المؤتمر الرابع للدراسات الإباضية (الفقه الإباضي) 27/05/2013- 31/05/2013م (Poland, Krakow) قراءة في أبرز محطاته البحثية

أحمد الإسماعيلي

- مقاربات تاريخية: 

لم يكن اختيار المكان الذي أقيم فيه المؤتمر الرابع للدراسات الإباضية (الفقه الإباضي) عشوائيا؛ فقد ارتأى القائمون على تنظيم هذا المؤتمر إحياء ذكرى أعظم خبير في مجال الدراسات الإباضية، إنه المستشرق البولندي الراحل Tadeusz Lewicki (1906/1992)؛ الذي عاش أكثر من ثلاثين عاما يدرس الإباضية في الشمال الأفريقي، وقد كتب العديد من الدراسات التي تصل إلى أكثر من ثلاثين دراسة ما يزال معظمها غير منشور. كما أنه لم يكتف في دراساته بالتراث الإباضي في الشمال الأفريقي وإنما له دراسات أخرى كتبها عن إباضية المشرق، كتلك الدراسة المعنونة بـ Les ibaditesdans l’Arabie du sud au Moyen-âge، والتي نشرت في Folia Orientalia, (Cracow), 1, (1959)، وغيرها من الدراسات الأخرى التي قدم فيها Lewickiصورة الإباضية للعقل الأوروبي. 

لقد اشتغل Lewicki مترجما للجيش الفرنسي خلال الحقبة الاستعمارية للجزائر بشكل خاص والشمال الأفريقي بشكل عام، ومع ذلك فإنه لم يتأثر بالفكر الإمبريالي في دراساته عن الإباضية، فمعظم الدراسات التي كتبها باللغة الفرنسية كانت دراسات جادة في مادتها العلمية. يعد ليفيسكي من المستشرقين الأوائل الذين درسوا الفكر الإباضي في القرن العشرين، ولهذا فإن معظم الدراسين وإلى يومنا هذا ما زالوا أسرى أعماله وبحوثه ودراساته. لقد كان اختيار جامعة جولينيان تعبيرا لتلك الجهودة العظيمة التي قام بها ليفيسكي في التعريف بالمدرسة الإباضية؛ بل في نشر تراثهم وتحقيقه والاحتفاظ بكثير من المخطوطات التي ما تزال حاضرة إلى اليوم.

- مقاربات موضوعية: 

موضوعيا، فإن المؤتمر العالمي الرابع للدراسات الإباضية اشتغل بحقل هام من حقول التراث الديني، وهو حقل الفقه الإباضي، الذي يعد من أكثر حقول التراث الديني ارتباطا بالواقع الاجتماعي؛ حيث يشكل صيرورة وحراكا معرفيا عبر تطور موضوعاته المرتبطة بالواقع الاجتماعي، وهو بهذا يقيم علاقة معرفية عميقة بين ثلاث زوايا هامة؛ الإنسان والمجتمع والدين. إن الارتباط الموضوعي بين الإنسان والمجتمع والدين يأتي في سياق كشف العلائق التاريخية بين هذه الأنماط الثلاثة، كما أنه يأتي في إطار كشف أغوار التراث الفقهي الذي أنتجته المدرسة الإباضية العمانية، سواء عبر جدليات الإنسان بواقعه الاجتماعي أو عبر جدليات الفقيه بالنص، خاصة تلك القراءات الفقهية الجدلية بين النص والجغرافيا التي تمثلت في موضوعات عمانية خالصة قلما نجدها في المناطق الأخرى من العالم الإسلامي؛ كإشكالية الأفلاج وما يترتب عليها من مسائل فقهية عميقة.

لقد أثار المؤتمر العديد من الإشكاليات المعرفية المتعلقة بإسلام الفقهاء، في دراسات بحثية وصلت إلى أكثر من ثلاثين بحثا، قدمت خلال ثلاثة أيام، وكتبت باللغتين الإنجليزية والعربية، وبعيدا عن تقييم تلك الأعمال والبحوث معرفيا؛ فإن ما يهمنا هنا إعطاء القارئ الكريم صورة مكتملة عن أهم الدراسات التي قدمتها مراجع استشراقية كبيرة تعد الأبرز حضورا في دراسات الإسلام الكلاسيكي في الجامعات الأوروبية، أمثال Wilferd Madelung المرجعية الاستشراقية المتخصصة في التراث الشيعي، والبروفسور بجامعة أكسفورد بلندن، وJosef van Ess المرجعية الاستشراقية المتخصصة في التراث السني، وله كذلك اسهامات في التراث الإباضي خاصة في كتابه المعنون بـ علم الكلام والمجتمع، والبروفسور بجامعة توبنجن بألمانيا، وJohn Wilkinson أستاذ التاريخ الإسلامي، وله إسهامات عديدة في التاريخ العماني، إلى جانب البروفسور رضوان السيد، المرجعية الأكاديمية للإسلام السني، والبروفسور بالجامعة اللبنانية. 

