الحقُّ باعتباره اعتقاداً وباعتباره قيمة
عبد الرحمن السالمي
الحقُّ في الخطاب القرآني هو الثابت والمتحقّق؛ ولذا فهو في أعلى درجاته اسمٌ من أسماء الله تعالى، أمّا المعاني الثواني أو الفرعية لمفرد الحقّ فإنّ جذرها الأصلي والإلهي يحضر منه الثباتُ والتحقُّق، ولا يحضُرُ فيه الإطلاق الذي يقتضيه الوجود الإلهي، وتقتضيه الوحدانية. وبهذا القدر أو بهذا الترتيب يدور الخطاب القرآني حول مسار الحقّ في سيرورة الدعوة وصيرورتها، ولذا كان الخيار الواضح في الآية الكريمة. فالدعوةُ الإسلامية حقٌّ ورحمةٌ مُهداةٌ إلى البشرية، والناسُ - بمقتضى الحرية التي أتاحها المولى -عزَّ وجلَّ- (وله الخَلْقُ والأمر) - بوسعهم أن يقبلوا أو لا يقبلوا الهدية، إنما لكلٍ من الخيارين نتائجه التي تؤثّر في مسار الدعوة؛ لكنها لا تُخِلُّ بأحقية هذا الحقّ ثباتاً وهدايةً ومسؤوليةً ومصيراً. فقد عدّ القرآن الكريم الدينَ الحقَّ واحداً أنزله الله سبحانه على أنبيائه ورسله ليبشّروا به ويُنذروا، فيجتمعَ الناسُ على الحقّ ويصيروا به أمةً واحدةً مرحومة، أو يتفرقوا فتمضي فئةٌ في طريق الحقّ، وتفترق السُبُلُ بالآخرين، ليكونَ هناك يومٌ يُحاسَبُ فيه الناسُ بحسب اختيارهم في دنيا الابتلاء. والداران موصولتان؛ إذ إنّ الدنيا هي مطيةُ الآخِرة، والإنسان يقودُ مطيته إلى حيث يشاءُ في سبيل الحقّ أو السُبُل الأُخرى.
إنّ هذا كلَّه يعني- بحسب الخطاب القرآني- أمرين اثنين: أنّ الحقَّ اعتقادٌ بوجود الله ووحدانيته وفروض العبادة والولاء والطاعة بمقتضى هذا الاعتقاد، وأنّ الحقَّ من جهةٍ ثانيةٍ قيمةٌ تتضمن مساراً معيَّناً للإنسان من النواحي الأخلاقية، ومن النواحي السلوكية، تجاه نفسِه وتُجاه الآخرين من بني البشر. والقرآن يتحدث عن هذه القيمة باعتبارها بلاغاً وبياناً للناس وهدىً أو اهتداءً إلى السبيل التي رسمها الحقُّ الأعلى. وهي تكتسبُ قيمتها من أمرين: الإيمان بالحقّ، والخير الذي يفتح آفاقَه هذا الإيمان على حياةٍ شاسعةٍ يعيشها الفرد، وتشيع في الجماعة المؤمنة، التي تتوارثُ تلك القيم الخيرية، وتتواصل مع سائر بني البشر على أساسٍ منها. فالمؤمن مُحبٌّ بحكم إيمانه للناس ﴿وما أرسلْناك إلاّ رحمةً للعالمين﴾، وهو بحكم التكليف والمسؤولية (مسؤولية البلاغ) مدفوعٌ بأقصى الجهد والطاقة؛ لكي يعمَّ هذا الخير الذي يستمتعُ به العالَم كُلَّه، وليس الجماعة التي يعيشُ بين ظهرانيها فقط.
وقد كانت هناك نقاشاتٌ بين المسلمين، كما كانت هناك وما تزال نقاشاتٌ في سائر ثقافات العالم ومذاهبه الفكرية والأخلاقية، ومؤدَّى هذه النقاشات أنّ قيمة "الخير العام" أو الخير الإنساني، هل تستقلُّ بنفسها، أو أنها تظلُّ متفرعةً على الحقّ أو الإيمان الاعتقادي به. فالله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾. والصلاة عبادةٌ تؤدَّى بمقتضى الإيمان بالحقّ المطلق؛ ولذا فقد رأى المسلمون أنّ هذه القيم الأخلاقية المسدِّدة لبني البشر تقتضي الإيمان بأصل الحقّ، وتعدّ القيم تابعةً لهذا الإيمان أو أنها نابعةٌ من الحقّ الأعلى. ولا يعني ذلك أنّ الخير أو قيمة الحقّ ليست نابعةً من فطرة الإنسان أو مغروسة فيه؛ بيد أنّ الإيمان يفتحها على آفاقٍ لم تكن لتهتدي إليها، لولا الإيمانُ الذي يُنيرُ لها الطريق، الطريق بين عقل الإيمان، ونوازع الهوى والاستهواء. فالفطرةُ الإنسانية مبعوثة على الخير، والإيمان الواعي بالحقّ والخير يُسدِّد ويدفعُ ويهدي إلى أقاصي وأعماق الأخلاق الصالحة التي تتجاوز الأفراد والجماعات، وتصبح رؤيةً للكون وغائيته وتقدمه ورفاهه.
وكان هناك مَنْ ذهب إلى أنّ القيم الكبرى إن تكن ذات مصدرٍ إلهي؛ فإنها تستقلُّ بالتجربة، وتتحول - أو يمكن أن تتحول - إلى مصدرٍ لمنظوماتٍ قيميةٍ وأخلاقية فاعلة في فكر الإنسان وسلوكه؛ بيد أنه لم يكن كلُّ الذين قالوا باستقلالية قيم الحقّ والخير من غير المؤمنين؛ لكنّ هؤلاء يذهبون إلى أنّ استقلالية القيم الكبرى أو استنادها إلى الفطرة يمكن أيضاً أن تقود إلى الإيمان بالله الحقّ باعتباره الأمد الأقصى للخير. فمن المعروف أنه عندما اطّلع المسلمون على الرؤى والفلسفات لدى الأُمم الأخرى، فقد كان منهم مَنْ قال: إنّ هذا الخير الموجودَ في تلك الفلسفات لا بد أن يكونَ آتياً من نبواتٍ ودعواتٍ أُنزلت على تلك الأُمم، أو عرفها أولئك المفكرون من دياناتٍ ودعوات حقٍ غابرة.
ولنعُدْ إلى الحقِّ ودعوته في الرسالة المحمدية، ومعنى هذا التخيير الكبير بين الإيمان والكفر. فيأتي الإيمان - بحسب القرآن - من اعتقاد المقْبل على دعوة الوحدانية بأنه معتقدٌ بالحقّ الثابت والباقي، وهو يرى هذا الحقَّ متحققاً في عقله وقلبه (فالإيمانُ في أصله تصديقٌ لا يتزعزع)، ولذا فهو يمضي قُدُماً في طريق الحقّ والخير، ولا يرى مجالاً للمساومة أو الصفقات لهذه الناحية، وبهذا المعنى فإنّ اختياره اختيارٌ كبيرٌ ومصيري. أمّا الذي يستمع لدعوة الحقّ ثم يقرّر أن يُعْرِضَ عنها أو يكفر(بتعبير القرآن) فإنه يواجه اختياراً كبيراً أيضاً؛ إذ إنه يعتقد أنه يستطيع توجيه حياته وحيوات الآخرين بالمعاندة والصراع من أجل مُتْعةٍ عاجلةٍ أو فُرصةٍ عاجلة. وينظر المؤمن في يومه وأمسه وغده، ويفكّر في حياته وحيوات الآخرين، أمّا المعْرض عن دعوة الحقّ- في نظر القرآن- فإنه يقف على شفا جُرُفٍ هارٍ يوشك أن يتردّى به في ناريْ الدنيا والآخرة. يظلُّ المؤمن واثقاً بيقينه ويظلُّ داعياً للآخرين إليه، وهو مستعدٌّ للعيش مع الآخرين ملتمساً لمشتركات الحدّ الأدنى، يحدوه الأمل والرجاء، كما يحدوه الإيمان برحمة الحقّ وفضله؛ بينما يريد المستعصي على الإيمان أن يضيّق العالَم على المؤمنين، معتبراً أنّ هذا الاستعصاء هو الضامنُ لبقائه وفوزه.
وهكذا فإنّ اختيار الإنسان اختيارٌ كبير الآثار والتداعيات، وأهمُّ هذه الآثار نظر المؤمن إلى اعتقاده باعتباره قيمةً عزيزةً تخدمه وتخدم سائر بني البشر، بينما تصبح القيمة الوحيدة لدى الكافرين بدعوات الخير قيمةً نقيضةً تقوم على الجحود والإنكار الذي ينال من التفكير كما ينال من السلوك. وهذا معنى قول رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه إنّ المؤمن هيّنٌ ليِّن. فاللينُ ناجمٌ عن الاطمئنان والثقة، وهي معانٍ تُكسِبُ القوة، وتُكسِبُ السَعَة، وتُكسِبُ كَرَم النفس، والعمل للآخرين، بمقتضى دعوة الحقّ وتكليفه: ﴿يحبهم ويحبونه﴾. فليكن حقُّ المؤمن داعياً للإقبال على الخير المسعِد للنفس وللآخرين: ﴿وكان حقاً علينا نصر المؤمنين﴾.