نشأة تكنولوجيا الاتصالات وتطورها وعلاقتها مع حوار الأديان: رؤية استشرافية
مريم آيت أحمد
إن الاتجاهات المتحركة لتغيير العالم اليوم هي تكنولوجيا الاتصالات وتطور المعارف والعلوم التقنية الجديدة، وهذه التغيرات المتسارعة والمستجدات الطارئة التي يشهدها العالم تثير كثيرا من علامات الاستفهام والتساؤلات، عما سيكون عليه مستقبل المجتمع الإنساني ومصير العلاقات الإنسانية، وإذا أردنا أن نستشرف المستقبل يجب النظر إلى دوافعنا وغاياتنا والقوى والغرائز الأساسية التي توجهنا، بالإضافة لكافة التأثيرات التي نتعرض لها نتيجة حياتنا الاجتماعية والثقافية والعقائدية.
فمجال تكنولوجيا الإعلام والتواصل اليوم هو أهم العوامل التي تتحكم في مصير الشعوب بحيث تتم عملية تكوين الرأي عند البشر من خلال برامج معمقة للمعتقدات والأفكار الدينية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية، بما في ذلك العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية.وهذا التوجه الشبكي الاتصالي الجديد عن بُعد منح حرية واسعة جداً في التعبير الفكري والعقائدي والأدبي والسياسي والاجتماعي والفني... ، مما أتاح فرصة التواصل الثقافي والفكري والعقائدي العالمي، وبالتواصل تفعّل قدرة آليات الانفتاح والاطلاع المعرفي داخل الساحة الفكرية العالمية، فترتقي وسائل اختبار القدرات وتطوير مهارات الإبداع لدى أجيال ثورة تكنولوجيا الاتصال.
لكن وبقدر ما وفرت لنا وسائل الاتصال فرصة سرعة التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، وتطور الأفكار، واتساع مكان ومجال الحوارات والنقاشات عبر النوادي والندوات والفيس بوك والتويتر؛ بقدر ما هيأت الأجواء للغة التعصب والتحيز في ظل ضعف الرقابة وحرية التعبير عن الأفكار، مما يدعونا للتساؤل: هل استطاع جيل ثورة الاتصال أن يؤسس لآلياتِ حوار حضاري من نوع جديد؟ هل تمكّن من تجاوز الحواجز المادية والنفسية بين الحضارات والشعوب؟ أم أنه استسلم لعوائق العوامل اﻻقتصادية والسياسية والدينية والعرقية المسببة لتنامي اﻻنتماء الإقصائي والنزعات المتعصبة في حالات كثيرة؟
ألا يمكن الاستفادة اليوم -وعلى أبعد الحدود- من تسخير تكنولوجيا التواصل في خدمة قضايا الحوار بين الثقافات والحضارات؟ ألا يمكن لشبكات الاتصال المفتوحة عالميا أن تلعب دورا مهما في إقامة حوار بنّاء، وتقليص نزعات التعصب والتطرف بين الأديان والمذاهب؟
هذه أسئلة وأخرى ستطرح نفسها وسنحاول الإجابة عنها من خلال البحث في استشراف مستقبل تطور تكنولوجيا الاتصال وعلاقتها بالحوار بين الأديان كتحدٍّ حقيقي يواجه وسائل التواصل الاجتماعي ومراكز الحوار بين الأديان والحضارات في القدرة على تحفيز الوعي العالمي، وترشيده نحو التواصل والتعارف الإيجابي، بغض النظر على الاختلافات الدينية والمذهبية والثقافية.
نشأة تكنولوجيا الاتصال وتطورها
لقد تصوّر بعض المفكرين في بداية القرن العشرين أنه سوف يحدث انقسام أو تطور البشر إلى أنواع أو أشكال مختلفة نتيجة الثورة الصناعية: طبقة عمال متدنية الثقافة والتفكي، وطبقة الميسورين والمثقفين. فهل استطاعت الثورة الصناعية فعلا أن تحدث ذلك الانقسام؟
ومن هذا المنطلق أطلق توفلر على حقبة الزراعة مصطلح: الموجة الأولى، وحقبة الصناعة: الموجة الثانية، وعلى التطور التكنولوجي: الموجة الثالثة؛ حيث يعرفها بمرحلة تجسيد الهيكل المعرفي الذي تحتاج إليه عملية إنتاج البضاعة المصنعة، ومنها تكنولوجيا المعلومات، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في زمن مرحلة العولمة والثورة التكنولوجية هو سؤال معرفي بالدرجة الأولى، ففي البداية كانت العولمة على خط غرينتش واليوم العولمة تمتد على طول تكنولوجيا الاتصالات والشبكات المختلفة للمعلومات والألياف الضوئية، لتخترق المكان، وتقتصر الزمان دون الأخذ في عين الاعتبار الفوارق المكانية والحدود الجغرافية، وعلى الرغم من أن العولمة أخذت شكلا اقتصاديا في بداية ظهورها؛ فإن التطورات التكنولوجية العالمية قد نحت بها إلى أنساق أخرى كالمعلوماتية والتجارة الإلكترونية، بحيث صار بوسع المستفيدين الحصول على المعلومات من أي مكان في العالم، عبر استثمار تكنولوجيا الاتصال الحديثة من خلال شبكة الإنترنت، والتي أصبحت تمثل نموذجا عالميا مثاليا للعولمة المعلوماتية. وقد أدى النمو الاقتصادي العالمي المتزايد ممزوجا بالتطور التكنولوجي إلى توظيف المعلومات كمحرك أساسي للتغير الاجتماعي، مما أدى إلى ظهور مصطلح "مجتمع المعلومات" في بداية الثمانينات؛ للدلالة على المرحلة الجديدة التي تمتد عبر تاريخ البشرية، وتتميز بأنها تعتمد أساسا على قاعدة متينة من المعلومات تشكل موردا أساسيا لاقتصاديات ترتكز على هياكل قاعدية تكنولوجية.