ومن أهم الأوراق التي قدمت في هذا المؤتمر:- 

أولا: Wilferd Madelung أقوال قتادة، الشعيبية والنكار.

يعد مخطوط " أقوال قتادة" بحسب Madelung من أهم النصوص التاريخية التي لم تحقق إلى الآن، وهو نص مهم لعدة اعتبارات، منها أن المخطوط يكشف لنا عن مقاربة معرفية لأحد أهم كبار فقهاء التابعين. وبالرغم من أهمية النص إلا أنه لا يكشف بوضوح تام ذلك الانتماء المعرفي أو الترابط الأيديولوجي بين الإباضية كحركة معارضة سياسية وبين قتادة الذي تتلمذ على يد الحسن البصري في البصرة؛ فالنص لا يحوي شيئا من تعاطف قتادة مع الفكر السياسي الإباضي بشكل خاص، وإن كان يمثل بشكل عام أحد الرموز الأولى التي عارضت حكم بني أمية، إلا أن هذا الفكر السياسي لم يكن خاصا بالإباضية وحدهم، فقد كان شيخه أبو الحسن البصري معارضا للدولة الأموية. هناك غموض كبير يعتري العلاقة بين قتادة والإباضية؛ الشعيبية والنكار بصفة خاصة، لعدة أسباب منها أن المصادر التاريخية الإباضية والسنية لم تسعفنا بمزيد من النصوص التاريخية التي تكشف العلاقة الأيديولوجية بين قتادة والمدرسة الإباضية، بل على العكس تماما؛ فمعظم المصادر التاريخية تؤكد انتماء قتادة إلى المذهب السني. 

يؤكد Madelungأن النص موجود ضمن مخطوطات ثلاث؛ إحداها في عمان، وتوجد نسخة منه مع الدكتور عبد الرحمن السالمي، رئيس تحرير مجلة التفاهم. والثانية توجد في جزيرة جربة، ضمن مخطوط شامل لمجموعة أخرى من النصوص التي تنتمي معظمها معرفيا إلى المدرسة النكارية. وتوجد مخطوطة أخرى بالمكتبة البارونية بتونس. هذا النص ينتمي زمانيا إلى أواخر حكم بني أمية؛ لكنه موضوعيا يجعلنا نعيد النظر من جديد حول العلاقة الجدلية بين قتادة والحركة النكارية التي انشقت عن الحركة الإباضية؛ إذ إن النص لا توجد به أقوال قتادة فقط وإنما أضيفت إليه آراء أخرى ليس لها علاقة بقتادة، مما يجعلنا لا نستطيع الجزم بمدى انتماء النص لقتادة.

ومن أجل كشف العلاقة بين قتادة والنكار، فقد استعرض Madelung البدايات التأسيسية الأولى للمدرسة النكارية، وتطرق إلى الحضور التأسيسي الأول لهذه المدرسة، وأهم الشخصيات الكلامية فيها باعتبارها فرقة انشقت عن الإباضية؛ حيث ذكر بأن الربيع بن حبيب الفراهيدي لم يكن في حقيقته متكلما مثل متكلمي الفرقة النكارية، فقد كان أقرب إلى الفقيه المحدث الذي أيد الموقف السياسي للإمام عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم. وقد أسس النكار لهم مدرسة كلامية استمدوها من النظريات الكلامية لعبد الله بن يزيد الفزاري، المؤسس الأول كلاميا للفرقة النكارية، وانتشرت هذه المدرسة في شرق المناطق الرستمية وفي طرابلس، وفي مناطق الشرق كاليمن وخراسان، فالنكار كانوا منتشرين انتشارا واسعا حتى القرن الرابع في المنطقة الشرقية من شمال أفريقيا من منطقة الجريد إلى منطقة طرابلس والزاوية، وما يزال حضورهم إلى الآن في منطقة الزاوية الليبية. إن إشكالية العلاقة بين النكار والإباضية تدفعنا إلى طرح إشكال مهم يتعلق بمحور الخلاف بين المدرستين هل هو خلاف في المنهج أم خلاف سياسي فقط متمثل في إمامة الإمام عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم؟

إن معظم مرجعيات المدرسة النكارية في بدايات تأسيسها الأولى كانت تنتمي إلى دائرة المتكلمين، وقد كانت تنافح عن الكلام الإباضي ضد المعتزلة، وهو ما يجعلنا بحاجة ماسة إلى إعادة فهم أوجه الخلاف بين كلا المدرستين. هناك مرجعيات عديدة تنتمي أو تتقارب كلاميا مع النكار منهم شعيب بن معروف صاحب المدرسة الشعبية الذي انتشرت مدرسته في اليمن، ومنهم ابن عمير الذي يرى بحسب Madelung عدم الحاجة إلى الخلافة في الإسلام، وهي من المقولات السياسية المبكرة في فهم الإسلام السياسي. إن هذه المقوله بحاجة إلى إعادة قراءة سياقاتها التاريخية في ضوء النظريات الكلامية لهذه الفرقة؛ بل نحن بحاجة إلى قراءة دقيقة لمنهج النكار وأهم إشكاليات الخلاف بينهم وبين الزعامات الإباضية الأثرية في تلك المرحلة التي تأسست إثر اختلاف أبي عبيدة مع أهم تلاميذه، وهم أبو المعروف شعيب بن المعروف وأبو المؤرج وعبد الله بن عبد العزيز، حيث اعترضوا على مشروعية خلافة الإمام الثاني للدولة الرستمية وهو عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، وشكلوا بذلك حركة مضادة للمدرسة الإباضية انتشرت عدة قرون في حضرموت وخراسان والشمال الأفريقي، وخاصة ليبيا.

من الإشكاليات الهامة التي أثارها Madelung هي العلاقة بين الحسن البصري وجابر بن زيد، فالشخصيتان ينتميان إلى المعارضة السياسية؛ بيد أن الحسن البصري لم يكن يؤمن بالعمل المسلح كمنهج ديني تجاه الدولة الأموية؛ وهو المنهج نفسه الذي سلكته المعتزلة؛ بل لم تكن معارضته قائمة على تأسيس مدرسة منفصلة عن الكيان الأموي كتلك التي قام بها جابر بن زيد باعتباره المؤسس الأول للمدرسة الإباضية كما يقول الإباضية أنفسهم. هذه الإشكالية تكمن أهميتها في إعادة البحث من جديد عن النظريات الكلامية لجابر بن زيد وتأثيرها في الفكر السياسي الإباضي، خاصة ما يتعلق منها بالمسالك السياسية عند الإباضية؛ لا سيما مسلك الشراء الذي ما تزال إلى الآن الدراسات العلمية حوله قليلة، إضافة إلى مواقفه السياسية وعلاقتها بالنظريات الكلامية وشرعنة العنف المقدس كوسيلة قام بها الإباضية في بعض مراحلهم التاريخية. إن العلاقة بين الحسن البصري وجابر بن زيد في شرعنة العنف - كالعلاقة بين الإباضية والمعتزلة - تدفعنا إلى النظر في العلاقة بين جابر بن زيد وقتادة بن دعامة السدوسي الفقيه الذي تنسبه المصادر التاريخية إلى الخوارج الصفرية، والذي لم تعطه المصادر التاريخية الإباضية كثيرا من الاهتمام؛ بل هي مترددة في قبوله تاريخيا وفكريا ضمن مرجعيات الدائرة الإباضية.

يجب أن نفهم لماذا ثار هؤلاء الفقهاء على شيخهم أبي عبيدة؟ كلنا يعلم أن الحركة الإباضية أو بشكل خاص مشروع أبي عبيدة تمثل في إقامة مملكة الله في الأرض، بعد أن رأى أن بني أمية قاموا بتحويل هذه المملكة إلى مملكة للبشر، ولذلك سعى الإباضية إلى إعادة مملكة الله في الأرض عبر معارضتهم لحكم بني أمية. ولهذا بدأت الحركة الإباضية تستوعب أعدادا كبيرة من الرافضين لسياسة بني أمية. هذه الفكرة المحورية التي نادى بها أبو عبيدة لم تطبق بصورة صحيحة في الدولة الرستمية بحسب تلاميذ أبي عبيدة، ولهذا السبب رفضوا تداول السلطة عبر العائلة الواحدة، خاصة أن عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم لم يكن الأعلم بين الإباضية في تلك المرحلة التاريخية الحرجة.إن السؤال عن مدى انتماء قتادة للمدرسة الإباضية بشكل عام أو المدرسة النكارية بشكل خاص يظل ملحا في وقتنا المعاصر، ولن نستطيع الكشف عن ذلك إلا بقراءة هذا النص والنصوص الأخرى المنتشرة في المصادر السنية حتى نتمكن من تحديد الانتماء المعرفي لهذه الشخصية.

ثانيا: John Wilkinson: سياقات تطور الفقه الإباضي

يبدو بحسب ويلكنسون أن الفقه الإباضي انسجم انسجاما عميقا مع الراهن الاجتماعي الذي كانت تعيشه الجماعات الإباضية في البصرة، كما أنه مر بتحولات مهمة بعد تأسيس الإباضية دولتهم في المشرق (عمان) والمغرب (تيهرت)، ولهذا نستطيع أن نلاحظ الاشتغالات الفقهية التي قام بها فقهاء الإباضية في القرنين الأول والثاني الهجريين، أو تلك الاشتغالات الفقهية التي تأسست في عمان بشكل خاص.

إن المرحلة التاريخية التي مرت بها جماعة الإباضية في البصرة بعيدا عن مركز الدولة الإسلامية كان لها أثرها الكبير في معالجة كافة السؤالات المعرفية المتعلقة بوحدة النظام الاجتماعي باعتباره نظاما تكافليا؛ فالإباضية -وهم يعيشون مرحلة الكتمان في القرن الأول والثاني الهجريين- كان عليهم أن يجدوا بدائل مالية لإحداث تكافل اجتماعي بين الأفراد المنتسبين لهذا المذهب من ناحية، وتزويد الحركة بما يجعلها قادرة على الوقوف ضد أعدائها من ناحية أخرى، ولهذا اشتغلوا مبكرا بقضايا الزكاة والصدقة باعتبارهما موضوعات أساسية في تكوين ونشأة الجماعات السرية. بيد أن التطور التاريخي الذي مرت به الحركة في القرن الثاني وتأسيسها لدولة الظهور في عمان وتيهرت واليمن جعلها تتوسع في عرض المسائل المالية؛ لكونها الأهم في بناء الدولة الناشئة؛ فبعد استقرار الدولة في عمان بدأ الفقه يتجه نحو كل ما يتعلق بالأرض والماء كونهما الركيزتين الأساسيتين للعمانيين في كسب قوت يومهم، فعمان أرض زراعية ولهذا اشتغل الفقه كثيرا بالمسائل المتعلقة بالأرض كفقه الأفلاج وفقه الاستصلاح الزراعي وفقه الشفعة وفقه الزكاة وفقه الأوقاف وغيرها من المسائل الأخرى المرتبطة بمصالح الناس اليومية. لذلك نجد أن الفقه الإباضي اشتغل كثيرا بالمسائل الجزئية فيما يعنى بفقه الأرض، وللفقهاء العمانيين موسوعات علمية في هذا المجال، تعنى بأدق التفاصيل العلمية لإقامة علاقة جدلية بين النص والواقع.

بحسب Wilkinson فإن الفقه الإباضي يقوم على فكرة الذرائعية والنفعية، باعتباره فقها يراعي مصالح الدولة الناشئة ومصالح الجماعات الإنسانية المنتمية إليها، غير أنه يقوم من ناحية أخرى على تأسيس العدالة الاجتماعية، وذلك عن طريق توعية المجتمع بالمبادئ الاجتماعية الكبرى، ومن ثم حماية تلك المكتسبات الاجتماعية عبر منظومة القضاء، التي تعمل بشكل مستقل عن سلطة المرجعيات الاجتماعية أو تلك المرجعيات النافذة. 

ثالثا: د. رضوان السيد: أصول الفكر الإباضي الشرعي بين الفقه واللاهوت

لعل الورقة التي قدمها الدكتور رضوان السيد من الأوراق الهامة التي أثارت إشكاليات جديدة في الحقل المعرفي الإباضي، وذلك فيما يتعلق بالبدايات التأسيسية الأولى للمدرسة الإباضية بين الفقه واللاهوت؛ وهو يعالج سياق تطور الأحداث التاريخية عند الإباضية، علاقتهم بذاتهم وعلاقتهم بالدولة المركزية وعلاقتهم بالمحيط بشكل عام. إن الأحداث التاريخية التي مرت بها الإباضية أثرت كثيرا في البناء المعرفي للفقه واللاهوت الإباضي، وأنتجت من ثم آراء فقهية وكلامية في مرحلة دقيقة، اتسمت بظاهرة الحراك السياسي السري كحركة معارضة للدولة المركزية، التي تتميز بخصائص الحركات السرية في الإسلام المبكر، ولم تكن قد أنشأت دولة ذات كيان مستقل بعد، ثم انتقلت الإباضية إلى كيان مستقل ودولة ذات سيادة تامة في عمان وشمال أفريقيا واليمن أنتجت خلالها مفاهيم وآراء فكرية، وهي إشكالية مهمة نستطيع من خلالها قراءة العقل الإباضي في مسالكه السياسية -كما يسميها الإباضية أنفسهم- التي فرضتها سياقات تاريخية مر بها الإباضية فأنتجت حقلا كبيرا من المفاهيم والآراء الفقهية والكلامية.

يمكننا -بحسب رضوان السيد- أن ندرس ذلك من خلال الرسائل المبكرة للحركة الإباضية كرسائل جابر بن زيد ورسائل عبد الله بن إباض وسالم بن ذكوان وغيرهما باعتبارهما من أقدم المصادر التاريخية لقراءة الفكر الإباضي. إن تلك الفتاوى التي رويت عن جابر بن زيد تعطينا دلالة عميقة عن العلاقة الجدلية بين النص والراهن الإباضي في تلك المرحلة. وهناك موضوعات عديدة اشتغل بها الفقه الإباضي تتعلق بتعليل ظهور الجماعة الإباضية، وتفسير الأحداث التاريخية المتعلقة بالفتنة الكبرى، وتعليل انفصال الجماعة الإباضية عن الدولة الإسلامية، وقضايا أخرى تتعلق بالحراك الاجتماعي والواقع الذي كانت تعيشه الجماعات الإباضية في فترة التأسيس المبكرة. كما أن رضوان السيد أثار إشكالا في غاية الأهمية يتعلق بمدى الانفصال المعرفي بين ما يرويه التراث الإباضي عن رموز الإباضية في القرن الأول كجابر بن زيد وقتادة، وبين ما يرويه التراث السني الذي يعطينا روايات مختلفة تماما.

هذه الإشكالية -بحسب رضوان- تحتاج إلى إعادة قراءة من منطلقات أخرى مختلفة وبمناهج جديدة قادرة على الوصول إلى نتائج سليمة ومقبولة.

يطرح بعد ذلك رضوان السيد إشكاليات أخرى تتعلق بالأبعاد الفقهية واللاهوتية للفكر الإباضي؛ الذي دفع تلك الجماعات إلى تأسيس دولة انفصالية عن الدولة المركزية، وهنا يتسائل عن أهم القضايا التي اشتغلت عليها المرجعيات الإباضية في الفقه واللاهوت؟ فكما أن الإباضية اهتموا بمسائل فقهية ارتبطت بواقعهم الاجتماعي؛ فإنهم اهتموا كثيرا بكافة القضايا التي تسس الدولة المستقلة في فكرها السياسي ونظرتهم للآخر المختلف عنهم، ونظرتهم للحكم الاستبدادي والمسائل المتعلقة بالسياسة الشرعية.

رابعا: آدم جيسر: التكفير؛ إعادة قراءة على ضوء المصادر الأولى للمحكمة

لعبت المصادر السنية دورا كبيرا في تحديد مفهوم المحكّمة خاصة كتاب المقالات، الذين أسسوا صورة نمطية عن الجماعات المختلفة مع الدولة المركزية، وبالرغم من الاضطراب الدلالي الذي صاحب المفهوم فإن المفهوم بقيت دلالاته التاريخية مغلقة ضمن مصادر تاريخية لم تستطع استيعاب المدرسة الإباضية. حاول أدم جيسر عبر الورقة التي قدمها خلال المؤتمر قراءة تطور الدلالات التاريخية لهذا المفهوم، كما أنه استطاع أن يطرح العديد من المفاهيم التي ألصقت بالمحكّمة كمفهوم التكفير والشرك والسيئة والذنب، وكافة المفاهيم اللاهوتية التي أسست الفكر العقدي للمحكّمة بشكل عام والإباضية بشكل خاص.

آدم جيسر قام باستعراض كافة المصادر السنية، خاصة كتاب المقالات، وطرح المسائل المعرفية التي طرحها مؤرخو أهل السنة، ومن ثم قارن بين تلك المقولات اللاهوتية كما وردت في المصادر السنية وكما وردت في المصادر الإباضية. متسائلا على الترابط أو الانفصال المعرفي بين الإباضية من جهة والخوارج من جهة أخرى كما يرويها التراث السني، وكما يرويها التراث الإباضي كذلك. كما استعرض موقف الخوارج بشكل عام والإباضية بشكل خاص من علي بن أبي طالب وبعض الرموز الإسلامية الأولى.

خامسا: د. عبد الرحمن السالمي: الفقه واللاهوت في التراث الإباضي، بشير بن محمد بن محبوب وابن بركة أنموذجا

الورقة العلمية التي قدمها الدكتور عبد الرحمن مهمة جدا؛ لكونها تستعرض ثلاثة محاور مهمة ما تزال الدراسات الحديثة بمنأى عنها، وهي التطورات الفقهية للمدرسة الإباضية، وعلاقة الإباضية بالمعتزلة، ومفهوم الفقه الإباضي في الدراسات الأشعرية. هذه المحاور مهمة جدا في كشف العلائق التاريخية التي صاحبت المدرسة الإباضية في نشأتها الأولى، خاصة وأن السالمي كان ينتقل في ورقته العلمية بين مرحلتين تاريخيتين مهمتين هما القرن الثالث والدور الذي لعبه بشير بن محمد بن محبوب فقهيا وكلاميا، والقرن الرابع مع الدور الذي لعبه أكبر علماء الأصول في المدرسة الإباضية وهو ابن بركة، وهو بذلك يؤسس للعلاقة بين الكلام والفقه. 

العلاقة بين الإباضية والمعتزلة كلاميا وفقهيا تجعلنا- بحسب الباحث - نعيد النظر في كثير من الأطروحات والنظريات الكلامية المتعلقة بهذه المدارس؛ لا سيما الإباضية والمعتزلة، وذلك التشابه الكبير في كثير من الإشكاليات الكلامية المتعلقة بالذات الإلهية أو تلك المتعلقة بالميتافيزيقيا، أو الإشكاليات المتعلقة بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في مرحلة الإسلام المبكر.

ولقد بدأ الدكتور عبد الرحمن ورقته بتأطير تاريخي لظهور هاتين المدرستين، محاولا استعراض القواسم المشتركة بين كلتا المدرستين في المسائل اللاهوتية، كما أقام مقارنة منهجية بين مؤسس الكلام الإباضي أبي المنذر بشير بن محمد بن محبوب من خلال كتابه الرصف، وبين المتكلم المعتزلي أبي علي الجبائي، خاصة فيما يعنى بنظرية العقل في كلتا المدرستين، وغيرها من المسائل الأخرى. مبينا في نهاية ورقته أن اللاهوت الإباضي هو الذي أثر في الفقه الإباضي وليس العكس، كما أنه أكد على القواسم المشتركة بين الإباضية والمعتزلة؛ بيد أن تلك القواسم بحسب الباحث لا تعني تأثر الإباضية بالمدرسة الاعتزالية؛ فالإباضية مدرسة مستقلة لم تتأثر بالمعتزلة في بناء تصوراتها الفقهية أو اللاهوتية. 

سادسا: د. محمد الشيخ: فصل المقال فيما بين الفقه والكلام من مشكل اتصال (أبو عمار عبد الكافي وأبو يعقوب الوارجلاني أنموذجا)

عديدة هي تلك التوصيفات التي أطلقت في وسم الصلة بين أصول الفقه وعلم الكلام في الفكر الإسلامي الوسيط، وذلك من القول:إنها صلة تمازج إلى القول:إنها صلة تداخل، وقد تم تعليل الأمر بتعليلات ثلاثة: علله الغزالي بالإلف، وعلله السبكي بالانجرار، وعلله ابن النجار بالتوقف.

فالورقة التي قدمها الدكتور محمد الشيخ تمثلت في كشف العلاقة بين علم الكلام وعلم أصول الفقه بنيويا وتكوينيا، حيث أوضح أن كليهما علم منهجي ومضموني في آن واحد، وأن كليهما علم إبستمولوجي يفحص في الاعتقادات، وكلاهما يستند إلى منطق الاحتجاجات. غير أن الورقة قدمت إجابات مهمة على إشكاليات عديدة، منها موقف المرجعيات الإسلامية من علم الكلام؟ وكيف نظر العلماء قديما إلى علم الكلام والعلاقة بينه وبين أصول الفقه؟

لقد استطاع محمد الشيخ معالجة العلاقة القائمة بين العلمين من خلال أنموذجين مهمين في المدرسة الإباضية، أحدهما متكلم وهو أبو عمار عبد الكافي والآخر أصولي وهو أبو يعقوب الوارجلاني. بيد أن أنموذج الوراجلاني قد يكون أوفى في الحديث عن الصلة بين أصول الفقه وعلم الكلام من أنموذج أبي عمار عبدالكافي لعدة اعتبارات، منها أن التراث الإباضي استطاع أن يحفظ لنا مدونات الوارجلاني في الكلام وأصول الفقه. والإشكاليات التي طرحها الشيخ تتعلق بالمنهج الابستمولوجي الذي اتبعه أبو عمار في كتابه الموجز، والمنهج الذي قدمه الوارجلاني في كتابه العدل والإنصاف؟

سابعا: لطيفة قندوز: الفقه الإباضي في شمال أفريقيا: مثال أسرة رستم الحاكمة

شكل الظرف التاريخي الذي عاشته الحركة الإباضية أهمية كبيرة في الورقة التي قدمتها الدكتورة لطيفة قندوز، وذلك عبر تحليل السياق التاريخي الذي مرت به الحركة في البصرة ومرورها بعد ذلك بإعلان الدولة الرستمية في الشمال الأفريقي، وقد حاولت لطيفة قندوز أن تخضع الحركة الإباضية لكافة الشرائط الموضوعية التي تعيش فيها الجماعات السرية بعيدا عن الدولة المركزية، موضحة العلاقة الكامنة بينها وبين الدولة المركزية من جهة، وبينها بين بقية المذاهب الدينية الأخرى. فالحركة الإباضية بحسب الباحثة عانت اضطهادا جسديا وفكريا في بداياتها المبكرة، ولهذا لجأت في كثير من مراحلها التاريخية إلى الكتمان في نشر مبادئها وأفكارها.

تطرقت الباحثة إلى البدايات الأولى لدخول المذهب الإباضي في الشمال الأفريقي عن طريق سلمة بن سعد، ومن ثم (حملة العلم) الذين درسوا مع أبي عبيدة في البصرة، وأسسوا من ثم الدولة الرستمية في تيهرت، وقد بينت بأن النظرية الخلدونية القائلة بأن العصبية هي أساس بناء الدول والممالك لم تنطبق على الدولة الإباضية في تيهرت؛ إذ قامت هذه الدولة على عصبية الدين وليس العرق، وقد كان إمامها الأول فارسي الأصل.

لطيفة قندوز حاولت أن تفكك العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية من خلال الدولة الرستمية، كما أوضحت الإمتداد الجغرافي للدولة الرستمية في الشمال الأفريقي، وعلاقة تلك الدولة بالحركة الفاطمية التي قضت عليها. وقد توصلت الباحثة إلى أن الحركة النكارية التي انشقت عن الحركة الإباضية هي من أكبر الأسباب التي أدت إلى نهاية الدولة الرستمية، إلى جانب أسباب أخرى تتعلق بالامتداد الجغرافي الكبير لهذه الدولة الناشئة، وغياب المؤسسات الرسمية، وضعف الجيش، وكلها عوامل أدت إلى انهيار الدولة الرستمية سريعا. الورقة في مجملها قدمت إشكاليات عديدة وحاولت الإجابة عليها من خلال الدراسات السابقة التي قدمت في هذا المجال. 

ثامنا: ليونارد شيرلي: المذهب الإباضي في صقلية المسلمة 

بدأ الباحث ورقته باستعراض تاريخي لدخول الإسلام في صقلية، وذلك بداية من عام 161هـ، غير أن الورقة التي قدمها ليونارد شيرلي مهمة جدا، كونها تتحدث عن الوجود الإباضي في هذه الجزيرة التابعة لإيطاليا اليوم. وقد استعرض في هذه الورقة الوجود التاريخي للإباضية في جزيرة صقلية، والعوامل التي دفعت القبائل الأمازيغية للهجرة إلى تلك الجزيرة.

حديثا، يعد المستشرق البولندي ليفيسكي أول من تحدث عن الوجود الإباضي في جزيرة صقلية، وأما قديما فإن المؤرخين المسلمين وثقوا ودونوا هجرات القبائل البربرية من الشمال الأفريقي إلى صقلية، خاصة أثناء فتح المسلمين لهذه الجزيرة في منتصف القرن الثاني الهجري، وهو ما أشار إليه ابن خلدون بأن بعض الأمازيغ ذهبوا إلى جزيرة صقلية. وقد أكد ليونارد على الوجود الإباضي في هذه الجزيرة، خاصة قبيلة هوارة التي كانت تدين بالمذهب الإباضي في تلك المرحلة التاريخية، مما جعل عبد الرحمن بن رستم - مؤسس الدولة الرستمية - يتوسط في صلح بين الإباضية في تلك الجزيرة، مما يدل على الوجود الإباضي المبكر هناك، واستمرت هجرة القبائل الأمازيغية إلى تلك الجزيرة بعد سقوط الدولة الرستمية، خوفا من الدولة الفاطمية.

وتشير الدراسات - بحسب الباحث- إلى استمرار الوجود الإباضي حتى القرن الثالث عشر الميلادي.

تركزت القبائل الإباضية في شمال الجزيرة، وقد كانت تستوطن الكهوف بشكل خاص، كما استطاع الإباضية تكوين مراكز للدعوة، وتولوا وظيفة القضاء، وقاموا بتنظيم أنفسهم إلى جماعات يرأسها أمير، وذلك من أجل الحفاظ على هويتهم ووجودهم التاريخي. لقد ساعدت الدراسات الأنثروبولوجية اليوم في التعرف على القطع الأثرية التي كانت القبائل الأمازيغية تستخدمها في تلك المرحلة، كما ساعدت أيضا في التعرف على نوعية التجارة التي كانت تشغل بها القبائل الأمازيغية، والطرق التجارية التي كانت تسلكها بين الشمال الأفريقي والغرب الأفريقي وعلاقتهم بأوروبا الغربية عبر هذه الجزيرة. وعلى كل حال فإن الورقة قدمت مراجعات تاريخية مهمة عن الوجود الإسلامي في هذه الجزيرة بشكل عام وعن الوجود الإباضي الأمازيغي بشكل خاص. 

تاسعا: د. أحمد أبو الوفاء: قانون البحار في الفقه الإباضي

بين الفقه والقانون كانت الورقة التي قدمها أحمد أبو الوفاء؛ أستاذ القانون الدولي بجامعة القاهرة، وهي من الأوراق المهمة؛ نظرا لاختلاف طبيعتها المعرفية عن غيرها من الأوراق التي قدمت في هذا المؤتمر. وقد استعرض العلاقة القائمة بين قواعد القانون البحري وبين الفقه الإباضي، خاصة وأن الأديان لعبت دورا مهما في بناء الحضارات، سواء على صعيد الدين الإسلامي أو الأديان الإلهية الأخرى.

للمدرسة الإباضية إسهامات عديدة في قانون البحار؛ فالعمانيون لعبوا دورا كبيرا في التواصل الحضاري مع أقصى الشرق (الصين)، ومع أقصى الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا)، كما أنهم بسطوا سيطرتهم التاريخية على المحيط الهندي والشرق الأفريقي بعد طردهم للبرتغاليين من السواحل العمانية والهندية. وقد تميز العمانيون بضوابط فقهية في البحر تمثل انسجاما وتوافقا كبيرا مع القانون الدولي للبحار، مستلهمين ذلك من القرآن الكريم، الذي تحدث عن الملاحة البحرية في كثير من آياته. والفقه الإباضي لا يختلف في عمومه عن الفقه الإسلامي في رؤيته لقانون البحار، فقد تحدث الفقهاء الإباضيون عن مسائل عديدة منها الأحكام المرتبطة بالبحر، والأحكام المرتبطة بالسفينة، والأحكام المرتبطة بالبحارين.

يقسم قانون البحار المناطق البحرية إلى قسمين: قسم يخضع لسيادة الدولة وقسم آخر لا يخضع لسيادة الدولة، والإباضية أدركوا ذلك من خلال مفهوم " حريم البحر"، فالحريم له حكم الأرض نفسها؛ ولذا فالإمام يمكنه أن يؤجر الساحل، وهذا يعني أن هناك منطقة بحرية تكون تحت سلطته، وقد تحدث الإمام السالمي عن ذلك بقوله: "إذا مرت السفن إلى بحارنا"، وتحدث عنها الكندي في المصنف بقوله: "إذا مرت السفن سريعا"، ومفهوم السرعة من المفاهيم الهامة في قانون البحار. وقد تحدث الفقهاء الإباضية عن إشكاليات أخرى منها موضوع القرصنة والأحكام المتعلقة به، وموضوع العادات البحرية، وموضوع الضمان بما يحدث في البحر، وغيرها من الإشكاليات الفقهية والقانونية التي أسهب الباحث فيها.

- الخاتمة:

أوراق المؤتمر في عمومها كانت مهمة جدا؛ كونها كشفت عن تراث فقهي مرتبط بالحراك الاجتماعي للإباضية خلال مراحل تاريخية متعددة، وبقي فترة طويلة من الزمن منغلقا في إطاره الجغرافي والمذهبي بالرغم من كونه من أكثر التراثات الإسلامية تعرضا للتشويش الفكري.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/10/213

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك