إلى مرام أقصاها التقريض والتجريح وتحقير الخصم. وعموما تمحور الخطاب الخارجي الواصف لمنهج المناظرة في خانتين: واحدة خاصّة بقواعد الجلوس للمناظرة والآداب المشتركة الّتي يتوجب على الجالسين للتناظر العمل بها معا، هذا علاوة على محددات مرتبطة بمجلس المناظرة. وأخرى متعلّقة بالحديث عن حيل وتلبيسات وجب على المناظر أن يكون حذرا منها، لأن ركوبها ما هو إلّا دأب أهل الفسوق في المناظرة، وسلوك يتنافى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكيفما كان نوع الموضوع المقارب بواسطة منهج المناظرة فإنّ الأخيرة لا تستقيم إلّا بأفعال تكلميّة Illocutoires ثلاثة أساسيّة: عرض دعوى أي الادعاء، عرض دليل على الدعوى ويسمى التدليل (الإثبات)، والاعتراض على هذه الدعوى أي المنع(12)(*).

بما أنّ الجدل أسلوب تصحيح لكلّ وضع فاسد يتنازع فيه خصمان على التدافع والتنافي، فقد ضبط بآداب يقول الجويني: “وأحسن شيء في الجدال: المحافظة من كلّ واحد من المتجادلين على أدب الجدل، فإنّ الأدب في كلّ شيء حليته ! فالأدب في الجدل يزين صاحبه، وترك الأدب فيه يزري به ويشينه...فممّا يعود بنفع إلى صنعة الجدل: المحافظة من كلّ واحد من المتجادلين على مرتبته، ويعلم أن مرتبة المجيب التأسيس والبناء فلا يتعدى عن هذه المرتبة إلى غيره، ومرتبة السائل الدفع والهدم”(13). ومنها:

- ينبغي للمناظر أن يقدم على جدله تقوى الله طلبا للحقّ بجد واجتهاد(14).
- النهي عن الجلوس للمغالب أو من “عادته التسفه في الكلام...والتفظيع”(15)، أو من ليس مذهبه إلّا المضادة، فمن كان هذا طبعه لا ينفع معه الإقناع بالحجّة(16).
- لا تناظر المتعنت ومن لا يقصد مرضاة الله في تعرف الحقّ والحقيقة، وإذا فتحته وتبيّنت منه التعنت، فالإمساك عن المواصلة أولى أو مضايقته حتّى يزول إيهامه(17).
- وجوب أن يكون الكلام لداع يدعو إليه إمّا في جلب مصلحة أو درء مفسدة “ولهذا قيل ما لا داعي له هذيان وما لا سبب له هجر، ومن سامح نفسه في الكلام إذا عن ولم يراع صحة دواعيه وإصابة معانيه كان قولا مرذولا”(18).
- عدم استصغار الخصم الّذي تناظره، لأنّه نظيرك ولا يجمل بك إلّا مناظرة النظير للنظير، ولذلك لا تفاتح في الكلام من هو غير أهل للمناظرة(19). (أن يكون المتناظران متقاربان مكانة ومعرفة).

- أهميّة مراعاة كلام الخصم وتفهم معانيه على غاية الحدّ والاستقصاء، وتلخيص كلامه إن طول بما يليق حتّى يزول ما أوهم به الحاضرين من إيراد العلوم الكثيرة(20).
- الاجتهاد في طلب الاختصار (تجنب الإيجاز المخل والإطناب الممل)، لأنّ “الزلل مقرون فيه بالإكثار”(21).
- لا تتكلم إلّا فيما تعلم “فلا تحاجّ إلّا بما لك به علم وما تعتقد بصدقه”(22)، ويجب على المناظر ألّا “يستدل إلّا بدليل قد وقف عليه وخبره وامتحنه قبل ذلك وعرف صحته وسلامته، لأنّه ربّما يستدل بما لم يمعن في تأمله ولا تصحيحه، فيظفر به خصمه ويبين انقطاعه”(23).
- التعلّق عند الاستدلال بأقوى ما في المسألة، لأنّك إذا تعلّقت بأقوى ما في المسألة راح بعده ما هو أضعف منه، وإذا تعلّقت بالضعيف احتجت بعده إلى وضع القوي موضع الضعيف فيذهب عندئذ رونق نضرة الحقّ وبهائها(24).