وقد تميز تطور الاتصال من خلال خمس ثورات أساسية، تمثلت الثورة الأولى في تطور اللغة، والثانية في تدوين اللغة، واقترنت الثورة الثالثة باختراع الطباعة في منتصف القرن التاسع عشر، وبدأت معالم ثورة الاتصال الرابعة في القرن التاسع عشر من خلال اكتشاف الكهرباء، والموجات الكهرومغناطيسية، والتلغراف، والهاتف، والتصوير الضوئي، والفوتوغرافي، والسينما، ثم ظهور الإذاعة والتليفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، وصاحب كل ثورة من الثورات، نظم جديدة من تكنولوجيا الإعلام والمعلومات.أطلق عليها العديد من الباحثين بأنها ثورة الاتصال الخامسة، فكان الهاتف أهم وسيلة اتصال انتشرت في بداية القرن العشرين، وتلاه التليفزيون في منتصفه والإنترنت في أواخره، وعندما قدم عالم الاتصال المعروف ماكلون (Mcluhan) فكرته عن القرية الكونية في المرحلة التي أعقبت 1900، كانت فكرته تتضمن شبكة الاتصالات عن بُعد، والتي ستنسحب على أجزاء العالم من أجل إتاحة المعلومات لكافة الشعوب، ولهذا يمكن القول: إن المقولة التي أطلق عليها هذا العالم الاتصالي في عام 1964 اسم عصر الاتصال الإليكتروني قد تحققت؛ بل تحققت رؤية هذا الخبير الإعلامي حول التحول إلى قرية إليكترونية عالمية صغيرة (Globe Village)(1).
ولذا يمكن القول: إن ثورة تكنولوجيا الاتصالات هي ذلك الشكل من أشكال التواصل الإنساني عن طريق عولمة المعلومات وتوظيف تكنولوجيا المعلومات في إلغاء حدود الزمن والمكان. وقد عرف مجتمعها بمسميات عديدة كالمجتمع مابعد الصناعي ومجتمع ما بعد الحداثة، المجتمع الرقمي، المجتمع الشبكي، المجتمع اللاسلكي، المجتمع الكوني، المجتمع المعلوماتي..
ثورة عصر الإنترنت
تعدّ شبكة المعلومات الدولية Internet من أبرز المستحدثات التكنولوجية التي فرضت نفسها على المستوى العالمي خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أصبحت أسلوباً للتعامل اليومي، ونمطاً للتبادل المعرفي بين شعوب العالم، كما أن الانتشار السريع لهذه الشبكة جعلها من أهم معالم العصر الحديث، حتى إن البعض أطلق على هذا العصر (عصر الإنترنت)؛ لما أحدثته هذه الشبكة من آثار عميقة، وتغيرات جذرية في أساليب وأشكال التواصل في شتى مناحي الحياة. كما تعد الإنترنت ثورة علمية في مجالات الاتصالات البشرية؛ لكونها توفر سهولة الاتصال الفكري بين مستخدميها مقارنة بوسائط نشر المعلومات الأخرى التي تعدّ عالية الكلفة ومحدودة النطاق، وتستغرق وقتاً أكبر لإتمام الاتصالات. وشبكة الإنترنت أحد مصادر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة، وأوسعها انتشاراً، فضلاً عن كونها جامعة مفتوحة يستفيد منها طلاب العلم والمعرفة، وتعقد من خلالها لقاءات وندوات ومؤتمرات وغرف الدردشة....في جميع أنحاء العالم، ومن خلالها تنمو العلاقات الإنسانية بشتى أنواعها بلا حدود أو قيود مفروضة.
يرى Kian، Samhong، أن ثورة الإنترنت غيرت من الفكر الإنساني، وفرضت على المهتمين بالحوار محاولة توظيف تكنولوجيا الاتصال بواسطة الإنترنت في المناظرة عن بُعد، كمنهج حواري فريد يساعد على تغيير الفكر والعقلية والإبداع في المهارات الذاتية(2).
تشير الدراسات إلى أن البداية الحقيقية لهذه الشبكة العملاقة كانت بداية عسكرية؛ حينما أمر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عام 1957 بإيجاد قاعدة معلومات Data Base للأغراض العسكرية، وظل الأمر في طور التحضير إلى أن تم إنشاء ما يسمى بوكالة مشاريع البحوث المتقدمة (ARPA) Advanced Research Projects Agency والتي استقطبت مجموعة من مؤسسات وجامعات تعمل في مجال الأبحاث العسكرية، وكانت المشكلة في تباعد أماكن هذه المؤسسات والجامعات بعضها عن بعض، مما يعوق عملية تبادل نتائج الأبحاث مباشرةً عبر حواسيبها، ومن ثم طلبت وزارة الدفاع الأمريكية من مجموعة من العلماء في مجال الحاسوب البحث عن أفضل طريقة للاتصال بين عدد كبير من الحواسيب؛ ومن نتائج البحث ظهور شبكة ARPA NET والتى ربطت بين أربعة مختبرات للبحوث، ثم توسعت فشملت عشر جامعات ومؤسسات(3).
ولم يمض أكثر من بضعة أشهر، حتى أصبحت شبكة ARPA NET تضم حوالى 42 من أشهر مراكز البحوث في الولايات المتحدة، ونظراً لتزايد الإقبال انقسمت شبكة ARPA NET إلى قسمين: (الأول يعرف باسم Milnet؛ وهو مخصص للأغراض العسكرية، والثانى هو ARPA NET الصغرى، وهي مخصصة للأغراض المدنية)، وظلت هاتان الشبكتان متصلتين عن طريق بروتوكول الإنترنت IP Internet Protocol والذى يسمح بتوجيه المعلومات والبيانات عبر الشبكات.
