الدين في الفلسفة الحديثة

عبد الله السيد ولد أباه

من الأوهام السائدة في الفكر العربي الراهن أن الحداثة الغربية ألغت الدين، وكرست الإلحاد، وتنكرت للمقدّس، إما باسم العلم أو اسم الإيدولوجيا أو العقل.وكان المفكر المصري الراحل "عبد الوهاب المسيري" هو الذي جذر هذه الرؤية في سياق قراءته لعصور الحداثة الغربية من منظور تصوره للعلمانية الشاملة(1).

ماذا لو كانت هذه الصورة مغلوطة، نحتاج للتصحيح والتدقيق.فإذا كان من الصحيح أن المؤسسة الدينية التقليدية قد تراجعت بل انهارت في أغلب البلدان الغربية، كما أن الدين لم يعد يحتكر منابع القيم، فإن الدين -في أبعاده الوجودية والتأويلية وبنيته المعيارية العميقة- لا يزال مكين الحضور، قوي التأثير في الأرضية الفكرية الغربية.



وبالرجوع إلى التصورات الفلسفية الرئيسة للدين في عصور الحداثة الغربية، نقف عند ثلاث عبارات نرى أنها تلخص النظرة الفلسفية الغربية للدين، على تباين واختلاف في سياقات ومرجعيات الاستشهادات المذكورة، أولاها للفيلسوف الفرنسي "رنيه ديكارت"، والثانية للفيلسوف الألماني "فردريك نتشه"، والثالثة للفيلسوف الألماني "مارتن هايدغر".

أولا: الكوجيتو والإله: 

العبارة الأولى هي مقولة "ديكارت"في الجزء الرابع من كتابه المشهور "حديث الطريقة"، حيث يقول بصراحة ووضوح: "إن الأشياء التي نتصورها بكثير من الوضوح والتميز كلها صحيحة لا تستقيم إلا لأن الإله كائن أو موجود، ولأنه كامل، ولأن كل ما فينا آت منه.وينتج عن ذلك أن فكرنا أو مدلولاتنا ما دامت أشياء واقعية وما دامت آتية من الإله في كل ما لها من وضوح وتميز، فلا يمكن أن تكون إلا صحيحة"(2).

ومصدر الغرابة والأهمية في هذه الجملة هو أن المنهج الديكارتي المستمد من الرياضيات هو الذي أسس النظرة التجريبية للطبيعة، وقوض الميتافيزيقا المدرسية الوسيطة، وحول الفلسفة إلى "علم السيطرة على الطبيعة".ولقد أدرك "ديكارت" أن مقاربة التمثل التي يقوم عليها منهجه الفلسفي (ثنائية الذات العارفة والظاهرة المستحضرة في الوعي) تتطلب ضمانة إلهية لمعيار اليقين الذي تدعيه، باعتبار الشرخ العميق القائم بين الفكر والطبيعة.

يطرح النص إشكالا محوريا حول منزلة الكوجيتو والإله في نظام الأفكار، وقد عرف هذا الإشكال بالدور الديكارتي؛ أي المفارقة المنطقية المتمثلة في ربط كل معرفة حقيقية بالاستناد ضرورة إلى وجود الإله، في الوقت الذي يؤكد الكوجيتو حقيقة يقينية قبل البرهنة على وجود الإله.

وليس من همنا بسط القول في هذا الإشكال الذي شغل المختصين؛ وإنما حسبنا الإشارة إلى هذا التأرجح بين الإله والكوجيتو مع تبين أثره على فلسفة الإلوهية لدى ديكارت.

ولا بد من التأكيد هنا على أن ديكارت يخرج عن مقاييس اللاهوت المدرسي في براهينه التقليدية على وجود الله، بحيث يصبح المسلك إلى التدليل على وجود الإله يمر عبر أفكار الذات، مما يتجلى في براهينه الثلاثة المعروفة: 

- التدليل على الإله بآثاره: الكائن الحي الذي يحمل في نفسه فكرة اللاتناهي l'infini لا يمكن أن يكون سبب اللاتناهي، مما يعني قلب الميتافيزيقا التقليدية بإعطاء الأولوية الإنطولوجية للمتناهي وإزاحة الكوجيتو من موقعه المركزي في نسق الأفكار.

- لا يمكن أن يكون الإنسان سبب وجوده الذاتي؛ لأنه يحمل فكرة اللاتناهي، مما يعني أنه لو كان علة لوجوده لكان حاملا لكل الكمالات المترتبة على هذه الفكرة.ومن ثم فإن الإله هو الذي وضع فكرة اللاتناهي في الذات، مما استنتج منه ديكارت مبدأ الضمان الإلهي لحقائق الفكر الواضحة والمتميزة.

- الإله هو الفكرة الوحيدة التي تتطابق ماهيتها ووجودها.فالإله يوجد لأنه الكائن الذي لا يمكن تصور شيء أكثر كمالا منه، وهذا الكائن التي تلك مواصفاته لا بد أن يوجد. ولقد عُرف هذا -الدليل الذي ورد في التأمل الخامس من تأملات ديكارت- بالدليل الانطولوجي.

تصدر كل هذه الأدلة حول فكرة اللامتناهي والكمال الإلهي في علاقاتها المزدوجة بالوعي والإله، ذلك أن فكرة اللاتناهي هي -من جهةٍ- من أفكار الكوجيتو مثل باقي أفكاره، إلا أنها من جهة أخرى تنتمي لنظام الوجود؛ لأنها مظهر حضور اللامتناهي في الفكر أي الإله.

فالكوجيتو من حيث هو النقطة الأرخميدية في نسق الفكر يحتوي كل الأفكار، وسابقٌ عليها، بما فيها فكرة الإله والطبيعة، إلا أن وجود الإله سابق على الفكر من حيث العلة ومبدأ الخلق(4).

ذهب كبار شارحي ديكارت مذاهب شتى في تصور هذا التذبذب بين الكوجيتو والإله؛ فقد رأى بعضهم أن ديكارت يحافظ على هذا الاستقطاب الإشكالي دون حل عبر خطين متوازيين، ينطلق أحدهما من الشك إلى الذات الكاملة، وينطلق الآخر من الذات المتناهية إلى الإله الكامل غير المتناهي (مارسيل غيرو)، وذهب البعض الآخر إلى استمرارية وترابط المسلكين باعتبار أن الدليل على الوجود الإلهي هو طريق اكتمال الذات (غوهييه)، وذهب آخرون إلى القول: إن الكوجيتو ليس شيئا آخر سوى فكرة الإله (الكييه).

ويبقى الإشكال مطروحا حول مرجعية التأسيس اللاهوتي لدى ديكارت ما بين ميتافيزيقا الوجود وميتافيزيقا الوعي. فإذا كانت البراهين التي يستخدمها ديكارت على وجود الله تستخدم -نوعا ما- لغة لاهوتية كلاسيكية تندرج في "المشروع الأنطو-تيولوجي" onto-theologique بالانطلاق من وعي قصدي يتأمل في الكائن الإلهي ويبحث في أوصافه من خلال الاستدلال العقلي؛ فإن فكرة اللاتناهي تفتح آفاقا مغايرة لفلسفة إلهية تقوم على المغايرة والاختلاف؛ أي إخراج الوعي من دائرته المغلقة (مفارقة سمو واتساع فكرة اللاتناهي على الذات التي تحملها فكرة من أفكارها). نلمس هذا الاتجاه في بعض القراءات الجديدة للفلسفة الإلهية الديكارتية(6).

