المصطلح المدني عند الفارابي وفي الفلسفة الإسلامية
منى أحمد أبو زيد
تمهيد:
ارتبط مصطلح «المدني» في الفلسفة الإسلامية بمفهوم المدينة والاجتماع الإنساني، وورد بعدة صور منها: «التدبير المدني»، و«العلم المدني»، و«السياسة المدنية»، وغيرها. واستخدم مصطلح المدني بصورة واسعة في مجال السياسة.
والتدبير المدني يكون بالعقل والمعرفة والتروي في السياسة، وهذا يقتضي اللين والرفق، والتأني مع الشدة في مواضع الشدة، وضبط النفس وحفظ الذات، والحرص على حسن القيام بحوائج الناس، وقضاء أمورهم بالكياسة والذكاء، وصون الأعراض، وحفظ مصالح الناس في اجتماعهم.
والتدبير المدني أمر لازم من أجل خلق سياسة للجميع، وهو وسيلة للتفكير في حل مشكلات التفاوت بين الناس في الصفات والمراتب، وهو يعالج المشكلات الناجمة عن المفاضلة بينهم في الأملاك والثروات، ويعقلن التنافس والتحاسد، وينتصر للعدل والإنصاف.
وقد نظر الفلاسفة المسلمون إلى التدبير المدني للمدينة على أنه صورة مصغرة من التدبير الإلهي للكون، وعقدوا مقارنة بين المجالين، كما عقدوا مقارنة أخرى بين نظام المدينة وطبقاتها مع النفس الإنسانية وقواها، ووصلوا من ذلك إلى وجود قانون كلي عام دائم وثابت يحكم كلاً من الكون والمدينة والنفس؛ فالنظام السياسي في المدينة له قانون كلي، إذا التزمته أي مدينة صارت مدينة فاضلة، كاملة وعادلة. فالعلم المدني وعلم النفس وعلم الكون هي علوم مترابطة بطريقة ما، وبالتالي فالنظر في أحدها يعطي صورة للعلمين الآخرين.
ولم يكن الفارابي (ت339هـ) أول من انبرى للكتابة عن السياسة في الفلسفة الإسلامية؛ إذ تخبرنا كتب المؤرخين أن الكندي (ت252هـ) هو أول من قام بهذا العمل، وألَّف إحدى عشرة رسالة في السياسة والأخلاق, وجاء بعده تلميذه أحمد بن الطيب السرخسي (ت286هـ) ووضع كتابًا في الحسبة الصغرى والحسبة الكبرى، وكتابًا آخر في السياسة.
كما شهد عصر الفارابي اهتماما بالمباحث السياسية، ويكفي أن نشير في ذلك إلى بعض معاصريه، ومنهم «أبوزيد أحمد بن سهل البلخي» (ت322هـ) الذي سلك في مصنفاته طريقة الفلاسفة، ومن مؤلفاته: السياسة الصغير، والسياسة الكبير، بالإضافة إلى أبي الحسن العامري (ت381هـ) صاحب كتاب «السعادة والإسعاد» الذي لخص فيه محاورة الجمهورية لأفلاطون.
وبعد الفارابي توالت كتابات الفلاسفة المسلمين في السياسة وتدبير المدن، منذ ابن سينا (ت428هـ) مرورًا بابن باجه (ت529هـ) وصولاً إلى ابن رشد (598هـ) وانتهاءً بابن خلدون (ت808هـ).
وقد بحث الفلاسفة المسلمون في «تدبير المدينة» معنى التدبير المدني، وأنواع المدن، وعلاقة الفيلسوف بالمدينة، ورئاسة المدينة، وعلاقة الأخلاق بالسياسة، وعلاقة السياسة بالدين. كما بحثوا عدة مفاهيم مثل: العدالة والفضيلة والسعادة والكمال، وجمعوا هذه المفاهيم في تصورهم للمدينة الكاملة الفاضلة العادلة، وتساءلوا: كيف تبنى المدينة؟ هل تبنى على السياسة العقلية وحدها؟ أم على الشريعة الدينية وحدها؟ أم أنها يمكن أن تستفيد من الجانبين: السياسة العقلية والشريعة الدينية؟
وعلى الرغم من كثرة الباحثين في علم التدبير المدني والسياسة؛ فإن الفارابي يأتي في قمة الفلاسفة المسلمين الباحثين في علم السياسة، التي أطلق عليها مصطلح العلم المدني، أو السياسة المدنية؛ فهو أهم فيلسوف مدني في الفلسفة الإسلامية. وقد قدم في هذا المجال عددًا كبيرًا من المؤلفات التي جمعت بين السياسة والأخلاق والسعادة، وربما لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن فلسفة الفارابي تدور- في أغلبها- حول هذه الموضوعات الثلاثة.
ومن أهم هذه المؤلفات التي دارت حول العلم المدني: «السياسة المدنية»، و«آراء أهل المدينة الفاضلة»، و«تحصيل السعادة»، و«فصول المدني»، و«إحصاء العلوم»، و«الملة»، بالإضافة إلى رسالة في «السياسة».
أوَّلاً: العلم المدني
العلم المدني يعني العلم المهتم بالمدينة، ونظامها وأحوالها وطبقاتها من حكام ومحكومين، ويهدف إلى تثقيف المواطنين بالآراء الصحيحة، وإلزامهم بالأعمال الرشيدة لنيل الفضيلة والسعادة من خلال اجتماعهم في المدينة، وهو يطلق عليه عدة مسميات: علم مدني أو سياسة مدنية، أو فلسفة مدنية وغيره.
ويُعرِّف الفارابي الفلسفة المدنية بأنها هي التي تعطي -فيما تفحص عنه من الأفعال والسنن والملكات الإرادية وسائر ما تفحص عنه- القوانين الكلية، وتعطي الرسوم في تقديرها بحسب حال حال، ووقت وقت(1).
فالعلم المدني يعالج أمور الإنسان في الدنيا، وأصناف الأفعال التي يصنعها لنفسه وبإرادته من خلال المجتمع، وعند الفارابي الإنسان حيوان اجتماعي، أو كما قال: الإنسان مدني بطبعه، إنسي بغريزته، يحتاج إلى الآخرين، ليعيش في اجتماع وتعاون؛ فالإنسان -من حيث هو فرد كائن عاقل، وكعضو في المجتمع- «حيوان مدني» يحتاج إلى الاجتماع مع الآخرين، وهذا هو موضوع الفلسفة المدنية.
ويسمي ابن سينا العلم المدني بالحكمة المدنية، وفائدتها تعليم كيفية المشاركة بين أفراد البشر؛ «ليتعاونوا على مصالح الأبدان، ومصالح بقاء نوع الإنسان»(2).
وقد اهتم ابن باجة بتدبير المدينة، وأشار إليه في كتاب خصصه لمعالجة هذا الأمر بعنوان: «العلم المدني»، تحدث فيه عن معنى التدبير قائلاً: وإذا قيل التدبير بعموم قيل في كل الأفعال التي تشتمل عليها الصنائع التي تسمَّى بالقوى، وقد لخصته في العلم المدني؛ إلا أن هذا الكتاب قد فُقِد. وأشار إليه ابن باجة في كتاب آخر قائلاً: «إن التدبير إذا قيل بخصوص قيل على تدبير المدن»(3).
وسار على التعريف نفسه ابن رشد الذي عرَّف علم السياسة بأنه علم تدبير المدينة. ثم جاء ابن خلدون من بعده وعرَّف السياسة المدنية بأنها تعني تدبير المنزل أو المدينة بمقتضى الأخلاق والحكمة؛ لحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه.
فالاجتماع ضرورة للإنسان، والإنسان لا يستطيع أن يعيش منفردًا، وقد يجتمع الناس لأغراض متعددة؛ إلا أن كثيرًا من هذه الاجتماعات تعد اجتماعات فاسدة وضالة، وهناك نوع واحد فقط من هذه الاجتماعات هو ما يسمَّى بالاجتماع الفاضل، وهذا الاجتماع ما ينبني على الأخلاق والسياسة.
ثانيًا: تدبير المدينة بين الأخلاق والسياسة
ارتبطت الأخلاق بالسياسة ارتباطًا عضويًا في الفلسفة الإسلامية، وصار كلاهما ينشد غاية واحدة تتمثل في إيجاد الفضيلة والسعادة، سواء أكانت في المجال الفردي (الأخلاق) أم المجال الاجتماعي (السياسة).
وظلت هذه السمة غالبة على الفكر السياسي طوال العصور الوسطى، حيث لم تستقل السياسة عن الأخلاق وتصبح لها مفاهيمها المحددة وقوانينها المخصوصة إلا على يد توماس هوبز ومكيافيللي عندما استقلت السياسة عن الأخلاق.
فالإنسان -من حيث هو فرد- «كائن عاقل»، وهو كعضو في المجتمع «حيوان مدني» ومشكلة الإنسان هي موضوع الفلسفة المدنية التي تنشطر إلى قسمين؛ قسم يعالج سلوك الفرد، فيسمَّى الفلسفة الأخلاقية، وقسم يعالج سلوك سكان المدينة، ويسمَّى الفلسفة السياسية.
وهذا الربط بين الأخلاق والسياسة- وهو ما أخذ به فلاسفة المسلمين- ربما يعود هذا إلى مصدرين أساسيين:
لمصدر الأول: الدين الذي وضع مجموعة من التشريعات المنظمة لحياة الإنسان- الفردي والاجتماعي- بكافة مجالاتها، من خلال مجموعة من القيم الأخلاقية، والتي يدلل عليها الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بقوله: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
المصدر الثاني: الفلسفة اليونانية، التي دارت حول مفهوم السعادة، وقامت على الفضيلة، وجمعت بين الأخلاق والسياسة، فكانت الفضيلة محور فلسفة سقراط القائل: إن المعرفة فضيلة والجهل رذيلة، مرورًا بأفلاطون ومحاوراته التي دار معظمها على فكرة أخلاقية أو سياسية، وصولاً إلى أرسطو الذي عدّ كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس» مقدمة لكتاب السياسة(4).
فالسياسة في نظر أفلاطون وأرسطو امتداد للأخلاق، ولا انفصال بين السياسة والأخلاق، وهي كذلك عند فلاسفة الإسلام، ويظل هذا الربط سائدًا في الفكر اليوناني حتَّى تنفصل الأخلاق عن السياسة فصلاً تامًا عند الرواقيين؛ فالأخلاق عندهم ليست متصلة بالسياسة؛ بل هناك فصل تام بين أخلاق الدولة وأخلاق الفرد.
وقد تأثر الفلاسفة المسلمون بالاتجاه الذي يربط بين الأخلاق والسياسة، متأثرين في ذلك بالمصدرين السابقين، وظهر هذا الربط جليًا عند الفارابي وغيره من فلاسفة الإسلام؛ فقد قسم الفلسفة المدنية إلى صنفين(5): أحدهما يحصل العلم، والثاني يحصل العمل. الأول يسمَّى الأخلاق، والثاني يسمَّى الفلسفة السياسية.
ووظيفة العلم المدني عند الفارابي أنه يفحص عن «أصناف الأفعال والسنن الإرادية، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التي تكون عنها تلك الأفعال والسنن»(6) أي الأنظمة والقوانين والسياسات.
وأبرز ما يلاحظ على هذا التعريف هو المحتوى الخلقي الذي يغلب عليه، والذي يؤدي بالسياسة إلى كونها فلسفة للأخلاق أكثر من كونها علمًا قائمًا بذاته.
وقد أخذ الفارابي أساس هذا التقسيم عن أرسطو، ثم نقله عنه بعد ذلك فلاسفة الإسلام الذين رأوا أن علم السياسة أو العلم المدني من العلوم العملية، وأن غاية هذه العلوم هي تعليمية وتطبيقية.
وتابع ابن سينا هذا الاتجاه في تقسيمه للعلوم العملية، فقسمها إلى: الأخلاق والاجتماع (تدبير المنزل) والسياسة، وعرَّف علم السياسة قائلاً: إنه العلم الذي يتناول بالبحث السياسات والرئاسات والاجتماعات المدنية الفاضلة والرديئة. فهو هنا يجمع بين السياسة والأخلاق، ويطلق على المجالين المصطلحات نفسها، فيمزج بين الأخلاق والسياسة، ويضعهما معًا ضمن الحكمة العملية، التي يقسمها إلى ثلاثة أقسام: حكمة مدنية، وحكمة منزلية، وحكمة خلقية. وهذه الأخيرة فائدتها أن تعلم الفضائل وكيفية أقسامها، لتزكو بها النفس، وتُعلم الرذائل، وكيفية موتها لتتطهر عنها النفس(7).
وتبلور هذا الربط عند الفيلسوف ابن باجة، فربط بين الأخلاق والسياسة، ووضح أن المدينة الفاضلة قد أعطي فيها كل إنسان أفضل ما هو معد له، وأن آراءها كلها صادقة، وأنه لا رأي كاذب فيها، وأن أعمالها هي الفاضلة بإطلاق(8).
ويعني علم الأخلاق في الفلسفة الإسلامية تدبير النفس؛ أي سياسة الإنسان نفسه من أجل أن تكون أخلاقه وأفعاله فاضلة في مجاله الفردي، أو سياسة الإنسان بمنزله أو مجتمعه في مجاله الاجتماعي، وتمثل هذه الأقسام معًا الحكمة العملية.
وسار ابن رشد على المنوال نفسه، فقسم علم السياسة إلى قسمين: علمي وعملي. يشتمل الجانب العلمي على معرفة جزئيات هذا العلم، ويمثله علم الأخلاق، وهذا العلم بمثابة تمهيد نظري للجانب العملي المخصص لتدبير المدينة. فالسياسة ما هي إلا الجانب الاجتماعي للأخلاق؛ أي أنها أخلاق موسعة. ومعرفة الفضائل الخلقية ضرورة وخطوة أولى من أجل إقامة السياسة الفاضلة، ولن تتحقق السياسة الفاضلة والإلمام الكامل بعلم السياسة دون معرفة الجانب النظري (الأخلاق) ومعرفة الكمالات والفضائل الإنسانية.
وهذه المعرفة ليست مطلوبة لذاتها؛ بل هي من أجل العمل، وهذا ما ينقلنا إلى الجانب العملي من هذا العلم. فإذا انتقلنا من الأخلاق إلى التدبير المدني، نكون انتقلنا من علم خاص إلى علم عام؛ أي من الفرد إلى المجتمع.
وعلم تدبير المدينة عند ابن رشد لا ينحصر في جانبه النظري بل غايته الوصول إلى العمل والتطبيق؛ أي السياسة. فما الفائدة من أن أعرف ما هي الشجاعة في حد ذاتها إذا لم تستخدم في الواقع في صورة عمل، لذا حرص ابن رشد عند بحثه لهذا العلم أن يبحث كيفية غرس الفضائل في النفوس(9) كخطوة أولى لسياسة المدينة.
فالأخلاق لا تنحصر في الإطار الفردي؛ بل تتسع لتشمل الإطار الاجتماعي. والمدينة صورة لأفرادها. ومن هنا ارتبطت الأخلاق بالعلم المدني أو السياسي ارتباطًا وثيقًا.
ثالثًا: الإنسان الفاضل والمدينة الفاضلة
وهذا ربط آخر بين الأخلاق وتدبير المدينة؛ فالمدينة الفاضلة تضم مواطنين فضلاء، وقد افترض أفلاطون أن الدولة بالنسبة للفرد ليست إلا كتابًا كبيرًا، فكل من الفرد والمدينة لهما أصل واحد مشترك يحول دون أن يكون الخير في أحدهما مخالفًا للخير في الجانب الآخر.
وعلى هذا الأساس نجد الفارابي وابن رشد يعقدان مقارنة بين النفس والمدينة؛ فكل منهما صورة مطابقة للأخرى. فالنفس تتكون من قوى، والمدينة تتكون من طبقات. والنفس صورة مصغرة للمدينة، تشبه كتابين، أحدهما مكتوب بحروف صغيرة (النفس) والآخر كُتب بأحرف كبيرة (المدينة)، والعدالة في المدينة تماثل العدالة في الفرد تمامًا(10).
فالمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على إكمال حياة الإنسان وحفظها عليه. وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس هو القلب، وأعضاؤه تترتب من ذلك الرئيس، فكذلك «المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة، متفاضلة الهيئات، فيها إنسان هو رئيس، وأخرى تقرب مراتبها من الرئيس»(11).
والعدالة في المدينة لا تتحقق عندما يتاح لأي فرد أن يتولى أمر الرئاسة؛ بل المدينة الفاضلة هي التي يتولاها رئيس يكون معدًا بالفطرة والاكتساب لهذا المنصب. وكما ينسب الإنسان إلى الفضيلة عندما تسيطر قواه العاقلة على قوى نفسه الأخرى، ويسود الاعتدال والانسجام بين هذه القوى، كذلك المدينة تكون فاضلة وعادلة عندما يرأسها الحكماء والعلماء والفلاسفة الذين يحوزون بالفطرة والاكتساب على الفضيلة والمعرفة العقلية، وعندها تتحقق العدالة بين طبقاتها؛ ولكنها عدالة لا تعني المساواة، وإنما تعني أن يتولى كل فرد فيها العمل الموافق لمواهبه وقدراته.
ونستطيع أن نعرف طبيعة أي مدينة بمعرفة أخلاق أهلها، والفضائل التي يتسمون بها، أو الرذائل التي يوصمون بها. وكذلك من خلال معرفة الغاية التي تسعى إليها كل مدينة؛ لأن «الظلم والتعدي في نفس الفرد هما مثل الظلم والتعدي في المدينة الجاهلة»(12).
فالعدالة فضيلة فردية داخلية وأيضًا فضيلة جماعية خارجية. تقوم العدالة الداخلية على توافق قوى النفس، وتمتد العدالة الخارجية نحو التعامل مع الآخرين. والفضائل العادلة هي فضائل بين الإنسان وبين غيره، وبينه وبين المشارك له(13)، وهذه العدالة هي التي «تمنح البقاء والديمومة للمدينة ما دامت العدالة فيها»(14)، فإذا تحقق هذا تحققت الفضيلة للفرد، وتحققت الفضيلة للمدينة.
رابعًا: أسباب الاجتماع المدني
يقرر أفلاطون أن الاجتماع ظاهرة طبيعية في حياة الناس، وهو وليد شعور الفرد بالحاجة إلى الآخرين، وأن المدينة نشأت عندما شعر الإنسان بأنه لا يستطيع أن يكفي بنفسه إشباع حاجاته. فاجتمع الناس بعضهم مع بعض لتحقيق هذا الاكتفاء، وكان هذا هو سبب نشأة المدينة، حيث بني الاجتماع على تكامل الاحتياجات المادية.
أما أرسطو، فقدم تفسيرًا مختلفًا للاجتماع، بناه على ميل الرجل وحاجته إلى المرأة، وينتج من اجتماعهما تكوين الأسرة، ومن الأسر تأتي القرى، ثم المدن. وقد بحث هذا الرأي في كتابه السياسة؛ إلا أن هذا الكتاب لم يصل إلى الفلاسفة المسلمين.
وقدم الفارابي في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» عدة تصورات يبين بها أسباب الاجتماع، ويستعرض فيها صور وأشكال الاجتماعات الإنسانية، وأسباب وجودها وترابطها، ويذكر النظريات المتعددة المفسرة لهذا الاجتماع الذي يقسمه إلى اجتماع واحد فاضل، واجتماعات متعددة ضالة وفاسدة، ويجمل تلك الآراء في نظريات هي:
1- النظرية الأولى ترى إن الاجتماع يقوم على الصراع بين المتضادات، ويبقى الأقوى الذي يستعبد الآخرين لخدمته، أو يقضي على من يقاومه. فالمدينة هنا تقوم على الغلبة والقهر «لا تحاب ولا ارتباط، لا بالطبع ولا بالإرادة.. أحدهما القاهر والآخر مقهور»(15)، ويسمَّى الفارابي هذا الاجتماع بالاجتماع السبعي (أي الحيواني)؛ لأنه هو القانون السائد في المملكة الحيوانية.
وهذا الرأي الذي نقده الفارابي، يكاد يكون ردًا على ما ذهب إليه بعد ذلك توماس هوبز وفلسفته الاجتماعية، فهو القائل: إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وإن اجتماعات الناس ينبغي أن تقوم على مبادئ قوانين الطبيعة القائمة على التصارع والتغالب.
2- النظرية الثانية تقوم على أساس أن الاجتماع الإنساني نشأ بسبب الحاجة إلى التعاون؛ «لأن المتوحد لا يمكنه أن يقوم بكل ما به إليه حاجة دون أن يكون له مؤازرون ومعاونون، يقوم له كل واحد بشيء مما يحتاج إليه»(16).
وأصحاب هذه النظرية يتفرقون إلى اتجاهات، فبعضهم يبني هذا الاحتياج على الاستعباد، وآخرون يبنونه على المحبة والائتلاف. وهذا قد يكون بسبب الاشتراك في رابطة العصبية من خلال الانتساب إلى أب واحد، أو يكون بسبب المصاهرة والتزاوج.
3- النظرية الثالثة تقوم على أن الاجتماع هو نتيجة نوع من التحالف والتعاهد بين مجموعة من الأفراد في المناصرة والدفاع وتكون «أيديهم واحدة في أن يغلبوا غيرهم، وأن يدفعوا عن أنفسهم غلبة غيرهم لهم»(17). وهذه نظرية أقرب إلى نظرية «العقد الاجتماعي» التي قال بها روسو وآخرون، وعرفت في القرن الثامن عشر في أوربا.
ولا يأخذ الفارابي بأية نظرية من نظريات الاجتماع المدني السابقة، ويقدم نظرية أخرى تبين سبب هذا الاجتماع الذي وضع له ثلاثة شروط هي: تشابه الخلق والشيم الطبيعية والاشتراك في اللغة واللسان، «فإن الأمم تتباين بهذه الثلاث»؛ أي أن الاجتماعات المدنية تختلف وتتباين على أساس وحدة الأخلاق، والسمات الطبيعية التي حددتها طبيعة المكان، وأثر المناخ (الهواء والماء) في تشكيل سكانه، بالإضافة إلى أمر وضعي هو اللغة.
ويضيف الفارابي إلى هذه الشروط الثلاثة التي تميز المجتمعات شرطًا رابعًا، هو الموقع الجغرافي؛ فلكل مجتمع مدينة لها حدودها الجغرافية، التي تميزها عن المدينة الأخرى، ومن هذه الشروط والعوامل تتكون المدن والاجتماعات.
ويشير الفارابي إلى أن أسباب الاجتماع هي الجغرافية الطبيعية والبشرية والأخلاق، وأضاف إلى هذا شرط اللغة كرابط وضعي بين المواطنين وفي مواضع أخرى من مؤلفاته، وفي كتابه «الملة»، يضيف رابطة الدين.
وهذا القول بتأثير الطبيعة والجغرافية على شكل المجتمع المدني وسماته النفسية والأخلاقية، يذكرنا بما جاء به بعد ذلك مونتسكيو في كتابه «روح القوانين»، وهي النظرية نفسها التي أخذ بها قبله ابن خلدون في كتابه «المقدمة»(18).
فالمدينة عند الفارابي لها ملامح وشروط، هي الاشتراك في السمات النفسية والأخلاقية، واللغة، بالإضافة إلى وجودها على مساحة جغرافية واحدة، قد تختلف من حيث الصغر والكبر، ويبنى على هذا الاختلاف نوعية هذا الاجتماع، فقد يكون اجتماعًا كاملاً، أو اجتماعًا ناقصًا.
ويقسم الفارابي هذه الاجتماعات تقسيمات كيفية وكمية، فهناك اجتماعات فاضلة وأخرى غير فاضلة، وهناك اجتماعات كاملة وأخرى ناقصة. والاجتماعات الكاملة على ثلاث صور:
- اجتماع المعمورة، وهو اجتماع البشرية كلها وتضم عدة أمم.
- واجتماع الأمة، وهي التي تربطها لغة واحدة، أو دين واحد، أو تاريخ مشترك، أو هذه الأسباب كلها.
- واجتماع المدينة، وهو أصغر الاجتماعات الكاملة.
أما الاجتماعات الناقصة فهي على أربع صور: مجتمع المنزل، ومجتمع السكة، ومجتمع المحلة، ومجتمع القرية.
ويرى الفارابي أن الاجتماع الإنساني ضروري؛ لأن «الإنسان من الأنواع التي لا يمكن أن يتم لها الضروري من أمورها، ولا تنال الأفضل من أحوالها إلا باجتماعات»(19).
وقد اختلف الفارابي عن أفلاطون في تصوره لهذا الاجتماع، فكان تصوره له- تحت تأثير إسلامي- هو كتعاون البدن الواحد من أجل حياة هذا البدن. وربما يعود هذا التصور إلى الحديث النبوي القائل: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».
ويؤكد ابن سينا ضرورة الاجتماع؛ لأن كل إنسان يحتاج إلى غذاء تقوم به حياته، ويبقي شخصه، فالإنسان يختلف عن الحيوان، الذي يستطيع أن يعيش في عزلة. أما الإنسان فلا «يحسن معيشته لو انفرد وحده.. ولهذا اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات»(20).
أما ابن رشد فالاجتماع المدني- عنده- له ضرورة مادية طبيعية، وضرورة معنوية أخلاقية، وبالاجتماع تتكامل متطلباته الطبيعية، وبالاجتماع تتحلى الجماعة والمدينة بسائر الفضائل والكمالات الإنسانية، ومن هنا قيل: إن الإنسان مدني بالطبع(21).
والاجتماع ضرورة إنسانية لتحقيق حياة أفضل للإنسان، من ناحية تلبية متطلباته المادية، ومن ناحية إكمال فضائله الأخلاقية. والإنسان الفاضل هو وحده الذي يعيش في مجتمع، وهذا على خلاف ما تصوره ابن باجة من أن الإنسان يستطيع أن يكون فاضلاً وهو منعزل ومتوحد عن المجتمع، وعرض هذا في كتابه «تدبير المتوحد».
وأما ابن خلدون فذهب إلى اتجاه آخر في تفسير سبب الاجتماع المدني؛ إذ رأى أن ضرورة الاجتماع نابعة من ضعف الإنسان؛ إذ إن لكل حيوان قوة وآلة يدافع بها عن نفسه. والإنسان لا يملك من القوة ما تحميه، ولم تؤهله الطبيعة بأداة يدافع بها عن نفسه. من هنا احتاج إلى التعاون مع الآخرين لحمايته ومساعدته على توفير الضروري من الغذاء(22).
وبسبب هذه الاجتماعات نشأت المدن؛ إلا أن هذه الاجتماعات ليست صورة واحدة، فهي مختلفة ومتعددة بعضها فاسد، وبعضها فاضل. والفيلسوف دائمًا يبحث عن صورة المجتمع المثالي، وشروط الحياة المثلى لمجتمع فاضل؛ فهو حلم راود خيال الشعراء وعقول الفلاسفة، قام بهذا قديمًا أفلاطون في محاورة «الجمهورية» وظهر بصور مختلفة في الفلسفة الإسلامية، بدءًا من إخوان الصفاء في مدينتهم الروحانية، مرورًا بالفارابي في مدينته الفاضلة. والفلاسفة الذين لم يضعوا تصانيف خاصة للمجتمع المثالي تكلموا عن بعض جوانبه في فلسفتهم السياسية.
خامسًا: غاية الاجتماع المدني
يذهب الفلاسفة إلى أن الإنسان يقصد في كل أفعاله تحقيق خيرٍ ما، سواء أكان هذا الخير حقيقيًا أم ظنيًا؛ فكل سعي الإنسان في أفعاله -وكذلك المدينة- هو تحقيق غاية ما، قد تكون هذه الغاية هي امتلاك المال، أو التمتع بالجاه، أو الشرف، أو الكرامة، أو الاستبداد بالآخرين. وكل غاية من هذه الغايات المتعددة تنتج صورًا من المدن؛ فهناك مدن فاسدة تسعى إلى غايات فاسدة، ولكنْ هناك مدن فاضلة تسعى وراء الفضيلة؛ لأنها تحقق السعادة لمواطنيها. ويشير الفارابي إلى أن «العلم المدني يبحث أوَّلاً عن السعادة»(24). فالسعادة كانت عند الفلاسفة المسلمين -كما كانت من قبل عند فلاسفة اليونان- هي الغاية من وراء سعي الإنسان. ولفكرة السعادة أثرها على الفلاسفة المسلمين باعتبارها الغاية المنشودة من الاجتماع، وقد بحثها الفارابي في عدة مؤلفات مؤكدًا أن السعادة هي الخير على الإطلاق. فالسعادة هي غاية الإنسان، وهي أيضًا غاية العلم المدني، إذ إنه يبحث أوَّلاً عن السعادة، ويفرق بين السعادة الظنية والسعادة الحقيقية، ويؤكد أن هناك تطابقًا تامًا بين السعادة والخير الحقيقي والعدالة، فإذا ما تم تحقيق ذلك في أي مجتمع أصبح هذا المجتمع مجتمعًا سعيدًا، أو كما قال الفارابي: «فالعدل بالحقيقة والخيرات التي هي بالحقيقة خيرات كلها، وتكون هذه المدينة مدينة لا يفوتها شيء مما ينال به أهلها السعادة إلا وجد فيها»(25).
ولا يوقف الفارابي سعادة المدن على اشتراك أهلها في ملة واحدة؛ فقد تتعدد الملل وتختلف داخل المدينة الواحدة ويتحقق لها السعادة، وقد تختلف ملل المدن وكل مدينة منها تحقق السعادة والفضيلة. فالمدينة الفاضلة عنده ليست لها ملة معينة، وهذا ما أكده قائلاً: «فلذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة، ومدن فاضلة تختلف ملتهم، فهم كلهم يؤمون سعادة واحدة بعينها ومقاصد واحدة بأعيانها»(26).
إن الفارابي لم يربط بين السعادة التي يمكن أن يحققها الإنسان أو المدينة بوجود ملّة معينة؛ بل رأى أن كل ملة فاضلة يمكن أن تحقق السعادة للإنسان، والذي يحقق السعادة في المدينة هو معرفة العلم المدني، الذي هو جزء من الفلسفة. وهذا العلم يسمَّى «الفلسفة الإنسانية»(27)، فالفلسفة (أي المعرفة) تحقق السعادة.
وقد سعى الفلاسفة المسلمون- وكل فلاسفة العصور الوسطى- إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، فرأوا أن الغاية التي تسعى إليها الفلسفة لا تختلف عن الغاية التي يسعى إليها الدين، فكلاهما يقدم الحقيقة، وكلاهما يهدف إلى سعادة الإنسان والمدينة؛ ولكنهما اختلفا فقط في طرق الوصول إلى هذه الحقيقة، أحدهما وصل إليها عن طريق العقل والآخر عن طريق الدين، أحدهما عن طريق البرهان، والآخر عن طريق الحكمة والإرشاد والقصص والموعظة الحسنة.
وظهر التأكيد على السعادة كغاية للاجتماع المدني الفاضل عند ابن باجة تحت تأثير الفارابي. وطبق هذا على السياسة في «تدبير المتوحد»، الذي بحث فيه كيفية حصول الفرد والمجتمع على السعادة، وكانت هذه نقطة محورية في فلسفته السياسية، ويأتي بعدهما ابن رشد ليطبع الأخلاق والسياسة بطابع السعادة، ويجعلها هدفًا وغاية لأي اجتماع فاضل، متأثرًا في ذلك بالفارابي وابن باجة في فلسفتهما السياسية.
وتصبح المدينة سعيدة عندما يحكمها طبقة الحكماء العلماء الملمين بالمعرفة؛ معرفة النظام السياسي وقوانينه، ومعرفة العلوم والحقيقة. ومن هنا كان أول شرط من شروط إقامة المدينة الفاضلة وتحققها هو وجود الرئيس الفاضل الذي يملك المعرفة والحكمة. وبوجوده يتحقق الاجتماع الفاضل، أو يتحول أي اجتماع إلى مدينة فاضلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفارابي، إحصاء العلوم، تحقيق: عثمان أمين، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1949، ص104. وأيضًا: كتاب الملة ونصوص أخرى، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، ط2، 1991، ص59.
(2) ابن سينا، عيون الحكمة، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات- الكويت، ودار القلم، بيروت(د. ت)، ص16.
(3) ابن باجة، تدبير المتوحد، ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق: ماجد فخري، دار النهار للنشر والتوزيع، بيروت، 1968، ص38.
(4) أرسطو، الأخلاق، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، فقرة 1144 أ، ص227.
(5) الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، تحقيق: سحبان خليفات، عمان- الأردن، ط1، 1987، ص255.
(6) الفارابي، إحصاء العلوم، ص102.
(7) ابن سينا، عيون الحكمة، ص16.
(8) ابن باجة، تدبير المتوحد، ص41.
(9) ابن رشد، تلخيص السياسة، ترجمة: حسن مجيد العبيدي وفاطمة الذهبي، دار الطليعة- بيروت، 1998، ص72. وأيضًا: منى أحمد أبو زيد: المدينة الفاضلة عند ابن رشد، منشأة المعارف- الإسكندرية، 2000، ص33.
(10) ابن رشد، تلخيص السياسة، ص116.
(11) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق: ألبير نصري نادر، ص98.
(12) ابن رشد، تلخيص السياسة، ص122.
(13) ابن رشد، تلخيص الخطابة، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت(د. ت)، ص110.
(14) ابن رشد، تلخيص السياسة، ص119.
(15) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص153.
(16) المصدر السابق، ص154.
17) المصدر السابق، ص155.
(18) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر- القاهرة، ط3، الباب السادس، الفصل الثالث والعشرون.
(19) الفارابي، السياسات المدنية، تحقيق: فوزي متري النجار، دار المشرق، بيروت، ط2، 1993، ص69.
(20) ابن سينا، النجاة، تحقيق: ماجد فخري، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985، ص338.
(21) ابن رشد، تلخيص السياسة، ص68.
(22) ابن خلدون، المقدمة، ج1، ص337.
(23) الفارابي، كتاب الملة، ص52.
(24) الفارابي، فلسفة أفلاطون وأجزاؤها ومراتب أجزائها، منشور ضمن كتاب «أفلاطون في الإسلام» تحقيق: عبد الرحمن بدوي، طهران، 1974، ص23.
(25) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص148.
(26) الفارابي، مقالة صدر بها كتابه في المنطق، مخطوط مكتبة دانشكاه، جامعة طهران، المرقمة 240/10، نقلاً عن جعفر آل ياسين: الفارابي في حدوده ورسومه، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1405هـ/1985م، ص387.