ويعدّ عام 1972 نقطة انطلاق مهمة؛ حيث استطاع "راى توملنيسون Ray Tomlinson " أن يخترع البريد الإليكترونى E. mail؛ ليستخدمه العلماء في المشاركة فيما بينهم وتبادل الرسائل عبر الشبكة، وأصبح لكل مشترك عنوان خاص به بالبريد الإليكتروني، وأصبحت شبكة ARPA NET في نمو متزايد بمعدل حاسوب جديد كل 20 يوماً(4).
وقد تطورت الإنترنت كثيراً بإنشاء المواقع المتخصصة على الشبكة عام 1998؛ وبدأت الإذاعات والتلفاز تبث برامجها بواسطة الإنترنت، كما بدأت عمليات التوظيف وإدارة الموارد البشرية عبره، وارتبط ذلك بظهور التكنولوجيا الرقمية، وأساليب تخزين الصور والرسوم الثابتة والمتحركة ونقلها ومعالجتها واسترجاعها، كما ارتبط بتوظيف شبكات الألياف الضوئية ودوائر الأقمار الصناعية مع تعدد وسائل عرض المعلومات من خلال الإنترنت، وأصبحت تشمل القدرة الفائقة على عرض (النصوص الفائقة - الصوت - الموسيقى - الصور المتحركة - الرسوم المتحركة - الصور الثابتة - الرسومات والأشكال الخطية - الوسائط المتعددة)(5).
ومع بداية القرن 21 وتفجر العلوم والمعارف على المستوى العالمي أصبحت الإنترنت شرياناً لحياة البشر، ووسيلة تعليمية وتدريبية وتثقيفية وترفيهية؛ كما أصبحت أهم الوسائل الإخبارية، وأصبحت متاحة للجميع ومن دون تكلفة إضافية؛ فهي في متناول كل من يملك جهاز حاسوب وخط ربط، ودخلت كأهم وسائل تقديم المقررات الدراسية، واعتبرت مهارات استخدامها متطلبا لمعظم الوظائف والمهن المختلفة.
الفيس بوك Facebook:
أكبر مواقع الشبكات الاجتماعية من ناحية سرعة الانتشار والتوسع، قيمته السوقية عالية وتتنافس على ضمه كبريات الشركات، نقطة القوة الأساسية في الفيس بوك هي "التطبيقات" التي أتاحت الشبكة فيها للمبرمجين من مختلف أنحاء العالم ببرمجة تطبيقاتهم المختلفة وإضافتها للموقع الأساسي. سهّل العاملون في الفيس بوك المهمة للمبرمجين بإنشاء API - أكواد برمجية مساعدة - تختصر الكثير عليهم، وتساعدهم في الوصول لملفك الشخصي وبناء تطبيق تستفيد منه.
• ماي سبيس Myspace: الموقع الذي كان الأكثر رواجاً قبل أن يدخل في منافسة شديدة مع الفيس بوك مؤخرا
• أوركوت Orkut: منتج جوجل والذي لم يلقَ رواجا كبيرا في أمريكا لوجود العملاقين فيس بوك وماي سبيس.
• نت لوق NetLog
• هاي 5 Hi5
• لنكد إن LinkedIn: شبكة اجتماعية للمحترفين، يضم الموقع قرابة مليوني محترف ومحترفة في مجالات متنوعة ومختلفة، يتشاركون في مجموعات اهتمام. خاصية متميزة في الموقع هي خاصية التزكيات، فبإمكان مديرك أو زملائك السابقين في وظيفة معينة شغلتها تزكيتك عن عملك في الشركة(5).
• Xing: شبكة اجتماعية لمستخدمين محترفين حول العالم.
• ديفاينت آرت Deviantart: الموقع الأشهر لعرض التصاميم الرقمية في شتى المجالات.
• أرتيكيان Artician: شبكة اجتماعية تجمع المصممين الرقميين على شبكة الإنترنت على غرار الديفاين آرت؛ ولكن بشكل أكثر إتقانًا وبخصائص أكثر تنوعًا(6).
ومن ثم فإن الحديث عن نشأة وتطور الإعلام ارتبط بتطورات تكنولوجية متعددة، فهناك تكنولوجيا الالتقاط للإرسال والترفيه للإرسال وللتخزين وللارتداد، كما هناك تكنولوجيا الاستماع والرؤية، ومعالجة المعلومات عن بُعد، وباستخدام متزايد للأقمار الصناعية أمكن لملايين الأنباء والبيانات أن تتدفق عبر الدول والقارات، بطريقة فورية مكتوبة بالصوت والصورة. ويجدر التأكيد في هذا المقام على أن تدفق المعلومات والاتصال يفسح المجال أمام وسائط الاتصال لترسيخ أسس التفاهم والحوار بين مختلف الثقافات للتعبير عن نفسها بكل حرية، فهل استطاعت ثورة الاتصال بآلياتها المختلفة تعزيز قيم الحوار وعقد ميثاق شرف عالمي يتم التأكيد من خلاله على التكافل والتداخل بين حرية التعبير واحترام العقائد والرموز الدينية؟ هل تمكنت ثورة تكنولوجيا الاتصال من التصدي للمواقف السائدة والمزاعم فيما يتعلق بـالمتعصبين لعقائدهم وأفكارهم وهم كثر؟ ألا يمكن لوسائط الاتصال الجديدة أن تتجاوز التصورات النمطية الموروثة بين الأديان والمذاهب والثقافات والحضارات، وتبدد الجهل الذي يغذي سوء الظن بالآخرين وينمي الحقد ضدهم؟ وبالتالي هل هناك من أمل في ترشيد وسائل الاتصال وتوجيهها لتعزيز روح التسامح والقبول بالاختلاف بحيث يصبح التنوع فضيلة وفرصة للتفاهم؟؟
دور الوسائط الجديدة في تعزيز ثقافة الحوار بين الأديان
رغم الانتشار الواسع للوسائط الحديثة، والزيادة المطردة في عدد المواقع الإلكترونية التي تتعدد تخصصاتها؛ فإننا نلاحظ أن هذه الظاهرة المتنامية لا تعكس تطورا ثقافيا وحواريا موازيا للكونية العالمية؛ بل إنها تؤطر للتعامل مع نسب عالية من الأمية الأبجدية والثقافية، الأمر الذي يتسبب في فجوة كبيرة تبدو معها القوة البشرية في العالم كأنها تستقل قطارا عملاقا، تتعرض قاطرته لانفصال تدريجي عن باقي العربات، وهو ما قد يهدد بكارثة حقيقية إذا لم يتمكن قادة القرار السياسي والديني والتعليمي من إحكام السيطرة على ترشيدها في السنوات المقبلة.
