وَثائِقُ الأزْهَر وصَوْنُ الدِّين والمجتمع في الزَّمَنِ الحاضِر

أيمن فؤاد سيد

رغم أنَّ الجامع الأزهر يُعَدُّ إنشاءً فاطميًّا إسماعيليًّا، وظَلَّ المركز الرئيس للدَّعْوَة الإسماعيلية في العالم الإسلامي لنحو قرنين من الزَّمان (361-567هـ/ 972-1171م)؛ فإنَّ هذا الدَّوْرَ تلاشى تمامًا مع الانقِلاب العلْمي الذي قادَه صلاحُ الدِّين يُوسُف بن أيُّوب سنة 567هـ/ 1171م، وقضى به على الدَّوْلَة الفاطمية وأعادَ مصر إلى مجموع الدُّوَل السُّنِّيَّة التي تَخْطُبُ للخليفة العبَّاسي في بغداد، وكان من نتيجته تعطيلُ خُطْبَةِ الجمعة في الجامع لأكثر من مائة عام، باعتباره رَمْزًا للدَّعْوَة الإسْماعيلية.

ولم يبدأ الجامعُ الأزْهَر في ممارسة دوره كمركزٍ للإسلام السُّنِّي إلَّا بعد أنْ أعادَ إليه السُّلْطانُ المملوكي الظَّاهِرُ بيبرس الخُطْبة سنة 665هـ/ 1267م بعد أخْذ رأي العُلَماء في جواز ذلك، وذلك بعد استضافته للخلافة العبَّاسية في مصر سنة 659هـ/ 1261م، في أعقاب سُقُوطِها في بغداد على أيدي المغول قبل ذلك بثلاث سنوات، سنة 665هـ/ 1258م.

وظَلَّ الجامعُ يقوم بدَورٍ تعليمي مهم في العصر المملوكي جنبًا إلى جنب مع المدارس التي انتشرت في القاهرة طوال هذا العصر، ولكن مع سُقُوطِ دولة المماليك في مصر والشَّام ومَدّ الدَّوْلَة العثمانية سطوتها عليها وعلى الأراضي التي أُطْلِقَ عليها فيما بعد العالم العربي تنامى دَوْرُ الجامع الأزهر وعَرَفَ في نهاية القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي منصب «شيخ الإسلام»، وهو اللَّقَب الذي تحوَّلَ بعد ذلك إلى «شيخ الأَزْهَر».

وكان التحوُّلُ الكبيرُ في دَوْر الجامع الأزهر مع وُصُولِ الحملة الفرنسية إلى مصر، سنة 1213هـ/ 1798م، وانهزام قوَّات مراد بك وانْسِحاب القوَّات المدافعة الأخرى إيمانًا منها بعُقمِ القتال، فتُركت القاهرةُ تحت رحمة الغُزاة وساد في أرجائها الاضطراب والذُّعْر. هنا بَرَزَ دَوْرٌ جَدِيدٌ للأزهر، هو القيادة الشَّعْبِيَّة والزَّعامَة الوطنية، ونجح بعد التفاوض مع الفرنسيين في تأليف «ديوان» يُشْرِفُ على حكم القاهرة وتَدْبير شؤونها مُؤلَّف من تسعة أعضاء من شيوخ الأزهر على رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزْهَر آنذاك، وتولَّى أمانَة الدِّيوان الشيخ محمد المهدي. وبالرَّغم من أنَّ سُلْطَة هذا الدِّيوان كانت محدودةً وخاضعةً لتوجيه المحتلِّين، فإنَّ في تأليفه على هذا النحو تنويهًا ظاهرًا بأهمية الجامع الأزْهَر ومكانة علمائه والاعتراف بزعامتهم الشَّعْبية والوطنية. وتَشكَّلت داخل الجامع لجنةٌ للثورة على المظالم الفرنسية قادت ثورة القاهرة الأولى، التي لم يجد الفرنسيون للقضاء عليها سوى احتلال الجامع الأزْهَر وضربه بالقنابل واقتحامهم له بخيولهم، ممَّا أدَّى إلى قتل الكثير من الناس ودَفْنِ عددٍ كبيرٍ منهم تحت الأنْقاض.

وكان للأزْهَر كذلك شأنٌ يذكر في مساندة محمد علي في الوصول إلى السُّلْطة، وتدخل علماؤه بعرائضهم إلى السلطان لتأييده غير مرَّة، وكان لموقفهم أثره في حَشْدِ الشَّعْب من حوله وتوطيد مركزه بالتعاون مع نقيب الأشراف الزعيم الوطني الكبير عمر مكرم، وكُلِّلَت مساعيهم يومئذ بالنجاح، واشترك شيخ الجامع الأزهر يومئذ الشيخ عبد الله الشرقاوي مع السيد عمر مكرم في إلْباس خِلْعَة الولاية لمحمد علي باشا سنة 1220هـ/ 1805م.

ولبث الأزْهَر بعد ذلك محتفظًا بمكانته ونفوذه، وقد يتضاءل هذا النفوذ أحيانًا تحت ضَغْط سلطان الطُّغْيان السياسي؛ ولكنه يبقى كامنًا ليبدو عند أول فرصة.

لذلك فإنّه أخذ منذ عصر الخديوي إسماعيل يتأثَّر بتيار الحركة الإصلاحية الجديدة، وأسهم كذلك في مضاعفة وعي الأزهر وطموحه مقدم المصلح الكبير السيد جمال الدِّين الأفْغاني إلى مصر واتصاله بالأزْهر وطُلَّابه. وكان من أكبر المتأثرين مع مفتي الدِّيار المصرية بعد ذلك الإمام محمد عبده.

وأثّر في الحياة العامة في التاريخ المصري في مطلع القرن العشرين طائفة من نوابغ المفكرين والصحفيين والأدباء الذين درسوا في الجامع الأزهر وكان لهم أثرٌ يُذْكر في توجيه الرأي العام وإيقاظ الشُّعور الوطني الذي تجلَّى خلال ثورة سنة 1919م حيث كان الجامع الأزهر- صحنه وأروقته-ساحةً من أهم ساحاتها.

كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011م إيذانًا ببداية عَهْدٍ جديد، ولكن مع تطور الأحْداث بدأت الجماعاتُ الأصوليَّة الرَّاديكالية في الظهور على السطح داعيةً إلى الأفكار الأكثر جمودًا وانغِلاقًا، فكان على الأزْهَر أنْ يتصدَّى لذلك موضِّحًا صورة الإسلام الوَسَطي وأنَّه مِلْكٌ للأمَّة كلِّها، وأنَّه يقِفُ على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، ولن ينطوي تحت أي تيَّار أو فكر معيَّن، وأنَّه مصدرٌ للفكر الإسلامي الذي يعتمد على القرآن والسُّنَّة وما اتَّفَقَ عليه علماءُ الأمَّة، وأنَّه المعبِّر الأمين عن المذاهب الفكرية والفِقْهِيَة في المدرسة الإسلامية.

فكان أنْ دَعا الأزْهَرُ بقيادة شَيْخِه الحالي الدكتور أحمد الطَّيِّب إلى عَدَدٍ من اللِّقاءات تجمع كوكبةً من المُثَقَّفين والعُلَماء المصريين وعلماء الأزْهَر الشَّريف على اخْتِلافِ انْتِماءاتهم الفكرية والدِّينية ليتدارسوا في عَدَدٍ من الاجتماعات مُقْتَضيات اللَّحْظَة التاريخية الفارقة التي تمرُّ بها مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وأهميتها في توجيه مستقبل مصر نحو غاياته النَّبيلة وحقوق شعبها في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية.

ونَتَجَ عن هذه الاجتماعات المكثَّفة أربعة وثائق مهمَّة صادرة عن الأزْهَر:

1- وَثيقَةُ الأزْهَر حول مستقبل مصر.

2- وثيقة الربيع العربي ومساندة حركات التحرر العربي.

3- بيَانُ الأزْهَر والمُثَقَّفين عن منظومة الحُرِّيات الأساسية.

4- وَثِيقَةُ الأزْهَر لحُقُوق المرأة.

1- وَثيقَةُ الأزْهَر حَوْلَ مُسْتَقْبَل مصر:

جاء في كلمة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطَّيِّب التي قَدَّمَ بها لهذه الوَثِيقَة ما يُعَبِّرُ حقيقةً عن طَبيعة المَوْقِف والظُّرُوف التي دَعَت لإصْدار هذه الوَثِيقَة المهمَّة يقول:

«إنَّ اللَّحْظَة الحاسِمة التي تعيشُها مصر لتجعل من أمنها واستقرارها، والحفاظ على مكاسب ثورتها سَقْفًا تقفُ عنده كلُّ منازع الفُرْقَة والشَّتات، وتتوحَّدُ تحته كلُّ اخْتِلافات التَّنَوّع والتَّكامُل الذي ننشده لوطننا ولمصر في هذا المُنْعَطَف التاريخي الحاد، وأصدقكم القَوْل: بأنَّ تَنوُّعَ الاجْتِهادات حول استراتيجية المستقبل إذا تحوَّلَ إلى تقاطُع وتنابُذ فكري فلن يكون حاصدُه إلَّا ثمرًا مُرًّا للوَطَن ولمصر في حاضرها ومستقبلها. إنَّ الدَّساتير-في حقيقتها-إنّما هي تعبيرٌ صادقٌ عن هُوِيَّة أمَّة وضَمِير شَعْب ومَصالِح مجتمع، كما أنَّ تنوُّعَ الاجْتِهادات حول البناء السياسي والدُّستوري القادم لن يكون تنوُّعًا محمودًا إلَّا إذا ظَلَّ في إطار وِحْدَةِ الوَطَن وأهدافِه العُلْيا».

بهذه العبارات الواضحة يُعَبِّرُ شيخُ الأزْهَر عن حَرَجِ المَوْقِد الذي وَصَلَ إليه الوَضْعُ في مصر في الشهور الأولى التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير، ثم أضاف موضِّحًا مَوْقِفَ الأزْهَر تجاه ذلك:

«والأزْهَر الشَّريف-الذي أعْلَن أكثر من مَرَّةٍ أنَّه يقفُ على مسافةٍ واحدٍة من جميع الفُرَقاء، وأنَّه يتابع بكل دِقَّة واهتمام أُطْروحات الجميع حول مستقبل الوَطن-يُعْلِنُ في صَراحَةٍ ووضوح أنَّه لا يخوض غمار العمل السياسي ولا الحِزْبي ولا السياسة بمفهومها المعتاد، فإنَّ هذا ليس من شأنه ولا ضمن اهتماماته؛ لكنه يحمل على كاهِلِه دورًا وَطَنِيًّا تَجَذَّر في التاريخ وحَمَّلَتْه إيَّاهُ الأمَّةُ للحِفاظ على حضارتها الممتدَّة وثقافتها الرَّاسِخَة وهُوِيَّتِهَا التي تأبى الاخْتراق والذوبان، ومن منطلق هذا الدَّوْر الوطني للأزْهَر وهذه المسؤولية التي شعر الأزْهَرُ بثِقَلِها ويُدْرِكُ أمانَتها أمام الله والتاريخ، ندعو أبْنَاء الوطن إلى النَّظر في التَّوافُق حول "وثيقة الأزهر" كَحَلٍّ يخرج به الناسُ من ضيق الاختلاف وخطره إلى سعة الآفاق الرحبة والتعاون الجاد، من أجل بلدنا جميعًا وتقديرًا لدعاء شهدائنا وتضحيات جماهيرنا».

وهنا يستعيدُ شيخُ الأزْهَر الدَّوْرَ التاريخي للأزْهر في القيادَة الشَّعبية والزَّعامَة الوطنية، ويُذَكِّر بالمسؤوليات المُلْقاة على عاتِقِه وإدْراكه لِثِقَلِ هذه الأمانة أمام الله والتاريخ، ثم يُشيرُ إلى أنَّ هذه الوثيقة ليست إلَّا:

«مُجَرَّد إطارٍ قِيَمي يصونُ أساسيات شَعْبِنا وثوابِتَه، ويعتبر الدَّوْلَة الوطنية الدُّسْتورية الدِّيمقراطية الحديثة من ثوابت المطالب الوطنية بكلِّ ما تستوجبه من مُواطَنَةٍ كاملةٍ وتداوُلٍ حقيقي للسُّلْطة يمنعُ احْتِكارَها من فريقٍ أو الوثوب عليها من فريق آخر».

ويَخْتِمُ الإمامُ الأكبر كلمته بالتَّذكير بأنَّ

«هذا التَّوافُق يؤهِّل الوثيقة لأن تكون وثيقةً يُسْتَرشَدُ بها عند وَضْع الدُّسْتور، وميثاقَ شَرَفٍ يلتزمُ به الجميعُ طواعيةً واخْتيارًا، لا يُفْرَضُ على أحد، وإنَّما يتركُ الأمرُ فيه للإرادَة الشعبية التي يُعَبِّر عنها الدُّستور المُنْتَظَر».

