حقوق الله وحقوق العباد بين الحرية والمسؤولية

عبد الرحمن السالمي

عندما بدأ الفقهاء المسلمون بعد القرن الرابع الهجري يتحدثون أو يميّزون بين حقوق الله وحقوق العباد والحقوق المشتركة؛ كانوا يقصدون بحقوق الله -عزَّ وجلَّ- حقوقه على المؤمنين المكلَّفين من الإيمان والعبادات المختلفة. ويقصدون بالحقوق المشتركة تلك التي تتعلق بما صار يُعرف بالمصالح الضرورية الخمس، وهي حق النفس وحق الدين وحق العقل وحقل النسل وحقّ المِلْك. والحقوق المشتركة هذه تمسُّ المجتمعات بشكلٍ عامٍّ، وتضمن الشريعةُ مسائل رعايتها وحمايتها وتحقُّقها. أما حقوق العباد فهي تتصل بوجوه التعامل بين الأفراد والنزاعات فيما بينهم وطرائق حلِّها من خلال التوادّ والتضامُن في المجتمع الإسلامي، ومن خلال النظام القضائي العادل، ومن خلال مسائل واجتهادات وموافُقات السياسة الشرعية. وهذه كلُّها أمورٌ تُعدّ حقوقُ العباد تُجاه بعضهم بعضاً هي الغالبةَ فيها وعليها.

فهناك عهدٌ وعقدٌ كبيرٌ وأساسٌ بين الله وعباده المؤمنين به -عزَّ وجلَّ- هو بمثابة دَينٍ في ذمّة الناس وأخلادهم وأخلاقهم وأمانتهم، وكلُّ ذلك واردٌ -صراحةً ومجازاً، وعبارة وإشارة- في القرآن، ويعبِّر العبادُ عن إرادة قضاء الدَين بالدِين وعقائده وعباداته وقيمه وأخلاقياته، وفي مقابل ذلك تنشأُ وتستتبُّ لديهم مجتمعاتُ الثقة بضمان الله سبحانه ودينه وأمنه وأمانه: ﴿أطعمهم من جوعٍ وآمَنَهُمْ من خَوف﴾، ﴿اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا﴾، ﴿واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقهُ الذي واثقكم به﴾.

وعن هذا العهد الكبير والميثاق العظيم تتفرع العقودُ والعهودُ الأُخرى، والحقوق المشتركة والأُخرى الفردية؛ فالحقوق المشتركةُ إنما تنبُعُ وتتفرع من الميثاق الأول والأكبر، وقد سمّاها الفقهاءُ -كما سبق ذكرُهُ- الضرورات المصلحيَّة التي أوضحتها شريعةُ الله، وعَدّتها ضروريةً لاستمرار المجتمع وأمنه الشامل، وهي: حقُّ الإنسان في الحياة الحرة والكريمة منذ المولد إلى الوفاة. وحقُّه في أن يكونَ له دينُهُ الذي اختاره بإرادته الحرة، وعباداته وأخلاقه وقيمه. وحقُّه في العقل الذي هو مناطُ التكليف، ومناط الإنسانية. وللعقل مقتضياتُهُ المرتبطةُ بالنشأة في مجتمع المؤمنين، والتفكير والتصرف فيه، وتوسيع آفاق إنسانيته بمقتضى الحرية في اختيار الدين، والحرية في التصرف في إعمار مجتمعه وعالمه، وهذا أمرٌ جليلٌ يتعلَّقُ بالاستخلاف في الأرض والقيام بما يؤدي إلى الإعمار والازدهار، وحقُّه في أن تكونَ له أسْرَةٌ تتمتّع بالشرعية الاجتماعية والأخلاقية وبالإسلام من خلال النسْل الصالح لنماء مجتمعه وتطوره، وفي السياق ذاته يأتي حقُّه في الملْك الخاصّ من خلال الوجوه الحلال للرزق. وقد كان هناك من الفقهاء المُحدَثين -مثل الطاهر بن عاشور وعلاّل الفاسي- مَنْ أراد أن يضيف إلى هذه الضروريات أو الحقوق: حقّ الحرية. والواقع أنّ الحقّين الأولين أو الحقوق الثلاثة الأُولى (النفس والدين والعقل) كلّها قائمة على الحرية، أو أنّ العقل والإيمان هما مقتضى إنسانية الإنسان وحريته. والذي أراهُ أيضاً أنّ هناك القيم القرآنية الكبرى في الرحمة والكرامة والعدل والتعارُف والخير العامّ، وهي تتضافر جميعاً مع الحرية من أجل الإنماء الكبير لإنسانية الإنسان، وهذه جميعاً ضروراتٌ إنسانيةٌ مشتركةٌ بين الله وعباده ﴿يحبهم ويحبونه﴾. فاللهُ سبحانه هو الهادي لعباده والراحمُ لهم بهذه الضمانات من خلال شريعته السمحاء، وعنايته التي لا تقفُ عند حدٍّ في الدنيا والآخِرة.

وقد جاءت الأزمنةُ الحديثةُ والمعاصرة بتأثيراتٍ على حقوق العباد أو حقوق الناس. ومن الواضح أنّ المقصود بالحقوق في المنظومات الحديثة ما تعارف عليه الناسُ فيما بينهم، وما ينتظرون من مؤسساتهم وسُلُطاتهم ضمانات بشأنه أو شأنها، وإفساح المجال للمُضيّ فيها وازدهارها؛ تحقيقاً لإنسانية الإنسان وقيمه الكبرى. والواقعُ أنّ هذه الحقوق تتصل في المنظومة الفقهية والقانونية والأخلاقية بما سبق أن تحدثنا عنه في باب أو مجال الحقوق المشتركة. وكان لدى المسلمين القدامى بشأنها مذهبان أو مسلكان: مسلك المتكلمين، ومسلك الفقهاء؛ فقد صوَّر المتكلمون الأمر باعتباره نزاعاً بين الله جلَّ وعلا وعباده؛ إذ قالوا بالوجوب في مسائل الحرية وخلْق الأفعال، واحتجوا بالعدل الإلهي، فالعلاقةُ بين الله وعباده ليست علاقة عدلٍ أو ظُلمٍ وهَضْم؛ بل هي علاقةُ رحمةٍ وكرامةٍ واستخلافٍ وحرية، ولذا فقد ذهب الفقهاءُ إلى أنّ هذه" الحقوق"(أو الضرورات) هي بمثابة الأمور الفطرية؛ لأنّ العقل غريزةٌ يتساوى الناسُ فيها، فهو جزءٌ من هذه الفطرة التي فطَرَ الله سبحانه الناسَ عليها، وقد قال الشاطبي -790هـ) في "الموافقات": إنه بسبب فطرية العقل ومقتضياته فإنّ تلك الحقوق "مُراعاةٌ في كلّ ملة".

إنّ المقصود هنا ليس استعادة النقاش أو الجدال القديم في تفضيل الرحمة على العدل أو العكس؛ بل كشف المخاطر الناجمة عن اعتبار الدين (وليس السلطات الاجتماعية والثقافية والسياسية) حائلاً دون ممارسة الناس لحقوقهم؛ لأنها تُخالفُ شرع الله في هذه المسألة أو غيرها من المسائل. نعم، قد تخالفُ أحكام الشريعة مسألةً تتصل بهذه الرغبة أو تلك، والرغباتُ اليومَ كثيرةٌ وطاغية؛ لكنّ الشريعة لا يمكن أن تخالف أصلاً أو أُصولاً فطريةً في حقوق الناس وكراماتهم. ولا نجد حقاً أصلياً من تلك الحقوق يتصادم مع قيم القرآن الأخلاقية الكبرى أو ضرورات الإنسان وحاجياته وتحسينياته.

هناك اليوم اندفاعةٌ كبرى في العالم ومجتمعات المسلمين التي هي جزءٌ منه، وهي ذات شقّين: شِقٌّ معنيٌّ بالحقوق الفردية، وشقٌّ آخر معنيٌّ باستعادة الناس لأديانهم ومنظوماتهم الأخلاقية، ويحسبُ البعضُ أنّ هذا الأمر (أيّ الحقّ الفرديّ) يُصادمُ ذاك الأمر (أي الحقّ الديني). وبالطبع، فقد تختلف أَولوياتُ الفئات داخل المجتمع، فتقدّم فئةٌ اعتبارات الحقوق الفردية، وتقدِّمُ فئةٌ أُخرى اعتبارات الحق الديني؛ لكنْ تبقى الصِلات وثيقةً بين الأمرين؛ لأنّ الدين أيضاً (أو هو بالدرجة الأُولى) حقٌّ وحريةٌ أو حقٌّ في الحرية، ولذا يبدو لي أنّ الصدام إنْ حصل فهو عارضٌ وليس ثابتاً أو دائماً أو متجذراً، وفي زمن الصِدام العارض أو الطارئ لا ينبغي أن ننسى التعقُّل والتدبُّر، فمجتمعاتُنا -كما سبق القول- هي مجتمعاتُ ثقةٍ وتراحُمٍ وتقديم لاعتبارات الأُلفة والتضامُن، والشبان الذين يسعَون لإنجاز حقوقهم الفردية لا يتشاجرون مع الدين بقدْر ما يريدون المشاركة بالأصالة في قرارات مجتمعاتهم ومصائرها، وأكثر هؤلاء يرون أن الدين مصطف إلى جانبهم في نضالاتهم، وقد كانت هذه المسائل -أي مسائل العلائق بالسلطات- تُعالجُ في الأزمنة الوسيطة في باب السياسة الشرعية؛ أي كيف يمكن التصدي لمشكلات المجال العام من جانب الأفراد والفئات، بحيث يكونُ وضْعُ الناس أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد، وكانت في هذه المسائل اجتهاداتٌ يُلجأُ فيها للشورى أو للنظام القضائي؛ بيد أنّ ذلك كلَّه كان -كما سبق القول- اجتهاداً؛ أي أنه أمرٌ مصلحيٌّ اقتضته الظروف والسياقات. وقد ظهرت في الأزمنة الحديثة أُطُرٌ أُخرى للنقاش في هذه المسائل، والوصول إلى حلولٍ وآفاقٍ لم تكن معهودةً من قبل. وأقصدُ بالأُطُر الجديدة ما صار يُعرف بهيئات المجتمع المدني، وهي هيئاتٌ وتنظيماتٌ تعالج قضايا الحقوق الفردية، وحقوق الفئات، وتسعى لحلِّها أو إحداث شراكات فيها، دونما صِدامٍ مع السلطات، أو ثورانٍ بسبب هذا الإخفاق أو ذاك. وهكذا فإنّ هذا النهوض الدينيَّ هو نهوضٌ مدنيٌّ من حيث الاهتمام بالحق الفردي، والاهتمام بالمشاركة. وهذا ما يدعونا باتجاه قراءة قضايا الحقوق ومسائلها من هذه الوجهة وبهذا المنهج، فهذا هو واجبُنا الديني، وواجبنا الأخلاقي.

لقد درسْنا في مجلة التفاهم في العدد الماضي فلسفة الحقّ في الأديان والمذاهب الفلسفية القديمة والحديثة. ويهتمُّ هذا العدد بالحقوق في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسة. والله من وراء القصد وهو أرحمُ الراحمين.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/9/178

الأكثر مشاركة في الفيس بوك