اليوم ومع ثورة وسائل اﻻتصال الحديثة كانت الخطط الإستراتيجية تتحدث عن تقسيم العالم إلى "قرية عالمية" تختفي فيها المسافات والحواجز المادية والنفسية بين الثقافات والشعوب، وتبشّر بعولمة "حضارية" ﻻحقة لتلك العولمة الاقتصادية التي كانت تسير بخطىً متسارعة. فهل أساءت هذه الإستراتيجيات حسن التقدير؟ هل استطاع الجيل الذي نشأ أمام أجهزة إلكترونية توصله بالعالم أن يتجاوز الحواجز المادية والنفسية بين الأديان والحضارات والشعوب؟ ألم تتنام لغة التنميط وتدويل ثقافة الإقصاء والسب والإساءة للآخر عبر شاشات جيل أبناء الكمبيوتر؟ لماذا لم تتمكن وسائل الاتصال من تجاوز هذه الثقافة؟ ألم تتحول هذه الثورة إلى أدوات فاعلة لخدمة المصالح السياسية والاقتصادية والعقدية لبعض التوجهات العنصرية العالمية؟ وبالتالي كيف نستطيع زمن ثورات الربيع العربي أن نرشد أجيالنا للتعامل الإيجابي الخلاق في عمارة الأرض والحضارة بعيدا عن نزعات الانتماء الضيق والتعصب المتشدد؟ أظن أن هذه أسئلة مشروعة زمن اتساع شبكة الوسيط الإلكتروني، قد تدفعنا للإجابة عن الواقع الثقافي والمخزون المعرفي لدى جيل ثورة الاتصالات وخاصة جيل الوطن العربي.
فما يهمنا اليوم كباحثين في ثنايا قضايا ثورات وحراك الوجدان الثقافي، هو مدى نجاح ثورة الاتصال في ائتلاف وتقريب الفرقاء والمخالفين، والتأسيس لمبادئ فلسفة أخلاقية قيمية تنبني على التواصل المعرفي المؤدي للتعايش بين الأديان والتعارف بين الثقافات عوض الاحتكام لمنطق الجهل والسب والفرقة والنزاع والتشتت والحروب...
ولعل الوعي بتقنيات الوسائط الجديدة يبين أن التكنولوجية الإلكترونية لوحدها لا يمكن أن تؤسس لفلسفة كما أسسها رواد عصر النهضة بكتبهم ومؤلفاتهم ومشاريعهم الفكرية فهي تنصهر في عناصر المنطق الحاكم للتقنية؛ لكن سياق برامجها المعتمد على عولمة المعلومات وتسويقها لا يندمج والمشروع الحضاري، الشيء الذي يدفعنا للبحث عن بدائل تربوية، ومناهج تعليمية كفيلة بترشيد وتوجيه جيل الإلكترونيات نحو الفاعلية وإرادة التغيير والمعرفة، جيل يحتكم للغة العلم والحكمة واليقظة والاستدلال والنقد البناء؛ ليسهم في دورات المنافسات العالمية الحضارية، ويوظف بمخرجاته التعليمية منهج التواصل التربوي الأخلاقي القيمي في الحوار مع الثقافات والأديان والحضارات، وبناء مفهوم جديد للمعرفة يتناسب مع قوّة أدوات اكتسابه وامتلاكه لآليات وتقنيات ثورة التكنولوجيا الحديثة.
إن محور البحث يتطلب منا طرح سؤال منهجي عن مدى نجاح الفرد اليوم في تعزيز قيم الحوار بين الأديان والثقافات بعد امتلاكه سر أزرار المعلومات؟
لقد أسهمت شبكة الإنترنت في توسيع دائرة الجدل حول موضوع القيم، بما تتيحه للباحث من فرص كبرى لاقتصاد الجهد وتركيز بؤر البحث والاستطلاع، فبنقرة واحدة على زر جوجل، يتوصل الباحث لمعلومات بحثه، وينطلق الغوص الفكري بين دروب المعرفة، وزيارة المكتبات الكبرى والاطلاع على أحدث النتائج العلمية في حقل تخصصه، الذي يحيله في كثير من الأحيان بالمنهج الترابطي على تخصصات أخرى، يتخطى معها كل الحواجز الجغرافية والثقافية والعقائدية التي حالت منذ فجر التاريخ دون انتشار الأفكار، وتلاقح الثقافات، وتبادل المعارف حول الأديان والمذاهب. فاليوم تمر مقادير هائلة من المعلومات عبر هذه الحدود على شكل إشارات إليكترونية لا يقف في وجهها شيء، وفي ذلك الكثير من نواح إيجابية وأخرى سلبية.
فهل ستختلف آليات الحوار الديني والثقافي عن المناهج الحوارية السابقة؟؟ خصوصا ونحن نعيش تحولا سياسيا جذريا يؤسس لمرحلة جديدة في العالم العربي؟ هل يستفيد رجال الدين اليوم من زخم الحراك السياسي كي ينخرطوا في عملية الإصلاح والتغيير والتجديد في حركية المجتمع؟؟ هل تستطيع ثقافة الحوار بين الأديان اليوم أن تكتب تاريخها الجديد من خلال خصوبة أسئلة الإصلاح وثورات التغيير.لقد حان الوقت لترقب وتتبع السؤال الثقافي والديني في مجتمعات تعيش اختلالات هيكلية، ويخيم عليها الفقر والجهل، وترتفع فيها نسب الأمية والفساد، وبما أن المثقف مرتبط عموما بأسئلة مجتمعه دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فعليه أن يستحضر دور الحوار في الموسم الثقافي الجديد، وأن يؤسس في أجندته لثقافة أدبيات الاختلاف الديني والمذهبي والإيديولوجي زمن ربيع الثورات المتواصل.
ما يجري اليوم في العالم العربي انبثاق وجودي، يستحضر تفعيل قدرات النشء وتنمية مهاراتهم في أدبيات الحوار والتعايش والتكامل من خلال آليات التحليل المعرفي الدقيق الذي يولد قناعات آنية، ويقارب توازن المصالح الإنسانية وفق رؤية عالمية تستشرف المستقبل، تتجاوز النظرة الضيقة للنخب السياسية وسلطة المثقف داخل دائرة النزاعات التعصبية الدينية والمذهبية والطائفية.
نعم إنها مرحلة جديدة، من عالم ثورة الاتصال، استطاع فيها الجيل الرقمي أن يقوض أسطورة عدم قابلية الشعوب العربية للتغيير والإصلاح؛ ففجأة ومن دون توقعات، وعلى عكس كل السيناريوهات التي ولدت عقليات منهزمة ونفسيات منكسرة، تنفجر المنطقة العربية، وتحتل صورة المشهد العالمي. ولأول مرة تتغير سياسات التمثيل، بحيث انتقلنا من صورة العربي السلبية التي يختزلها الإعلام العالمي في صورة المتعصب الذي يرفض الانفتاح الثقافي والحوار بين الأديان... إلى صورة العربي الذي أن ينزل لساحات التحرير بشتى انتماءاته الدينية وتلاوينه؛ ليعلن في ساحات -تعدّ أكبر مركز للحوار بين الأديان والمذاهب- عن رغبته في التحرر من قيد الاستبداد والتوظيف السياسي لإذكاء الفتن الطائفية والمذهبية، ويقرر المسلم مع المسيحي -في وحدة انتماء وطني- مستقبل مصير مشترك... الأمر الذي أثار دهشة وإعجاب الرأي العام العالمي.
بالطبع من المنظور الديني، يمكن أن يوظف الحدث في سياقه الثقافي والمعرفي الجديد؛ فثورة تكنولوجيا الاتصال مكنت الفاعلين الجدد وبآليات تقنية الشبكة العنكبوتية المتطورة من امتيازات عديدة، فأنتجت الوجه الآخر للبديل الثقافي الجديد، حيث ألقت الضوء على ظواهر سوسيو ثقافية، واستطاعت بفضل أدوات تقنية مابعد حداثية التويتر والفيس بوك أن تشكل هوية الجيل الرقمي الذي أفرز ثقافة عابرة للحدود، وإذا كنا نقر بتفوق الجيل الرقمي في الحصول على المعلومة وسرعة تدويلها عالميا، فكيف نستطيع أن نرشد ونوجه استعمالات هذه الوسائط حتى لايتم سوء توظيفها؟ولنا أمثلة على ذلك، فقد وظف المتعصبون الشبكة الإلكترونية، واحتكروها لشحن الآلاف من المواقع التي تحولت إلى ساحات قتالية للتحريض والشتم والسب في المغاير المخالف للدين أو المذهب أو التوجه، وأظن أن مرد هذه الثقافة الإقصائية راجع إلى سيادة ثقافة الإقصاء والتخوين والمؤامرة، التي أنتجت بدورها عقلية مريضة بداء التعصب للذات وقداسة الخطاب.
الحوار بين الأديان من البناء الرمزي إلى تكنولوجيا جيل التواصل
إن الحديث عن مفهوم التغيير الاجتماعي يرتبط وثيق الارتباط بموضوع الشباب ومنظومة القيم؛ فالمجتمعات الإنسانية في كل مرحلة من مراحل تطورها تتحرك وتنمو لتواكب المستجدات، سواء أكان ذلك في نطاق المؤسسات أم في مجال المثل والقيم الأخلاقية؛ بمعنى أن فترة الإعداد لترشيد تقنيات وأدوات التواصل الاجتماعي العالمي اليوم تحتاج إلى تعزيز ثقافة الحوار الديني والثقافي والمجتمعي بين المواقع والشبكات كمصدر أساسي لتلقي المعلومات والمعرفة.
فالربيع العربي اليوم يفرض علينا -كمؤسسات تعليمية ودينية ومراكز بحث دينية وثقافية- أن نسهم ببرامج فاعلة لتنمية مهارات التواصل المعرفي، الذي يمكّن من معرفة الآخر واحترام عقائده الدينية وانتماءاته العرقية والطائفية والثقافية، فالوسائل والآليات التقنية وحدها لا يمكن أن ترشد لنا مجتمعات بأكملها؛ لأن المرحلة اليوم مرتبطة أشد الارتباط بالتنشئة، وإعداد الناشئة بالتأهيل والتكوين؛ لاستيعاب متغيرات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية؛ قصد تحقيق الاندماج الاجتماعي، والانفتاح على الآخر في عالم أصبح فيه المواطن الرقمي محكوماً عليه بأن يعيش بهويات متعددة(7).
