لغة القرآن وبديع نظمه
د.طه الراضي
يقول الشيخ العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في معرض حديثه رحمه الله تعالى عن لغة القرآن الكريم وبديع نظمه ومحكم تصريفه وتفصيله، ورفعة شأنه عن أشعار العرب وخطبها، فيحدثنا إذ يقول:
«لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر، فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني، وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ، وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي الملح والمديح. ولهم من غير الشعر الخطب، والأمثال، والمحاورات: فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء، وإنما يبقى في السامعين التأثر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي. وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها، وأما المحاورات فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الأهمية بحيث تنقل وتسير، ومنها محاورات نواد وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتديات... وتلك مثل مجامعهم عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض، إذ لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات مسجوعة مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد. فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد صالح لكل العقول، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها معط لكل فن ما يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة، فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال (أي الكلم الجوامع) والقصص والتوصيف والرواية.
وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير في القبائل، مع كون مادته ولحمته هي الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه». انتهى.
كتاب "التحرير والتنوير" للعلامة محمد الطاهر بن عاشور (1393هـ)، الدار سحنون للنشر والتوزيع- تونس، 1984 هـ (118-119/1).