- المحافظة على قدرك وقدر خصمك، فتميّز بين النظير وبين المسترشد وبين الأستاذ، فتناظر كلاّ على حقّه، وتحفظ كلاّ على رتبته، إذ النّظار في طبقات (فيهم السائل المتعلّم والمتبحر في العلم...) (25).
- لا تسامح الخصم إلّا في موضع يعلم يقينا أنّ المسامحة فيه لا تضرك(26).
- عدم التقصير في تنبيه الخصم وإعلامه ما يظهر من مناقضاته في كلامه حتّى لا يضيع الحقّ(27).
- لا تؤاخذ الخصم بما تعلم أنّه لا يقصده من أنواع الزلل، بل هو لسبق اللّسان(28).
- تلافي كلّ ما من شأنه أن يوقع في الضجر والحدّة(29).
- على كلّ واحد من الطرفين ألّا يبالي أقامت الحجّة له أم قامت عليه، إذ الهام هو الحجّة وليس مع من كانت هذه الحجّة(30).
- على كلّ واحد من الطرفين أن يتلقى من صاحبه ما يصدر عنه بلطف وتحسين “فاللّطف في الأمور أنفع والرفق أنجع”(31). 

(...)

- إذا بان الحقّ فالواجب الإذعان له والانقياد إليه، فالغرض بالنظر إصابة الحقّ(32).
وزيادة في الضبط المنهجي، لم يفت النّظار إيراد العديد من الوصايا المتعلّقة بالمجلس الّذي ينعقد لمشاهدة جريان المناظرة في مسألة من المسائل. وقد تكون هذه المشاهدة فرصة للشّهادة لأحد الطرفين والشّهادة على آخر أثناء وبعد تتبع مجريات المناظرة. نورد منها في هذا الصدد ما يلي:
- ينصح باجتناب مجالس يسودها الخوف والترهيب والإكراه، لأنّ المجادل عند ذلك يكون مشغولا بحراسة الروح بدل حراسة المذهب ونصرة الدين“(33).
- توقّ مجالس التلهي الّذين قصدهم بما يسمعون التلهي لا تمييز الحقّ من الباطل(34).
- تجنب مجلس صدر لا يسوي بين الخصوم في الإقبال والاستماع وإنزال كلّ منزلته ورتبته(35)، كما يقطع الخاطر ويكدر القريحة.

- الأمر بعدم الالتفات إلى الحاضرين في استحسانهم أو استقباحهم، موافقتهم أو مخالفتهم(36)، لأنّ من شأن ذلك تشتيت انتباه المناظر وفقده تركيزه.ّ
ومثلما حدد النظار جملة من آداب الجدل وقواعد التناظر الموصى بها، فقد نبهوا على حيل وتلبيسات الحذّاق من أهل المناظرة، ويذكرنا هذا التنبيه بما قام به أرسطو من فضح وتعرية لحيل وألاعيب السوفسطائيين حتّى يكون المخاطب بمنأى عن الوقوع في شراكهم. من هذه الحيل الّتي ينبغي الاحتياط منها بل وإجازة قطع مكالمة من عرف من خصمه الاعتماد عليها نذكر:
- أن يحتال على الخصم بالتّعمق في العبارات حتّى لا يفهم من كلامه إلّا النزر اليسير لكثرة ما فيه من غموض وغرابة وإغلاق(37).
- احتيال المسؤول على السائل لإخراجه عن جوابه، أو احتيال السائل على المسؤول لإخراجه عن جوابه إلى غيره(38).