ولتمتين أواصر العلاقة بين الثابت والمتغير في علاقة الناشئة بتوظيف ثورة الاتصال في خدمة قضايا الحوار الديني والثقافي -تعزيزا لمنظومة القيم- لابد من إدراج مثل هذه القضايا في إطار الوعي بحركية المجتمع ونسق تطوره، وتضافر جهود المجتمع المدني ومكوناته، والمؤسسات التربوية والتعليمية للإحاطة بالتنشئة الأسرية والاجتماعية والتربوية لجيل ثورة التكنولوجيا، والعناية بثقافته ومعارفه في إطار إستراتيجية متكاملة الأبعاد وطويلة الأمد؛ حفاظا على توازن مسألة القيم كمقاربة فاعلة، تهدف إلى ترسيخ مبادئ التعايش والتوافق والتعارف والحوار بين الفرقاء، وتعزز صورة شباب الربيع العربي كفاعل أساس في مشروع التحول الاجتماعي، الذي يفرض في مرحلته الراهنة تنمية مهارات عالية في أدبيات الحوار، وقيم التواصل والتعارف مع الآخر.
ولئن كانت مرحلة ثورة تكنولوجيا التواصل تعد مرحلة حاسمة في الوجدان الفكري للمجتمعات العربية، فإن أهميتها في دعم قضايا الأخوة الإنسانية واحترام الأديان تنبع من إدراك مكانة الثقافة في بناء الخيارات المجتمعية والإيديولوجية التي تشكل خصوصيات الشعوب والبلدان، مما يؤهلها لأن تؤدي دوراً إيجابياً في تكريس قيم التواصل والانفتاح وتأكيد الخصوصية ونبذ الانغلاق.
وفي كل الأحوال، فإن الحوار بين الأديان لا يكون فاعلاً إلا إذا استند أصحاب الملل والأديان إلى فهم دقيق وموضوعي لواقع التنوع الديني بصفته الأرضية الحقيقية لتعدد النماذج الثقافية الحضارية والتقاليد المجتمعية التي تقتضي بداهة الاقتناع بحق الآخر في الهوية الدينية الخاصة، والانتماء المذهبي المعلن، ورفض الأحكام المسبقة، وشجب المواقع المحرضة على الأديان والمسيئة للأنبياء والعلماء باسم التفوق وقداسة الذات مقابل إلغاء الآخر. بل إنه يبنى أساساً على ضرورة الاعتراف بالآخر، وإقامة علاقات تبادل وتعاون وشراكة معه في مختلف مجالات الحياة.
إن الأفكار حينما يتم اختزالها في أنظمة مغلقة وتشكيلات ضيقة فإنها تولد التعصب والاستبداد، وتتحول وسائل التواصل إلى جيتوهات لتسويغ وممارسة العنف بكل أشكاله ومستوياته؛ ولذلك فإن التعصب بين الأديان والمذاهب في التجربة الإعلامية التواصلية لم ينتج إلا حروبا أهلية وعمليات إقصاء ونبذ وتفرقة وتشتت، بل أنتج كل أشكال الحقد والتطرف الذي تتوارثه الأجيال، وهو إرث مثقل بمعاني ومعطيات التدمير المادي والمعنوي.
إن مأزق التوظيف السيئ لوسائل الاتصال في نصرة العقائد والأديان -على حساب السب والشتم لمقدساتها وعدم احترام خصوصيات أتباعها- يكمن في عملية احتكار الفضاء الجماعي التواصلي العالمي بين الأديان والثقافات، وتحويله إلى قلاع تخدم مشاريع الأطراف المتعصبة، وتنمي الأحقاد الدفينة بشبهات تاريخية، واستدلالات نابعة من مفردات العقلية المنغلقة والمتعصبة التي تختزل الحق في ذاتها، ولا ترى الأمور إلا بمنظارها الأسود أو الأبيض؛ فيغلب عليها خطاب التنازع والصراع من أجل الغلبة.
ومن ثم فإذا كانت الحروب تبدأ في عقول البشر من خلال التدويل الإعلامي، فلماذا لا ينبني السلام أيضا في عقولهم من خلال الاستثمار التكنولوجي لأدوات التواصل.
المشهد الديني وحركية التأثير الثقافي في مؤسسات الاتصال التكنولوجية
إن تطور وسائل الإعلام والاتصال وتعدد وسائطها، وسهولة صناعة الصورة ونشرها أدى إلى امتلاك القدرة على التأثير في أبعاد قضايا الحوار الدينية والثقافية واللغوية، وفي البرامج والمناهج التربوية.
ولعل التأمل الجاد في المشهد الديني والثقافي العالمي في الحقبة الراهنة يوصلنا إلى اكتشاف خلل عميق، تعاني منه الحياة السياسية والثقافية عموما، وهذا الخلل العميق ليس من جراء الاختلاف في الأديان والمذاهب والثقافات؛ وإنما هو وليد ضغوطات وسائل الإعلام وتكنولوجيا التواصل الموجهة من قِبَل أتباع الأديان والمذاهب؛ لنشر ثقافة التخويف من الآخر، والمؤامرة ضد عقائده وثقافته وأبنائه، ولعل استغلال وسائل التكنولوجيا -في مد الجماهير المتلقية للرسائل بمعلومات مغلوطة ومحرفة ومزورة- تكرس ثقافة الإقصاء وطمس الحقائق، والإنسان عدو ما يجهل، فإذا اكتفى بأخذ معلوماته من تلك المواقع المحرضة والموجهة من قبل إيديولوجيات متعصبة، فالنتيجة هي اعتماد تلك الأحكام المسبقة كمرجعية واحدة في تنميط صور مشوهة عن الآخر، وبالتالي تُلقي تلك الأحكام المشوهة بظلها على مجمل المشهد الثقافي العالمي.
وقد نأتي بأمثلة داخل الحياة العربية لنجد أن وسائل الاتصال قد أسهمت في رسم صور نمطية عن العرب الأشقاء بعضهم لبعض؛ بحيث كرست نوعا من الخلافات المذهبية الناتجة عن تطرف بعض الجهات في سب وشتم أصحابها، وقد أنتجت لغة الحكم المسبق على شعوب بأكملها؛ فالمصريون والمغاربة والسوريون والأردنيون والجزائريون والخليجيون واللبنانيون كلٌّ رسمت له صورة معينة، وتم تدويلها من خلال تلك الشبكات والمواقع؛ لتصدر في النهاية الأحكام السلبية الجاهزة عن شعوب عربية شقيقة تجمعها عقيدة واحدة، ولغة واحدة، وتاريخ واحد، ومصير مشترك.
وهذا الخلل العميق الذي يعيشه الوضع السياسي والثقافي العربي -ويلقي بظله الثقيل على مجمل الحياة العربية- يتجسد في داء الجهل والعنف والتعصب، وغياب البحث المعرفي والثقافي تجاه قوى المجتمعات الدينية والسياسية والحضارية والمجتمعية المدنية، وإبداعات المثقفين واجتهاداتهم الفكرية، وكأن الهم الأساس هو البحث عن النقائص والسلبيات، نعم إنه الإعلام التواصلي الأصفر الموجه لطمس معالم البناء النهضوي الحضاري للشعوب العربية والإسلامية، والذي لن تتبلور أسسه إلا بالتعاون العلمي والثقافي الفعلي بينها.
ومن ثم عندما نتحدث عن قضية دعم وسائل الاتصال للحوار بين الأديان، فإننا نستحضر دعما لكل قنوات ووسائل الاتصال والتعارف الديني والثقافي والحضاري للمجتمعات؛ وذلك لما يشكله البحث في حوار الأديان من أهمية بالغة في إرساء سبل الحوار بين الثقافات، فالأديان لها مكانة محورية في توجيه الخيارات السلوكية، وفي إخراجها من دائرة التشنج والتوتر والانحراف العقائدي، لذلك ينبغي أن تتحول عن لغة المحاكمة للمخالف لها، لاسيما وأن لنا ربا حاكما وعادلا جل جلاله، أخبرنا بيوم حساب نؤمن به جميعا، وهو يوم الدينونة التي سيحاسِب فيها ربُّ العزة والجلال عبادَه من كل الأديان، ويحاكمهم ويجازيهم بتدبيره وتصريف حكمه -سبحانه وتعالى-.
إن المسؤولية اليوم ملقاة على موجهي وسائل الاتصال أكثر من أي وقت مضى؛ لتؤسس -عبر المصالحة مع الذات وإثراء الفكر الاجتهادي، واحترام حق الاختلاف- لميثاق شرف أخلاقي أخضر، ضد التعصب والتطرف والعنف الذي يمارسه الإعلام الأصفر.
ولكي يكون الحوار بمختلف أبعاده وتجلياته وأساليبه مجدياً، لابد له من ملامسة القضايا والإشكاليات الراهنة، وكسب رهانات المعاصرة والتجديد؛ لتمكين القيم الأخلاقية الدينية من القيام بدورها في بناء الحضارة البشرية، ودعم الإبداع الإنساني.
مخاضات جيل الثورة التكنولوجية والحوار بين الأديان والثقافات
رؤية استشرافية للمستقبل:
إن ثقافة هذا الجيل التي يردد مفردات الثورة السياسية وشعاراتها، ويشارك في المظاهرات أو يصوّت لقوى الثورة في الانتخابات تحت شعار الشعب يريد... تغيير كل شيء هي ثقافة ثورية استطاعت أن تسقط أنظمة وتدعو إلى التغيير والإصلاح السياسي والاقتصادي والمجتمعي، ولكن هل ستتمكن من تأسيس فلسفة قيمية فاعلة لنهضة مجتمعية؛ لأن إنتاج فلسفة النهضة يقتضي الاحتكام لمنطق الثورة الداخلية؛ أي كثقافة تتغيّر بها قيمها التقليدية، وتحرك بها انكسارات العقلية المنهزمة والمتكلة والمقلدة: ثقافة النقد، والإبداع، والتفكير العقلاني، والاجتهاد، والنجاعة العملية. فالمجتمع الذي يعيش ثورة في داخله يستطيع أن يعيد إنتاج القيم الإيجابية في منظومته: مجتمع الانفتاح ضد الانغلاق، مجتمع التعايش ضد الإقصاء والتعصب، مجتمع احترام الآخر/وتحقيق المساواة بين الفرقاء، مجتمع الإنتاج والمبادرة لا مجتمع الكسل والريع، مجتمع التضامن الوطني الشامل، لا مجتمع الانتماءات الطائفية والجهوية والفئوية.