فلا يمكن القول إذن: إن الديكارتية كانت نزعة فلسفية إلحادية، ولا حتى في نسختها الأكثر راديكالية التي هي السبينوزية؛ فسبينوزا الذي بلور أول منهج نقدي تأويلي للنصوص الدينية -والذي نبذته المؤسسة الدينية اليهودية- أراد أن يعيد بناء النسق اللاهوتي على أساس المنهج الهندسي الرياضي الدقيق بتنقية فكرة الإلوهية من شوائب النزعات التشبهية بالإنسان؛ حيث يتحول الرب إلى إنسان أعلى حاملا لصفات بشرية متعالية، مما يكرس الوهم واستغلال الدين لأغراض نفعية تخدم الاستبداد والخضوع الأعمى.

فعلى عكس القراءات القديمة لسبينوزا والقراءات الحديثة التي اعتبرته يخفي إلحاده اتقاء لبطش المؤسسة الدينية(6)؛ اجتهد سبينوزا في بناء نسقه الفلسفي على مركزية الإله مبرهنا على وجوده وقوته وكماله، بصفته كائنا لامتناهيا، يتماهى مع الطبيعة، وهو جوهر له صفات لا محدودة، تعبر كل صفة منها عن ماهية أزلية لا متناهية(7). وإذا كان سبينوزا قد اصطدم بالمؤسسة الدينية التي اتهمته بالإلحاد في تصوره الطبيعي للإله، وإنكاره القدَر والمعجزات، وقوله بالضرورة الكونية في نظام الكون؛ فإن ما يخرج عنه سبينوزا هو التصور اليهودي - المسيحي للإلوهية كما قننته التقاليد اللاهوتية المدرسية.يرفض سبينوزا فكرة الإله المفارق للطبيعة؛ لأنها تؤدي إلى المس من تناهيه المطلق، كما يرفض فكرة القدَر؛ لأنها تقود إلى تقويض نظام الطبيعة الذي هو مظهر لاتناهيه المطلق. ينطلق إذن سبينوزا من مبدأ الكمال الإلهي الذي يقتضي تصور الإله على شكل المخلوق الفاعل المتمتع بإرادة حرة تحركها الغايات البشرية. إلا أنه لا يتبنى المقاربات المادية الإلحادية التي لا تستقيم مع قوله بالإله اللامتناهي، فالطبيعة بالنسبية له جوهر أزلي مطلق حتى ولو كانت علة محايثة لا مفارقة..

فما يميز التصور الديكارتي للإلهي عن التصور السبينوزي هو أن ديكارت يقول بالعلة المتعدية التتابعية في نظام الوجود: يتحقق الإله بنفسه، ثم يخلق العالم، وليست ثمة علاقة تجانس بين نمطي العلة في المستوين باعتبار أن إحداهما محايثة ذاتية والأخرى مفارقة، في حين أن سبينوزا يوحد بين المسارين؛ بحيث يكون الكون هو التحقق الإلهي مما يفضي إلى القول بالعلة المحايثة(8). 

ومع أن سبينوزا انتقد بشدة التصورات الإنتربومورفية (التشبيهية) في النص الديني؛ فإنه قد انتبه إلى الحاجة الاجتماعية للطاعة(الطابع الإجرائي العملي للاعتقاد)، معتبرا أن العقد الاجتماعي لا يمكن أن يكون فاعلا دون تحويله إلى عقد مقدس، بحيث يمتثل الناس طواعية للدولة المطلقة موقنين بأنهم يمتثلون لإلههم(9).إنه التصور نفسه الحاضر لدى هوبز وكانط وروسو وهيغل..الذين اتفقوا على ضرورة تدعيم عرضية وإجرائية العقد المدني بالحصانة الدينية، عبر توظيف معقد وواسع للقاموس اللاهوتي الذي نفذ إلى أعماق الفكر السياسي الحديث، إلى حد أن الفيلسوف والقانوني الألماني "كارل شميت" ذهب إلى القول: إن كل المقولات السياسية الحديثة (السيادة، التمثيل...) هي مصطلحات لاهوتية تمت علمنتها(10). 

ثانيا: نتشه: "موت الإله" 

اشتهرت على نطاق واسع مقولة "نيتشه " حول "موت الإله" التي وردت في كتابيه "العلم المرح" و"هكذا تكلم زرادشت". 

وردت الصيغة الأولى في خطاب "المعتوه" في قوله: "لقد مات الإله وسيبقى ميتا، نحن الذين قتلناه، كيف نعتبر أنفسنا نحن الذين قتلناه؟ نحن القتلة من بين القتلة.ما كان العالم يمتلكه حتى الآن من الأسمى والأقوى أفرغته سكاكيننا من دمه "(11). 

وردت المقولة أيضا في حديث "زرادشت" لنفسه ردا على العجوز المنقطع للعبادة في الغابة: "هل هذا الشيء ممكن؟ ألم يسمع بعد هذا العجوز في غابته أن الإله مات؟"(12). 



ولقد كتب الكثير حول هذه العبارة التي عُدتْ دليلا على تطرف "نيتشه" الإلحادي، رغم أنه استخدم العبارة في صيغة إخبارية، مسجلا أن العدمية الأوروبية هي التي اغتالت الروح الدينية؛ بحيث أصبح الناس كلهم - والمتدينون - ملحدين.بيد أن القراءة المتمعنة لعبارة نيتشه في سياقها الدلالي تبين أن ما نعاه نيتشه هو التصور الميتافيزيقي اللاهوتي المسيحي للرب، الذي هو تصور يحوله إلى إنسان أعلى يحمل صفات بشرية، ينعتها نيتشه بأخلاق الشفقة والخمول والاستكانة. 

إن نتشه هو أهم فيلسوف أدرك أهمية الاعتقاد كمكون نفسي ثابت لا غنى عنه في الثقافة البشرية، يتجاوز البعد الديني المؤسسي ويستجيب لإرادة الحقيقة التي هي إرادة إيمانية في جوهرها.وإذا كان نتشه ينتقد بقوة المبدأ المؤسس لكل التقليد الميتافيزيقي منذ أفلاطون إلى كانط الذي هو مبدأ تناسب الوجود والعقل (سواء أكان هذا التناسب تماهيا أو تمثلا)، فإنه يعدّ هذه المصادرة -التي يطلق عليها عبارة "الوهم"- حاجة حيوية تنغرس في الغريزة الإنسانية، باعتبار المعارف -حتى أكثرها عقلانية- تقويمات حيوية(13). 