أمَّا الوَثِيقَةُ نفسُها فقد أشارَت في دِيباجتها إلى اعتراف الجميع بدور الأزهر القيادي في بَلْوَرَة الفكر الإسلامي الوسطي السَّديد، وتأكيد المجتمعين على أهميته واعتباره المنارة الهادية التي يُسْتَضاءُ بها ويُحْتَكَمُ إليها في تحديد علاقة الدَّوْلَة بالدِّين وبيان أُسُسِ السِّياسة الشَّرْعية الصَّحِيحَة التي ينبغي انتهاجُها ارتكازًا على خبرته المتراكمة وتاريخه العلمي والثقافي.

كما حَرَصَ المجتمعون على أنْ يستلهموا في مناقشتهم رُوح تُراث أعْلام الفكر والنَّهْضَة والتَّقدُّم والإصْلاح في الأزْهر الشريف ابتداءً من شيخ الإسلام الشيخ حسن العَطَّار، وتلميذه الشيخ رفاعة الطَّهْطاوي، إلى الإمام محمد عبده وتلاميذه، وأئمة الأزهر المجتهدين من أمثال الشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ مصطفى عبد الرَّازِق، والشيخ محمود شلتوت وغيرهم من شيوخ الإسلام وعُلمائه إلى يوم الناس هذا.

كما استلهموا في الوقت نفسه إنجازات كبار المثقفين المصريين ممن شاركوا في التطوُّر المعرفي والإنساني وأسهموا في تشكيل العقل المصري والعربي الحديث في نهضته المتجدِّدة من رجال الفلسفة والقانون والأدب والفنون.

وبناء عليه تَوافَقَ المجتمعون على المبادئ التالية لتحديد طبيعة المرجعية الإسلامية النَّيِّرَة التي تتمثَّل أساسًا في عَدَدٍ من القضايا الكلِّية المستخلصة من النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّة القَطْعِيَّة الثُّبُوت والدَّلالة بوَصْفِها المُعَبِّرَة عن الفَهْمِ الصَّحِيح للدين وأجْمَلوها في المحاوِر التالية:

أوَّلا: دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونية الحاكمة. ويحدد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكل أفرادها على قَدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب؛ بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام-لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه-ما يعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينية الكهنوتية التي تسلطت على الناس، وعانت منها البشرية في بعض مراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليات والمؤسسات المحققة لمصالحهم، شريطة أن تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الأساس للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية.

ثانيًا: اعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر المباشر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى الإسلامية، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة، ومن تحديد للاختصاصات ومراقبة للأداء ومحاسبة للمسؤولين أمام ممثلي الشعب، وتوخي منافع الناس ومصالحهم العامة في جميع التشريعات والقرارات، وإدارة شؤون الدولة بالقانون-والقانون وحده-وملاحقة الفساد وتحقيق الشفافية التامة وحرية الحصول على 

المعلومات وتداولها.

ثالثًا: الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والتأكيد على مبدأ التعددية واحترام الأديان السماوية، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية في المجتمع.

رابعًا: الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار، وضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، مع اعتبار الحث على الفتنة الطائفية والدعوات العنصرية جريمة في حق الوطن، ووجوب اعتماد الحوار المتكافئ والاحترام المتبادل والتعويل عليها في التعامل بين فئات الشعب المختلفة، دون أية تفرقة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين.

خامسًا: تأكيد الالتزام بالمواثيق والقرارات الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية في العلاقات الإنسانية، المتوافقة مع التقاليد السمحة للثقافة الإسلامية والعربية، والمتسقة مع الخبرة الحضارية الطويلة للشعب المصري في عصوره المختلفة، وما قدمه من نماذج فائقة في التعايش السلمي ونشدان الخير للإنسانية كلها.

سادسًا: الحرص التام على صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ على عزتها الوطنية، وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أية مُعوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها، دون تسفيهٍ لثقافة الشعب أو تشويهٍ لتقاليده الأصلية، وكذلك الحرص التام على صيانة حرية التعبير والإبداع الفني والأدبي في إطار منظومة قيمنا الحضارية الثابتة.

سابعًا: اعتبار التعليم والبحث العلمي ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضاري في مصر، وتكريس كل الجهود لتدارك ما فاتنا في هذه المجالات، وحشد طاقة المجتمع كلّه لمحو الأمية، واستثمار الثروة البشرية وتحقيق المشروعات المستقبلية الكبرى.

ثامنًا: إعمال فقه الأولويات في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد ومكافحة الفساد والقضاء على البطالة، وبما يفجر طاقات المجتمع وإبداعاته في الجوانب الاقتصادية والبرامج الاجتماعية والثقافية والإعلامية، على أن يأتي ذلك على رأس الأوليات التي يتبناها شعبنا في نهضته الراهنة، مع اعتبار الرعاية الصحية الحقيقية والجادة واجب الدولة تجاه كل المواطنين جميعًا.

تاسعًا: بناء علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الإفريقية والعالمية، ومناصرة الحق الفلسطيني، والحفاظ على استقلال الإرادة المصرية، واسترجاع الدور القيادي التاريخي على أساس التعاون على الخير المشترك، وتحقيق مصلحة الشعوب في إطار من الندية والاستقلال التام، ومتابعة المشاركة في الجهد الإنساني النبيل لتقدم البشرية، والحفاظ على البيئة وتحقيق السلام العادل بين الأمم.

عاشرًا: تأييدُ مشروع استقلال مؤسسة الأزهر، وعودة " هيئة كبار العلماء " واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر، والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري؛ ليسترد دوره الفكري الأصيل، وتأثيره العالمي في مختلف الأنحاء.

حادي عشر: اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة، وبشرط الالتزام بآداب الحوار، واحترام ما توافق عليه علماء الأمة.

ويُهيبُ علماء الأزهر والمثقفون المشاركون في إعداد هذه الوثيقة بكل الأحزاب والاتجاهات السياسية المصرية أن تلتزم بالعمل على تقدم مصر سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًا في إطار المحددات الأساسية التي وردت في هذا البيان.

2- وَثِيقَةُ الرَّبيع العربي ومساندة حركات التحرير في العالم العربي:

تهتم هذه الوثيقة بثورات الرَّبيع العربي وتُدينُ الطُّغاة العرب، وتعد الثورة عليهم واجبًا وطنيًّا، وجاءت في ست موادّ عدّها الأزهر مواثيق تتضمَّن رؤية الأزهر والمفكِّرين المصريين والعرب ورصدهم لثورات الشعوب العربية.