- الهروب عن المسألة أو عن موضع الإلزام، فيعمد المحتال إلى كلام خصمه مركزا على أمور ثانويّة فيه لا تعلق لها بالمقصود، فيكثر”العبارات المستحسنة ويورد الفصاحات البليغة فيما لا يتعلّق بفائدة المسألة والإلزام [ليوهم السامعين] أنّ الخصم لا يتكلم بما فيه تحصيل“(39).
- التّوجه إلى من يعرف ضعفه في المناقشة في المجلس ليبعد عن خصمه القوي(40).
- التّمويه على الحاضرين بأفعال يريد بها المموه -بعد أن اختبر قوّة كلام خصمه وتعذر عليه تفصيله وتخلصه منه- إقناع المجلس بأن كلام خصمه”ضعيف ركيك لا يساوي الاستماع“، كأن يترك الإقبال عليه”ويلتفت يمينا وشمالا كالمتغافل المشتغل في فكره وخاطره بشيء آخر، أو يأخذ مع غيره في حديث أو سرّ، مبالغة منه في الإيهام بأن المناظرة انتهت"(41).
- استمالة أهل المجلس في التأثير على المتكلم، وتبيان ركاكة كلامه وضعفه(42).

(...)
بهذه التوجيهات إذن تنضبط المنهجيّة التناظريّة عمليًّا. وعموما فإنّ الدارسين يكادون يتّفقون على أن المناظرة سبيل من سبل بناء الحقيقة لأنّها تعتمد على مبدأ التشارك والتّعاون من جانبين، فتتوسع بذلك مدارك العقل وآفاقه، لكن متى خرجت المناظرة عن ذلك أصبحت مجرّد كلام يروم التّحقير والتّشنيع وتأليب النّاس على أفكار بل وعلى شخص أحد المتناظرين.

يبقى أن نتساءل الآن عن الضوابط المنطقيّة لكلّ من وظائف المدعي والسائل. ومعلوم أنّ غرض المانع في المناظرة هو الهدم، وغرض المجيب هو التأسيس. فكيف ذلك؟

 8 - طه عبد الرحمان، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2007. ص ص: 67-68.

 9 - نفسه، ص: 66.
10 - نفسه، ص: 67.
11- حمو النقاري، منطق الكلام من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي، منشورات الاختلاف، طبعة الدار العربية للعلوم ناشرون، الأولى، 1431هـ، 2010م. ص: 349.
12- طه عبد الرحمان، في أصول الحوار، مرجع سابق، ص ص: 75-76.
* - هذا إضافة إلى أفعال تكلمية أخرى مثل السمع (قبول المنع)، والاتفاق على المناظرة والشروع فيها وعلى قواعدها، والاستفسار والمطالبة بالتدليل، نفسه، ص: 77.
13- الجويني، الكافية في الجدل، وضع هوامشه خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1420هـ/1999م. ص: 324
14- الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة 3، 2001. ص: 9.
15- الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، مرجع سابق، ص: 10.
16- طه عبد الرحمان، في أصول الحوار، مرجع سابق، ص: 75.
17- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص: 320.
18- حسان الباهي، الحوار ومنهجية التفكير النقدي، مرجع سابق، ص: 31.
 19- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص: 319.
 20- المرجع نفسه، ص: 322.
 21- الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، مرجع سابق، ص: 10.
 22- حسان الباهي، الحوار ومنهجية التفكير النقدي، إفريقيا الشرق، 2004 ص: 34.
23- الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، مرجع سابق، ص: 10.
24- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص ص: 321-322.
25- نفسه، ص: 336-337.
26- محمد أيت حمو، “الجدل واستيلاد اليقين”، مجلة المنهاج، عدد 59، السنة 15، خريف 1431هـ/2010م.
ص: 188. 
27- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص: 322.
28- نفسه، ص: 322.
29 - محمد أيت حمو، “الجدل واستيلاد اليقين”، مرجع سابق، ص: 186.
30 - حمو النقاري، منطق الكلام، مرجع سابق، ص: 380. 
31- الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، مرجع سابق، ص: 10.
32- الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، مرجع سابق، ص: 10.
33- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص: 319.
34- محمد أيت حمو، “الجدل واستيلاد اليقين”، مرجع سابق، ص: 187.
35- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص: 319.
36- نفسه، ص: 319.
37- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص: 326.
38- محمد أيت حمو، “الجدل واستيلاد اليقين”، مرجع سابق، ص: 190.
39- الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص: 327.
40- نفسه، ص: 330.
41- نفسه، ص: 328.

42- محمد أيت حمو، “الجدل واستيلاد اليقين”، مرجع سابق، ص: 191.

المصدر: http://www.alawan.org/article14230.html

الأكثر مشاركة في الفيس بوك