فلئن كان نتشه ينتقد بشدة التأويل "التيولوجي/ الغائي" للعالم وللوجود البشري كما قننه التقليد الأفلاطوني/ المسيحي المشترك، (تصور الطبيعة والوجود بحسب غائيات ومثل الإنسان)، فانه ينظر إليه في موجهاته الموضوعية باعتباره مظهرا لعجز الإرادة البشرية عن مواجهة العالم في توحشه واختلافه وتشتته، مما يقتضي مواجهته بحقائق وقيم ثابتة تمنح الإنسان الطمأنينة والاستقرار. 

ذلك هو المعنى الأول للعدمية باعتبارها تنكرا للواقع واستبدالا له بالوجود العقلي. فمن دون الاعتقاد والإيمان لا يمكن للإنسان أن يتحمل قساوة العيش في هذا العالم الذي يحتاج لضوابط وثوابت، ومن ثم فإن الدين بصفته اعتقادا غير قابل للتجاوز، وهو حاضر حتى في الفلسفات الإلحادية والتصورات الوضعية التي تدعي القطيعة معه. 



فالإنسان بالنسبة لنتشه "صانع آلهة"، ففي" العالم من الأصنام أكثر مما فيه من الوقائع"، ولن ينتفي هذا الوضع الإنساني مع انهيار الديانات التقليدية، بل سيتخذ مسارب أخرى، كما هو شأن أصنام العصر الحاضر مثل العلم والاشتراكية والإلحاد... 

وإذا كان نقد المسيحية يشكل محور فلسفة نتشه؛ فإن ما ينتقده في ديانته السابقة ليس البعد الإيماني ولا حتى معتقدها الإلهي بل تصورها "الانتربمورفي"(التشبهي) الموغل في الإنسانية الذي يصدر عن إرادة حياة مريضة قائمة على العداوة والمرض ورد الفعل. 

تعاني المسيحية -حسب نتشه- تناقضها بين أخلاقيتها ومعتقدها؛ ذلك أن هذه الديانة -التي اكتشفت مبدأ الذاتية وحولت التأمل وفحص الوعي ومراقبته إلى مثل أعلى- كان لا بد أن تنتهي إلى تقويض وهدم معتقداتها من منظور فكرة الوعي الذاتي(14). 

اعتمدت المسيحية تصورا أخلاقيا إنسانيا للإله وبالغت في تقديس الإنسان الذي هو صورة الإله، مما أفضى إلى الانسحاب التدريجي للإلهي، فالمسيحية نفسها هي التي" أعدمت" إلهها، ولم يتجاوز "المعتوه" و"زرادشت" سوى إعلان هذا الحدث الذي تحقق من قبل(15). 

وليس من الصحيح أن نتشه يحتفي بهذا الحدث، فنهاية العدمية الأولى تلتها عدمية حديثة انكشف فيها زيف الأصنام القديمة، مما أفضى إلى شعور عام بالعبثية والعدم وانسداد الآفاق وضياع الآمال. 

وإذا كان نتشه يبشر بنمط من "العدمية المكتملة" هي التي يعد بها "الإنسان الأعلى" في منظوره "للعودة الأبدية"، التي هي -بمعنىً ما- نمط من الاعتقاد الإيجابي والإيمان بقيم الحياة، فإن بعض نصوصه التي يتحدث فيها عن الإله "الراقص أو المغني أو الخفيف" تسمح بتصور نمط جديد من تجديد الوعي الديني خارج القوالب اللاهوتية الميتافيزيقية الكلاسيكية. 

ولقد رأى بعض الفلاسفة المعاصرين أن مقولة نيتشه قد فتحت آفاقا جديدة للتجربة الدينية بحملها على التخلص من المقاربات الميتافيزيقية التي قننت تصوراتها اللاهوتية منذ العصور الوسطى.فالذي انهار ليس الدين نفسه، وإنما الميتافيزيقا التي كانت ديانة مزيفة تتقنع باللبوس الديني. 

تشكل فلسفة "إمانويل لفيناس" دون شك منعطفا رئيسا في هذا التحول من الإشكالية الميتافيزيقية في مقاربة المسألة الدينية إلى مقاربة إتيقية لا تقف عند سؤال الوجود؛ بل تستكشف أفق الأخرية والغيرية والاختلاف الذي هو أفق "التعالي". 

في هذا السياق يندرج تصور لفيناس للإلوهية، بإطلاق لفظ التعالي على الإله.إلا أن الإله بالنسبة له ليس الكائن الكامل والقوي، علة نفسه وعلة الوجود على الطريقة الفلسفية أو اللاهوتية الكلاسيكية. لا يمكن تصور الإله على شكل الحضور ولا بحسب مقاييس الإدراك العقلي؛ وإنما ميزته الأساسية هي "السمو"؛ أي المفارقة المطلقة "إلى حد الغياب". إن الإله حسب عبارة لفيناس "آخر مغاير للآخر، ومغاير بطريقة مغايرة، مختلفة بمغايرة سابقة على مغايرة الآخر"(16). لا يمكن تصور الإله في غيبه المطلق في شكل تجسدي، ولا يمكن ضبطه بمنطق اللوغوس الفلسفي، وهو بهذا المنبع الثر للدلالة والمعنى. ليس الإله جوهرا ولا مفهوما، ولا يتجلى في أي تجربة ميتافيزيقية أو لاهوتية بل في العلاقة الإتيقية بوجه الآخر.

الإتيقا -بحسب اصطلاحات لفيناس- ليست أخلاق الواجب والضمير التي تصدر عن الوعي، بل هي -على عكس ذلك- خروج من "أنانية الذات" ومن شفافية وتلقائية الأنا، انسجاما مع المسؤولية غير المحدودة وغير المشروطة إزاء الآخر. فالإتيقا إذن هي النسق الدلالي لمقاربة الإلوهية (17). 

تندرج فلسفة الدين لدى "بول ريكور" في الاتجاه نفسه؛ أي مقاربة المسألة الإلهية خارج مقاييس الميتافيزيقا، وما تقوم عليه من مرتكزات وعي وحضور.تتميز تأويلية ريكور بأنها ليست تأويلية نقدية على طريقة "دلتاي"و"تشلرماخير"، ولا تأويلية أنطولوجية على طريقة "غدامر"، ولا تأويلية "إتيقية" على طريقة لفيناس، بل هي تأويلية "إنشائية" أو "شعرية" تتم من داخل النص المفتوح الذي يفسح المجال أمام عالم نستكشفه ونعيد بناءه بالقراءة. 

فكل تأويلية بالنسبة لريكور هي فهم للذات من خلال الآخر الذي يظل محددا ملازما لكل تشكلات الذات في إبعادها الخطابية والفاعلة والسردية والأخلاقية.ومن هنا يتبنى تقليد "الكوجيتو المتهدم" الذي بلغ أَوْجَه في فلسفة نتشه، منهيا إلى فصل الذات عن الوعي وفق مقولته الشهيرة "الذات عينها بصفتها آخر"(18). 