وبالتالي فإن الحديث عن ميلاد هذه الثقافة وهذا المجتمع الجديد سيأخذ وقتاً طويلاً يُحْسَب بالعقود والأجيال، ولن يكون حصيلة فورية لثورة سياسية مهما كانت عظيمة كثورتي تونس ومصر وإرهاصات الثورات الأخرى في اليمن وليبيا وسورية؛ لأن ميلادهما ونموهما الذي سيتحكم مستقبلا في وسائل التكنولوجيا يقتضي ثورة حقيقية في التربية على القيم والتعليم ومناهج التدريس، وفي السياسات الإعلامية والثقافية، واستقرارا في النظم الديمقراطية لنجاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن الانخراط في التغيير الإيجابي للواقع الثقافي يحتاج منا -قبل التركيز على وسائل الاتصال وتطور تكنولوجياتها- العمل على إعادة صياغة وترتيب أفكار الناشئة المتحكمة في هذه التقنيات، بما يمكّنها من فهم وتشخيص هذه التحولات والتكيّف الإيجابي مع معطيات وتحوّلات التطورات المتسارعة. ولعل سبل تجدد السؤال الثقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين:
أولاهما: الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونية، الناتجة عن مسار تَوَحُّد البشرية ومصير أبنائها، من خلال الثورة الاتصالية والاندراج في الاقتصاد العالمي.
وثانيتهما: الولوج في مجتمع المعرفة، والإقرار النظري والمعياري بحق احترام الأديان والثقافات، واكتشاف الأبعاد العقلانية والأخلاقية والإنسانية والجمالية والمعنوية السامية في الدين والتراث(8).
وهذا يقتضي أن يكون التبادل بين المؤمنين بديانات مختلفة -أفراداً أو جماعات- إيجابياً وبنَّاءً وساعياً إلى الفهم والمعرفة المتبادلة، كما يحتم علينا معالجة الذاكرة التاريخيَّة الجماعيَّة العالمية وعلاجها، وهذا يقتضي تصحيح نظرة كل طرف إلى الآخر، وتقويم الصور التي تقلِّل من قيمته، كما تقتضي القبول بأمانة بالجذور التاريخيَّة للخلافات، والمقدرة على الاعتراف عند اللزوم بالأخطاء التي ارتكبها أتباع الأديان في تصفية مخالفيهم. آنذاك يمكن بالفعل تطوير الثقة المتبادلة وتحقيق التئام الجروح النازفة.
ومن ثَمَّ فإن المناهج التربوية والمؤسسات التعليمية ملزمة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاندماج في مجتمعات المعرفة؛ لتطوير مناهجها بما يناسب التطور السريع لثورة تكنولوجيا الاتصال، وذلك من خلال دمج ثقافة القيم في التنشئة التربوية والاجتماعية من خلال بعض المقترحات التالية:
1- تمثل روح العصر والانفتاح على المكاسب الراهنة للعلوم.
2- إشاعة ثقافة التعايش والحوار بين الأديان والثقافات.
3- الاستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة، وتجلية الأبعاد العقلانية والأخلاقية والإنسانية والجمالية والمعنوية المضيئة في الدين والتراث.
4- ترسيخ العقلية النقدية الحوارية، وتجاوز العقلية السكونية المغلقة.
5- الدعوة للتعددية والتسامح، وإرساء قيم الاختلاف واحترام الآخر.
6- تطهير التدين من الكراهية والغلو والتوظيف المذهبي، والتثقيف على قيم احترام الحريات وقيم التسامح والعيش المشترك.
7- تحرير فهم الدين من المقولات والمواقف العدوانية المسيئة للأديان.
8- الانفتاح عن الأثر الإيجابي للفهم العقلاني الإنساني للدين في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
وخلاصة القول: أن شباب ثورة التكنولوجيا اليوم -إذا تم تأطيره وتنمية مهارات معارفه المعرفية والنفسية والسلوكية المجتمعية من خلال التنشئة الأسرية والتربوية والاجتماعية- هو المؤهل مستقبلا لخوض مناظرات الحوار الهادف الفعال؛ لأنه الأكثر إدراكاً بالثقافات الأخرى؛ نظراً لامتلاكه وسائل سرعة الوصول للمعلومة، وهو ما يجعله أكثر طموحاً، وأكثر إبداعاً، وأكثر استعداداً لتأسيس أرضية مشتركة من أجل توسيع مجالات التعاون والتبادل عالميا، وإيجاد واقع جديد، واقع يتقبل الآخر على اختلاف لغته وثقافته ودينه وجنسه، وهو ما يدعو إلى ضرورة إرساء حوار دائم بين الجيل الرقمي العالمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الكتاب: التاريخ الاجتماعي للوسائط، المؤلفان: آسا بريغز- بيتر بروك. ترجمة: مصطفى محمد قاسم، الناشر: عالم المعرفة- الكويت 2005، عرض: م. حواس سلمان محمود.
2- Kian، S (2001), "Web Based Learning Environments: Observations From a Web Based Course in a Malaysian Context، Australian Journal of Educational Technology، Vol. 17، No. 3، p223- 243.
3- عبد الله عمر خليل (1999)." شبكات المعلومات في التعليم العالي (التدريس والبحث)، في تكنولوجيا التعليم - دراسات عربية، مصطفى عبد السميع محمد، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ص85- 121.
4- عبد الله عبد الرحمن الكندرى (2000)، "الأسس العلمية لتصميم وحدة تعليمية عبر الإنترنت"، المجلة التربوية، جامعة الكويت، مج 15، ع57، ص167-197.
5- أحمد حسن خميس (2003)، كل شيء عن استخدام الإنترنت، القاهرة، مكتبة خوارزم للنشر والتوزيع.
6- ربحي مصطفى ومحمد عبد الديس، وسائل الاتصال وتكنولوجيا التعليم، دار الصفاء، 1995، ص56.
7- عبد الله النجار (2001)، "واقع استخدام الإنترنت في البحث العلمى لدى أعضاء هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل"، مجلة مركز البحوث التربوية - بجامعة قطر، ع19، ص135-160.
8- سعيدة الرحموني (2009) الشباب وحوار الثقافات والأديان قضايا الشباب في العالم الإسلامي: رهانات الحاضر وتحدّيات المستقبل، وقائع المؤتمر الدولي الذي عقدته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو).