الحوار بين المسيحيين والمسلمين في النظرية والتجربة
هاينريش موسنغهوف
ما كانت كاتدرائية آخن -وهي كنيسة أسقفيتي- مركزًا أبرشيتيا فحسب؛ وإنما تكتسي هي أيضا أهمية قصوى بالنظر إلى تاريخ الفن. وفضلا عن هذا، فإن هذه الكاتدرائية تعد بمثابة رمز تطور [شعوب] أوروبا جنباً إلى جنب، وإن بناءها ليضرب بعمق في التاريخ؛ فهو يعود إلى زمن الإمبراطور شارلمان الذي -باعتباره أول عاهل ذي توجه أوروبي حقيقي- أراد أن يقيم ببنائها رمزاً دينياً وإمبراطورياً حوالي عام 800م. ولقد حدث أنه في عام 2003م قمت باستقبال ممثلي أكبر ديانات العالم بالكاتدرائية والترحيب بهم. ثم إن آخن استضافت اللقاء العالمي الموسع لإقامة الصلوات من أجل السلام، والذي تمت المبادرة إلى الدعوة إليه من لدن الجماعة الإيمانية للقديس إيجيديو. وقد أسهم المسلمون بدورهم في لقاء الصلاة من أجل السلام هذا بآخن؛ وذلك لأن هذا التجمع كان تجمعاً روحياً للتقاليد الدينية. ويمكن أيضا تفسير مشاركة المسلمين في الصلاة من أجل السلام بآخن بواقعة أن العديد من المواطنين المسلمين اليوم يحيون بهذه المدينة التي هي مدينة موسومة بقوة بالطابع الكاثوليكي. والحال أنه منذ عام 1964م وآخن تتوفر على مركز إسلامي أنشأته الجامعة والمدينة والطلبة المسلمون. وإن مسجد بلال -الذي شيد في ذلك العهد- ليعد اليوم الأقدم من بين مساجد عدة بآخن. وجماعة المسلمين هناك تنحدر من أصول مختلفة، وذلك بحيث إن التقاليد المحلية بدورها دفعت بالمسلمين إلى المشاركة في لقاء الصلاة من أجل السلام. وفي ذلك الوقت كنت قد خاطبت الجمع بحبور، قائلا: "إنما الرب رب وأب لكل بني البشر، وإنما هو "الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يُخَلَّصون"(رسالة بولس الأولى إلى ثيموثاوس، 2-3)، وإن الرب ليرعى كل الناس، وإنه ليحب كل الناس، وإن الرب لهو رب كل الناس".
منذ مائة سنة خلت ما كان بالإمكان الاعتقاد بأن تكون قد ألقيت مثل هذه الكلمات من لدن أسقف كاثوليكي، وإلى حدود المجمع الفاتيكاني الثاني، فإن علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالأديان الأخرى كانت توصف -في أفضل أحوالها- بالاهتمام بهذه الأديان، لكن مع حفظ المسافة فيما بينها. ولئن كان أكيدا أن هذا الموقف ما كان السبب الوحيد للصراعات في الماضي؛ فإنه أسهم في إذكائها. هذا وقد أحدث المجمع الفاتيكاني تغييراً كبيراً؛ فخلال هذا التجمع لرجالات الكنيسة الكاثوليكية بروما -الذي بدأ من عام 1962 واختتم عام 1965- نظر البابا والأساقفة من كل بلدان الدنيا في أمر الكنيسة وفي شأن مسار مستقبلها.
وقد خلص المجمع إلى افتراض أن كل بني البشر -سواء أكانوا على وعي من أمرهم أم لا- إنما هم موجهون إلى الرب مقبلون عليه! وقد نظر المجمع إلى بقية الأديان من خلال هذا المنظور (نور العالم، 16)، وهو منظور احترام للأديان. ورغم أن هذا المنظور لا يؤدي بالمرء إلى القطع مع ما يعتقده من أن دينه هو دين الحق، فإنه تم الاعتراف -بوفق طريقة في النظر مختلفة هذه المرة- بأن الحق لن يكون متحققا إلا بفضيلة في المرء كائنا من كان؛ وبالتالي فإن "للإنسان الحق في الحرية الدينية"(الكرامة البشرية، 9). والحال أنه كان لهذه اللمحة اللاهوتية -فضلا عن احترام كرامة الكائنات البشرية- أثر على الطريقة التي صار ينبغي أن يتعامل بها أفراد مختلف الأديان فيما بينهم. وقد سمي هذا المنظور الجديد بحق تغييرا. ومنذ المجمع الكنسي الثاني اتسمت صلة مسيحيي الكاثوليكية مع الأديان الأخرى بتوجه نحو الحوار. ولن يكون من المفاجئ أن نقول: إن هذا التغيير الجوهري لم يفهم من لدن كل الكاثوليكيين حق فهمه؛ فإلى حد الساعة لا تزال تثار تساؤلات حوله، على أن موقف الكنيسة أمسى واضحا بهذا الخصوص.
هذا وقد ذهب المجمع إلى حد أن نشر إعلانا خاصا يدور على الصلة بين الكنيسة والأديان غير المسيحية، والحال أن هذا الأمر ما كان قطعا أمرا مسبوقا من ذي قبل في تاريخ الكنيسة؛ ذلك أن الإعلان المسيحي حول صلة الكنيسة بالأديان -[والمقتبس عنوانه من أول كلمتين في خطاب البابا يوحنا بولس الثاني باللسان اللاتيني: "في عصرنا..." Nostra Aetate]، والصادر في 28 أكتوبر من عام 1965- إنما بني على المقدمة التي تقول: حقيقة البشرية أنها تشكل جماعة واحدة؛ أَلا إِنَّ كل الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد... ولهم غاية أخيرة واحدة وهي الله: منه كنتم، وإليه ترجعون ("في عصرنا..."، 1)، وإن بني البشر لينتظرون من مختلف الديانات جواباً على الألغاز الخفية، ألغاز الوضع الإنساني. وتحاول الأديان كافة أن تجيب عن الأسئلة عينها، كل واحدة منها تسلك في إجابتها طريقتها الخاصة، ثم ما يفتأ يصرح الإعلان في احترام كامل: "إن الكنيسة الكاثوليكية لا ترفض شيئاً مما هو حق ومقدس في هذه الديانات. إنها تنظر بعين الاعتبار الصريح وباحترام إلى طرق الحياة والسلوك، وإلى تلك الشرائع والعقائد، التي وإن اختلفت في نقاط كثيرة عما تؤمن به الكنيسة وتطرحه؛ فإنها كثيراً ما تعكس شعاعاً من تلك الحقيقة التي تنير لكل البشر".
وفي فصل متعلق بالمسلمين تدعو الوثيقة المذكورة إلى ما يلي: "إن المجمع المقدس يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معاً العدالة الاجتماعية والخير الأخلاقي والسلام والحرية لفائدة جميع الناس". ("في عصرنا..."، 3). والحال أن هذه الرسالة لا تزال صالحة إلى اليوم، وهي لا تشوش على التزام الكنيسة وتعلقها بيسوع المسيح، هي ولا تقطع مع مقتضيات الإيمان المسيحي الخاص بالكنيسة. والحق أن إنجازا مثل هذا لهو -بالنسبة إلى لاهوت الأديان لدى المسيحيين حيث يتم هكذا حديث عن الأديان الأخرى باحترام بل بإجلال- إنجاز ملفت للنظر بحق. على أن هذا الأمر ما كان ليلغي الجدالات الثنائية وخصومات الماضي، ولكن نشأ عنه إجلال "جديد" تم إبداؤه بالخصوص تجاه المسلمين.
الحق أن هذا [الكلام الوارد في وثيقة صلة الكنيسة الكاثوليكية بالأديان، ولا سيما بالمسلمين] ما كان مجرد كلام فارغ من المعنى؛ فمنذ ذاك الحين وهو ما يفتأ يُفْعَم حياة. وذلك خصوصا مع البابا يوحنا بولس الثاني الذي سعى إلى إجراء الحوار مع الأديان الأخرى، وقد فعل ذلك بقناعة تامة؛ وذلك بحكم أنه كان شاهدا على معاناة شعبه البولوني أثناء الحرب العالمية الثانية وتحت الحكم الشيوعي، وقد وقف بكل شخصه مع المصالحة. وهكذا كانت الكلمات التي وجهها إلى شباب الغرب، في خطاب يحظى بالتقدير ومدعاة لثقة بالغة، شاهدة على ذلك: "كلكم يا شباب قادرون على التحاور، ولستم تتمنوا أن تشوش عليكم الآراء الخاطئة المسبقة، وإنكم لمستعدون لبناء حضارة قائمة على المحبة، وبإمكانكم العمل على جعل الحواجز تسقط، وهي حواجز تعود أحيانا إلى العُجْبِ، ولكن مردها غالبا إلى ضعف الإنسان وإلى خوفه، وإنكم لتتمنون أن تحبوا الآخرين، بلا حاجز من أمة أو عرق أو دين". هذا، ولقد كان البابا يوحنا بولس الثاني يحظى بتقدير عال، وقد نكست الأعلام يوم وافته المنية، وذلك حتَّى في الدول ذات الأغلبية المسلمة، مشاركة بذلك في أحزان الحداد عليه. وأما البابا بندكتوس الخامس عشر، فذاك رجل وإن كان أكثر عقلانية، فإنه ليس أقل مثابرة [على استمرار الحوار]. وإن العديد من الملاحظين ليرى أن فترة توليه البابوية تدشن حقبة جديدة من الحوار. لقد سار البابا على درب القنطرات التي شيدها أسلافه، إلا أنه تقدم في السير قدما؛ ذلك أنه سعى إلى إقامة حوار لاهوتي. وعلى الأسس التي هيأها المجمع وأعدها سابقوه، شاء الرجل إقامة أسس لاهوتية متينة تكون من أجل المستقبل. وبما أنه عالم بحاثة، فإن عمق النفاذ الفكري إلى غور الأمور، والرغبة في توضيح الأفكار توضيحا، كانت دائما أمورا مهمة بالنسبة إليه. وهكذا، فإن الحوار -كما ينبغي أن يقال- صار أكثر لاهوتية، وذلك بالرغم من أن التفكير والحوار قد يفضيان في بعض الأحايين إلى المجادلة. وبالنسبة إلى المشارك في المحادثات، فإنه يبدو من العسير جدا طرح المسألة بوفق كلمات واضحة الدلالة. على أنه يمكن لهذا الأمر أن يكون ذا أثر ملهم وموضح للأمر ومحرِّر.
وإنه لأمر إنساني حقا أن تحدث أشكال من سوء الفهم وألوان من الأخطاء بالرغم من أن النوايا تكون حسنة، وإن الاستشهاد المضلل الذي ورد في خطاب البابا في 12 سبتمبر من عام 2006 بجامعة ريغنسبورغ قد قاد إلى ردود فعل نقدية، بل وحتى جزئيا إلى ردود فعل مبالغ فيها في العالم الإسلامي، وقد عبر البابا في مناسبات عديدة عن أسفه، إلا أنه عبر في الوقت نفسه عن رغبته في مواصلة الحوار. ففي لقاء له مع سفراء البلدان، في 25 سبتمبر 2006، ركز البابا على فكرة أنه في عالم مطبوع بالنسبية والمحايثة وفقد الاعتراف بكونية العقل، نحتاج إلى حوار حقيقي بين الأديان والثقافات.
وخلال مقامه بتركيا -بعد أشهر من ذلك- استعرض البابا آفاق التعاون المسلم/المسيحي وقال: "نحن مدعوون للعمل جنبا إلى جنب، وذلك بغاية مساعدة المجتمع على فتح نفسه أمام المتعالي مانحين للرب تعالى مقامه الملائم، وإن أفضل سبيل لتحقيق التقدم إلى الأمام لهو سلك سبيل حوار أصيل بين المسيحيين والمسلمين، قائم على الحقيقة وملهم بتمنٍ صادق في أن يعرف الواحد منا الآخر أفضل المعرفة ما أمكن، وأن نحترم اختلافاتنا، وأن نتعرف على ما هو مشترك فيما بيننا".
بداية، كان لخطاب ريغنسبورغ بعض العواقب السلبية، ولكن بالرغم من ذلك كانت للأزمة بعض الآثار الإيجابية على الحوار المسيحي الإسلامي؛ فما صار فيما بعد كان هو الرسالة التي وجهها 138 عالما مسلما إلى البابا بنديكتوس الخامس عشر وإلى الزعماء المسيحيين عام 2007. وبعد محادثات أولية، فإن الزعماء الممثلين للإسلام التقوا بممثلي المجمع البابوي للحوار بين الأديان وذلك لإقامة "منتدى كاثوليكي إسلامي" من 4 إلى 6 نوفمبر من عام 2008. وإن البلاغ الختامي لهذا المنتدى لَإِقرار مؤثر بالمحبة باعتبارها أساس الدين، وبالحرية الدينية وبحماية الأقليات الدينية، كما هو دعوة إلى نظام اقتصادي ومالي أخلاقي. وبما أن الجانبين معا عانيا مع وضع صعب وغيراه إلى حال أفضل؛ فإن الأزمة -كما سماها البابا بنيديكتوس الخامس عشر بحق- كانت لها آثار إيجابية على الحوار.
في القسم الثاني من مقالي هذا أود أن أستعرض في عجالة:
1. ما الذي ننتظره نحن معشر المسيحيين من الحوار.
2. وما الذي نتوقعه من شركائنا المسلمين في الحوار.
3. وما الذي يمكن أن يتوقعه شركاؤنا المسلمون من الحوار معنا.
1. ما الذي ننتظره من الحوار؟
لا يمكن للحوار أن يقوم إلا إذا كان الشريكان فيه لكل واحد منهما موقعه الخاص وقناعته المخصوصة، ولن يكون الحوار ممكنا اللهم إلا إن كان هناك اهتمام مشترك نزيه، وإلا إن تم احترام حرية الشريك في الحوار وكرامته. وإن ما يطلب مسبقا في أي حوار حقيقي لهو الانفتاح. ولهذا الداعي، لا يمكن أبدا التنبؤ في بداية أي حوار بما سيفضي إليه، وكل ما يمكن انتظار أن يسفر عنه أي حوار إنما يكون مبنيا على الأمل. وبهذا المعنى، فإن الطرف المسيحي في الحوار ليتمنى على محاوريه من المسلمين ثلاث أمانٍ:
الأمل الأول يحيل إلى تفاهم متنام؛ ذلك أن تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية شهد على حقب تعاون وتبادل، لاسيما في المسائل الفلسفية واللاهوتية؛ لكنه أيضا كان تاريخ تباعد من الطرفين وصراعات عنيفة. وفي القرون الماضية أظهر المسيحيون والمسلمون أحكاما مسبقة بعضهم عن بعض وأساء بعضهم إلى بعض، وكنوا الضغينة بعضهم إلى بعض، وهذه أمور مشينة عليهما أن يصححاها وأن يتجاوزاها بإجراء حوار مفتوح. وحين نتحدث بانفتاح، وبثقة متبادلة حديث إنسان لإنسان، ومواطن لمواطن، ولاهوتي للاهوتي، فإنه يمكننا حينها أن نفهم أفكار غيرنا الدينية فهما جيدا. وبقدر ما يكون المرء قادرا على فهم الخلفية الدينية لقرارات وقيم الشريك في الحوار، يكون قادرا على فهم إيمانه الخاص به فهماً أفضل. وهكذا فجأة تجد المرء يكتشف ما يشترك فيه مع شريكه. وفي هذا السياق، أذكر هنا الدعاء الجميل في سورة الفاتحة؛ ذلك الذي يعلن فيه المسلمون عبوديتهم لله، ونحن أيضا من جهتنا نعتبر صلواتنا وأعمالنا لخدمة الرب وعبودية له. ومن الأهمية بمكان أن يكتشف المرء أمورا غير متوقعة أثناء الحوار، حتَّى ولو كانت أمورا تتعلق بما نختلف فيه، وهنا أذكر المذهب المسيحي القائل بميل النفس البشرية إلى الشر، والذي ليس يمكن أبدا الخلاص منه إلا بالاتحاد بيسوع المسيح. والحال أن المسلمين ينظرون إلى هذا الأمر من وجهة نظر مختلفة. فلنا في هذا الأمر آراء متباينة، ولكن بالرغم من كل الاختلافات يمكننا أن يتحدث بعضنا إلى بعض.
والأمل الثاني الذي يأمله المسيحيون من الحوار هو أن يعمد أولئك الذين لا زالوا لا يعترفون بيسوع المسيح مخلصا لهم أن يدركوا حقيقته الكاملة. وإن من شأن أولئك الذين يعدون دينهم دين خلاص للناس أن يفهموا هذه الأمنية. وإن شركائي المسلمين في الحوار ليأملون من جانبهم أن أكتشف ثراء الإسلام بنفسي. وبطبيعة الحال، من حقهم أن يتمنوا مثل هذه الأمنية؛ لكن على كل إنسان أيضا أن يحترم قناعات الآخر الدينية، ولن يكون اتخاذ القرار بالنسبة إلى اتباع إيمان بعينه حقيقيا وأصيلا إلا إذا بني على فتح وهداية، وإن تم بحرية. وبكل حرية ونزاهة يمكن أن يشرح كل منا إيمانه للآخر، وكل دين من حقه فعل ذلك بالمثل. ولاسيما عندما يكون المسيحيون يحيون في بلدان ذات أغلبية مسلمة أو حين يكون المسلمون يعيشون في بلدان ذات أغلبية مسيحية، ففي كلتا الحالتين عليهما معا أن يسعيا إلى إجراء حوار فيما بينهما. وليس يهدف الحوار إلى بيان درجات الاختلافات، وإنما يبتغي فهماً أحسن وتعايشا أفضل. والحال أن الاحترام والتسامح شرطان قبليان ضروريان لهذا الأمر.
أما الأمنية الثالثة فهي أن يؤدي الحوار إلى تحسنات في السلوك بقدر ما يتعلق الأمر بالجوانب العملية للعيش المشترك. ولهذا الداعي، أود أن أذكر بضعة أمثلة استقيتها من بلدي، وقد تحققت فيه منذ أمد. إن بناء المساجد مثلا مسألة حساسة في قرانا وفي مدننا التي انطبعت أيما انطباع بالكنائس لعهود قد خلت. وفي الوقت نفسه، فإن عدد المساجد صار يصعب حصره؛ ففضلا عن بيوتات الصلاة، ثمة مساجد كبرى شيدت. وفي بعض الأحيان يخشى جمهور الألمان من المساجد وهم يخشون التلوث الناجم عن الضجيج، أو حتَّى يهابون المواجهة. وفي مثل هذه الأحوال، فإنه سوف يكون أمارة أمل إن عمدت الجماعات الكاثوليكية إلى دعم بناء مسجد، وإذا ما أظهرت التضامن مع المسلمين. ولقد تعلم المسلمون أنه ليست الآراء الخاطئة هي التي تقف في وجه إقامة مشاريع البناء؛ وإنما قوانين البناء السارية هي ما يفعل ذلك. وفي الحوار الحقيقي، فإن كل هذه الصعاب يمكن تذليلها. وهذا من شأنه أن يخلق أيضا مناخا من الحوار مساعدا على طرح المسائل الشائكة المتعلقة ببناء الكنائس في البلدان المسلمة. وفضلا عن هذا، ثمة مسائل أخرى مطروحة ذات صبغة عملية، وتتعلق بضرورة أن يلقي الأئمة خطبهم باللسان الألماني؛ ذلك أنه إذا كان الإسلام -كما يقول الرئيس الفدرالي بتركيا- صار جزءا من ألمانيا، فإنه عليه أن يُدعى إليه ويوعظ بلسان البلد. سوف أكتفي بهذين المثالين، وهما يظهران أن التعايش بين المسيحيين والمسلمين يمكن تحسين مستواه بمقاربة ذات توجه علمي.
2. ما الذي ننتظره من شركائنا المسلمين في الحوار:
في أثناء حديثي مع المسلمين، عادة ما أسمع قول الله في القرآن: "لا إكراه في الدين"(البقرة. الآية 256)، وفي الإعلان الملحق المتمخض في الملتقى الكاثوليكي الإسلامي الذي انعقد يوم 6 نوفمبر من عام 2008، يمكن العثور على الشاهد القرآني عينه وقد تم إيراده بهذه المناسبة. وفي هذا الإعلان، نص المشاركون المسلمون والكاثوليكيون على ما يلي: "تتضمن محبة الجار احترام الشخص... واختياراته في شؤون الضمير والدين. وهي تتضمن حق الأفراد والجماعات في ممارسة شعائر دينهم في المجال الخصوصي والعمومي معا، ومن حق الأقليات الدينية أن تحظى بالاحترام الخاص بقناعاتها الدينية وممارساتها الشعائرية". وأنا أعتدّ هذا الإقرار المتعلق بالحرية الدينية وبحماية الأقليات بجدية تامة، وأعده بمثابة أمر يتعلق بي أنا شخصيا.
والحال أن هذا الموقف المتسامح قد تجلى في واقعة كون المجلس التنسيقي لمسلمي ألمانيا (KMD) أدان بأقوى العبارات الممكنة الهجوم الرهيب ضد أناس يصلون بكنيسة القديسين بالإسكندرية مباشرة بعد وقوع الحادثة: "من شأن ذاك الذي يحدث الضرر بالناس في مثل هذا الطعن من الخلف وبهذه الطريقة الوحشية ألا يمكنه أن يحتمي ويستشهد بأي نوع من الديانة أو من الإيديولوجيا. إن القرآن يطالبنا بصون الحياة وحماية أماكن العبادة" (إعلان المجلس التنسيقي لمسلمي ألمانيا ليوم 1 يناير 2011). بالنسبة إلى الناس بألمانيا كان هذا الإعلان بمثابة إشارة قوية هامة.
وعلى علماء الإسلام بدورهم أن يستخدموا نفوذهم على عامة المسلمين لكي يفسروا إلى أتباعهم أن الأمر المتعلق بملاحقة المشركين (التوبة؛ الآية 5 ﴿إِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾) الذي يعود إلى الحقبة المبكرة من تاريخ الإسلام ما عاد صالحا اليوم؛ فكل الزعماء الدينيين من واجبهم الدعوة إلى ثقافة المحبة والتفاهم وعدم العنف. على أننا نحتاج إلى أكثر من مجرد الاحترام المتبادل. أَوَ لسنا ملزمين بأن نشهد على إيماننا بإله واحد، لا سيما في عالم مهدد بالاغتراب الديني وبتنامي النزوع الاقتصادي المادي؟ هذا الإيمان من شأنه أن يجمعنا. وأليست هذه العقيدة المشتركة تدعونا إلى ضرورة العمل ما أمكن ذلك سوية لصون الحياة البشرية وبناء عالم أكثر عدلاً وإقامة السلام والحفاظ على الخليقة؟ عندما يلتقي المسيحيون والمسلمون، فإن عليهم ألا يكونوا -كما أشار البابا إلى ذلك- "وجها لوجه"؛ وإنما "جنبا إلى جنب"(لندن 17 سبتمبر 2010). والحال أن من شأن هذا التعاون أن ينهض بدور دافع قوي لحكوماتنا ولمجتمعنا.
والحق أن هذه الشهادة لمن شأنها أن تكون مقدمة إلى العالم بأسره، ولاسيما في مجتمعاتنا الغربية الحديثة، حيث يعرض العديد من الناس عن الإيمان، وتهدد العولمة الثقافات التقليدية، وتصير الأسس الطبيعية للوجود في خطر، ويهدد تدفق الرساميل وجود سائر الأمم تهديدا حقيقيا. يمكننا أن نشتكي من كل هذا، ولكن ليس يمكننا أن ننفلت من عالم اليوم. إن الله قد وضعنا في هذا العالم، وإن علينا تشكيل هذا العالم. وما كان الغرض أن يبحث المرء عن مكان آمن يلوذ به ليحفظ وجوده الخاص؛ وإنما الأمر أن يحيا الناس وأن يعيدوا اكتشاف ثراء تراثنا وما ورثناه، وأن يعملوا على تعميق التجربة الروحية وإثراء الحياة الاجتماعية بالقيم الدينية. والحال أن جدية العديد من المسلمين بألمانيا وإخلاصهم في صلواتهم ونزاهتهم وأريحيتهم وتواضعهم وسكينتهم، كل ذلك يحركنا. ولكن، لئن كان لهذا الميراث أن يزهر وأن يؤتي ثماره بأوروبا، فإن عليه أن يعير الانتباه إلى تاريخ أوروبا وقناعاتها وتجاربها ورؤاها. وإننا لنأمل أن يعمد شركاؤنا المسلمون إلى إغناء حياتنا في جانبها الثقافي والروحي وفي مجال الخلق والإبداع والتقويم التحليلي. ولئن نجح هذا الأمر، فإنه سوف تعمل هذه السيرورة على تغيير المسيحيين والمسلمين. وإني لأعتقد أن هذه العملية ضرورية بالنسبة إلى مستقبل بلداننا وإلى تجمع الشعوب وتوحدها.
3. ما الذي يمكن أن يتوقعه منا شركاؤنا المسلمون في الحوار:
منذ بدء القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن العشرين، تميز موقف الكنيسة من المسلمين -في جانب كبير منه- بالبعد والإدانة، ومنذ عصر النهضة أبدت أوروبا اهتماما جديدا بالإسلام وبالشرق، ومهدت السبيل من أجل تغير في الرؤية. وفضلا عن هذا، أدت التغيرات الشاملة إلى فهم جديد لوحدة الشعوب والثقافات، وليس يسعنا إلا أن نكون مدينين لهذا التطور معاصرين له. ومن جانب الكاثوليكية، أدى هذا الأمر إلى التغيرات التي أحدثها المجمع الفاتيكاني الثاني، وقد سبق أن تحدثت في هذا الأمر. ومنذ حينها تطورت فرص عديدة للتواصل ونمت مستويات للحوار، ومن بينها المجلس البابوي للحوار البيني بين الأديان بروما. ففي كل عام، يوجه المجلس خطابا عند نهاية رمضان إلى "الأصدقاء المسلمين ". وفي هذا إشارة لا شك أنها صغيرة؛ لكنها مهمة إلى التغير الذي شهدته العلاقة مع المسلمين. ثمة معهد آخر مقره بروما أيضا بالجامعة الغريغورية البابوية، هو "معهد الدراسات المتعددة التخصصات الخاصة بالدين والثقافة". وهو معهد يركز على الجوانب العلمية للحوار فيما بين الأديان وعلى إعداد أعضاء الكنيسة للحوار، لاسيما الحوار مع المسلمين.
وثمة مسيس حاجة خاصة بألمانيا التي تضم 4 ملايين مسلم يحيون فيها بما يناهز 5 بالمائة من مجمل سكان البلد البالغ عددهم 80 مليونا، حيث أحدث مركز للعلاقات المسيحية الإسلامية والتوثيق الخاص بلقاء القساوسة الألمان، وذلك لكي يستجيب إلى هذه الحاجة ولكي يشجع على الحوار بين الأديان، ويحض على التعايش بين المسيحيين والمسلمين. وثمة اتصالات ودعوات ومناقشات على كل المستويات تصل حتَّى مستوى الخورنية [الرعية التي يشرف عليها خوري]، لكن هذا ليس يعني بالضرورة أن كل شيء قد تم إنجازه، أبدا ليس هذا ما قصدت إليه؛ وإنما ثمة أشياء كثيرة ينتظر أن تنجز بغاية تجاوز مشاعر الغربة وتشجيع الحوار. وفي هذا الإطار، فإنه لأمر مفيد حقا أن تفتح العديد من الجماعات بالمساجد أبوابها، وأن تدعو جيرانها المسيحيين إليها، بما أن هذا الأمر من شأنه أن يحقق تجاوز نظرة الاستغراب وموقف الغرابة.
وتقدم الجامعات الألمانية في أيامنا هذه إمكانات جديدة؛ ذلك أنه من المعلوم أن ألمانيا تتوفر على حوالي 50 كلية لاهوت ومراكز إعداد (ومثيلها من الكليات ومراكز الإعداد الإنجيلية). هذه واقعة مقررة معروفة، ومعروف أيضا تقليد الدراسات الإسلامية العربية ببلدنا، وهو تقليد يعمد الباحثون من خلاله إلى مقاربة الإسلام والمجتمعات الواقعة تحت تأثير الإسلام من منظور لاهوتي أكثر حيادية. وقد أثمرت الدراسات الإسلامية عن نتائج يعترف بها حتَّى المسلمون، تكفي الإشارة هنا إلى بحوث آن ماري شيمل في التصوف، وتحليل جوزيف فان إس لعلم الكلام المبكر، ودراسات أنجليكا نيوويرت للقرآن.
ومنذ سنة خلت، أوصى مجلس العلم والدراسات الإنسانية- وهو أهم جهاز استشارة وتوجيه مكلف ببنية وتطور التعليم العالي والبحث- بإقامة معاهد لعلم الكلام الإسلامي في ثلاث جامعات عمومية. وإن هذه المؤسسات سوف تصير مراكز للبحث في علم الكلام الإسلامي، ولسوف تلعب دورا مركزيا في تشجيع الباحثين الشباب في حقل الدراسات الإسلامية. وإن مهمة أخرى أوكلت إلى هذه المعاهد المنتظر إحداثها تتجلى في تأمين تكوين المكونين الدينيين الإسلاميين. وفضلا عن هذا، يمكنها أن تحقق تكوينا علميا للأئمة. والحال أن هذه التوصية حظيت باهتمام كبير ولقيت القبول بألمانيا، وقد دعمها مختلف ممثلي الإسلام. لكن ثمة بعض القضايا العالقة التي يلزم توضيحها؛ شأن مقرات المعاهد، وعدد الأساتذة، والتجهيزات الخاصة بها. ثم إن مسألة أخرى عالقة مدارها على التمثيل المسؤول الإسلامي، وذلك بما أن الدولة العلمانية لا يمكنها أن تقرر في الشؤون اللاهوتية. وعلى الرغم من بعض المسائل العالقة، فإن هذه المعاهد الجامعية المتعلقة بالدراسات الإسلامية سوف تخرج إلى الوجود في القريب العاجل. وقد رحب مجمع الأسقفية الألمانية بهذا التطور في بلاغ عمومي، معبرا عن أنه في مجال حرية الاعتقاد، فإنه يمكن للمسلمين أن يطالبوا بحقوق الكاثوليك نفسها. فمن حق المسلمين أيضا أن تكون لهم معاهد تعليمهم العليا ومعلموهم الدينيون بتأهيل أكاديمي من المدارس العمومية. وبطبيعة الحال، فإن المعايير نفسها يجب أن تحترم، كتلك المطبقة في كل التخصصات الأكاديمية الأخرى بجامعاتنا.
من هذه المقدمات تنبع إمكانات جديدة كل الجِدَةِ: من جهة، لا يحتاج المجتمع الحديث فحسب إلى التقدم التكنولوجي، وإنما يحتاج هو أيضا إلى مرجعيات. وفي الخطاب العلمي، فإنه ليس فحسب اللاهوت المسيحي، وإنما الإسلام بدوره يمكنه أن يوفر هذه المرجعيات. ومن جهة أخرى، فإنه على المجتمعات الدينية ولاهوتها أن تجهد -وهو كذلك مطالب مجلس العلم والدراسات الإنسانية- في أن تفكر في إيمانها الخاص، وأن تقيم الحوار مع المباحث الأخرى، وأن تستجيب للتحديات الجديدة، وذلك بتقديم إجابات قائمة على معتقداتها. وهذا يتضمن -بطبيعة الحال- التزاما قويا بالعقل الدنيوي كما عرفناه -نحن معشر المسيحيين- منذ عصر الأنوار بأوروبا، ومنذ أن ثمنه أيضا وزكاه المجمع الفاتيكاني الثاني. وأخيرا، من شأن كليات اللاهوت أن تنتمي إلى جامعاتنا، وذلك بما أن اللاهوت هو أحد مباحثها وتخصصاتها الكلاسيكية. وبالجملة، هذا يعني أنه يمكن لعلم الكلام الإسلامي بجامعات بلداننا أن يسهم إسهاما جوهريا في تطبيع الإسلام بأوروبا وفي التعايش السلمي بين أناس من مختلف الأديان والثقافات.
إن التعايش السلمي بين أناس من مختلف الأديان والثقافات لهو أمر ذو حيوية مهمة بالنسبة إلى مستقبل العالم الذي يتميز بشهادته على تغيرات عميقة وعلى العولمة. وكل من يملك إرادة حسنة مدعو إلى الإسهام في هذا الإطار. وهذا ينطبق على المسيحيين وعلى المسلمين بخاصة، والذين عليهما أن يبحثا عن سبيل سواء، وذلك لما يكون هذا الأمر ممكنا. ولكم أن تطمئنوا بأن الكنيسة الكاثوليكية قد قطعت على نفسها العهد بأن تدعم كل الجهود التي تبذل بغاية تحقيق هذه الغاية.