وأهم ما أشارت إليه الوثيقةُ: أنَّ الشعوبَ والثُّوَّار المنادين بالحرية والعدالة الاجتماعية لا يمكن اعتبارهم من البُغاة؛ بل إنَّ ما يقومون به أمر واجب عليهم خاصة في ظل عدم استجابة الحكام لمطالبهم بالعدالة والمساواة والإنصاف.

كما اعتبرت الوثيقة قيام أي حاكم عربي بممارسة العُنْف والقتل في شعبه المنادي بالحرية عملًا يسقط شرعيته.

وناشدت الوثيقة الحكام العرب الإسراع بعملية الإصلاح وتحقيق المطالب الوطنية لشعوبها؛ حتى تلتحق الشعوب الإسلامية والعربية بركب الأمم المتحضِّرة.

وجاء إصدار هذه الوثيقة من أجل دَعْم إرادة الشعوب في تحقيق الشورى والعدالة والحرية وحقوق الإنسان وخاطبت الحكام والرؤساء بضرورة الاستجابة لمطالب شعوبهم. وقال شيخ الأزهر في أعقاب الجلسات التي ناقشت الوثيقة: «إن مواجهة أي احتجاج وطني سلمي بالقوة والعُنْف المُسَلَّح وإراقة دماء المواطنين المسالمين بمثابة نقضٍ لميثاق الحكم بين الأمَّة وحكَّامها، ويُسْقِط شرعية السُّلْطَةُ ويَهْدرُ حَقَّها في الاستمرار بالتراضي، فإذا تمادَت السُّلْطَة في "طُغيانها" واستهانت بإراقة دماء المواطنين الأبرياء حفاظًا على بقائها غير المشروع-على الرغم من إرادة الشعوب-أصبحت السلطة مدانة بجرائم تلوث صفحاتها، وأصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عَزْل الحكام المتسلِّطين ومحاسبتهم».

وأكد كذلك أن انتهاك حرمة الدم المعصوم يُعَدّ الخط الفاصل بين شرعية الحكم وسقوطه في الإثم والعدوان داعيًا الجيوش المنظمة في جميع الدول العربية في هذه الأحوال إلى الالتزام بواجباتها الدستورية في حماية الأوطان من الخارج؛ حتى لا تتحول إلى أدوات قمع وإرهاب للمواطنين وسفك دمائهم.

وأكدت الوثيقة مناصرة علماء الأزهر وقادة الفكر والثقافة لإرادة الشعوب العربية في التجديد والإصلاح التي انتصرت في مصر وتونس وليبيا، ولا تزال محتدمة في سوريا واليمن داعين المجتمعين العربي والإسلامي إلى اتخاذ مبادرات حماسية وفعالة لتأمين نجاح هذه الثورات بأقل قدر من الخسائر.

رفض المدّ الشيعي في الدول الإسلامية سواء من خلال المحاولات المجموعة لنشر المذهب الشيعي في بلاد السُّنَّة خاصَّة مصر من خلال الكتب والقنوات الفضائية، ومحاولاته المستمرة للإساءة إلى أصحاب الرسول -صلَّى الله عليه سلَّم- وإلى رموز أهل السُّنَّة، وكلها تصبّ في صالح الكيان الصهيوني وتغريب الأمة الإسلامية، ويمارس الأزهر حتى الآن سياسة ضبط النفس حفاظًا على وِحْدَة المسلمين، وإلاَّ فسيكون للأزهر خياراته الفكرية الأخرى للدفاع عن أهل السُّنَّة، معتبرًا المساس بالصحابة خطا أحمر ولا يمكن التساهل فيه، وأنَّ الأزهر سيقف بالمرصاد للمدّ الشيعي الغريب.

وأكد شيخ الأزهر أن الثورات من إرادات الشعوب وفعاليتها فعالية داخلية ذاتية بالرغم من الأموال والأدوات التي رصدت من الغرب ومن أمريكا بخاصة لإحداث التحوُّل الديمقراطي في المنطقة؛ إلَّا أنها لم تكن ذات أثر، فمن المهم أن تدرك أن هذه الشعوب تتحرَّك وفق منطقها الذاتي ومواريثها الحضارية بما يمثل خصوصيتها التي يجب أن تحترم، ووثيقة الأزهر أنموذج لهذه الخصوصية.

وفيما يلي نص الوثيقة:

أولًا: تعتمدُ شرعية السُّلطة الحاكمة من الوجهة الدينية والدستورية على رضا الشُّعوب، واختيارها الحرّ، من خلال اقتراع عَلنيٍّ يَتمُّ في نزاهة وشفافية ديمقراطية، باعتباره البديل العصري المنظِّم لما سبقت به تقاليد البَيْعَة الإسلامية الرّشيدة، وطبقًا لتطوُّر نُظُم الحكم وإجراءاته في الدّولة الحديثة والمعاصرة، وما استقرَّ عليه العُرف الدستوري من توزيع السُّلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والفصل الحاسم بينها، ومن ضبط وسائل الرّقابة والمساءلة والمحاسبة، بحيث تكون الأمّة هي مصدر السُّلطات جميعًا، ومانحة الشرعية وسالبتها عند الضرورة. وقد دَرَجَ كثيرٌ من الحكّام على تعزيز سلطتهم المطلقة مُتشبِّثينَ بفهم مبتور للآية القرآنية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59] متجاهلين سِيَاقَها الواضح الصريح في قوله تعالى قبل ذلك في الآية التي تسبق هذه الآية مباشرة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58] ممّا يجعل الإخلال بشروط أمانة الحكم وعدم إقامة العدل فيه مُسَوِّغًا شرعيًّا لمطالبة الشعوب حكامهم بإقامة العدل، ومقاومة الظلم والاستبداد، ومن قال من فقهائنا بوجوب الصبر على المتغلب المستبد من الحكام حرصًا على سلامة الأمة من الفوضى والهرْج والمرْج-قد أجاز في الوقت نفسه عزل المستبد الظالم إذا تحققت القدرة على ذلك وانتفى احتمال الضرر والإضرار بسلامة الأمة ومجتمعاتها.