وفق هذا التصور ينبذ ريكور مشروع المقاربة الظاهراتية للدين بصفتها تحليلا قصديا، معتبرا أن التجربة الدينية هي -في جوهرها- تجربة لغوية رمزية، تتم من خلال الأساليب السردية والاستعارية التي تتصل بمقومات الهوية ومسالك والفعل والقيم، وليس بالمنظور الميتافيزيقي(19). 

يذهب ريكور في تصوره للمسألة الإلهية إلى ضرورة إخراج المقولات الإيمانية "الأصلية" -وفي مقدمتها لفظ الإله- من الصيغ التيولوجية والميتافيزيقية بما فيها الصيغ النقدية التي وضعتها فلسفات الوعي مثل النقدية الكانطية.الرسالة المنزلة بهذا المعنى لا تدخل في القضايا المنطقية أو الملفوظات العقلية التأسيسية؛ بل هي "إنصات" يقتضي التجرد من الذات الإنسانية في إرادتها التحكمية ونزوعها الانكفائي الأناني. يتعلق الأمر هنا بصيغ لفظية غير تأملية سابقة على النظر الفلسفي. 

يتحدث هنا ريكور عن صيغ إيمانية أصيلة شديدة التنوع تأخذ شكل أنماط متعددة من الخطاب مثل الأنواع السردية والنبوءات والتشريعات والأمثلة والابتهالات...تعبر عن الإله بطرق متباينة مختلفة وإن كانت عاجزة عن التعبير الكامل عنه والإحاطة به، مما يفرضها على الجمع بين صيغتي النفي والتشبيه تقربا للحقائق الإلهية وتوسلا لها بلغة لا يمكن أن تعتمد الأساليب الاستدلالية البرهانية. 

وتندرج محاولة الفيلسوف الإيطالي "جياني فاتيمو" إعادة تأويل التجربة الدينية (المسيحية) باستثمار الإمكانات الخصبة التي يدشنها المرور من "الإنطولوجيا القوية"(أي النظرة النسقية الميتافيزيقية للوجود) إلى "الإنطولوجيا الضعيفة" التي تقوض مصادرة تناسب العقل والوجود التي قامت عليها الميتافيزيقا الغربية منذ أفلاطون إلى هيغل. 

ينطلق فاتيمو من "أزمة النزعة الإنسانية" التي عبرت عنها مقولة نتشه المذكورة (موت الإله)؛ من حيث كونها تعبر أجلى تعبير عن أزمة التأسيس المتعالي في عصر التقانة (21). 

انهارت إذن كل ميتافيزيقيات الوجود وكل المنظومات اللاهوتية، ولم يعد من المجدي محاولة إحيائها؛ بيد أن ما انهار بالنسبة لفاتيمو ليس الدين المسيحي الذي اعتبر أنه يتلاءم مع مفهوم ضعف الوجود ومع العلمنة التي ليست "انفصالا عن الرحم الديني"، بل هي مسارات تأويلية وتنزيلية رحبة تضمن تحرير التجربة الإيمانية من قوالب الميتافيزيقا(22). 

ليس إذن "موت الاله" الذي تحدث عنه نتشه نهاية للدين؛ بل هو تعبير عن تحلل الميتافيزيقا بامتداداتها اللاهوتية، ولقد أصبح من اللزام على الدين في المرحلة الراهنة استيعاب "الإنطولوجيا الضعيفة" كسياق دلالي جديد "للرسالة المسيحية"(23). 



يحتفي الفيلسوف المسيحي الفرنسي "جان ليك ماريون" بعبارة نتشه من منظوره الفينمونولوجي الذي يطلق عليه "فينمونولوجيا المنح" بصفتها تجديدا لمشروع هوسرل وتطويرا لمقولته المركزية "الاختزال"، ومن ثم الوصول إلى الأشياء فيما وراء الظواهر التي هي صياغات عقلية وحصيلة لتصفية مقولات الفهم، ومن ثم يكون المنح نمط ظهور الأشياء سواء أخذت شكل ظواهر خاضعة للفهم العقلي أو أحداثا لا يمكن للعقل التعليلي الذاتي الوصول إليها(24).

من هذا المنظور بلور ماريون فلسفته حول الإلوهية في كتابه المشهور "حول الإله دون الوجود"الذي يقدم أسس تصور تيولوجي خارج المقاييس الميتافيزيقية التقليدية.لا فرق عند ماريون بيين "الإلحاد الدوغمائي" و"التصورات الإيمانية العقلية". فالإلحاد هو في جوهره تنزيه للإله عن إحدى المقاربات القائمة للإلوهية، وبذا فهو إنكار مؤقت ومحدود، في حين أن التصورات العقلية للإلوهية تقوم على مصادرات قبلية للعقل البشري حول الإلوهية، مما يتعارض مع مبدأ كمال ولاتناهي الإله، إنها في نهاية المطاف تاليه العقل البشري لمبادئه الذاتية. 

الإله سابق على الوجود ولا يمكن ان نتصوره وفق المعايير الإنطولوجية، كما أنه ليس ظاهرة تخضع للتأمل العقلي، ولذا "لا يمكن أن نفكر فيه إلا انطلاقا من نفسه وحده"(25). 

وهكذا ينقل ماريون المسألة الإلهية من ميتافيزيقا الوجود والعقلانية التعليلية والذاتية إلى مستوى فينمونولوجيا المنح؛ أي منظور الحدث الذي يسبق مقولات العقل ويتجاوزها. 

ومن هنا نتبين كيف أحدثت فلسفة نتشه زلزالا كبيرا في فلسفة الدين، بحيث لا يمكن الوقوف عند جانبها الإلحادي الظاهر الذي عادة ما تختزل فيه. 

ثالثا: هايدغر.. في "انتظار الإله"

في سنة 1966 أجرى الفيلسوف الألماني "مارتن هايدغر" مقابلة يتيمة مع صحيفة "درشبيغل" اشترط ألاّ تنشر إلا بعد وفاته التي حدثت بعد عشر سنوات من المقابلة المثيرة (سنة 1976).وقد أطلق "هايدغر" في حديثة للصحيفة الألمانية عبارة غامضة، أثارت - ولا تزال تثير - جدلا واسعا، هي قولته: 

"لا يمكن للفلسفة أن تحدث تغييرا فوريا لوضع العالم الراهن. لا يصدق الأمر على الفلسفة وحدها؛ وإنما على كل نزوع وكل قصد بشريين.لم يعد من الممكن أن يخلصنا إلا إله. السانحة الوحيدة التي بقيت لنا في الفكر وفي الشعر هي التأهب في مصيبتنا لظهور هذا الإله أو غيابه "(26).

لا يستقيم فهم هذه العبارة إلا بتذكر معطيات أربعة رئيسة في فكر هايدغر: 

- أن هايدغر كغيره من كبار فلاسفة الغرب المحدثين دخل إلى المشاغل الفلسفية من البوابة اللاهوتية.تعلم هايدغر الفلسفة في الملتقيات الكنسية، وكانت أعماله الأولى حول "القديس أوغسطين"، وتأثر بقوة ببعض كبار رجال اللاهوت المسيحيين وفي مقدمتهم "المعلم إيكارت"(من القرن الرابع عشر) الذي كان له تصور صوفي للإلوهية يقوم على التفريق بين الإله والإلوهية التي لا سبيل للتعبير عنها ولا تحديد موقع لها (27).ويقر هايدغر نفسه بهذا الدين للاهوت بقوله: "بدون هذا المنبع اللاهوتي، لم بكن بإمكاني أبدا أن أصل إلى طريق الفكر.الصدور هو دوما مستقبل قادم"(28).وعلى الرغم من تنصل هايدغر من اللاهوت المسيحي؛ فإن علاقته بالمسيحية اعتقادا ودينا ظلت ملتبسة (29)، إلى حد أن بعض تلامذته وشراحه ككارل لويث اعتبروه مجرد "لاهوتي متخف".

2- يرى هايدغر أن الفلسفة الحديثة كلها (من ديكارت وكانط إلى نيتشه) تتحرك داخل الأفق الميتافيزيقي للعقيدة المسيحية.وهذا الأفق هو أفق "الذاتية" بتصورها للعقل كتمثل وفهم وللحقيقة كمطابقة (بين الفكرة والموضوع).ومع ذلك فإن الفلسفة لا يمكن أن تكون مسيحية؛ لأن سؤالها هو سؤال الوجود أو الكينونة وليس "الموجود الأسمى"(الإله المتجسد في شخص المسيح؛ أي الإنسان الأعلى حسب المقاييس اللاهوتية المسيحية).إن اللاهوت بالنسبة له مجرد "علم وضعي" لا يتعلق بالإلهي؛ وإنما بنمط الوجود المسيحي، كما يتشكل في أنماط وعي وتأويل ومنظومات عقدية. اللاهوت هو إذن "علم الإيمان" بما هو تأمل ذاتي في نمط الوجود العقدي، وهو بذا علم تاريخي/ عملي (30). ألم يقل هايدغر حسبما نقل عنه تلميذه "جان بوفريه": إن كلام الإنجيل أقرب للكلام اليوناني من أقوال فلاسفة العصور الوسطى، الذين حاولوا تأويل النص المقدس بأدوات الفلسفة اليونانية؟(31).

يرفض إذن هايدغر الخلط بين خطاب الفلسفة وخطاب اللاهوت، وفي حين يقر بجذوره اللاهوتية وبالحنين إليها ويقول: "إن الإيمان لا يحتاج لفكر الوجود، وعندما يلتبس به لا يعود إيمانا بالمعنى الحقيقي للعبارة." إلا أنه يعترف أن تجربة الحضور الإلهي في الوجود الإنساني تنكشف في بعد الكينونة بمفهومها الفلسفي الأصيل(32).

-إذا كان هايدغر يميز بوضوح بين المبحثين الفلسفي واللاهوتي؛ فإنه يرى أن "الإلهي" موضوع فلسفي لصيق بسؤال الوجود في عصر التقنية الذي هو عصر الخواء والعدم وهيمنة العقل التعليلي الحسابي الساعي للسيطرة والتدمير.فالإلهي يدخل في أفق المقدس الذي يرتاده الشعراء والفلاسفة، بما هو أفق انتظار ومعاناة واستذكار (للوجود المنسحب المختفي).

برز هذا الحضور للإلهي في تفكير هايدغر منذ الثلاثينات في سياق اهتمام قوي غير مسبوق بنتشه الذي اعتبره آخر فلاسفة ألمانيا الذين بحثوا بشغف عن الإله، ورفض التأويل الإلحادي لفلسفته التي اعتبرها فلسفة ميتافيزيقية قوية من حيث نزوعه الأقصى في القطيعة مع التصورات اللاهوتية المعيقة لاستكشاف الإمكانات الحقيقية "للالتقاء بالآلهة"(33).

ويبين هايدغر في محاضرة حول مقولة نتشه "موت الإله"(1943) أن الدلالة الميتافيزيقية لموت الإله هي موت العالم ما فوق الحسي؛ أي عالم الغايات والمقاييس، وليس نهاية الإيمان المسيحي.لا يرجع هذا الحدث للعجز العقلي عن إثبات وجود الإله، وإنما نتيجة لتحويل الإله إلى كائن الكائنات لدى المؤمنين أنفسهم من لاهوتيين وفلاسفة الذين لم يدركوا "أن العقل هو التناقض الأكثر حدة مع الفكر"(34).

في مقابل "موت الإله" لدى نتشه يتحدث هايدغر عن الإله المنتظر أو "الإله الأخير" في نصوصه الأخيرة في حوار مستمر مع شعر "هولدرلين"، يتمحور حول مفهوم "المقدس" الذي هو المكان الذي "تحضر فيه الآلهة". لا يمكن الحديث هنا عن الإله بالمعنى اللاهوتي(الانطو تيولوجي)، فهو ليس كائنا ولا فردا؛ وإنما هو الأفق الذي يسمح بالخروج من التصورات التيولوجية والإنسانية التي غيبت سؤال الوجود، والشاعر وحده هو الذي يسمي المقدس (محنة الخواء) من حيث هو مجال انتظار الإلهي(35).

يرى الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" أن هايدغر إن كان يحرص أشد الحرص على التحرر من اللاهوت المسيحي فإنه ظل سجين أفق "الإيمان" بمفهومه الديني الأعمق، ففكره يصدر عن مفهوم الوحي والتنزيل والبحث المهووس عن المقدس والطهر والأصالة(36) وقد قيل الكثير عن النزعة الوثنية في فكر هايدغر (تقديس الأرض كموطن وجذر انتماء روحي) المتنكرة للتراث العبراني، مما وجد فيه بعضهم خلفية خفية لاتجاهه العدائي المزعوم للسامية.إلا أنه مما لا شك فيه أن فلسفة هايدغر قد جددت الفكر الديني في الغرب، فلسفيا ولاهوتيا، في منحى تحرير التجربة الدينية من المقاييس الميتافيزيقية التي صاغت منذ العصور الوسطى نمط المعرفة الدينية.فهذه المقاييس ليست من صلب الدين؛ بل من الأصح القول: إنها أفسدته وحولته إلى مجرد علم وضعي محدود قائم على تمثلات عقلية مستمدة من المقولات الفلسفية اليونانية المنتزعة من سياقها المرجعي.

وإذا كان دريدا كما ذكرنا يرى فلسفة "الإله الأخير" داخلة في المنظور الإيماني؛ فإنه في الحقيقة يعدّ الإلهي حاضرا في الفعل اللغوي، وفي منابع الدلالة والمعنى.

فالدين -كما يرى دريدا- ينبع من مصدرين أساسين هما: " تركة الثقة " التي هي خلفية كل إيمان واعتقاد، و"طلب النقاء" الذي هو خلفية كل مقدس ومعظم(37). ولذا فإن اللغة والقانون يتأسسان ضرورة على الدين الذي هو مستودع الثقة في المعنى.وهكذا فإن الدين يبدأ مع تجربة اللغة نفسها، فكل تعبير موجه للآخر يقتضي حضور الغائب الضامن للدلالة والشاهد على عقد المخاطبة والتفاهم.

الإله بالنسبة لدريدا هو شرط إمكانية كل فعل لغوي، وهذه الأولوية اللغوية هي ما يطلق عليها اللاهوت "الإله"، ولا يمكن لأي خطاب كان دينيا أو إلحاديا أن ينفلت من هذه المرجعية الإلهية (الإله الشاهد) التي من دونها لا تواصل ولا تخاطب (38).

تسمح بعض نصوص حول مفهوم "التفكيك" المركزي في فلسفته بالنظر إليه بمقاييس "اللاهوت السلبي" مما ينفيه دريدا معتبرا أن هذا اللاهوت إن كان يقوم على نفي أي خطاب عقلي أو منطقي حول الإله؛ فإنه يدخل في باب التقليد الميتافيزيقي.ولم يمنع هذا النفي بعض كبار قراء في مقدمتهم "هابرماس" من اعتبار تفكيكية دريدا نمطا من إعادة الاعتبار"للتصور العرفاني للتقليد من حيث هو مسار الحركة الاختلافية للوحي"(39)، كما لم يحُلْ دون محاولات هامة لإعادة تجديد المبحث اللاهوتي بتوظيف المفاهيم والمصطلحات التفكيكية التي بلورها دريدا في قراءة النص وتوليد الدلالة (40).

رابعا: فلسفة الدين: الاتجاهات الجديدة

يمكن القول -بعد استعراض هذه المقولات الثلاث-: إن فلاسفة الغرب المعاصرين بدؤوا في بلورة أطروحات نظرية جديدة حول علاقة الفلسفة بالدين، أو الإيمان بالعقل.

ستعرض هنا مقاربات جديدة لثلاثة من أبرز فلاسفة الغرب حول هذا الموضوع المركزي، الذي نادرا ما يحظى بالمعالجة الجادة في الساحة الفكرية العربية التي لا تزال فلسفة الدين هشة فيها.

أولى هذه المقاربات للفيلسوف الألماني "يورغن هابرماس" في كتابه الأخير "حول النزعة الطبيعية والدين" الذي يشكل استئنافا هاما لمشروع "كانط" تأسيس فلسفة عقلانية للدين تقوم على العقل وحده (41).يدعو هابرماس إلى حوار نقدي جديد بين الفلسفة والدين بصفته تراثا وتقاليد حية ومنابع معيارية للثقافة والقيم، بعد أن انتهى في الغرب الصراع السابق بين التصورات المتمحورة حول الإله وتلك المتمحورة حول الإنسان.يتبنى هابرماس مقاربة يطلق عليها عبارة "ما بعد ميتافيزيقية"، ويعني بها "المواقف اللاأدرية" agnostiques التي تفصل بدقة ما بين الإيمان والعقل، دون أن تسلم مسبقا على غرار اللاهوت المعاصر بصدق ديانة بعينها، ولكن دون أن تنكر مسبقا على التقاليد الدينية إمكانية بناء مضامين معرفية برهانية على غرار النزعات الوضعية المعادية للدين.المضمون الديني المقبول في هذا الخطاب البرهاني هوالعقلانيات "العملية" القابلة للاقناع فيما وراء حدود وخصوصيات المجموعة الإيمانية المغلقة.فليس من المهم أن يكون السجلان الخطابيان متمايزين من حيث المنهجية، ما دامت الفلسفة مفتوحة أمام المضامين المعرفية للدين(42).

ويرفض هابرماس العودة للدين بحسب مسلكين فلسفيين معروفين: الاتجاه المحافظ الذي يمثله "ليو شتراوس" و"كارل شميت" في موقفهما المعادي للحداثة والداعي للرجوع للتقليد التوراتي ومذهب الحق الطبيعي اللاهوتي، والاتجاه ما بعد الحداثي الذي يمثله "هايدغر" و"دريدا" في نزعتهما الصوفيَّة الملتبسة التي تجمع بين نمط من التأمل "الوثني الجديد" و"المعجم الأخروي الغيبي".

يدعو هابرماس إلى مراجعة مصادرة الحياد القيمي إزاء المعتقدات الجوهرية حول مفهوم "الحياة الخيرة" التي تتأسس عليها المجتمعات الليبرالية وفلسفات التسامح ما بعد الميتافيزيقية، بالدعوة للانفتاح على الحساسية الدينية تدعيما لقيم التعاضد الجماعي في مواجهة منطق السوق النفعي والنزعات الطبيعية القائمة على تصور وظيفي للعقلنة من حيث هي بلوغ الحد الأقصى من النجاعة.

في هذا السياق يقدم قراءة نقدية صارمة للتصورات الليبرالية للدولة التعاقدية المحايدة التي يمثلها الفيلسوف الأمريكي "جون رولز"، باعتبار أن العقد الاجتماعي يتأسس على إقصاء القضايا الأخلاقية الجوهرية أي تصورات الخير الجماعي وشروط الحياة الطيبة الفاضلة من دائرة النقاش العمومي واستبدالها بالشروط والقواعد الإجرائية للعدالة السياسية. ومن هنا التمييز بين القناعات الدينية والعقدية المحورية التي مجالها هو الوعي الذاتي الفردي والمعايير الجماعية المشتركة التي تصاغ عبر الأدوات القانونية الشمولية.بيد أن هذا التمييز طرح منذ بداية الحداثة السياسية ثلاث إشكاليات أساسية: 

- المنزلة المعيارية للقيم المدنية المكونة للعقد الاجتماعي التي ليست مجرد قواعد إجرائية؛ وإنما تعكس مواقف وتصورات قيمية لا تخضع للنقاش والمساءلة.وأبرز هذه القيم هي مفاهيم الحرية والمساواة والتضامن والندية التي هي شروط العدالة السياسية ومسبقاتها.وإذا كان "جون رولز" حاول أن يُرجع هذه المبادئ إلى وضعية أصلية مؤسسة يختار فيها المتعاقدون بحرية وخلف "قناع جهل" المعايير الضامنة للعدالة فيما بينهم؛ فإنه انتهى إلى الاعتراف بأن الوصول إلى المبادئ المذكورة يتطلب توفر أرضية ثقافية ليبرالية سابقة عليها.

- غياب الشروط الضرورية لتداول جماعي حر بين المواطنين المتعاقدين حول ضوابط الحياة الطيبة والخير المشترك.ففكرة التعاقد نفسها ليست سوى فرضية نظرية لا حادثة عينية، وليست لها أطر مؤسسية موضوعية.وحتى الدساتير التي يعهد إليها بأن تضع محددات الائتلاف الجماعي للأمة لا تصلح لأن تكون إطار هذا الحوار الجوهري الذي يتجاوز الأبعاد السياسية والقانونية.إن النموذج الليبرالي الكلاسيكي يعاني من "خلل في الاستقلالية المدنية"، بمعنى أن حرية الإنسان واستقلاليته لا تصلان إلى حد السماح له بالإسهام في الحوار حول المنظور القيمي الجوهري لنشاطه العمومي.

- استحالة التوفيق بين التصورات الذاتية الجوهرية وضوابط الإجماع القاعدي الأصلي الذي يقوم عليه العقد الاجتماعي، فالأفراد المتعاقدون مرغمون على التنازل عن جوانب محورية من هوياتهم للتأقلم مع الذاتية الفردية غير المتعينة التي هي وحدها التي يعترف بها العقل الليبرالي.ذلك هو النقد الأساسي الذي وجهه "الجمعياتيون" للتصورات الليبرالية من منطلق الدفاع عن التنوع الثقافي كحق من الحقوق الرئيسة للإنسان والأمم.ولتجاوز هذا الخلل دعا الجمعياتيون -مثل "ريتشارد تايلور" و"مايكل فازلر"- إلى مماهاة الرابطة الشرعية القانونية مع الرابطة القيمية؛ أي القيم الجماعية المشتركة لمجموعة متميزة ثقافيا ودينيا، بحيث تعكس التشريعات هذه القيم المتقاسمة.بيد أن الإشكال الذي تطرحه الرؤية الجمعياتية هو أنها تقوض الكيان الاجتماعي، ولا تلائم المجتمعات الحديثة التي تسمها الفردية والتعددية.

- في مقابل هذه النظرة يطرح "هابرماس" خيار الديمقراطية التداولية أي خيار "الإجماع عن طريق التصادم" بدلا من "الإجماع التوفيقي" الذي يتحدث عنه رولز.فميزة الخيار التداولي هي أنه يسمح بتجاوز التصدع الذي عانت منه الحداثة السياسية منذ بدايتها بين القناعات الفردية(الدينية على الأخص)والعقل السياسي العمومي، بتمديد الحوار الجماعي إلى التصورات والمرجعيات المعيارية التي كان مقصية في الدائرة الأخلاقية الفردية.وهكذا تعود المعايير الدينية إلى المجال العمومي تعبيرا عن حق القناعات الفردية في الخروج إلى ساحة النقاش الجماعي العلني، وتعميقا للحوار المجتمعي في مقوماته المحورية الجوهرية.يعود الدين للشأن العام ليس كسلطة هيمنة مطلقة؛ وإنما كمكون أساس من مكونات الحوار العمومي.فما يهم النموذج التداولي ليس التعبير عن الإرادة المشتركة؛ وإنما مسار تشكل هذه الإرادة الذي تسكت عنه المدرسة الليبرالية الكلاسيكية التي كرست انفصام الفرد المعاصر بين قناعاته الفردية وحقوقه المدنية(43).

لا يبتعد الفيلسوف الفرنسي "جان مارك فري" في كتابه "الديانة التأمّلية" عن هذا الرأي في دعوته الصريحة إلى إعادة توطيد العلاقة بين الدين والفلسفة والإيمان والعقل على أرضية محايدة هي أرضية "اللاادرية" بدل النفي.ويعني باللاادرية الإجماع القائم اليوم بين المؤمنين والنفاتيين (أي الملحدين) حول استحالة البرهنة العقلية على وجود الله أو البرهنة على عدم وجوده، مما يعني "الجهل الميتافيزيقي الجذري والجهل الخلاصي"، فلا يبقى عندئذ سوى الجانب العملي من العقل الذي هو إطار مشترك للالتقاء (44). يتعين على الفلسفة أن تقبل تجربة التعالي الدينية التي لا يمكن للعقل الحسم فيها، لا يهمها دلالتها الميتافيزيقية الخاصة بالمعتقد الإيماني؛ وإنما دلالتها التجريبية وأثرها الحي على الإنسان الذي يتعلق بالرؤية الخلقية الجوهرية التي لا يمكن الاستغناء عنها بالقانون الأخلاقي للإرادة العقلية أو بالتنظيم الحر لتعايش التصورات الشخصية للخير.

يتبنى فري رأيا توفيقيا بين المذهب الإجرائي للقانون (اتجاه العدالة التوزيعية) والاتجاه المجموعاتي المدافع عن تصور إتيقي للحياة الخيرة من خلال الجمع بين العدالة الكونية القائمة على القانون الكلي وفكرة الحياة الطيبة بالمفهوم الجماعي المتولد عن المحبة البشرية المشتركة القائمة على بحث متبادل عن نمط العيش الأفضل.وبذا يرى فري أنه صوب فلسفة الأخلاق الكانطية التي ركز على الجانب الصوري في المعايير السلوكية على حساب جانب المضمون الغائي.فالطابع الإلزامي للفعل الأخلاقي لا يمكن أن يقوم على مجرد التناسق العقلي؛ وإنما يتطلب نمطا من الالتزام القوي ذي الطابع الديني (البعد الروحي المقدس) في الوقت الذي هو فعل عقلي أصلي سابق على كل برهان عقلي(45).

يذهب الفيلسوف الكندي "تشارلز تايلور" في كتابه "العصر العلماني" مسلكا مختلفا، من خلال بحث نظري توثيقي كثيف حول الانتقال من عالم ديني لا مكان فيه لغير الإيمان إلى عالم أصبح فيه الإيمان إمكانية من بين إمكانيات أخرى سمته الأساسية ما يدعوه بالإنسانية "الحصرية".يرصد تايلور الانتقال من الأنساق التقليدية القائمة على فكرة التعالي بالكشف عن التصورات الكونية والوجودية المعبرة عنها إلى العصر الحديث القائم على فكرة المحايثة التي تنعكس في علمنة مؤسسات الشأن العام وخصخصة الاعتقاد الديني. (46).بيد أن تايلور يرفض نظرية العلمنة كانفصام وتحرر تدريجي من قيود الاعتقاد الديني، بل العلمنة تحويل وتعديل مطرد للتراث الديني(47).

فإذا كان من الصحيح أن المجتمعات الغربية غدت معلمنة وملزمة على ممارسة تجاربها الدينية في إطار مبدأ"المحايثة" immanence، الذي يفضي إلى مقاربتين متعارضتين كلاهما احتمال عملي مفتوح: المقاربة المنغلقة السائدة التي ترى أن المحايثة لا تقبل أي مكان للتعالي (النظرية الفيبرية) والمقاربة المنفتحة التي ترى أن العلمنة لا تعني نهاية الإيمان الديني؛ وإنما فسح المجال لتجارب وخيارات كثيفة ومتنوعة إزاء التجربة الدينية ضمن نطاق المحايثة(48).

يسعى تايلور إلى إظهار "زيف" مصادر تلازم الحداثة ونمط العلمانيات المغلقة، أو ما يدعوه "العوالم المغلقة" أو "العوالم الأفقية"(التي لا مكان فيه لما فيه عمودي ومتعالٍ)، مبينا أن الحداثة تفضي إلى عوالم متعددة متداخلة شديدة التنوع، على الرغم من النزوع إلى فرض تصور واحد مغلق في السياق الأكاديمي. فما يميز المجتمعات الغربية اليوم ليس بالضبط انحسار الإيمان والممارسات الدينية؛ وإنما الهشاشة المزدوجة للمواقف الدينية وعدم الإيمانية(49).فالموقفان معا مرغمان على التعايش على صعيد التجربة الرمزية العميقة التي تستند حسب تايلور للرغبة البشرية الثابتة في "الرضا"(بمعنى الانشراح والتمام). الرضا plenitude (50) هو تلك اللحظات التي من دونها لا تستحق الحياة أن تعاش، وهو شعور يشترك فيه المؤمن وغير المؤمن؛ بيد أنه شعور ديني في عمقه.

تعبر هذه الأطروحات الفلسفية الثلاث عن الاتجاهات الجديدة لفلسفة الدين في الغرب التي تتمحور حول إشكاليتين رئيستين هما: علاقة العقل بالإيمان بعد انتكاسة وتراجع العقلانيات الوضعية والتاريخانية التي أرادت تقويض الدين معرفيا ونظريا، ومنزلة الدين في الشأن العام في المجتمعات الراهنة التي أطلق عليها هابرماس عبارة "المجتمعات ما بعد العلمانية" أي تلك التي أعيد فيها طرح مكانة الدين في الشأن العام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر، 2010. 

2) ديكارت، حديث الطريقة، ترجمة عمر الشارني، دار المعرفة، تونس، 1987، ص168-170.

3) راجع: Laurence Devillairs, Descartes et la connaissance de Dieu Vrin 2004.

لاحظت الكاتبة أن الدليل الإنطولوجي يرجع للتقليد الأوغسطيني (ص 81) وسنلاحظ التحفظات الممكنة حول هذا الرأي.

4) انتقد هوسرل في تأملاته الديكارتاية خروج ديكارت عن دائرة الوعي الذاتية بتحويله الكوجيتو إلى حلقة استنتاجيه إلى جانب الإله والطبيعة.

Husserl, méditations cartesiennes, Vrin 2000.

5) Jean luc Marion, sur l’ontologie de Descartes, Vrin 1993 pp206-207.

6) levinas, Dieu, la mort et le temps Grasset 1993.

Jean Luc Marion, sur la théologie blanche de Descartes, Puf 1981

6) من أبرز نماذج هذه القراءة: Ribert Misrahi, Spinoza Entrelacs, 2011.

7) Spinoza, L’Ethique trad R.Caillois Gallimard, 2008 p 65.

8) Pierre Lachiere-Rey, Les origines cartesiennes du Dieu de Spinoza, Vrin 1950 pp24-25.

9) سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة: حسن حنفي، دار الطليعة 1981، ص431-453.

10) Carl Schmitt, Theologie politique Gallimard 1988.

11) Nietzsche, Gai savoir trad P.Wolting Flammarion 1992 &125 P 161.

12) Nietzsche, Ainsi parlait Zaratoustra trad M.De.Gandillac Gallimard, 1971p 21.

13) Nietzsche, La volonté de puissance trad H.Albert Librairie générale française 1991, pp315-319.

14) Nietzsche, par-delà le bien et le mal, trad C.Heim Gallimard 1971pp 63-78.

15) Nietzsche, Aurore trad H.Albert Librairie generale Française 1995 p100.

راجع حول نقد نتشه للمسيحية: P.Valadier, Nietzsche et la critique du christianisme Cerf, 1974

16) E.Levinas, De dieu qui vient a l’idée, Vrin 1982, p115

17) E.Levinas: Altérité et transcendance Fata Morgana, 1995 p103-107.

18) P.Ricoeur, Soi - même comme un autre Seuil, 1990 p22.

19) Ricoeur, "phénoménologie de la religion", Lectures 3: aux frontières de la philosophie, Seuil 1994 pp263-271.

20) Ricoeur, "nommer Dieu"- Lectures 3 pp289-297.

21) G.Vattimo, "la crise de l’humanisme" in La fin de la modernité: nihilisme et herméneutique dans la culture postmoderne, Seuil 1987 pp35-51.

22) Vattimo, Apres la chrétienté: pour un christianisme non religieux Calman -Levy 2004 p102.

23) Vattimo: Esperer croire SEUIL 1998 pp33-38

24) J.Luc Marion: Etant donné, Essai d’une phénoménologie de la donation Puf, 1997 pp10-16.

25) J.Luc Marion: Dieu sans l’Etre Fayard 1982p 75

26) Heidegger, Der Spiegel, 31-5-1976, Trad J.Beufret, J.Greisch In Heidegger et la question de Dieu (collectif) Grasset et Fasquelle 1980 pp332-333

27) راجع حول انتقال هايدغر من الفلسفة المسيحية إلى اشكاليته الأنطولوجية: 

R.Safranski, Heidegger et son temps Grasset et Fasquelle, 1996, pp158-211.

28) Heidegger: Acheminement vers la parole Gallimard 1976, p 95.

29) من أهم الأعمال التي تناولت علاقة هايدغر بالمسيحية نذكر: 

D.Franck, Heidegger et le christianisme, l’explication silencieuse, Puf 2004.

30) Heidegger, Phénoménologie et théologie (1927)

In Heidegger et la question de Dieu pp, 314-315.

31) J.Beaufret, "sur la philosophie chrétienne" in

Dialogue avec Heidegger Minuit, 1985, p39.

32) ibid p 39.

33) Heidegger, Nietzsche Tome 1 trad P.Klossovsky Gallimard 1962 p 276.

34) Heidegger, chemins qui ne mènent nulle part trad Brokmeier et Fedier Gallimar, d 1962pp 209-219.

35) F.Dastur, "Heidegger et la théologie" Revue philosophique de Louvain N2-3 Mai- Aout, 1994, pp226-245.

حول من هو "الإله الأخير" راجع: فتحي المسكيني، نقد العقل التأويلي أو فلسفة الإله الأخير، مركز الإنماء القومي 2005، ص445-451.

36) J.Derrida, Foi et savoir Seuil 2000 p26.

Derrida: Heidegger, la question Flammarion 1990 pp140-141.

37) Derrida: foi et savoir, p 39, p 88.

38) ibid pp44-45

39) J.Habermas, Le discours philosophique de la modernité Gallimard, 1988 p 216.

40) F.Nault, Derrida et la théologie, Dire Dieu après la déconstruction Cerf 2000.

41) يقدم هابرماس في مقدمة هذا الكتاب قراءة هامة لكتاب كانط "الدين في حدود العقل وحده" مع استعراض مآلات الإشكالية الكانطية في الفلسفة المعاصرة: J.Habermas, Entre naturalisme et religion: les defis de la democratie Gallimard 2008, pp11-60.

42) ibid, pp57-58.

43) ibid, pp170-211.

44) J.M.Ferry, La religion reflexive Cerf, 2010 p16.

45) ibid, pp123-142.

46) C.Taylor, L'age seculier Seuil 2011. Le travail de la reforme(53-392).

47) ibid, pp723-910.

48) ibid, p 933-934.

49) ibid, p 1010.

50) ibid, p 1020.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/8/164

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك