كيف يتكون الدين؟ العقيدة والمجتمع والتاريخ
ألفرد هوايتهد
1. تعريف الدين:
إنّ الذي يعنيني في هذه المحاضرات التحدث عن مسوِّغات الإيمان الديني، وكيف تبرر المقولاتُ الدينيةُ ذاتها، وفي هذا السياق يعرض السؤال الذي يطرحه كلُّ جيلٍ بصيغةٍ أو صِيَغٍ جديدة، وخصوصية الدين تتجلى في أنّ موقف الإنسان منه دائم التغير والتحول. إنّ ما أعنيه بذلك يبدو أكثر وضوحاً في تلك المفارقة بين الدين والحقائق الأساسية للعمليات الحسابية؛ فمنذ أزمنة ما قبل التاريخ، بدأ العقل الإنساني يستخدم مقولاتٍ حسابية بسيطة. وخلال التاريخ كُلّه سادت المقولة التي لا يمكن المنازعة فيها وهي أنّ 2+2=4، هكذا دائماً وفي المعرض الذي يبدو فيه الأمر مهماً. ونحن نعلم جميعاً ماذا تعني هذه المقولة، كما نعرف طرائق تطورها؛ لكنّ تطورها التاريخي لا يؤدّي إلى إيضاحها بأي سبيل.
بيد أننا نجد أنفسنا في أقصى درجات الشك فيما يتصل بما تعنيه المقولات بالنسبة للدين؛ فليس هناك اتفاقٌ على تعريف الدين بشكل عام، وماذا يعين الدين الحقيقي، والآخَر المزوَّر. كما أنه ليس هناك إجماعٌ على ماذا تعنيه الحقائق الدينية السائدة، كما أنه لا اتفاق على ما تعنيه الحقيقة في الدين. وبسبب ذلك كلّه ينبغي الاستمرار في التفكير والبحث، ويصبح مطلوباً اعتبار الدين واقعةً حاضرةً وقائمةً في كل مكانٍ على مدى التاريخ الإنساني، ويصبح مطلوباً أيضا أن ندرس تلك الواقعة من أجل التأكد من إمكان مناقشة المبادئ العامة، وإمكان الفهم الصحيح لها.
وهناك مفارقةٌ أُخرى أيضاً؛ فالانصراف إلى العموميات في النقاش يُبقي الأمور مشكوكاً فيها، وما يتعرض للشكّ يفقد قيمته في غالب الأحيان، في الظروف التي تبدو متشابهة، وأنا أتحدث هنا عن الحقائق العامة. فنحن نتجنب في العادة أن نعلّق تصرفاتنا على مبادئ عامة، تبدو غير مؤكَّدة. فعندما لا نعرف ما هو الناتج من 69 أو 67 فإننا لا نمضي للتعامل فيهما إذا كان ذلك التصرف يفترض معرفة الناتج والنتيجة. إنّ هذه الأُحجيّة الحسابية الصغيرة يمكن تركها جانباً إلى أن تُجمع وتوضَع في سياق، وتفترض سعياً وجهداً للتوصل إلى نتيجةٍ من ورائها؛ بيد أننا إذا نظرنا إلى العلاقة بين الدين وممارسات الأعداد والحساب؛ فإننا لا نجد المقاييسَ ذاتَها؛ فالإنسان يستخدم الحساب، والإنسان متديّن في الوقت نفسه. وبالطبع فإنّ الحساب هو جزءٌ من طبيعتنا، التي من المسلَّم به أنها تضم عدة أمورٍ وأشياء؛ بيد أنّ أشياء الطبيعة هذه تبدو علائق ضرورية، وليست قوةً مغيِّرة. إنما لا يبدو أنّ أحداً من خلال إيمانه بجدول الضرب يعدّ (وجوده الإنساني) مسوَّغاً. لكن، وإلى حدٍ ما؛ فإنّ التسويغ (أو الإقناع) هو أساس إيماننا. وهذه هي الحقيقة الدينية العليا، التي تطهر الداخل الإنساني. وطبيعتنا وأخلاقنا تتطور بحسب تطور إيماننا. إنها الحقيقة الدينية العليا التي لا ينجو منها أحد؛ فالدين هو قوة الإيمان، الذي يصفّي الدواخل. وبسبب ذلك، صارت الاستقامة هي رأس الفضائل الدينية، وهي استقامةٌ داخليةٌ عميقة.
إنّ الدين إذن -وبحسب مقولاته واعتقاداته- هو نظامٌ للحقائق العامة، التي تؤدي إلى تغيير في الأخلاق والسلوك، إذا أُخذت على محمل الجدّ، وإذا عاشها المؤمن باقتناع عاطفيٍّ عميق وحي. ففي المدى الطويل، تتشكل أخلاقنا، ويتشكل سلوكنا الحياتي، استناداً إلى قناعاتنا الذاتية. فالحياة الدينية في الأصل هي واقعةٌ ذاتيةٌ داخلية، وهي تعلّل ذاتها بذاتها، ثم إنها بعد ذلك واقعة خارجية، تتصل بالآخرين، والسلوك الحياتي الخارجي يتأثر بالبيئة والمحيط؛ بيد أنّ نوعيته الباقية -والتي تقوم عليها قيمته النهائية- تتأصل في الحياة الإنسانية الداخلية، والتي تُعنى بتحقيق الذات (وإنتاج معنى الوجود). فالدين هو الفن والنظرية للحياة الإنسانية الداخلية، ما دام الإنسان نفسُهُ هو الذي يشكّل قناعته به، ومن هذه الطريق يصبح جزءًا من طبيعة الأشياء (عنده أو بالنسبة له). وهذا التحديد للدين ومعناه يتناقض مع النظرية القائلة: إنّ الدين بالدرجة الأُولى هو واقعة اجتماعية. وبالطبع فإنّ الوقائع الاجتماعية مهمةٌ جداً للدين؛ لأنه ليس هناك وجودٌ مجردٌ ومطلقٌ للدين. لا يمكن تجريد المجتمع من الناس أو فصلهم عنه، وقسم كبير من علوم النفس هي علوم نفس القطيع؛ بيد أنّ كلَّ الأحاسيس الجمعية تدعُ الحقيقة الأساسية المخيفة دونما مسٍّ أو تشكيك، وهي أنّ الوجود الإنساني الذي يعي ذاته بذاته يبقى متفرداً. والدين هو ذلك الأمر الذي يصنعُهُ الفرد في وحدته ومنها، وهي تمر في تطورها إلى بلوغ الامتلاء والكمال بثلاث مراحل: إنها العبور من الله إلى الفراغ فإلى الله. ومن الله إلى عدوّ الله. ومن العدو إلى الله الرفيق. وهكذا فالدين يعني التوحُّد والانفراد، والذي لا يمر بالوحدة؛ فإنه لن يكون متديناً أبداً. أما الحماسات الجماعية، وحركات الإحياء، والمؤسسات، والكنائس، والأناجيل، وأشكال السلوك؛ فإنها جميعاً صيغٌ منقضية، وقد تكون هذه المظاهر مفيدة أو مضرة. وقد تنتج هذه الظواهر والمظاهر من أوامر عليا أو قد تقتضيها احتياجاتٌ عابرة؛ بيد أنّ الغائية الدينية تقع وراء ذلك كلّه.
إنّ الأمر الذي يدفع لظهور الدين إذن، هو القيمة الفردية للأخلاق؛ لكنّ القيمة قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية، وليس من الضروري أن يكون كلُّ دين أمراً جيداً. بل قد تكون بعض الأنظمة الاعتقادية شديدة السوء، فحقيقة وجود الشر تشير إلى أنه جزءٌ في نسيج هذا العالم، وأنه من ضمن طبيعة الأشياء وجود قوةٍ ضاربةٍ للقيم. وفي خبرتنا الدينية، يمكن أن يكون الإله الذي اطمأنّ إليه بعض الناس إلهاً للدمار، الكائن الذي تترتب على أعقابه خسارةُ الحقيقة ذات المعنى. وهكذا ففي دراستنا للدين لا ينبغي أن تسيطر علينا الفكرة القائلة: إنّ كل اعتقادٍ هو خيرٌ بالضرورة. وإن حدث ذلك فسيكون خديعة كبرى؛ فالأمر الفاصل في هذا الشأن هو الأهمية المتعالية، وحقائق هذه الأهمية تظهر بشكلٍ واضحٍ جداً عندما نحيلُ على التاريخ (وتجاربه وظواهره).
2. ظهور الدين:
يتمظهر الدين في التاريخ الإنساني من خلال أربعة أبعادٍ أو تعبيرات، وهذه الأبعاد هي: الشعائر والطقوس، والأحاسيس، والإيمان، والعقلنة. فالدين في تمظهراته يعني شعائر منظمة، ويعني أشكالاً محددةً ومنضبطةً من الأحاسيس والمشاعر، ويعني أيضاً تعابير محدَّدة عن الإيمان أو الاعتقاد. وهذه التمظهرات جميعاً تنتظم في منظومةٍ متناسقة ومتماسكة تتلاءمُ عناصرها فيما بينها؛ بيد أنّ هذه الأبعاد أو التمظهرات لا تمارس التأثير نفسه في كل الأزمنة والتجارب التاريخية؛ فالفكرة الدينية ظهرت بالتدريج في الحياة الإنسانية، وكانت في البدايات منفصلة تماماً عن الاهتمامات والمصالح الإنسانية. ولائحة التمظهرات هذه تقع في اتجاهٍ معاكسٍ لعمق أهميتها الدينية: الشعائر أوَّلاً، ثم المشاعر والأحاسيس المتحمسة، ثم الإيمان، وأخيراً التعقيل أو العقلنة. وهذا الظهور المرحلي للدين نشأ وتطور بالتدريج، وقد تبلور نتيجة تقوية عوامل الفعالية. وربما كان خطأً اعتبارُ أنّ الأبعاد المتأخرة ما كان لها وجودٌ في البدايات؛ بالطبع كان لسائر الأبعاد وجود بهذه الدرجة أو تلك؛ لكن عندما نعود إلى الوراء كثيراً نجد أنّ التصديق أو الإيمان والعقلنة ما كانت لهما تلك الأهمية، كما أنّ الأحاسيس والمشاعر نتجت في الغالب عن الشعائر، ثم صارت المشاعر على رأس العوامل، وصارت الشعائر قائمةً على خدمة المشاعر، وأخيراً يتدخل الإيمان أو الاعتقاد باعتباره مفسِّراً لذلك المجموع من الشعائر والمشاعر. ومن خلال ظهور الاعتقاد نستطيع أن نلمس بذور العقلنة، وعندما يستقر الاعتقاد وتستقر العقلنة تعود الوحدة المتفردة إلى الظهور، باعتبارها المسوِّغ والمعلِّل لأهمية الدين. إنّ المشروعات الدينية الكبرى -كما تظهر في عوالم الإنسانية المتحضرة- هي مشاهد وتمظهرات لهذه الذاتية المتفردة؛ فبروميثيوس المربوط إلى صخرة، ومحمد المتحنث والباحث في الصحراء، وتأملات بوذا، والإنسان الوحيد على الصليب، كلُّ تلك التوحدات إنما تشير إلى عُمق الروح الديني، عمق الإحساس بالوحدة والغربة والانتراك، حتَّى من الله (سبحانه).
3. الشعائر والمشاعر:
تعود الشعائر والطقوس إلى المراحل المبكرة من حياة البشرية، ويمكن مراقبة تلك الطقوس لدى الحيوانات في حيواتها الفردية، وأكثر في تطورها الجماعي. والشعائر أو الطقوس هي التي يمكن تعريفها بأنها العادات والأفعال السلوكية التي ليست لها أهمية في بقاء الوجود الفيزيقي للكائن الفاعل أو المتحرك، ومن ذلك رفوف العصافير المرتفعة نحو السماء. وفي أوروبا لدينا في غربان الحصاد شواهد شاخصة على هذه الواقعة. فالشعيرة أو الطقس تعني ذلك النشاط العضوي الزائد عن الحدّ والذي ليس ضرورياً؛ لكنه يُشعر القائم به بالراحة والسرور. وهي نتاج الميل أو تصبح نتاج الميل من جانب الأجسام الحية لتكرار حركاتها، وبذلك تصبح التصرفات التي يُقامُ بها من أجل الحصول على الطعام أو الصيد أو فعل شيء نافع؛ تصبح تلك الحركات المرافقة لهذه العمليات بمثابة تكرار من أجل التكرار. وتكرار تلك الحركات يبعث على السرور، ويستحدث ذلك الشعور بالإنجاز والانطلاق والنجاح. وهكذا ومع الوقت، صارت الأحاسيس ترافق الشعائر أو الطقوس، ثم إنّ الشعيرة يصبح أداؤها مستحباً بسبب الارتباط بالمشاعر المُريحة، ويُصارُ إلى التطوير والتجميل والتدقيق. وبذلك يتحول البشر إلى فناني طقوس، وقد كان اكتشافاً هائلاً أنّ الإنسان يستطيع إيقاظ مشاعر، دون أن تكون لذلك ضرورة بيولوجية؛ فالمشاعر تجعل من الأجهزة الإنسانية أكثر حساسية. وبذلك -وبدون قصد- صار بالوسع خلق أو إنتاج تأثيرات عضوية تتناسب مع المشاعر التي أثارتها، وليست لها في الأصل ضرورات عملية. وهكذا فإنّ الإنسانية -ومن خلال المغامرة والفضول- صار بوسعها التحكم في المشاعر والأعضاء.
ومن هذا العرض كلّه يتبين أنّ الدين واللعب يملكان الأصل نفسه فيما يتعلق بالشعائر والطقوس؛ فالطقس هو عملٌ على إثارة المشاعر، والطقس المتكرر يمكن أن يتحول إلى لهو أو إلى دين؛ وذلك بحسب الإثارة التي يُحدثُها في المشاعر والأحاسيس. وحتى في الأزمنة الحديثة نسبياً من مثل الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد؛ فإنّ الألعاب الأوليمبية كانت لها تكوينات دينية، والعبادات الديونيسية في أتيكا كانت تنتهي بمسرحيةٍ ساخرة. وفي العالم المعاصر فإنّ اليوم المقدس أو العطلة الاحتفالية هما مناسبتان متقاربتان، وبالطبع فإنّ الطقس ليس الصيغة الوحيدة لإنتاج مشاعر صناعية؛ فالمخدرات تنتج ذلك أيضاً. ومن حسن الحظ؛ فإنّ المخدرات ما كانت عميقة التأثير على الشعوب والانتشار في المجتمعات؛ لكنْ هناك أدلة على استخدام وسائل الإثارة والسُكْر بها في الاحتفالات ذات الطابع الطقوسي، وعلى سبيل المثال؛ فإنّ أثنيوس(1) Athenäus يروي لنا أنه كان من واجبات الملك عند الفرس -مرةً في العام، في الاحتفالات الخاصة بالإله مثيرا- أن يكون مخدَّراً ومستلَباً احتفاءً بمثيرا، وأن يظهر بهذه الحالة في الحفل. وبين معالم الخشوع الديني، يأتي استخدام الانجذاب من طريق استعمال الخمور في عشاء الخدمة الإلهية، ويعني ذلك محاولةً للرفع من شأن الطقوس بوضعها في سياق الارتباط الذهني برمزياتٍ رفيعة؛ بحيث تفقد طابعها أو أصلها البدائي الغليظ. وفي هذه المرحلة البدائية للتطور الديني -حيث يسود الطقس والمشاعر الجياشة- نقابلُ ظاهرةً اجتماعية؛ فالطقس أو الشعيـرة يبدو قويـاً، كما تبدو المشاعرُ أكثر انطلاقاً عندما يكون المجتمع بكاملـه ممارسـاً لذلك الطقس، وغائصاً فـي تلك المشاعر. وفـي هـذه الحالـة يظهر الطقس الجمَاعي، والأحاسيس الجَماعية، بوصفهما قوى موحِّدة في عالَم القبائل البدائية. وهما يمثّلان (الطقوس والمشاعر) المظاهر الضعيفة الأُولى للحياة الروحية، والتي تسمو على مجرد التركيز على الضرورات والاحتياجات الحيوانية، وعلى العكس فإنّ الدين عندما يتراجع ويتضاءل اندفاعه؛ فإنه يصبح ليس أكثر من مُتعةٍ اجتماعية.
4. الإيمان:
إنّ الاقتصار على الطقوس وعلى المشاعر الجياشة لا يسمح للدين بالاستمرار، ولا بد من أنه يأتي الارتباط بالعقل، ثم إنّ الفكرة المجرَّدة الدافعة للتمسك بالطقوس اتّباعاً للعواطف والأحاسيس تظلُّ شديدة التجريد إلى حدّ عدم استطاعتها التغلغل في الوعي العقلي، حتَّى مع حقيقة الاعتقاد أنّه في لا وعي الشعوب البدائية فإنّ ذلك ممكن. تلبّي الأُسطورة حاجات للعقلنة الصاعدة؛ فالبشر يلاحظون أنهم يقومون بشعائر مختلفة، كما أنهم عرفوا ويعرفون أنّ تلك الطقوس تثير أحاسيس ومشاعر، فالأُسطورة توضّح الغاية من وراء الطقوس، كما من وراء المشاعر. وهذا كله هو نتاج الخيال الحي والجامح لدى البدائيين في عالمٍ كثير المجاهل. فبالنسبة للبدائيين -كما بالنسبة لنا نحن في جانبنا البدائي- لا يبدو الكون غير قابلٍ للفهم تماماً أو أنه غير مفهوم. وأعني بذلك أنه غير مبحوث أو غير موضوع تحت التحليل. إنه ليس كُلاً معقَّداً مكوَّناً من حالاتٍ غير موضَّحة؛ بل هو خلفيةٌ غامضةٌ تتخلَّلُها تأثيراتٌ حيةٌ منعزلٌ بعضها عن بعضها الآخر، وحافلة بالأحاسيس المتوتّرة. وهكذا فإنها تفتقر بالدرجة الأُولى إلى الشروط التي تجعلُ منها علانيةً سلِسة. وعمليةُ التعقُّل هذه تفترضُ وجود وقائع واضحة ومعيَّنة، تفترض سياقاتها وعلائقها معرفةً مبحوثة؛ بيد أنّ المرحلة المبكِّرة (من البحث والتعرف) لها خلفياتٌ أو أُصولٌ غير واضحة، هي في جوهرها منعزلة(والمطلوب فكُّ الغموض والانعزال). وهناك استثناءٌ في هذا الشأن يتصل بالعادة والروتين لاحتياجات القبيلة، والتي تبدو بدهية وسارية. أمّا ما وراء روتينيات العيش فإنها على وجه العموم تكون عصيةً على التعريف. ولأنها تكون موضوعاً للمشاعر الحية؛ فإنها لا تبدو مترابطة. أما الأُسطورة التي تتلاءم مع الطقوس فإنها تكون نتاجاً حياً وغير عادي للخيال الحي والجامح، أو أنها إعادة تذكُّرٍ لواقعةٍ حيةٍ قريبةٍ من متناول الإنسان، وفي الغالب فإنها تذكُّرٌ متشظٍّ، وهي لا تبدو إيضاحاً للطقس أو للمشاعر والأحاسيس فقط؛ بل إنها تنتج مشاعر وأحاسيس عندما ترتبط بالطقوس. ولذا فإنّ الأُسطورة لا توضّح فقط؛ بل إنها تُقوّي الهدف الغامض للطقوس، وأعني به المشاعر والأحاسيس. وهكذا فإنّ الطقوس والأحاسيس والأساطير تتبادل التأثر والتأثير فيما بينها. وهذه الأساطير لها عدة مستوياتٍ من العلاقات بالوقائع والأحداث، كما أنّ لها مستويات مختلفة فيما يتعلق بالحقائق الرمزية؛ وذلك لأنّ الرمزيات تمثل حقائق شاملة، لا يمكن إدراكها إلاّ بشكل أمثالٍ واستعارات، وفي بعض الحالات تتقدم الأسطورة على الطقس. إنما بشكلٍ عامٍ فإنّ الطقسيات تظهر قبل الأُسطوريات؛ ذلك أننا نستطيع ملاحظة الطقسيات حتَّى لدى الحيوانات، وهناك لا ترتبط بأي شكلٍ من أشكال الأسطوريات.
ومن ضمنيات الأُسطورة أنّ بعض الأشخاص أو الأشياء -التي قد تكون حقيقية أو خيالية- تكتسب أهميةً خاصة، ولذا فإنّ الطقس -في بعض الأحيان، وعندما يقع في سياق شرح الأسطورة وإيضاحها- قد يعني تقديس بطولة شخص، أو شيء بطولي. إنما في حالة الشعوب البدائية؛ فإنّ الاهتمام بالقداسة والتقديس يكون ضئيلاً، وربما يكون أقلَّ مما هو عليه أمرنا اليوم، إذا كان شيء من ذلك وارداً أصلاً. ومن ضمن الإيمان بالأسطورة، يأتي الإيمان بأنه من الممكن -فيما يتعلق بها- أن يستطيع (المتعبد) استخراج شيء يعينه على دفع الشرّ الآتي من الشخص أو الشيء المَخوف. وهكذا تظهر الأقسام والأَيمان والعزائم، والصلوات، والابتهالات الغنائية والتملّكات الطقسية للإله البطل. وعندما يكون البطل شخصاً؛ فإننا نسمّي الطقس مع أسطورته: ديناً. أما إذا كان البطل شيئاً، فإننا نسمّي ذلك سِحْراً؛ ففي الدين، يمرُّ الإنسانُ بالسِحْر قسْراً. أما الفرق بين السحر والدين فيكمن في أنّ السِحْر لا يتقدم إلى الأمام، بينما يكون الدين تقدمياً في الكثير من الأحيان، وهذا باستثناء الحالات التي يعتبر العلم فيها أنّ له أصولاً أو بداياتٍ سحرية.
يشكّل الدين إذن في مرحلة الإيمان والاعتقاد هذه مرجعيةً في صعود الإنسان وتقدمه، وهكذا فإنه كما أنّ الطقس يُنتجُ مشاعر وأحاسيس تتجاوز الضرورات العملية؛ فإنّ الدين في هذه المرحلة الأكثر تقدماً يُنتج أفكاراً، تفارق الكفاح المجرَّد تحت ضغوط الظروف. وبذلك فإنّ القوة التصورية تؤمِّنُ لنفسها آليةً تساعد تطورها. ومن خلال ذلك فإنّ التفكير يتجاوزُ الموادَّ المرئية (إلى آفاقٍ أُخرى). ومصطلحاته أو إدراكاته في المراحل المبكرة تكون غير ناضجة ومخيفة أحياناً. أما الفضيلةُ الأكثر ظهوراً في هذا السياق فتتمثل في أنّ تلك المصطلحات للأشياء تقع خارج الأحاسيس المباشرة، والإدراكات الحسية القريبة. وهذه هي المرحلة التي تكون فيها أشكال الإيمان متفرقة ولا تمتلك ترابطات قوية. وإذا كان ذلك التشرذم ممثِّلاً لروح الفترة؛ فإنه يسمح بتسامُحٍ نادرٍ، بحيث لا يصارع هذا الطقس الطقسَ الآخَر؛ وذلك لأنّ الترابط في حدِّه الأدنى يترك للجميع حرية حركة، ويبقى الدين دائماً وبشكلٍ عميق ظاهرةً اجتماعية. فالطقس يشمل القبيلة، أو على الأقلّ مجموعةً محدَّدةً من الأفراد ضمن التشكيلة الاجتماعية. لا ينبغي أن يترك المرءُ طقوسه، إنما في الوقت نفسِه لا ينبغي أن تتصادم تلك الطقوس. وفي المستويات والمراحل العليا لهذا الدين هناك آلهةٌ قَبَليةٌ كثيرةٌ ضمن القبيلة الواحدة، في حين أنّ الطقوس والعبادات والأساطير تقومُ بينها صلاتٌ واهية. يستطيع الدين إذن -وليس بالضرورة- أن يكونَ مصدراً للتقدم؛ وبخاصةٍ إذا كان مَعْلَمُهُ الرئيس إيماناً غير نقدي. وتستطيع القبيلة بسهولة أن تقوّي طقوسها وأساطيرها، دونما استحثاثٍ أو تأثيرٍ من الخارج. وفي الواقع فإنّ هذه هي بالضبط مرحلة التطور الديني، وفي تلك المرحلة تبقى تلك الشعوب نصف المتحضِّرة، ولا تتجاوزُها في مرحلة الطقوس المُريحة، والإيمان المُريح، دونما دوافع للتقدم إلى الأمام. وتكفي ديناً من هذا النوع المقاييس البراغماتية: إنه يعمل، ويطلب أن يكون الثمن أو الجائزة الاعتراف به واعتباره عَلَماً على الحقيقة.
5. العقلانية:
يبدأُ عصر الشهداء مع بدء دخول العقلانية إلى الدين، وقد كانت المراحل المبكرة من الدين بسيطةً وودودة؛ فقد كان كثيرون من أصحاب الإحساس بالرسالة، والجميع كانوا من المصطفين (أو المختارين). أما المرحلة النهائية فتضيف علامةً للفردانية والتوحُّد؛ "وذلك لأنّ الباب منخفض السقف، والطريق ضيّقة... وقليلون فقط هم الذين يعثرون عليها". وعندما تتجاهل ديانةٌ حديثةٌ هذه الحكمة فإنها تُعاني من التراجع والالتباس، والتردّي في البربرية البدائية. إنها بذلك تكون قد عادت إلى نفسية القطيع، وأعرضت عن حدسيات وشرارات القلة المصطفاة. إنّ الحقبة الدينية التي نُعنى بها هنا شديدة الحداثة، وقد لا تعود لأكثر من ستة آلاف عام في الزمان، والتواريخ على أيّ حالٍ ليست مهمةً في هذا السياق؛ فبالوسع مَدُّ تلك الحِقَب إلى الوراء والغوص في أعماق التاريخ وما قبل التاريخ بحيث يستوعب ذلك الاستقصاء كل الحركات ذات الأبعاد التوقُّعية، كما يكون بالوسع أيضاً تقصير تلك الامتدادات الزمانية لتطورات الدين، بحيث تُقصى كلُّ بقايا المرحلة المبكّرة لتلك التطورات. لقد انتشرت الحركة الدينية الجديدة في أوساط كل الشعوب المتحضرة بآسيا وأوروبا. وفي الماضي، فقد أظهرت التحركات الأسيوية أنها الأكثر إثماراً، إنما في الألفي سنة الأخيرتين أعطت أوروبا الحركة الدينية العامة وجهاً جديداً. واللافت للانتباه أنّ النموذجين الأفضل للعقلانية في الدين إنما ازدهرا في بلدانٍ كانت شعوبها غريبةً عنها.
لقد كانت الأناجيل (العهدان القديم والجديد) هي الشاهد الأكثر اكتمالاً لتغلغُل العقلانية في الدين، وهي تستند في ذلك إلى الوثائق الأقدم التي نعرفُها. وعندما نتأمل تلك الوثائق نجد أنّ أهميتها تقع في مناطق ما بين النهرين: دجلة والنيل، وهي تشير إلى تقدم الفردانية ضمن الفكرة الدينية. في البداية سادت أنماطٌ معينةٌ من التفكير، ثم تمرد أنبياء ومنذرون ودعاةٌ متفردون، وقد أثار هؤلاء الأمة اليهودية، ثم نهض رجلٌ مع اثني عشر حوارياً، فاصطدم بمعارضةٍ شاملةٍ من جانب شعبه اليهودي، وبعد ذلك حمل رجلٌ آخر دعوة ذاك الرجل ونشرها في الآفاق، ومن الطريف أنه لم تكن له علاقةٌ بأُصول تلك الرسالة؛ لكنه استطاع ملاءمتها مع معطيات الزمان، بحيث وفّر لها ذلك الاستمرار، وعلى يديه أُضيفت أمورٌ على الرسالة الأولى، وضاعت أُمورٌ أخرى؛ إنما لحسن الحظِّ فقد كانت الأناجيل من ضمن ما بقي.
لقد وضعْتُ نُصْب العين حقَباً طولها ستة آلاف عام، ليس لأنّ وضْعها منطقي في ضوء الوثائق المتوافرة؛ بل ولأنها تتلاءمُ والوعي التاريخي للعهدين القديم والجديد. فنحن -في أوروبا وأميركا- وَرَثةُ هذه الحركات الدينية، الموصوفة في مجموعات الكتب والرسائل التي وصلت إلينا. وكلُّ نقاشٍ في مناهج الدين وفي تسويغاته لا بد أن يستند إلى الأناجيل. إنما يكون علينا أيضاً -من ضمن أمورٍ أُخرى- العودة إلى الموروث البوذي والموروث النصي الإسلامي، باعتبارهما ينتميان إلى السياق ذاته فيما يتعلق بالرؤية والدعوى والدعوة؛ وإنْ لم نذكر ذلك بالنصّ. الدين العقلاني هو الدين الذي أُقيمت مقولاته الاعتقادية وعباداته أو طقوسه وأُعيد ترتيبُها لتكونَ عنصراً مركزياً في نظام حياةٍ متماسك، إنه نظامٌ يتصل من جهة بالنصوص الفكرية، ويتصل من جهةٍ ثانيةٍ بالسير نحو هدفٍ محدَّد، يستند إلى واجب أخلاقي، ويتطلَّب الاتّساق والتماسك بين الفكر والعمل والهدف.
إنّ المنزلة الخاصة للدين ناجمةٌ عن وقوعه بين الميتافيزيقا المجردة، والمبادئ الخاصّة، التي لا يمكن الإفادةُ منها في الخبرات الحياتية إلاّ في حالاتٍ قليلة. أما الأهميةُ المُعطاةُ لمصطلحاتها؛ فإنها لا تكتسب وضوحاً إلاّ في لحظات التأمُّل، وهي لا تلفتُ الاهتمام لدى كثيرين منا إلاّ بإشارةٍ خارجية. وهكذا فإنّ الدين يستند بدرجةٍ رئيسةٍ إلى مختاراتٍ قليلةٍ مما تتيحه الخبرات العامة من هذا النوع. ومن وجهة النظر هذه؛ فإنّ الدين الذي يعدّ أحد بؤر الاهتمام لدى الإنسانية، تظلُّ حقائقُهُ ذات شرعيةٍ محدودة. لكنْ من وجهة نظرٍ مختلفة؛ يدّعي الدين أنّ مصطلحاته وحدودَهُ شاملةٌ وعامة، وأن الإيمان بالنظام أو المنظومة يقتضي إخضاعاً لكلّ الخبرات لهذا الاعتقاد العام.
يرى الدين المعقلن أنّ حقائقه تعود بشكلٍ مباشرٍ للحدْس بالوقائع الخاصة والتي يجب تعميمها، كما تعود إلى قوة تعريفاته ومصطلحاته وقدرتها على إيضاح وتعليل كلّ الأحداث. إنه يتطور من الخاصّ والخصوصي؛ لكنه يدّعي لنفسه العمومية والتعميم. إنّ مقولات الدين المُعقلَن تهدف إلى أن تكونَ الميتافيزيقا التي ترتفعُ فوق الخبرة المتوسطة للبشرية، والتي تَهَبُ في اللحظات الحاسمة قدرةً على التعمق (والفهم واليقين بالغائية). ومن الناحية النظرية، فقد كان بوُسع الدين المعقلَن الظهور تلقائياً وبشكلٍ مستقلٍ عن الديانات الاجتماعية المرتبطة بالطقوس والأسطوريات الاعتقادية. وقبل أن يظهر الوعي التاريخي ويستتبّ، كان المعتاد لدى لاهوتيي الجَدَل الميل إلى إيضاح أُصول دينهم بهذه الطريقة؛ بيد أنّ التاريخ العامّ للدين -وبخاصةٍ ذلك الجانب المتعلق بالأناجيل- ينقُضُ هذه الرؤية (التأصيلية). فالدين العقلاني إنما يظهر بالتدريج باعتباره تحولاً للأشكال الموجودة والسائدة من الأديان، ففي النهاية صارت الأشكال القديمة شديدة الضيق بالنسبة للأفكار الجديدة، ثم إنّ الأديان الحديثة في الحضارة تشير إلى أزماتٍ معيَّنةٍ في عمليات التطور هذه، ومع ذلك فإنّ التطور ما انتهى عند هذا الحدّ، والذي حصل فقط أنّ الدين اتخذ لنفسه أشكالاً أُخرى من التعبير أكثر ملاءمة.
إنّ ظهور الدين المعقلَن كان مشروطاً بقوةٍ بالتقدم العامّ للشعوب، والذي أثّر في تطور الدين أيضاً. لقد كان على الدين أن ينتظر قيام الأفكار العامة الأساسية، والمنظورات الأخلاقية العامة في الوعي الإنساني. لقد تطلب (التطور العقلاني للدين) أن تصبح تلك الأفكار سائدة، وليست تعابير صادرة عن أفراد منعزلين، بحيث تستقر في أشكالٍ تعبيرية يمكن استدعاؤها والتعامل من خلالها. فالحديث عن قيمة الرحمة لدى شعب معيَّن يكون ممكناً عندما يكون ذلك الشعب قد صار رحوماً بالفعل، ثم إنّ اللغة ليست وسيلةً كونيةً للتعبير، صالحة دائماً لكل الأفكار؛ بل إنها تمتلك قدرات محدودة للتعبير عن أفكار معينة، ولدى تلك المجموعة من الناس، التي تطورت لديها وسيلة التواصل والتوصيل تلك، وصارت تُستعمل غالباً، واشتدّت الحاجة إليها. وفي وقتٍ قصيرٍ نسبياً من تاريخ الإنسانية تطورت أحياناً طرائق تواصُلية في لغةٍ معينةٍ تمتلك مخزوناً ملائماً من المصطلحات العامة. إن المصطلحات والتعابير العامة تفترضُ أدبياتٍ سابقة، بحيث يكون الكلام مفهوماً عند الاستعمال، وهذا يعني أنّ التعامل بحريةٍ وسَعةٍ مع الأفكار العامة هو إنجازٌ متأخّر، وأنا لا أدعي هناك أنّ الذهن الإنساني ما كان قادراً على القيام بهذه المهمة؛ لقد احتاجوا فقط إلى عصرٍ كاملٍ، حتَّى صاروا معتادين على طرائق الاستعمال ومجالاته، وعلى اصطناع أعراف أصبح معها التفكير بالعموميات ممكناً وسائداً. وطوال قرونٍ يبدو أنّ اللغات الإنسانية كانت جاهزة، ولو أنّ الإنسان -بشكلٍ مباشرٍ أو من خلال أدبيات الثقافة مع جنسٍ بشريٍّ أعلى ثقافةً- أقبل على التواصل، ولربما كانت عمليةٌ قد نشأت وشارك فيها عشراتٌ أو مئاتٌ من الأجيال، وأدى ذلك كله للوصول إلى الحالة الجديدة، وعلى هذا الشكل تماماً تم التطور التاريخي لشعوب شمال أوروبا. هناك نظامٌ اجتماعي يؤدّي إلى تطوراتٍ في التفكير أو يشجعها، ويستطيع أن يُسرّع من هذه العملية، وعلى هذا النحو ظهرت النتيجةُ أصلاً(التي جرى الحديث عنها من قبل)، فالمجتمع واللغة نشآ معاً.
لقد ظهر تأثير ما جرى الحديث عنه من شعائر وطقوس وأساطير ونموذج لنظام ديني مأنوس، وكانت التقديرات لقيمة هذا النظام متباينة، وخلال ألف عام قبل ظهور الدين المسيحي كان هناك صراعٌ عنيفٌ من أجل تحويل الشكل البدائي، وكان الهدف الوصول إلى أُنظومةٍ جديدةٍ، والتي تجلت في الصيَغ المختلفة للديانات الكبرى المستمرة حتَّى اليوم. لقد تطورت عمومياتٌ في الأفكار الدينية، وجرى المصير إلى تحويل الأسطورة -إذا كان هناك إصرارٌ على التمسك بها- وإعادة تنظيمها؛ بحيث ظهر تصوُّرٌ واضحٌ في التاريخ وسياقاته، وتحولت بمقتضاه الأفكار العامة إلى نموذجٍ للاكتمال، ومن حيث المبدأ فقد جرى التسامح مع النقد العقلاني. ما عاد الإنسان يرجع الآن إلى عادات القبيلة، بل إلى الحدس الأخلاقي أو الميتافيزيقي أو المنطقي؛ "ذلك أنني وجدْتُ المتعة في المحبة وليس في الأُضحيات، وارتحت إلى الاعتراف بوجود الله ومعرفته بدلاً من حرق الذبائح"، وهذه الكلمات ينسبها هوشع إلى يهوه، وبذلك فهو يستعمل مبادئ النقد الفردي لعادات القبيلة، والتي يُسندُها إلى الإحساس أو الحدث الأخلاقي المباشر، وعلى هذا النحو شهدت الأديان تطوراً باتجاه أشكالٍ أكثر فردية، وأزاحت عن كواهلها الأبعاد الجماعية الخالصة، وبدلاً من المجموعة صار الفرد هو الوحدة الدينية الأساس، وأضاع الرقص القَبَلي الجماعي أهميته في مقابل صلاة الفرد، وصارت قلةٌ من المتدينين لاعتبار الصلاة الفردية مسوَّغةً بالتأمل الذاتي. اليوم ما عادت فرنسا هي التي تنجو في السماء، بل بعض الفرنسيين، وما عادت الصين هي التي تبلغ النرفانا، بل الصينيون. وفي هذه الحقبة من الصراع -بخلاف الصراعات الدينية غالباً- صارت الأحكام التي يطلقها المجدِّدون على الصِيَغ الدينية الأقلّ تطوراً قاتلة. إنّ إدانة عبادة الأَوثان تخترق الأناجيل، وهناك آثارٌ واضحةٌ لرفضٍ واستنكافات، تمضي بعيداً: "أنا أكره، أنا أشعر بالتقزز من احتفالاتكم"! هكذا قال عاموس، وهو يتكلم باسم يهوه. إنّ هذا النقد صار مرغوباً، نعم، إنّ التاريخ يذكر إلى يومنا هذا التقارير السوداوية عما يمكن لبعض الديانات أن تتسبَّب به من فظائع: الأُضحيات البشرية وبخاصةٍ ذبح الأطفال، وأكل لحوم البشر، والهلوسات الجنسية، والاعتقادات الباطلة، والكراهية بين الشعوب، والتشبث بعاداتٍ منحطّة، والهستيريات، والتعصب. وهذه الأُمور كلُّها يمكن أن يُتَّهمَ بها الدين أو تُنسَب إليه. فالدين قد يكون الملجأ الأخير الذي يلوذ به المرتكب لتبرير القسوة التي وقع فيها. وهكذا فإنّ وضع الدين والخير أو الطيبة في موقعٍ واحدٍ يمكن نقضُهُ مباشرةً؛ بيد أنّ الدين يمكن أن يكون الوسيلة الرئيسة للتقدم، وقد كان كذلك بالفعل؛ إنما عندما نستعرض تاريخ الجنس البشري يكون علينا أن نؤكّد أنّ البشر ما اتبعوا السلوك الفاضل بشكلٍ عام: "كثيرون هم الذين يدّعون التكليف؛ لكنّ قلةً من الناس هي التي جرى اختيارها أو اصطفاؤها بالفعل".