ثانيًا: عندما يرتفع صوت المعارضة الوطنية الشعبية والاحتجاج السِّلميّ، الذي هو حقٌّ أصيلٌ للشُّعوب لتقويم الحكّام وترشيدهم، ثم لا يستجيب الحكّام لنداء شعوبهم، ولا يُبادرونَ بالإصلاحات المطلوبة؛ بل يُمْعِنونَ في تجاهل المطالب الوطنية المشروعة التي تنادي بالحرية والعدالة والإنصاف، فإن هؤلاء المعارضين الوطنيين لا يُعَدُّون من قبيل البُغاة أبَدًا، وإنما البُغاة هم الذين تحدَّدت أوصافُهم فِقهيًا بامتلاك الشَّوكة والانعزال عن الأمَّة، ورَفع الأسلحة في مواجهة مخالفيهم، والإفساد في الأرض بالقُوّة، أمّا الحركات الوطنية السِّلميّة المعارضة فهي من صميم حقوق الإنسان في الإسلام التي أكدتها سائر المواثيق الدّوليّة؛ بل هي واجب المواطنين لإصلاح مجتمعهم وتقويم حُكّامهم، والاستجابة لها واجبٌ على الحكّام وأهل السُّلطة دونَ مُراوغةٍ أو عنادٍ.

ثالثًا: تُعَدُّ مواجهة أيّ احتجاج وطني سِلميّ بالقوّة والعُنفِ المسلَّح، وإراقة دماء المواطنين المسالمين، نقضًا لميثاق الحكْم بين الأمّة وحكّامها، ويُسقِطُ شرعيَّة السُّلْطة، ويهدر حقَّها في الاستمرار بالتَّراضِي فإذا تمادتِ السُّلْطةُ في طُغيانها، وركبت مركب الظلْم والبغي والعدوان واستهانت بإراقة دِماء المواطنينَ الأبرياء، حِفاظًا على بقائها غير المشروع-وعلى الرغم من إرادة شعوبها-أصبحت السلطة مدانة بجرائم تُلَوِّثُ صفحاتها، وأصبح من حق الشعوب المقهورة أن تعمل على عزل الحكام المتسلطين وعلى محاسبتهم، بل تغيير النِّظام بأكمله، مهما كانت المعاذير من حرص على الاستقرار أو مواجهة الفِتَن والمؤامرات، فانتهاكُ حرمة الدَّم المعصوم هو الخطُّ الفاصل بين شرعية الحكم وسقوطه في الإثم والعدوان. وعلى الجيوش المنظّمة-في أوطاننا كلِّها-في هذه الأحوال أن تلتزم بواجباتها الدِّستورية في حماية الأوطان من الخارج، ولا تتحوّل إلى أدواتٍ للقمع وإرهاب المواطنين وسفك دمائهم؛ فإنه: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

رابعًا: يَتعيَّن على قوى الثورة والتجديد والإصلاح أن تبتعد كليا عن كل ما يؤدي إلى إراقة الدماء، وعن الاستقواء بالقوى الخارجية أيًّا كان مصدرها، ومهما كانت الذرائع والتعِلاَّت التي تتدخل بها في شؤون دولهم وأوطانهم، وإلا كانوا بغاة خارجين على أمتهم وعلى شرعية دولهم. ووجب على السلطة حينئذ أن تردهم إلى وحدة الصف الوطني الذي هو أول الفرائض وأوجب الواجبات. وعلى قوى الثورة والتجديد أن تتَّحد في سبيل تحقيق حُلْمِها في العدل والحريّة، وأن تتفادى النزعات الطائفية أو العرقية أو المذهبية أو الدينية، حِفاظًا على نسيجها الوطني، واحترامًا لحقوق المواطنة، وحَشدًا لجميع الطَّاقات من أجل تحوّل ديمقراطيٍّ يتمُّ لصالح الجميع، في إطار من التوافق والانسجام الوطني، ويهدف لبناء المستقبل على أساسٍ من المساواة والعدل، وبحيث لا تتحوَّلُ الثورة إلى مغانم طائفية أو مذهبية، أو إثارة للحساسيات الدِّينية؛ بل يتعيّن على الثوار والمجددِّين والمصلِحِين الحفاظ على مؤسسات دولهم، وعدم إهدار ثرواتها، أو التّفريط لصالح المتربِّصينَ، وتفادي الوقوع في شرك الخلافات والمنافسات، والاستقواء بالقوى الطامعة في أوطانهم أو استنزاف خيراتها.

خامسًا: بناءً على هذه المبادئ الإسلامية والدستورية، المعبِّرَة عن جوهر الوَعْيِ الحضاريّ؛ فإن علماء الأزهر وقادة الفكر والثقافة يُعْلنونَ مناصرتهم التَّامة لإرادة الشعوب العربية في التجديد والإصلاح ومجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية والتي انتصرت في تونس ومصر وليبيا، ولا تزال محتدمة في سورة واليمن، ويدينون آلات القمع الوحشية التي تُحاول إطفاء جذوتها، ويَهيبونَ بالمجتمع العربي والإسلامي أن يتخذ مبادرات حاسمة وفعّالة لتأمين نجاحها بأقلِّ قدْرٍ من الخسائر، تأكيدًا لحقِّ الشُعوب المطلق في اختيار الحُكّام، وواجبها في تقويمهم مَنعًا للطُّغيان والفساد والاستغلال، فشرعية أيّة سُلطةٍ مرهونة بإرادة الشّعب، وحقّ المعارضة الوطنية السّلمية غير المسلحة مكفولٌ في التشريع الإسلامي في وجوب رفع الضَّرر، فضلًا عن كونه من صميم حقوق الإنسان في المواثيق الدّولية جميعًا.

سادسًا: يُناشدُ علماء الأزهر والمثقفون المشاركون لهم النظم العربيّة والإسلاميّة الحاكمة يناشدونهم الحرص على المبادرة إلى تحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي والدستوري طَوْعًا، والبَدْء في خطوات التحوُّل الديمقراطي، فصحوةُ الشعوب المضطهدة قادمة لا محالة، وليس بوسع حاكمٍ الآن أن يحجب عن شعبه شمس الحريّة، ومِن العار أن تظلَّ المنطقة العربية وبعض الدول الإسلامية قابعة دون سائر بلاد العالم في دائرة التخلف والقهر والطغيان، وأن يُنسب ذلك ظُلمًا وزورًا إلى الإسلام وثقافته البريئة من هذا البُهتان، كما يتعين على هذه الدول أن تشرع على الفور في الأخذ بأسباب النهضة العلمية والتقدم التكنولوجي والإنتاج المعرفي، واستثمار طاقاتها البشرية وثرواتها الطبيعية خدمة لمواطنيها، وتحقيقًا لسعادة البشرية كلِّها.

هذا ولا يحسبنّ أحدٌ من رعاة الاستبداد والطغيان أنه بمنجاةٍ من مصير الظالمين، أو أن بوُسْعِهِ تضليل الشعوب، فعصر الاتصالات المفتوحة والانفجار المعرفي، وسيادة المبادئ الدينية والحضارية النَّيِّرَةِ، ونماذج التضحية والنِّضال المشهودة عيانًا في دنيا العرب، كلُّ ذلك جعل من صَّحوة الناس شعلة مُتوهِّجَة، ومن الحرية راية مرفوعة، ومن أمَل الشعوب المقهورة باعثًا يحدوها للنِّضال المستميت حتى النصر. وليكف الجاهلون بالدِّين، والمشوِّهون لتعاليم الإسلام، والدّاعون لتأييد الطغيان والظلم والاستبداد عن هذا العبث الذي لا طائل وراءه. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21]، اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتردُّ بها الفتن عنا يا ربَّ العالمين.

وقد جاء إعلان ذلك بعدما أدارت هذه المجموعة عدة حوارات بنَّاءة، بشأن ما حققته الثورات العربية مِن تفاعل خصب، وتجاوب حميم بين مختلف المشارف والتيارات، وتوافقت على جُملة المبادئ المستمدة من الفكر الإسلامي، والطموحات المستقبلية للشعوب العربية، وانتهت برعاية الأزهر الشريف.

ويُعد هذا انطلاقًا من إدراك كبار علماء الأزهر، ومجموعة المثقفين المشاركين لهم، لمتطلبات المرحلة التاريخية المفصلية، التي تمر بها شعوب الأمة العربية في نضالها المشروع للحرية والعدالة والديمقراطية، واستئناف مسيرتها الحضارية؛ واستلهامًا لروح التحرر في الإسلام، والقوانين الفقهية لمشروعية السلطة، ودورها في الإصلاح وتحقيق المقاصد والمصالح العليا للأمة، واتساقًا مع مواقف الأزهر الشريف، وقادة الفكر في مصر والوطن العربي، في دعم حركات التحرر من المستعمر الغاشم والمستبد الظالم، وإيمانًا من الجميع بضرورة يقظة الأمّة للأخذ بأسباب النَّهضة والتقدُّم، وتجاوز العثرات التاريخية، وإرساء حقوق المواطنين في العدالة الاجتماعية، على أساس راسخ من مبادئ الشريعة وأصولها، بما تتضمَّنه من حفظ العقل والدِّين والنفس والعِرْض والمال. وسَدِّ الطريق أمام السُّلطة الجائرة التي تحرم المجتمع العربي والإسلامي من دخول عصر التألق الحضاري، والتقدم المعرفي، والإسهام في تحقيق الرخاء الاقتصادي والنهضة الشاملة، قد أدارت عِدَّة حوارات بنّاءة، حول ما حققته الثورات العربية من تفاعل خصبٍ، وتجاوب حميم بين مختلف المشارب والتيارات، وتوافَقَت على جُملة المبادئ المستمدة من الفكر الإسلامي، والطموحات المستقبلية للشعوب العربية.

3- بَيَانُ الأزْهَر والمُثَقَّفين عن مَنْظُومَة الحُرِّيات الأساسية:

صَدَرَ هذا البيانُ في يناير سنة 2012م وأشار في ديباجته إلى أنَّ ثورات التحرير التي اجْتاحَت مؤخَّرًا قسمًا من البلاد العربية رَفَعَت سَقْفَ الحُرِّيّات وأذكت رُوحَ النهضة الشَّامِلَة لدى مختلف الفئات، وبالتالي فقد تطلَّع المصريون والأمة العربية والإسلامية إلى علماء الأمَّة ومفكرِيها المثقفين كي يحرِّروا العلاقة بين المبادئ الكلِّية للشَّريعة الإسْلامية السَّمْحاء ومنظومة الحُرِّيات الأساسية التي أجمعت عليها المواثيقُ الدولية وأسْفَرَت عنها التجربةُ الحضاريةُ للشعب المصري تأصيلًا لأسُسها وتأكيدًا لثوابتها وتحديدًا لشُّروطها التي تحمي حركة التَّطَوُّر وتفتح آفاق المستقبل.

وحدَّدَ البَيانُ هذه الحُرِّيات الأساسية في أرْبَع حرِّيات: حُرِّيَّة العَقيدة، وحُرِّيَّة البَحْث العِلْمي، وحُرِّيَّة الرَّأي والتَّعْبير، وحُرِّيَّة الإبْداع الفَنِّي. وعَدَّ البيانُ حُرِّية الرَّأي والتَّعْبير هي أمّ الحُرِّيات كلّها.

وأشارَ البَيانُ كذلك إلى أنَّ إقْرار جُمْلة من المبادئ والضَّوابِط الحاكمة لها في ضَوْء اللَّحْظَة التاريخية الرَّاهِنَة لا يتأتى على الوَجْه الأكمل إلَّا إذا تَضَافَر الخِطابُ الدِّيني المُسْتنِير مع الخطاب الثَّقافي الرَّشيد ليَنْدَرجا مَعًا في نَسَقٍ مُسْتَقْبَلي مُثْمِر يُوحِّدُ بينهما في الأهْدافِ والغايات التي يتوافَقُ عليها الجميع، ويحافِظُ في الوَقْت نفسه على جَوْهَر التَّوافُق المجتمعي ويرعى الصَّالِحَ العامّ في مرحلة التحوُّل الدِّيمقراطي؛ حتى تنتقل الأمَّةُ إلى بناء مؤسَّساتها الدُّسْتورية بسلامٍ واعْتِدال وتوفيق من الله تعالى.

حُرِّيَّةُ العَقِيدَة:

اعتبر البيانُ حُرِّية العَقِيدَة وما يرتبطُ بها من حَقِّ المُواطَنَةَ الكاملة للجميع القائم على المساواة التَّامَّة في الحُقوق والواجبات حَجَرَ الزَّاوية في البناء المجتمعي الحديث، وهي حُرِّيَّة كَفَلَتْها الأصولُ الدُّستورية والنُّصوصُ الدِّينية القَطْعِيَّة، يقول تعالى: ﴿لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قد تَبَيَّنَ الْرُّشْدُ مِن الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256]، ويقول: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر﴾ [الكهف: 29]، ممَّا يترتَّبُ عليه تجريمُ أي مَظْهَر للإكْراه في الدِّين أو الاضْطِهاد أو التَّمْييز بسببه، فلكلِّ فَرْدٍ في المجتمع أنْ يَعْتَنِق من المبادئ ما شاء دون أنْ يُنْقِص ذلك من أهْليته باعتباره مواطِنًا حُرًّا.

ولما كان الوَطَن العربي مَهْبِطَ الوَحْي السَّماوي وحاضِن الأدْيان فهو أشَدُّ الْتِزامًا برعاية قداسَتِها واحْترام شعائرها وصِيانَة حقوق الأفْراد في الإيمان بُحرِّيَّةٍ وكرامَة. وهو الأمْرُ الذي يترتَّب عليه التَّسليمُ بمشروعية التَّعَدُّد ورعاية حَقِّ الاخْتِلاف ووجوب مراعاة كلّ مُواطِن مشاعِرَ الآخرين والمساواة الكاملة بينهم على أساسٍ متين من المواطنة والشَّراكة وتكافؤ الفُرَص في جميع الحقوق والواجبات، ويترتَّب عليه كذلك رَفْض نزَعات الإقْصاء والتَّكْفير وإدانَة عقائِد الآخرين أو التَّفْتيش في ضمائرهم بناء على ما استقرّ من نُظُم دستورية وعلى ما استقرَّ بين علماء المسلمين من تقاليد سَمحة قررتها الشريعة.

حُرِّيَّةُ البَحْث العِلْمي:

جاء تَبَنِّي حُرِّية البَحْث العِلْمي إحْقاقًا للحَقّ ودَفْعًا للشُّبُهات عن الإسلام وليَضَع حَدًّا لِمُهاترات شَتَّى، فقد آن الأوان ليدخُل المصريون والعَرَب والمسلمون ساحَة المنافسة العلمية والحضارية. وإذا كان التَّفْكير في عُمُومِه فريضةً إسلاميةً في مختلف المَعارِف والفُنون، كما يقول المجتهدون، فإنَّ البَحْثَ العلمي النَّظَري والتَّجْريبي هو أداة هذا الفكر. وأهم شروطه أن تمتلك المؤسَّساتُ البحثية والعُلَماءُ المتخصِّصون حُرِّيةً أكاديميةً تامَّةً في إجْراء التَّجارب وافْتِراض الاحْتمالات واخْتبارها بالمعايير الدَّقيقة وأنْ تمتلكَ الخيالَ الخَلَّاق والخبرة الكفيلة بالوصول إلى نتائج جديدة تُضيفُ للمعرفة الإنسانية لا يحدّهم في ذلك سوى أخْلاقيات العِلْم وضَرورات إنْتاجه.

حُرِّيَّةُ الرَّأي والتَّعْبير:

اعتبر البيانُ حُرِّيَّة الرأي أمّ الحُرِّيات كلّها، والتي لا يمكن أنْ تتجلَّى إلَّا بالتَّعبير عنه بمختلفِ الوسائل من كِتابةٍ وخَطابَةٍ وإنْتاجٍ فنِّي وتواصُلٍ رَقَمي، وهي في الوَقْتِ نفسه أحد مظاهِر الحُرِّيات الاجْتِماعية التي تتجاوَز الأفْراد لتَشْمَل غيرهم في تكوين الأحْزاب ومنظَّمات المجتمع المَدَني، كما تشمل حُرِّيَّة الصَّحافَة والإعْلام المَسْمُوع والمرئي والرَّقَمي وحُرِّيَّة الحُصول على المعلومات اللَّازمة لإبْداء الرَّأي، ومن ثَمَّ في جَوْهَر الحُرِّيات العامَّة.

ولا بد أنْ تكون مكفولة بالنُّصُوص الدُّستورية لتسمو على القوانين العادية القابلة للتَّغْيير. واسْتَشهدَ البيانُ للتدليل على ذلك بتوسيع المحكمة الدُّستورية العُلْيا في مصر لمفهوم حُرِّيَّة التَّعْبير كي يشمل النَّقْد البَنَّاء، ولو كان حادّ العِبارَة، ونَصَّت على أنه «لا يجوزُ أنْ تكون حُرِّيَّة التَّعْبير في القضايا العامة مُقيَّدَة بعَدَم التجاوز؛ بل يتعيَّن التَّسامُح فيها» مع ضرورة التَّنْبيه إلى وجوب احْتِرام المُعْتَقَدات والشَّعائر الدينية وعَدَم المساس بها؛ لما في ذلك من خُطورَة على النَّسيج الاجتماعي والأمْن القومي، بحيث لا يحق لأحدٍ أنْ يُثيرَ الفِتَن الطائفية باسْم حُرِّيَّة التَّعْبير.

واتَّفَقَ الحاضرون كذلك على أنَّ حُرِّيَّة الرَّأي والتَّعْبير هي المَظْهَر الحقيقي للدِّيمقراطية ودعوا إلى تنشئة الأجْيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحُرِّيَّة وحَقّ الاخْتِلاف واحْتِرام الآخرين، وأهابوا بالعاملين في مَجالِ الخِطاب الدِّيني والإعْلامي مراعاة هذا البُعْدِ المهم في مُمارساتهم، وتَوَخِّي الحِكْمَةَ في تكوين رأي عام يَتَّسِم بالتَّسامُح وسَعَةَ الأُفُق ويحتكم للحِوار ونَبْذِ التَّعَصُّب.

حُرِّيَّة الإبْداع الأدَبي والفَنِّي:

بما أنَّ الآداب والفنون تستهدفُ في جملتها تنمية الوعي بالواقع وتنشيط الخيال وترقية الإحساس الجمالي وتثقيف الحواس الإنسانية وتوسيع مداركها وتعميق خبرة الإنسان بالحياة والمجتمع، كما تقوم بنَقْدِ هذا المجتمع أحيانًا والحلم بما هو أرقى وأفْضَل منه، وكلُّها وظائف سامية تؤدي في حقيقة الأمر إلى إثراء اللُّغة والثقافة وتنشيط الخيال وتنمية الفكر، وتلتقي في جوهرها مع الأهْداف العُلْيا للأدْيان السماوية، فالواجبُ تشجيعها ودَعمها، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ القاعدة الأساسية التي تحكم حدود حرية الإبْداع هي قابلية المجتمع من ناحية وقدرته على استيعاب عناصر التراث والتجديد في الإبداء الأدبي والفَنِّي من ناحية أخرى، مع الاحْتكام لرأي الخبراء والنُّقّاد والعارفين بهذه الفنون وعَدَم التعرُّض لها ما لم تمسّ المشاعر الدِّينية أو تؤذي القيم المجتمعية المستقرة.

4- وَثِيقَةُ الأزْهَر لحُقُوق المرأة:

هذه الوَثِيقةُ أكثر الوَثائِق الثَّلاث جَدَلًا، ولم تَصْدُر رَسْميًّا حتى الآن. وجاءَ الإعلانُ عن تأجيل صُدُورها لحاجَة مَجْمعَ البُحُوث الإسلامية لمزيدٍ من الوَقْتِّ لدراستها، إلَّا أنَّ الملامِحَ الأوَّلية لها حَظِيَت بترحيبٍ وحفاوةٍ بين النَّاشِطات النِّسائيات والعاملين في مَجالِ حُقُوقِ المرأة.

وتأتي أهَمِيَّةُ الوَثيقة من أنَّها أُعِدَّت بمُبادَرَةٍ مُخْلِصَةٍ من الأزْهَر الشَّريف لتكون سَنَدًا للمرأة المصرية في معركتها ضِدّ من يستخدمون الدِّين للحَطِّ من مكانة المرأة وتَقْليصِ دَوْرِها والانْقِضاضِ على مُكْتسباتها.

وتَنْطَلِق الوثيقةُ من عِدَّة مبادئ أهمّها: الرَّفْض التام لتسييس القضايا المجتمعية أو اسْتِغْلال المرأة في الصِّراع السِّياسي بين القوى المختلفة، لذلك تدعو الوثيقةُ في ديباجتها إلى ضرورة الانْطِلاق في مُعالَجَة قضايا الأسْرَة من الاحْتياجات الحقيقية من المعارف العلمية والدِّينية الحديثة والدِّراسات الميدانية الاجتماعية، والحِرْص على أن تكون التَّشْريعاتُ الخاصَّةُ بالمرأة ذات صِبْغَة اجتماعية توافقية تراحمية لا صراعية، والاتجاه إلى مُشاركة المرأة في المجالات العامَّة ومساواتها في الكرامة والقُدْرات الإنسانية وتجريم اخْتِزالها في الوظائف الجَسَدِيَّة، وتأكيد القِيَم الوَسَطِيَّة المعتدلة الممَيِّزة للثَّقافة المصرية والثَّقافَة الأسَرِيَّة المُنْبَثَقة منها والبعيدة عن التَّشَدُّد والانْغِلاق الثَّقافي والدِّيني، والذي يؤثِّر سَلْبِيًّا على منظومة العلاقات الأسرية وعلى اختيارات الأسْرَة الاجتماعية الحياتية، ويعوق التنمية والتَّغْيير الاجتماعي السَّليم.

لذلك فقد هاجَم مُثَقَّفون مصريون وقيادات نسائية أثناء مناقشة الوثيقة التيار الدِّيني واتَّهموه بمحاولة انتقاص حُقُوق المرأة، وأشاروا إلى أنَّ احترامَ المرأة لم يَسُد في الفكر العربي الإسلامي إلِّا لحَظَات قليلة، هي التي علا فيها صَوْتُ التيَّار العقْلاني وسَمَحَ فيه الحاكمُ ببعض الدِّيمقراطية التي أدَّت إلى الانفتاح العقْلاني على النُّصوص الدِّينية ونُظِر فيها للمرأة كشريكٍ للرَّجُل. وعلى ذلك فإن هناك علاقة وثيقة بين الاسْتِبْداد والتَّطَرُّف الدِّيني المتمثِّل في الفكر الدِّيني الاتِّباعي المُتَعَصِّب الذي لم يَنْقَطِع إلِّا في الفترات التي غلب عليها التَّنْوير ابتداءً من الخديو إسماعيل؛ حيث بدأت أوليات الكتابة عن حُقُوقِ المرأة، وبالتالي فلم يكن قاسم أمين-كما يشيعُ بين النَّاس-أوَّلَ من تَحدَّثَ عن حُرِّيَّة المرأة؛ حيث كتبت المرأة المصرية والشَّامية قبل ذلك عن حقوقها خلال القرن التاسع عشر.

وأخَذَت حركةُ تحرير المرأة في الصُّعود بعد ذلك مع صُعُود الفِكْر الدِّيمقراطي في مصر على نحوٍ غير مسبوق، إلى الدَّرَّجة التي دَفَعَت هُدَى شَعْراوي والكثير من السَّيِّدات منهن صَفيَّة زَغْلول لخَلْع النِّقابِ التَّقْليدي والإسفار عن وجوههن، واستمرَّت هذه الحركة إلى نهاية أربعينيات القرن العشرين، ومع قيام ثورة يوليو سنة 1952م وَجَدَت دَعْمًا من الرئيس جمال عبد النَّاصر الذي رَفَضَ طَلَبًا للإخوان المسلمين بدَعْوَة النِّسَاء المصريات للحجاب.

كما أنَّ الجامعات المصرية لم تعرف حجاب المرأة حتى سبعينيات القرن العشرين، ومن يتابع تسجيلات حفلات أم كلثوم في هذه الفترة يستطيع أن يلحظ ذلك بوضوح.

وكانت بنود الوثيقة الأكثر جَدَلًا هي ما يتعلَّقُ بالأعْراف والتَّقاليد، التي تختلفُ بين صعيد مصر والوَجْه البحري، وكذلك ما يتعلَّقُ بالحجاب؛ لأنَّ الوَثيقة جعلته بين الأمور الإجْبارية والاخْتيارية للمرأة، كما نَصَّت على أن يكون الطَّلاقُ بالتَّراضي بين الزَّوْجين، وهو ما رَفَضَه أعْضاءُ مجمع البحوث الإسلامية مشيرين إلى أنَّ التَّراضي لا يكون إلَّا في الخُلْع فقط.

واخْتَلَفَ أعضاءُ المَجْمَع كذلك حول البنود المتعلِّقَة بالطِّفْل فيما يَخُصُّ الحضانة والرُّؤيَة التي أدَّت إلى خِلافٍ حادّ بين الأزْهَر والمجلس القومِي للمرأة.

وحقيقة الأمْر أن وَثِيقةَ الأزْهَر لحقوق المرأة تُبرئ وَجْه الإسلام الوَضَّاء الذي تم اسْتغلاله من قبل من يُضَلِّل به العوام، فالمشكلةُ الكبرى التي يواجهُها المجتمعُ الآن هي استخدامُ الدِّين في تضْليل العوام مما يفرض على المثَقفين والنُّخَب عبئًا كبيرًا في ضرورة انخراطهم في الشَّارع واقترابهم من الجمهور لكَشْفِ زَيْف هذا التَّضْليل.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/10/204

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك