المدارس والاتجاهات الكلامية والفقهية في الإسلام القديم

محمد بوهلال

1- في تصنيف الجماعات الدينيّة في الإسلام:

حاول رضوان السيّد ضبطَ حدودِ الفِرْقةِ ومُقَوِّماتِها بالاستناد إلى تحليلِ حركةِ القائدِ الشيعي المختار الثقفي(ت67هـ). فألفى في هذه الحركة جميعَ المقوّماتِ التي تؤهّلها لأن تكون فِرْقةً مستقلّة، وهي في رأيه ثلاثة: وعيُ البراءةِ والولايةِ الذي هو أساسُ الافتراق وإعادةُ التكوّنِ المستقلِّ، والرموزُ والشعائرُ المميِّزةُ للفِرْقةِ المبرّرةُ لِنُشُوئِها، والتنظيمُ السرّي الهرمي(1). وكمّل المنصف بن عبد الجليل هذه المحاولة، وتوصّل إلى تعريفٍ لِلْفِرقة لعلّه أشمل أَسَّسَهُ على أربعة أركان هي: المرجِعُ الذي قد يكون تأويلا مخصوصا أو إماما متَّبعا أو نصّا مقدَّسا بديلا، والتشريعُ الخاصّ، والتنظيمُ، ومجتمعُ أهلِ المقالةِ الاعتقاديّة(2). 

إنّ هذين التعريفين يحيطان بالفِرقة من جميع الجهات التي بها تَبينُ عن غيرها: الجهة العقديّة والجهة السياسيّة والجهة التنظيميّة والجهة القانونيّة. غير أنّنا لا نقبل باشتراط التنظيم السرّي في تعريفها لأنّ توفّر التنظيم ليس عامّا في الفِرق كلّها؛ إذ منها ما لا يعتمد في نشاطه على السرّيّة مطلقا، مثل الخوارج والمعتزلة والأشعريّة. ومنها ما لم يلتجئ إلى بناء تنظيم، مثل الأشعريّة. 

ويصعب أيضا أن نقبل بشرط التشريع الخاصّ مقوّما لا بدّ منه للفرقة؛ فهذا الركن قد يتوفّر في بعض الجماعات التي لا تعد نفسها فِرَقًا مستقلّة، مثل الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة والحنبليّة، ولعلّها لهذا السبب تطوّرت لاحقا إلى مذاهب متباينة في صلب فرقة واحدة هي أهل السنّة، ولا يتوفّر في بعض الجماعات التي تعد نفسها فرقة مستقلّة، مثل المعتزلة. إنّ هذه الشروطَ الأربعة تنطبق انطباقا تامّا على الحركات الثوريّة التي أَعلنت مُبَايَنَتَهَا للمجتمع الرسمي، وانحازت عنه باجتماعٍ خاصّ وأصبحت بالإضافة إلى المركز فرقا هامشيّة، ولا تنطبق إلاّ جزئيّا على الفرق المندمجة في المجتمع الرسمي، مثل المعتزلة والأشعريّة والشيعة الإثني عشريّة. 

إنّ الضبط الدقيق لمفهوم الفِرْقة ومقوّماتها يقتضي عدمَ النظر إلى التشكيلات المختلفة التي تكلّمَتْ عليها كتبُ الفِرَق باعتبارها كياناتٍ متماثلةَ البنيةِ والخصائصِ، والإقرارَ بوجودِ وُجُوهٍ عديدة من التباين التنظيمي والوظيفي والفكري بينها. وعلى العموم ينبغي التمييز بين ثلاثة من هذه التشكيلات: "الحزب» و"المدرسة»، و«المذهب». 

أ- الأحزاب:

إنّ الفِرَق-الأحزاب ظاهرة اجتماعيّة خاصّة أنتجها المجتمع الإسلامي القديم في تاريخه المبكّر. بدأت هذه الظاهرة تتشكّل منذ واقعة التحكيم في عهد علي بن أبي طالب، وتفشّت بعد مقتله ووقوع الحكم بيد الأمويّين. وهي عبارة عن حركات سياسيّة-دينيّة ثوريّة أو موالية للحكم، سعت إلى الإطاحة بالحكم القائم والحلول محلّه، أو الانفصال عنه وتأسيس دولة موازية، أو مناصرته وتثبيته. وهي في الأصل جزء من المجتمع الإسلامي وإحدى قواه الفاعلة. غير أنّ العديد منها أعلن انفصاله عن المجتمع الرسمي، وَوَسَمَ دار السلطان بدار الفسق أو دار بالكفر، وجدّ في تكوين مجتمع مواز، وربّما مضى -كما في حالة الغلاة- إلى إنشاءِ نصٍّ مقدَّسٍ بديلٍ واعتقادٍ وتشريعٍ مُوَازِيَيْنِ. وفي هذه الحالة قد يسعنا أن نتحدّث عن دين جديد ناشئ على هامش الدين الإسلامي. 

بهذا المعنى، تحتاج كلّ فرقة-حزب إلى ثلاثة مقوّمات من دونها لا يكون لها وجود: 

- الزعامة السياسيّة المستقلّة: فما مِنْ فِرْقَةٍ-حِزْبٍ إلاّ ولها زعامتُها الخاصّة التي يُشتقّ منها في أكثر الأحيان اسم تلك الفرقة، وكثيرا ما يكون اشتهار صيت الزعيم علامةً على نشوء حزبٍ يواليه وينتسب إليه. وتبلغ الزعامة أعلى صورها حين تتحوّل إلى إمامةٍ شاملةِ السلطاتِ والقدراتِ، كما هو الحال عند طوائفَ من الشيعة الإسماعيليّة؛ لكنّ الزعيم السياسي والعسكري للحزب قد يكون غير الإمام الشرعي المعلَن من قِبَل ذلك الحزب، فتنشأ زعامة مزدوجة(3).

- المقالات الواسمة التي بها تتميّز الفرقة/الحزب عمّا سواها من الفِرَق/الأحزاب، مثل مقالات فروع الكيسانيّة في الإمام ومهديّته وغيبته؛ ومقالات المغيريّة والمنصوريّة في تأويل القرآن، ومقالات المرجئة في الإيمان(4). 

- الأتباع: وهم جمهور واسع أو محدود يعترف بسلطة الزعيم الإمام، ويسلّم بمقالة الفرقة، ويلتزم بالدفاع عنها وخوض الحرب من أجلها إن لزم الأمر. ويمثّل حجم الأتباع ونوعيّتهم ودرجة تنظيمهم وتصميمهم، بالإضافة إلى دهاء القيادة وجاذبيّة الشعارات ومقالات التي ترفعها، أهمّ العناصر المحدّدة لقوّة الفرقة/الحزب وقدرتها على الاستحواذ على منطقة نفوذ تخصّها ونجاحها في تأسيس دولة تحمل اسمها. 

ب- المدارس:

استعمل بعض القدامى عبارتين قريبتين جدّا من مفهوم «الفرقة/المدرسة»، هما عبارتا «الفرق الرؤوس» و«الفرق الأصول»(5). ونعني بمفهوم الفرقة/المدرسة ظاهرة معقّدة ذات أبعاد فكريّة وسياسيّة ودينيّة واجتماعيّة متشابكة تكوّنت على التدريج. فقد كانت المدارس الدينيّة في مبدئها أحزابا سياسيّة أو حركات فكريّة ذات توجّه سياسي محدود؛ لكنّ آراءَها وأنشطتها ما لبثت أن توسّعت ونضجت وترابطت مشكّلة نسقا فكريّا شاملا نجح أصحابه بدرجات متفاوتة في تحويله إلى معتقد ديني لأكبر عدد ممكن من المؤمنين وإلى بنية فوقيّة لعموم المجتمع. في هذا الإطار سعت المعتزلة طيلة قرون- عبر الدعوة أوّلاً والتحالفِ مع الدولة ثانيا - إلى تثبيت الاعتزال مرجعا للدولة والمجتمع. وكانت الأشعريّة في صراع مستمر مع الحنبليّة من أجل احتكار التعبير العقدي عن التسنّن؛ غير أنّ أيّا منهما لم توفَّق في ذلك، وظلّتا تعبيرين فرعيّين متمايزين عن كيان أعلى سُمِّي بفرقة أهل السنّة والجماعة. وشنّت الإماميّة بداية من القرن الخامس معارك سياسيّة وفكريّة ضارية في بعض المناطق من أجل إزاحة المذهب السنّي عن الصدارة وتحويل التشيّع إلى اعتقاد شعبي عامّ. وكذا صنعت الإباضيّة في المناطق التي أمكنها الانتشار فيها. 

إنّ خاصّيّة المدارس الدينيّة مقارنَةً بالأحزاب السياسيّة هي الشمول الواسم لنظرها ونشاطها وإنتاجها؛ فهي لا تقتصر على مجال وحيد على أهمّيّته، كالمجال السياسي أو المعرفي أو الفقهي. ولا تحصر نفسها في نظريّة واحدة أو زعامة فرديّة. وهذا مكّنها من الإسهام في تطوير العلوم والمعارف التي يحتاج إليها المجتمع، وإرساء نماذج من التنظيم الديني والسياسي والاجتماعي تتمتّع بقدر كبير من الديمومة. 

وبناء عليه يسعنا القول: إنّ الفرقة/الحزب يمكنها الارتقاء إلى فرقة/مدرسة كلّما توفّرت لها الشروط الثلاثة الآتية: 

- امتلاك منظومة معرفيّة شرعيّة شاملة ومكتفية بذاتها، تَمُدُّ الفرقة بمدوّنات في الحديث والتفسير والتاريخ والأدب والتشريع والاعتقاد وطرق التفكير والحكم والحجاج، تُوفِّر للأتباع إجابات عن الأسئلة الروحيّة والدنيويّة التي تُطرح عليهم. 

- التمتّع بمؤسّسات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة تضمن استمرار المدرسة، وتستجيب لحاجات أتباعها المادّيّة والتنظيميّة والروحيّة، وتحميهم من المخاطر الداخليّة والخارجيّة. 

- التوافق في صلب المدرسة على ضرب من الإجماع ووحدة الانتماء وتبادل الولاء، يضع حدّا فاصلا بين المشتركين في هذا التوافق والخارجين عنه، ويسمح للمتوافقين بضروب من الاختلاف لا تخرق توافقهم؛ لأنّها تقع ضمن الإطار العامّ المشترك. وقد تُسمّى هذه الاختلافات مذاهب أو أجيالا أو خطوطا أو غير ذلك. 

ولعلّ المدارس الإسلاميّة التي تتوفّر فيها المقوّمات الثلاثة المذكورة أعلاه وكُتب لها الاستمرار التاريخي لا تعدو اثنتين: أهل السنّة والشيعة. 

ج- المذاهب

المذاهب في الاصطلاح الإسلامي القديم هي المنظومات الفقهيّة التي تأسّست استنادا إلى تقليد أصولي ومنهجي خاصّ، أصّله غالبا عَلَم من أعلام الفقه المنتمين إلى إحدى المدارس الدينيّة الكبرى. ولئن تمكّنت المدرستان الإسلاميّتان المذكورة أعلاه من إنتاج مذاهب فقهيّة جسّدت اجتهاداتها في فهم النصوص وتوظيفها في الإجابة عن أسئلة الواقع ومطالبه؛ فإنّ المدرسة السنّيّة هي التي نبغت بصفة خاصّة في هذا المضمار، ونجحت في إنتاج عدّة مذاهب فقهيّة شاعت منها أربعة واستمرّت إلى اليوم، هي المذهب الحنفي والمذهب المالكي والمذهب الشافعي والمذهب الحنبلي. 

ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى كون المدرسة السنّيّة هي أكثر المدارس الإسلاميّة احتضانا للشرعيّة السياسيّة وتحمّلا لعبء تنظيم المجتمع على قواعد قانونيّة صريحة مستلهمة من نصوص الدين وتعاليمه؛ بينما نهضت المدارس والفرق الأخرى ردحا كبيرا من الزمن بوظيفة المخالف المعترض على المدرسة السنّيّة روحيّا أو علميّا أو سياسيّا أو عسكريّا. ولم تستكمل هذه المدارس والفرق مقوّماتها الذاتيّة إلاّ بعد أن ترسّخت لها السيادة العامّة في فضاء خاصّ بها، كما حصل في نطاق الدولة الفاطميّة بمصر، أو الدولة الصفويّة بإيران، أو الإمامات الإباضيّة ببلاد المغرب وعمان. 

2- المتكلّم والسياسة: المعتزلة نموذجا

لم تكن تجربة المعتزلة مع السياسة بسيطة تسير في اتّجاه خطّي من غير تعقيدات ولا تعرّجات؛ بل كانت تجربة نامية متحوّلة متقلّبة، سلكت مسارات متعدّدة، وعرفت أطوارا متباينة، وذلك خلافا لما شاع عند بعضهم من مواقف نمطيّة تجعل منهم حسب الظروف مجرّد احتياطي عسكري للزيديّة أو حليف عقدي للدولة العبّاسيّة أو عون فكري للإماميّة. ويمكن تلخيص علاقة المعتزلة بالسياسة في أربعة مواقف: الثورة والعزوف والتنظير والتحالف. 

أ- المعتزلي الثائر:

تجسّد الموقف المعتزلي الثائر في انضمام أحد شيوخ الفرقة وهو بشير الرحّال وعدد واسع من أتباعه إلى ثورة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب -أخي محمّد النفس الزكيّة- على الخليفة العبّاسي أبي جعفر المنصور سنة 145هـ(6). وقد وصف القاضي عبدُ الجبّار الثائرَ بشيرَ الرحّالَ بالعلم والزهد والجرأة على النقد الديني والسياسي ووعظ السلطان، ولم يذكر له كتبا أو مسائل اشتهر بها(7)، وهذا يؤكّد أنّه كان شخصيّة سياسيّة وعسكريّة في المقام الأوّل دون أن يكون شخصيّة علميّة بارزة على غرار شيوخ المعتزلة المشهورين. 

لم تكن هذه المشاركة المعتزليّة في الثورة مفاجأة؛ ذلك أنّ مؤسّس الاعتزال الأوّل واصل بن عطاء (ت131هـ) لم يأل جهدا في التحضير لمثل هذه اللحظة؛ فقد ذكر القاضي عبد الجبّار أنّ واصلا كان يرسل تلاميذه إلى الأمصار الإسلاميّة القريبة والبعيدة للدعوة ونشر مبادئ الفرقة، وكانت علاقته بهم - حسب عبارة المعتزلي عثمان الطويل - تشبه علاقة الملك بأصحابه، إذا وجّه أحدهم إلى بلد من البلدان لم يملك أن يرده(8). وكان يعمل على عقد صلات متينة بالزعماء السياسيّين الثائرين على الأمويّين وبرجال الحكم الأموي على السواء، فكانت سيرته تجسيدا عمليّا لرؤيته السياسيّة المبنيّة على قيمة العدل والإنصاف(9). 

وواصل هذا الدور التحضيري للثورة الزعيم التاريخي الثاني للاعتزال عمرو بن عُبَيْد (ت144هـ) من خلال انضمامه إلى القوى المساندة للخليفة الأموي يزيد بن الوليد بن عبد الملك الملقَّب بالناقص من أجل إعانته على تسيير شؤون الدولة وفق البرنامج الثوري الذي أعلنه في خطبة ولايته؛ فقد أمر ابن عُبَيْد أصحابَه بأن يتهيؤوا للخروج إلى الخليفة؛ لكنّ الأخبار التاريخيّة تذكر أنّ يزيد الناقص تُوُفِّيَ قبل أن يتحرّك المعتزلة نحوه(10). 

غير أنّ المعتزلةَ -بسبب ما نالها من ضرر عسكري وسياسي فادح نتيجة مشاركة بشير الرحّال ورجاله في ثورة إبراهيم بن عبد الله- مالت في السنوات التالية إلى موقف الحياد السياسي(11)، ثمّ إلى التحالف الصريح مع الدولة العبّاسيّة، وهو ما بدأت بوادره تظهر مع خلافة هارون الرشيد، وتأكّدت في خلافة ابنه المأمون. 

في مقابل هذا الفشل العسكري للمعتزلة بمنطقة المشرق، عرف نشاطهم السياسي والعسكري بمنطقة المغرب الأقصى نجاحا وصفه بعض المؤرّخين بالباهر. فقد أورد البلخي المعتزلي أسماء الكور المغربيّة التي غلب عليها الاعتزال، وقال في إحداها وهي مدينة البيضاء بأسلوب فيه الكثير من المبالغة: «هي كورة كبيرة يقال: إنّ فيها مائة ألف تحمل السلاح يقال لهم الواصليّة»(12). 

حين نقيّم الحصيلة العامّة للمشاركة المعتزليّة في أعمال الثورة والقتال نجد أنّها لم تجن منها أيّ مكسب حقيقي؛ بل تضرّرت من مشاركاتها تلك، وخسرت بسببها وبسبب عوامل أخرى دعم السلطة وثقة الناس، فتحوّلت شيئا فشيئا إلى حركة نخبويّة متخصّصة في المعرفة والجدل الفكري والديني. 

ب- المعتزلة والحياد الإيجابي:

من الأدوار الفكريّة الأساسيّة التي نهضت بها المعتزلة تغليب الطابع العلمي الميتافيزيقي لعلم الكلام على الطابع السياسي العملي، واستبدال سلطة النقل والخطابة في باب الاستدلال بسلطة العقل والمنطق، وقد أدّى هذا العمل إلى نشوء جدل عقدي ومعرفي عميق سمح للفرقة ببلورة أصولها الدينيّة ومقالاتها الكلاميّة المميّزة، ومكّنها من تطوير اتّجاهات فكريّة وسياسيّة مختلفة في صُلْبِهَا ابتعدت بها عن مجال السياسة المباشرة، وجعلت منها فرقة عقديّة وجماعة علميّة قادرة على الاشتغال مع مختلف الأطراف السياسيّة. 

فكانت هذه الفرقة حتّى في مرحلة اهتمامات شيوخها المكثّفة بالشأن السياسي تعمل بمبدأ الحياد والاستقلاليّة مع الاحتفاظ بحقّ نقد الحاكم وعدم الالتزام بقراراته. كان هذا هو الوضع الذي اتّخذه المؤسّس الثاني للاعتزال عمرو بن عبيد (ت144هـ) إزاء الخليفة العبّاسي أبي جعفر المنصور؛ فقد هادنه على قاعدة مزدوجة: ألاّ يواليه، ولا ينضمّ إلى الثورة إذا اندلعت ضدّه، ويحتفظ بحقّه في وعظه وانتقاده(13). فكان يجالسه ويعظه وعظا شديدا يبكيه أحيانا ويبيّن له الكيفية التي يجب أن يتصرّف وفقها، دون أن يشاركه أعماله وقراراته خشيةَ أن يكون فيها اعتداءٌ على حقّ أحد من الناس(14). وبسبب هذا الموقف المتأرجح، اتّهمه البعض بالقعود والسلبيّة والتخلّي عن واجبه السياسي والديني، وهو ما اضْطَرَّهُ إلى تبرير قعوده والتعلّل بعدم وجود رجال يُعْتَمَدُ عليهم(15). 

وبعد حوالي نصف قرن أمر هارون الرشيد (ت193هـ) بِحَبْسِ بشر بن المعتمر (ت210هـ) رئيسِ معتزلة بغداد بتهمة التشيّع العلوي المعادي للعبّاسيّين، وقد كان ذا ميول زيديّة بالفعل؛ لكنّه تنصّل من التهمة وأعلن تخلّيه عن كلّ نشاط سياسي معادٍ للدولة، وكتب وهو في السجن أبياتا أنكر فيها الغلوّ، وأعلن عن تولّيهِ أبا بكرٍ وعمرَ وتبرُّؤِهِ من عمْرو بن العاص ومعاوية ومن الرافضة والمرجئة، فأطلِق سراحُه(16). 

وليس في حرصِ أكثرِ المعتزلةِ على تجنُّبِ التورُّطِ في الشأْنَيْنِ السياسي والعسكري ما يبعث على العجب؛ فالمفهوم الأصلي للاعتزال لا يعني الحياد السلبي بقدر ما يعني عدمَ التورُّطِ في الثورة تجنّبا للفتنة، مع عدم الرضا عن الأوضاع القائمة. وبناء عليه نرى في قول المعتزلة بأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هروبا من مقالة الخروج المسلّح التي نادى بها الخوارج، وترجيحا للدعوة والتعليم والمناظرة وضرب المثال باعتبارها أنجع السبل لنصرة الحقّ وتعميمه بين الناس(17). وبلغ الأمر في بعض المراحل التاريخيّة ببعض المعتزلة حدّ إخفاء انتمائهم العقدي حتّى لا يتعرّضوا بسببه للاضطهاد(18). 

إنّ الحياد السياسي الإيجابي هو الموقف الطبيعي الذي ارتآه المعتزلة للمتكلّم بعد أن تحرّر من جبّة الزعيم السياسي والقائد العسكري، وتقمّص شخصيّة العالم المحقّق الساهر على سلامة العقيدة ومتانة المعرفة الدينيّة. 

ج- المعتزلة والتحالف السياسي:

احتفظت النصوص المعادية للاعتزال قديما وحديثا بحادثة تحالف المعتزلة مع الدولة العبّاسيّة بداية من خلافة المأمون إلى خلافة الواثق، واعتمدتها في تأكيد صورة سلبيّة عن الفرقة وسمتها بالاستبداد والتواطؤ مع السلطة العبّاسيّة وتبرير بدعها وجرائمها وإعانتها على اضطهاد المحدّثين والفقهاء؛ لكنّ بعض الدراسات الحديثة سعت إلى نقض هذه الصورة وتبرئة المعتزلة من تهمة تبرير الاستبداد والمشاركة فيه، من أهمّها دراسة فهمي جدعان القيّمة عن المحنة. 

وبعيدا عن معركة الاتّهام أو الانتصار للمعتزلة، يقودنا الاستقراء التاريخي إلى أنّ هذه الفرقة سعت مثل غيرها في مراحل هامّة من تاريخها إلى بناء تحالف لا يمكن وصفه بالانتهازي مع السلطة؛ لأنّ أسبابا تاريخيّة موضوعيّة تطلّبته. 

أدّى استقرار الدولة وتعقّد الحياة الاجتماعيّة إلى ظهور الحاجة إلى مختصّين في شتّى المجالات؛ فنما التعليم وازدهرت المعرفة وظهرت العلوم المختلفة من تفسير وحديث وتاريخ ولغة وغيرها. وبرز من هذه العلوم بصفة خاصّة علم الفقه باعتباره اختصاصا منتجا للحلول العمليّة، وعلم الكلام باعتباره منسّقا للاعتقاد والمعرفة الدينيّة ومدافعا عنهما. وأدّى اختصاص الفقه بالمجال العملي واستحواذُهُ عليه إلى انصراف الكلام تلقائيّا إلى المجال النظري، وكانت المسائل الدينيّة التي تستجيب لهذا الشرط هي المسائل العقديّة، فاتّخذها الكلام موضوعا له. 

فقد ذكر عبد الجبّار بن أحمد أنّ هارون الرشيد (ت193هـ) أرسل إلى السِّنْد فقيها لمناظرة رئيس السُّمْنِيّة بها، ففشل الفقيه في المهمّة التي انْتُدِبَ إليها لعدمَ كفاية اختصاص الفقه في تلبية هذا الضرب من الحاجات الدينيّة، وهو ما أجبر الخليفة على الاستنجاد بعالِمٍ آخرَ أقدرَ على الوفاء بالغرض لاختصاصه بمعرفة العقائد وإبانة الصادق من الكاذب منها، ولم يكن هذا العالم سوى أحد متكلّمي المعتزلة(19). 

وهذا مجرّد مثال لأخبار أخرى مشابهة تعلّقت بمتكلّمين وفلاسفة وذوي اختصاصات أظهروا قدرة على التصدّي للمخاطر الدينيّة والفكريّة الطارئة، وأسهموا في تغيير النظرة السلبيّة للسلطة إليهم، فحلّ الانسجام والتحالف محلّ الشكّ والتنابذ(20). 

ومن الأعلام الذين كان لهم دور مهمّ في التحضير لهذا التحالف وتحقيقه على أرض الواقع المرجئُ بِشْر بن غِياث المريسي (ت218هـ)، والمعتزليُّ ثُمامة بن أشرس النَّمِيري (ت213هـ)(21)، وبفضل جهودهما وجد عدد من المتكلّمين المرموقين حظوة لدى المأمون. وكان لمجالس المأمون العلميّة التي كان يعقدها في قصره دور رئيس في الارتفاع بالصراع العقدي الدائر بين الأحزاب السياسيّة والمتّسم بالتصلّب والعنف إلى رتبة الجدل الفكري القائم على الاحترام المتبادل ومقارعة الحجّة بالحجّة. ومن الطبيعي في هذا المناخ أن يكتسب العالم وخصوصا المتكلّم مكانة عالية لدى أعلى هرم السلطة. فقد كان هشام بن عَمْرو الفُوَطِي يدخل على المأمون فيتحرّك الخليفة له حتى يكاد يقوم. وكان المأمون يظهر دون تحفّظ إعجابه القوي بالعلاّف وثمامة وبعلمهما الراجح. وبلغ احترام الخليفة الواثق لأبي الهذيل العلاّف أن عقد في قصره مجلسا لتقبّل عزاء المعزّين عند موته(22). 

وفي القرن الرابع مال كثير من المعتزلة إلى التحالف مع الدولة البويهيّة، وفي هذا الإطار قبل بعض شيوخها بمناصب رسميّة فيها. وبدأت حركة الذوبان في التيّار الزيدي مع تلاميذ عبد الجبّار بن أحمد، واستمرّت إلى أواخر القرن السادس(23). وكان للمعتزلة تأثير في التيّار الشيعي الإمامي تجلّى على نحو واضح في مؤلّفات تلميذ الشيخ المفيد وعبدِ الجبّار بن أحمد نقيب العلويّين الشريف المرتضى عَلَم الهدى (ت436هـ). قرّر هذا المتكلّم الإمامي أنّ الأصول الاعتقاديّة تُبنى على العقل وحده، واتّخذ موقفا سلبيّا من الحديث. وفهم عقيدة الرجعة بمعنى عودة حكم الأئمّة لا عودة الأموات إلى الحياة الدنيا(24). وواصل مسعى الشريف المرتضى في الاستفادة من الاعتزال شيخُ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي(ت460هـ)، فاتّبع النسق المعتزلي في ترتيب المسائل الكلاميّة واعتمد على طرقهم في الاحتجاج وأخذ بنظرتهم إلى الله والعالم(25). 

ويعكس هذا التأثير الاعتزالي في الفكر الإمامي تقاربا بين التيّارين وضربا من التحالف بينهما. ولا يعني ذلك ميلا معتزليّا عامّا إلى التشيّع(26)، فالعديد من الشيوخ اختاروا التحالف مع السلطة العبّاسيّة ذات الاتّجاه السنّي. ولعلّ الجاحظ من أبرز هؤلاء وأشدّهم وفاء للعبّاسيّين وعداوة للشيعة حتّى إنّه صنّف كتابا في الانتصار للعثمانيّة. 

د- المعتزلة والتنظير السياسي:

عُني المعتزلة بالتفكير في الشأن السياسي منذ وقت مبكّر، مع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبي الهذيل العلاّف والنظّام وغيرهم. واستمرّت جهودهم السياسيّة التنظيريّة مع الأجيال التالية، وهو ما يجلّيه العدد الكبير نسبيّا من المصنّفات السياسيّة التي كتبتها تلك الأجيال. وعلى سبيل المثال، فإنّ شيخا واحدا هو أبو علي الجبّائي قد صنّف الكتب السياسيّة التالية: «كتاب الإكفار والتفسيق»، «كتاب الإمامة»، «كتاب الأمر بالمعروف»، «كتاب من يكفر ومن لا يكفر»، «كتاب نقض الإمامة على ابن الراوندي»، «كتاب نقض كتاب عبّاد في تفضيل أبي بكر»(27). 

وتغطّي المقالات السياسيّة المعتزليّة جملة المسائل التي خاض فيها المسلمون واختلفوا في شأنها. واحتفظ لنا أبو الحسن الأشعري بقسم كبير منها في مقالاته، واستعادها بقدر غير قليل من التوسّع والتحليل القاضي عبد الجبّار في الجزء العشرين (مطبوع في مجلّدين مخصَّصَيْن لموضوع الإمامة) من موسوعته «المغني في أبواب التوحيد والعدل». 

وتتميّز المقاربة المعتزليّة للمسائل السياسيّة بوضعها في إطار ديني ميتافيزيقي يسمح بتحليلها كما تُحلّل سائر القضايا الدينيّة، ويمنحها بُعدا أخلاقيّا يتجلّى من خلاله التصوّر المعتزلي الإيتيقي لنظام المجتمع وعلاقات أفراده بعضهم ببعض، وهو تصوّر مرتبط بتصوّرهم للآخرة والجزاء واللوح المحفوظ(28). 

ومن حيث الاتّجاه المذهبي، كانت مواقف المعتزلة السياسيّة مختلفة، فبعضهم ذهب مذهبا قريبا من مذهب الزيديّة أو الخوارج، وبعضهم -ولعلّهم الأكثر- ذهبوا مذهبا قريبا من مذهب أهل السنّة. ففي موضوع ولاية الصحابة، قال الخيّاط: «ليس بين المعتزلة والمرجئة وأصحاب الحديث كبيرُ خلافٍ في أمر الصحابة والولاية لهم، إنّما خلافهم في تفضيل بعض الأئمّة العادلة عندهم على بعض. فأمّا ولاية الجميع والترحّم عليهم والتقرّب إلى الله بمحبّتهم فلا خلاف بينهم في ذلك، اللهمّ إلاّ من تولّى من النابتة الفئة الباغية من أهل الشام، فإنّ المعتزلة تخالفهم في ذلك أشدّ الخلاف»(29). 

وفي موضوع الإمامة باينت مواقف أغلب المعتزلة مواقف الشيعة الإماميّة؛ فقد ميّز المعتزلة بين النبوّة والإمامة، وأسّسوا قولهم بضرورة النبوءة على العقل ووجوب الإمامة على السمع، وأنكروا بشكل واضح مقالة عصمة الأئمّة؛ في حين أكّد الشيعة -لاسيما الإماميّة- عكس ذلك تماما(30). 

إنّ هذه المواقف السياسيّة الجزئيّة وغيرها ليست مواقف مسقطة؛ بل هي مؤسّسة على رؤية كلّيّة تتكوّن من تصوّر للنظام الطبيعي بناه المعتزلة على أساس قيمتَيْ الحكمة والخير، وتصوّر للنظام المعرفي أقاموه على أساس قيمتَيْ الحقّ والصدق، وتصوّر للنظام السياسي الاجتماعي بنوه على أساس قيمتَيْ الحرّيّة والمسؤوليّة؛ وهو ما وفّر قاعدة متينة للانتظام المدني والسياسي تتآلف فيه إنسانيّة الإنسان ومقاصد الرسالة الدينيّة، وعبّرت عنها مفاهيم دينيّة وفلسفيّة عميقة صاغها المعتزلة، وذهبوا فيها مذهبا متميّزا، من أهمّها مفاهيم التوحيد والعدل والصلاح والأصلح واللطف والحكمة والحقّ والواجب(31). 

هـ- أفول التجربة السياسيّة للاعتزال:

بالرغم من هذا التنظير السياسي المتميّز، ومن التجارب السياسيّة المتنوّعة، آل الانتشار المعتزلي إلى الانحسار ثمّ إلى الانقراض بصورة شبه كلّيّة بداية من القرن السابع الهجري تقريبا. إنّ أفول الاعتزال واقعة مأسويّة في التاريخ الإسلامي أدّت إليها عدّة عوامل، منها عدم امتلاك المعتزلة قيادة سياسيّة موحّدة تدافع عن مصالح الفرقة وتضمن استمرار جماعتها، وانقسام شيوخها سياسيّا، وتضارب مواقفهم من الأحداث التاريخيّة التي تشكّلت على أساسها سائر الفرق والأحزاب ومن الأوضاع السياسيّة التي أعقبتها. 

ومن العوامل التي أدّت إلى هذا الأفول إعراض المعتزلة عن بلورة فقه خاصّ مع ما لهذا الحقل المعرفي الديني من أهمّيّة في المجتمع الإسلامي. ولعلّ عدم احتفائهم بالفقه يرجع إلى وقوف بعضِ شيوخ المعتزلة الأوائلِ مِنَ الحديثِ والخبرِ والإجماعِ موقفًا سلبيًّا(32)، واضطرار الفرقة بعد أن فاتتها الفرصة إلى اعتمادِ مجاميعِ الحديثِ والفقهِ السنِّيَّيْنِ الجاهزين وفي أحيان قليلة إلى اعتماد الفقه الإمامي، وهو ما حكم عليها بضرب من التبعيّة لهما. 

ومن عوامل الأفول المعتزلي أيضا النزعة النخبويّة المترفّعة عن العامّة والجمهور المتفشّية بين شيوخ الاعتزال، ولنا عليها نماذج كثيرة؛ فقد سفّه المتكلّمُ المعتزلي ثمامةُ بن الأشرس رأيَ القاضي يحيى بن أكثم الذي أشار على المأمون بعدم لَعْنِ معاوية على المنابر مخافة أن تَهيج العامّة، ودعا إلى الاستخفاف بشأنها والاستهانة بردّ فعلها(33). وردّ أبو عثمان الجاحظ على رَجُلٍ قَدِمَ من أصفهان قال له: «أنا من إخوانك المعتزلة»: «أَوَ بِأصفهان من يُحْسِنُ أن يتبجّح في اسم الاعتزال؟»(34). واشتهر أحمد بن علي الشطَوي الملقّب بِسَرْفَا، وهو من الطبقة الثامنة من طبقات المعتزلة، باحتقار العامّة وبقوله: إنّها مسخَّرة للخاصّة، ولهذا الغرض خلقها الله(35). وكان أبو علي الجبّائي يتكلّم في بعض المجالس عن رؤية الله يوم القيامة بكلام لا يأبه بالعامّة ولا يراعي عواطفها، وقد أدّى كلامه إلى تهييجها ضدّه ومناصبتها إيّاه العداء(36). 

إنّ هذه الأخطاء التاريخيّة الكبيرة التي ارتكبها شيوخ المعتزلة هي المسؤولة عن انقراض فرقتهم، ولم يكن للاضطهاد السياسي والفكري سوى دور ثانوي في ذلك. 

3- الفقيه والسياسة: الإباضيّة نموذجا

مثّل الخوارج أوّل جماعة سياسيّة انشقّت عن السلطة الرسميّة في الإسلام، سمّيت هذه الجماعة بالمحكّمة الأولى، وسرعان ما تفرّعت عنها جماعات مقاتلة أخرى سلكت دروبا متشابهة، وانتهت إلى مصائر متشابهة أيضا. غير أنّ إحدى الجماعات الخارجيّة تميّزت عن أخواتها بمسلك خاصّ قادها إلى مصير مختلف، هي الجماعة الإباضيّة.

نتكلّم فيما يلي عن التجربة السياسيّة للإباضيّة من خلال ثلاثة عناصر: تحقّق السيادة الإباضيّة، بناء المنظومة الشرعيّة الإباضيّة، نموذج المتكلّم الفقيه الإباضي. 

1- تحقّق السيادة الإباضيّة:

يعتقد الإباضيّون والخوارج عموما أنّ «الحقّ» هو ما يعتقدونه، وأنّ القرآن تضمّنه بصورة واضحة وتامّة ونهائيّة، وأنّ أوائلهم لم يزيدوا على المطالبة به والتمسّك به والعمل على تحقيقه؛ لأنّه ملزِم لجميع الناس، ومن حقّ المؤمنين وواجبهم حملهم عليه بالدعوة والقتال. قال أبو سعيد محمّد القلهاتي الإباضي (ق11هـ) في ذلك: «والمسلمون ناظرون لأعمال العباد شهود الله في أرضه يعرضون أعمال الناس على القرآن؛ فما وافق منها الحقَّ أخذوا به وجامعوهم عليه، وما خالف منها الحقّ نبذوه وفارقوا صاحبه وأمروه بالرجوع إلى الحقّ؛ فإن رجع، وإلاّ قاتلوه عليه»(37). غير أنّ الإباضيّة ميّزوا بين كفر الشرك وكفر النعمة، ورتّبوا على كلّ صنف أحكاما خاصّة به(38)؛ فكفر الشرك يقتضي البراءة التامّة، والبراءة تؤدّي تلقائيّا إلى إسقاط انتماء المتبرَّأ منه إلى جماعة المؤمنين وإفقاده الحقّ في العيش معهم وإباحة قتاله. أمّا كفر النعمة فلا يُسقط الإيمان ولا يحمل على البراءة والقتال. 

ومصداقا لهذا الموقف المزدوج، تميّز تاريخ الإباضيّة بالمراوحة بين المنهج القتالي في مراحل القوّة والظهور، والمنهج السلمي في حالات الخوف والضعف؛ فقد سعوا إلى التحالف مع السكّان الأصليّين البربر في شمال إفريقيا لمواجهة الحكم الأموي هناك، وتمكّنوا بفضل ذلك من قتل والي طنجة العربي سنة 122هـ واستبداله بِوَالٍ أفريقي من أصل بيزنطي اعتنقت أسرته الإسلام، وحقّقوا سلسلة من الانتصارات العسكريّة على الجيشين الأموي والعبّاسي تُوِّجت بتأسيس دويلات إباضيّة أبرزها إمارة برغواطة بالمغرب الأقصى سنة 127هـ، وإمارة بني مدرار بسجلماسة (140-297هـ)، وإمامة بني رستم بتاهرت بالجزائر (160-297هـ) وإمامة نزوى بعمان (179-288هـ). وفي القرن الرابع هاجم القائد الإباضي النكاري أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفريني التوزري الملقّب بصاحب الحمار مدينة طرابلس سنة 333هـ وحاصرها، ثمّ دخل القيروان وحاصر المهديّة عاصمة المهدي الشيعي الإسماعيلي سنة 334هـ؛ غير أنّه انهزم آخر الأمر وقُتِل سنة 335هـ(39). 

كان هذا هو الوجه الأوّل من الفعل السياسي الإباضي. أمّا الوجه الثاني فيبرز عندهم في عهود الضعف والانكماش. في هذا الظرف يميلون عادة إلى الانغلاق على أنفسهم وتنمية اجتماعهم الداخلي في معزل عن المحيط الخارجي غير الإباضي، وهو ما أفضى بهم إلى إنشاء نظام «العزّابة» بالجنوب التونسي(40). 

ترسّخ هذا الوجه الدفاعي البنّاء إثر الهزائمِ المتتالية التي مُنِي بها الخوارج في العراق، وسقوطِ الإمارات التي أسّسها الإباضيّة بالمغرب وعُمان. فاكتسبت الجماعة الإباضيّة طابعا سلميّا دعويّا أتاح لرجالها الانكباب على المعرفة الدينيّة تحصيلا ونشرا. وقد بدأ هذا المسعى السلمي الدعوي في البروز لديها منذ حياة عبد الله بن إباض حين أخذ هذا القائد الخارجي ينتهج سياسة حواريّة مع الأمويّين تقوم على التراسل والمناظرة ومحاولة إقناع رأس السلطة الأمويّة الخليفة عبد الملك بن مروان بالحجّة والبرهان من غير التجاء إلى القوّة والسيف(41). 

وواصل إمام الجماعة الإباضيّة بالبصرة أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي (ت93هـ) السياسة التصالحيّة مع الأمويّين التي بدأها ابن إباض. وتابع منهجَه السلمي خليفتُه في قيادة إباضيّة البصرة أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي بالولاء (ت بين 136 و158هـ). وقد سُمّي هذا المنهج السلمي بالقعود، ووُسِم أصحابه بالقَعَدة. 

قدّم شيوخ الإباضيّة القعود على الخروج، فمكّنهم ذلك من تكوين جماعة إباضيّة مستقرّة بمدينة البصرة عُنِيَت ببلورة عدّة علوم شرعيّة مثل الفقه والحديث وظّفوها في خدمة عقيدتهم الخاصّة. وانطلاقا من هذه الجماعة المرجِع أخذوا يتطلّعون إلى مناطق أخرى كاليمن وإفريقيّة وعمان ينشرون فيها مذهبهم ويحتمون بها عند الحاجة. وبفضل ذلك تمكّنوا من دون فرق الخوارج الأخرى من الاستمرار وحفظ وجودهم وبناء معرفة دينيّة جديرة بالدراسة والتقدير. 

كانت الجماعة الإباضيّة تعد نفسها الجماعة الإسلاميّة بامتياز، وكانت لها نظرتها الخاصّة إلى التاريخ الإسلامي، ومفاهيمها السياسيّة والاجتماعيّة المميّزة. يظهر ذلك في تسميتهم أنفسهم «جماعة المسلمين» و«أهل الحقّ»، وإطلاقهم أحيانا لقب أمير المؤمنين على أئمّتهم(42)، وإعلانهم تولّي الجماعة الإسلاميّة الأولى في عهد أبي بكر وعمر، وتمسّكهم الدقيق بالكتاب وسنّة النبي وخليفتَيْهِ، وتمجيدهم الجماعة الخارجيّة الأولى ورفعهم أبطالها إلى مرتبة النماذج العليا(43)، وإدانتهم الابتداع ونبذهم أصحابه وإن كانوا من الإباضيّة، وهو أحد معاني مصطلح العزّابة عند متأخّريهم. 

وقد بنوا رؤية سياسيّة شاملة تقوم على التشهير بـ«الأحداث» و«البدع» و«الضلالات» التي ارتكبها في نظرهم بعض الصحابة والخلفاء لاسيما عثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب، ووقعت فيها الفرق المنافسة لهم، وجعلوا ذلك قِسما أساسيّا من مصنّفاتهم التاريخيّة والعقديّة، واعتبروه جزءًا لا يتجزّأ من اعتقادهم الديني(44). في هذا الإطار صنّف المتكلّم الإباضي الوارجلاني الموحّدين المسلمين إلى سبعة أفخاذ، وحكم بغواية ستّة منهم وجعل مصيرهم إلى النار ومن بينهم «السنّيّة» أي أهل السنّة، وأكّد ألاّ نجاة إلاّ للإباضيّة(45). 

وانصبّ تقييم الإباضيّة لأداء الصحابة والخلفاء الأربعة وبني أميّة على الجانبِ الديني والجانبِ السياسي من سلوكهم دون تمييز بينهما(46). ومن نماذج نقدهم رسالة عبد الله بن إباض إلى عبد الملك بن مروان حيث اعتبر ابن إباض الموقفَ من حكم عثمان ومناصريه عقيدة أبديّة بها يتحدّد إيمان المرء أو كفره ويتقرّر مصيره إلى الجنّة أو إلى النار. وممّا قاله في ذلك: «فمن يتولّ عثمان ومن معه فإنّا نُشهِد اللهَ وملائكته بأنّا منهم بُرَآء ولهم أعداء بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، نعيش على ذلك ما عشنا، ونموت عليه إذا مِتنا، ونُبعَث عليه إذا بُعِثنا، ونُحاسَب بذلك عند الله»(47). 

2- تبلور المنظومة الشرعيّة الإباضيّة:

بفضل عناية الإباضيّة الفائقة بتخريج العلماء نبغ من هذه الفرقة عديد المحدّثين والمفسّرين والفقهاء والفَرضيّين والأصوليّين واللغويّين الذين تمكّنوا من إنتاج أدب متميّز في التفسير والأصول والفقه والفتوى والفرائض، مثل جابر بن زيد (ت93هـ) وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة (ت بين 136 و158هـ)، وأبي سفيان محبوب بن الرحيل العنبر بن هبيرة (ت170؟هـ)، وأبي عمرو الربيع بن حبيب الأزدي الفراهيدي (ت175هـ)، وعبد الله بن يزيد الفزاري(48)، وأبي عمّار عبد الكافي التناوتي (ت قبل 570هـ)، وأبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني (ت570هـ)، وأبي زكريّاء يحيى بن الخير بن أبي الخير الغنّاوني (ق5/6)، وتبغورين بن داود بن عيسى الملشوطي (ق5/6)، وأبي طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي (ت750هـ)، وأبي ساكن عامر بن علي الشمّاخي (ت792هـ)، وأبي الفضل أبي القاسم البرّادي الدمّري (ت بداية ق5هـ)، وأبي حفص عمر بن جميع (ت بداية ق9هـ)، وأبي العبّاس أحمد بن سعيد الشمّاخي (ت928هـ)، وأبي سعيد محمّد سعيد الأزدي القلهاتي (ق11هـ)، ومحمّد بن يوسف أطفيّش المعروف بالقطب(49). 

وكانت نظرتهم الواسعة إلى القرآن هي الأساس الرابط بين الحقول المعرفيّة التي اهتمّوا بها واشتغلوا عليها. فقد اشترط أحد علمائهم وهو الوارجلاني في دراسة القرآن توفّر ثلاثة أصناف من المقدّمات، هي السوابق والأصول واللواحق. فالسوابق هي اللغة والنحو. والأصول هي أصول الديانة وفنون الخطابات الشرعيّة من عموم وخصوص وأمر ونهي ومجمل ومفصّل وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه. واللواحق هي الأدلّة ومواضعها عقلا وشرعا(50). 

وفي المجال الكلامي كان إسهام الإباضيّة في الكلام السياسي معتبرا؛ فقد طوّروا مفاهيم سياسيّة واجتماعيّة مهمّة اقتضتها أوضاعُ فرقتهم وتقلّب أحوالها؛ مثل مفاهيمِ كفر النعمة والولايةِ والبراءَة والدفاع والتقيّة والكتمان والظهور والشراء. ولئن كانت بعض هذه المفاهيم مشتركة بينهم وبين فرق إسلاميّة أخرى فإنّهم أعطوها مدلولات خاصّة تميّزهم عن غيرهم(51). 

في المقابل، كان إسهامهم في الكلام الميتافيزيقي محدودا بسبب غلبة المحافظة عليهم وعدم انفتاحهم على الثقافات غير الإسلاميّة. فقد أورد الدرجيني - وهو أحد مؤرّخي الفرقة - نصوص عدّة مناظرات سياسيّة وميتافيزيقيّة جمعت علماء الإباضيّة الوهبيّة بخصومهم الإباضيّة النكاريّة والواصليّة واليهود والشيعة ببلاد المغرب، تباهَوْا فيها بسعة علمهم في مجالات الكلام المختلفة(52). لكنّ ما أوردوه من آراء لم يكن يزيد على بعض الآراء الكلاميّة الشائعة والمبسّطة. وهذا يؤكّده أيضا النظر في مصنّفاتهم الكلاميّة المبكّرة والمتأخّرة، مثل كتاب «أصول الدينونة الصافية» لأبي حفص عمروس بن فتح النفوسي (ت283هـ)(53) وكتاب «الموجز» لأبي عمّار عبد الكافي التناوتي (ت قبل570هـ) وكتاب «الدليل والبرهان» لأبي يعقوب يوسف الوارجلاني (ت570هـ) وكتاب «شرح عقيدة التوحيد» لمحمّد بن يوسف أطفيّش وكتاب «غاية المأمول في علم الفروع والأصول» لمحمّد بن شامس البطاشي(54). 

إنّ الإباضيّة فرقة شرعيّة، بمعنى أنّها تؤسّس مواقفها ومقالاتها وتعاليمها على أساس ما أقرّه الشارع في مصادره المعتبرة، وهي القرآن والأحاديث النبويّة المقبولة لدى الفرقة، بالإضافة إلى الإجماع والاجتهاد. فالإباضيّون يقرّون بشكل مطلق بسلطة النصّ الإلهي العليا وبوجوب التقيّد بأفعال النبي وأقواله وبسيرة الخليفتين أبي بكر وعمر وسلوك الجماعة الخارجيّة الأولى. ولا يتوانَوْن في إدانة «بِدَعِ» عثمانَ و«أخطاء» عليٍّ و«انحرافِ» بني أميّة عن شرائع الإسلام، ويردّونها إلى استسلامهم للهوى. وكانوا إلى جانب أهل السنّة من أبرز المسهمين في بلورة مفهومَيْ السنّة والاتّباع ومكرّسي سلطة الفقه العليا في الثقافة الإسلاميّة(55). 

3- نموذج الإباضي المتكلّم الفقيه:

من المعلوم أنّ الإباضيّة وجملة الخوارج يجمعون في الإيمان بين شرطَيْ العلم والعمل، ولا يكتفون بأحدهما، كما يفعل المرجئة مثلا. وهذا دفعهم إلى أن يحرصوا على أن يتحقّق لكلّ فرد منهم حدّ أدنى من العلم حتّى لا ينبني إيمانه على ضلال وخطأ، وأن يكون له حظّ وافر من العمل حتّى لا يكون إيمانهم مجرّد اعتقاد فارغ. 

وتجسيدا لهذا الترابط، أقام الإباضيّون رؤيتهم الدينيّة ونظامهم الاجتماعي والسياسي على ثلاثة محاور مترابطة هي: تحصيل العلم اللازم للوفاء بحقوق الله والعباد، ويعبّر عنه مفهوم الشريعة، ومحاربة الجور السياسي والعمل على إقامة نظام الحكم العادل مكانه، والزهد في الدنيا والمبالغة في العبادة(56). وبمقدار تحقّق هذه المقوّمات الثلاثة تتحدّد درجة صدق إيمان المرء وعلوّ مكانته الدينيّة. 

إنّ هذا النهج ينطوي على فهمٍ مخصوصٍ للدين والاجتماعِ يَعْتَبِرُ الدينَ مجموعةَ أوامرَ ونواهٍ فوقيّةٍ موجَّهَةٍ من الله إلى عباده، والاجتماعَ رابطةً قانونيّة وروحيّة إجباريّة توجب على الداخلين فيها الامتثالَ التامَّ للأوامرِ والنواهي الإلهيّة، وتمنح أعضاءَها الحقَّ في دعوة المخالفين إلى الامتثال لها، وتُبيحُ لهم عند الظهور والقوّة قتالهم إن أَبَوْا ذلك. لقد حوّل الإباضيّة الخطاب الإلهي إلى قيمة اجتماعيّة وسياسيّة وأخرويّة عليا، وجعلوا الامتثالَ للشريعة أسمى الأعمالِ الإيمانيّة، ورأَوْا أنّ كلَّ توفيقٍ سياسي وصلاحٍ اجتماعي وتقرُّبٍ صادِقٍ من الله مشروطٌ بذلك وواقعٌ في دائرته. وهذا يؤكّد أنّ الإباضيّة ليسوا مجرّد حزب سياسي ينشط من أجل تحصيل الحكم، بل جماعة دينيّة تتوفّر فيها مقوّمات التديّن الصادق، جماعة تعلن أنْ لا غايةَ لها سوى التقرّب إلى الله لِنَيْلِ رضاه والنجاة من عقابه. 

لقد أنشأ الإباضيّة نُظما تربويّة واجتماعيّة خاصّة هدفها تخريج نوعيّة من المتعلّمين تتوفّر فيهم المقوّمات الثلاثة المذكورة أعلاه. من ذلك أنّ إباضيّة المغرب أظهروا في أواسط القرن الخامس اهتماما شديدا بالكلام والأصول والنظر، وكانت لهم في جزيرة جربة التونسيّة حلقتان منفصلتان، إحداهما مخصّصة لتدريس الكلام، والأخرى مخصّصة لتدريس الفقه، وكان بين طلبتهما تنافس شديد على حيازة الصدارة العلميّة(57). وكان الهدف من هذه الحلقات هو تخريج كفاءات علميّة ودينيّة واجتماعيّة تقدّم لسائر أبناء الفرقة النموذج المثالي الجدير بالاتّباع والاستلهام. 

إنّ الهدف العلمي والأخلاقي هدف أصلي في المشروع الإباضي سعَوا إلى تحقيقه عبر علمائهم وزعمائهم الأوائل والمتأخّرين. غير أنّه لم يكن يتحقّق دائما. فقد يأتي بعض كبار الإباضيّة من قبائح الأعمال ما لا يأتيه غيرهم(58)، وهذا يكشف عن المسافة الكبيرة التي تفصل بين النظر والتطبيق في كلّ التجارب الدينيّة حين تتلبّس بشؤون الدنيا والسياسة والحكم. 

أمّا الإمام وإن كان إباضيّا فإنّه لا يتمتّع بأيّة حصانة أو قداسة. فتوليته مشروطة باختيار المؤمنين له، وبقاؤه في السلطة مشروط برضاهم، ولهم أن يخلعوه ويقاتلوه إذا أخطأ ولم يَتُبْ(59). إنّ الإمام من منظور إباضي عبد كغيره من العباد، يُرفع إلى أعلى درجات المؤمنين إذا كانت أفعاله موافقة للسنّة والشريعة، ويُسحب منه الإيمان ويُعادى إن جانب الطاعة وخالف ما تأمر به الشريعة. 

إنّ الرؤية الدينيّة الإباضيّة تهدف إلى إيجاد المبرّرات السياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة لتوسيع رقعة الخروج على الحكم الظالم وإذكاء جذوة المعارضة السياسيّة والمسلّحة له. وهي من هذه الجهة مشروع سياسي يمكن أن يكون له دور مهمّ في فترات التأزّم الاجتماعي والسياسي؛ لكنّه يفقد مبرّرات استمراره في فترات القوّة والاستقرار. وهذا ما حصل بالفعل بعد انتصار الثورة العبّاسيّة وتمكّنها من بناء نظام سياسي جديدة. حينئذ فقد المشروع الإباضي مبرّراته في المركز، واقتصرت مهمّته في الأطراف على إدارة شأن الجماعة الإباضيّة وضمان استمرارها والقيام على حاجاتها الروحيّة والدنيويّة ضمن حدود اجتماعها الضيّقة. 

الخاتمة:

لقد كانت التجربة السياسيّة المعتزليّة محكومة باعتبارات معرفيّة عقليّة وأخلاقيّة إيتيقيّة، جسّدها الحرصُ على الحقيقة والاحتفاءُ البالغُ بالوسائل المؤدّية إليها باعتبارهما هدفا أعلى، والتمسّك بالتديّن الحرّ والمسئول باعتباره طريق خلاص الفرد وارتقائه، والسعي إلى توفير مناخٍ ثقافي يقوم على التفكيرِ الحرّ والقبولِ بالاختلاف، ويرى في الجدل العقلي والمناظرة المتكافئة إطارا مناسبا لِتجلية الحقيقة. 

أمّا التجربة السياسيّة للإباضيّة فكانت محكومة باعتبارات دينيّة سياسيّة اجتماعيّة محورها إدارة الحكم وتنظيم المجتمع وفق الإرادة الإلهيّة المتجسّدة في كتابه وسنّة نبيّه وخلفائه الشرعيّين وأحكام الشريعة التي أصّلها فقهاء الفرقة وفصّلوها. 

وإذا كان المتكلّمون والفقهاء عموما قد نجحوا في إضفاء طابع ديني على ممارساتهم السياسيّة وآرائهم الفلسفيّة واجتهاداتهم الفقهيّة العمليّة؛ فبفضل ربطهم هذه الأمور بإرادة الله وقيم الدين ونصوصه ومصير الإنسان في الآخرة ومبادئ المعرفة الشرعيّة المضبوطة في كتب التفسير والأصول والمنطق وغيرها. غير أنّ هيمنة الأهداف السياسيّة والدنيويّة على نشاط أكثرهم وخضوعهم للمصالح المذهبيّة الضيّقة وانجرارهم في كثير من الأحيان إلى الجدال والتنازع غيرِ المثمرَيْنِ أدّى في نهاية الأمر إلى إضعاف البعد الديني في مشروعهم وتسطيح مضمونه الروحي. فتحوّل علم الكلام إلى فكر تجريدي باهت، وأصبح الفقه وَصْفات دنيويّة محضة هدفها التنظيم الاجتماعي للشأن البشري وجلب المنافع ودرء المضارّ. وهو ما رأى فيه حجّة الإسلام الغزالي اغترابا للدين وإفراغا له من محتواه(60).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1) رضوان السيّد، مفاهيم الجماعات في الإسلام، دار التنوير، بيروت، ط1، 1984ص ص66-68. 

2) منصف ابنْ عبد الجليل، الفرقة الهامشيّة في الإسلام، مركز النشر الجامعي بتونس، ط1، 1999، ص30-32. 

3) من الأمثلة على ذلك ما كان عليه الحال في الكيسانيّة وفروعها. فقد تميّزت بالجمع بين الزعامة السياسيّة والعسكريّة للمختار الثقفي، والزعامة الروحيّة والعلميّة لمحمّد ابن الحنفيّة وأبنائه من بعده. 

4) انظر: الأشعري، مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين، ت. هلموت ريتر، دار النشر فرانز شتاينر، فيسبادن، ط3، 1980، ص6-13، 132-141. 

5) تكلّم ابن حزم على «رؤوس الفِرَق» وحصرها في خمس: أهل السنّة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج. الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، ت. محمّد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1985، ج1، ص368-372؛ وتكلّم الشهرستاني على «الفِرَق الأصول» وحصرها في أربع: القدريّة والصفاتيّة والخوارج والشيعة. الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز الوكيل، دار الفكر، بيروت، د.ت. ص12-13. وردّ الخيّاط «فرق الأمّة» إلى خمس: الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة وأصحاب الحديث والرواية. الانتصار والردّ على ابن الراوندي الملحد، تح: نيبرج، أوراق شرقيّة، بيروت، ط2، 1993، ص139. 

6) الأشعري، مقالات الإسلاميّين، ص79؛ عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ومباينتهم لسائر المخالفين، ت. فؤاد سيّد، الدار التونسيّة للنشر، ط2، 1986، ص226-228؛ البلخي، مقالات الإسلاميّين، ص118-119. وللتوسّع في وجهة النظر التي تعتبر الاعتزال حركة سياسيّة في المقام الأوّل، راجع: M. Tajouri, Les conceptions politiques, thèse de doctorat (nouveau régime), dactylographiée, Sorbonne (Paris IV),1992-1993, pp159-175. 

7) عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص226-227. 

8) عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص237، 251-252. 

9) نفسه، ص239-240. ومن وجوه نشاطه أنّه كان يتدخّل أحيانا لدى أُولِي الأمر لقضاء بعض مصالح العامّة. نفسه، ص237-238. 

10) أبو القاسم البلخي الكعبي (ت309/921)، مقالات الإسلاميّين (باب ذكر المعتزلة)، ص117. 

11) قال البلخي في خروج بشير الرحّال ورجال المعتزلة: «ولم تخرج المعتزلة قبل إبراهيم ولا بعده- مقالات الإسلاميّين، ص110. 

12) البلخي، مقالات الإسلاميّين، ص109. وانظر إشارات مقتضبة عن دور «الواصليّة» بالمغرب في: الدرجيني، طبقات المشائخ بالمغرب، تح. ونشر إبراهيم طلاّي، د. ت. ج1، ص57-64، 136، 183. 

13) قال فيه الخليفة أبو جعفر المنصور: «ما خَرَجَتْ عَلَيَّ المعتزلةُ حتّى مات عمرو بن عبيد- عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص228. وانظر مزيدا من التفصيل بشأن مواقف ابن عبيد من السلطة العبّاسيّة في المرجع نفسه، ص242-249، وفي: 

. Van Ess, Une lecture à rebours de l’hitoire du mu’tazilisme, Revue des Etudes Islamiques, t46, fas. 2, 1978, pp163-240 ; t47, fas1, 1979,, R. E. I., t47, fas1, 1979, pp60-61 ; M. Tajouri, Les conceptions politiques, pp244-258. 

14) عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص242. 

15) نفسه، ص247-250. 

16) نفسه، ص265. 

17) للتوسّع في موقف المعتزلة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر راجع: الخيّاط، الانتصار، ص161؛ عبد الجبّار بن أحمد، شرح الأصول الخمسة، ت. عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1965ص 744-747؛ M. Cook, Commanding Right and Forbidding Wrong in Islamic Thought, Cambridge University Press, 2000, pp195-226 ; M. Tajouri, Les conceptions politiques, p113. وفي موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامّة، راجع: فيصل سعد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قديما: الأبعاد الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، رسالة دكتورا مرقونة بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، كلّيّة الآداب منّوبة (تونس)، 2003-2004. 

18) دفعت هذه السياسة بعض المتكلّمين المستهدَفين إلى إخفاء انتمائهم الحقيقي. فقد كان أبو هاشم الجبّائي يُسَمَّى في بغداد أبا هاشم النحوي، وفسر القاضي عبد الجبّار بن أحمد ذلك بأنّ الأيّام كانت صعبة «يُخاف فيها على أصحابنا»، فلو قيل: الجبّائي أو المعتزلي لتعرّض للاضطهاد. فضل الاعتزال، ص307. وذكر عبد الجبّار أنّ لأبي عبد الله البصري (ت367؟هـ) أخا محدّثا يقاربه في مذهب الاعتزال؛ لكنّه لم يكن يُظْهِرُ ذلك «لِمَكَانِ اجتماعِ أصحاب الحديث عليه- نفسه، ص327. 

19) هو معمّر بن عبّاد السلمي حسب خبر أوّل أورده عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص266-267، وأبو كلدة حسب خبر آخر. نفسه، ص269. 

20) من الشواهد على الوعي بالخطر الوافد من الثقافات والديانات الأخرى محاورة البطريرك طيماوس الأوّل(ت208/823) للخليفة العبّاسي المهدي. انظر نصّها محقّقا ومنشورا مع دراسة تاريخيّة بالفرنسيّة بقلم الأب هانس بوتمان (Hans Putman) تحت عنوان «البطريرك طيماوس الأوّل أو الكنيسة والإسلام في العصر العبّاسي الأوّل»، دار المشرق، بيروت، ط1، 1975. 

21) انظر: ابن طيفور، كتاب بغداد، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1994، ص36-37، 39، 47، حيث ذكر أنّ ثمامة كان مستشارا خاصّا للمأمون في الأمور العلميّة والسياسيّة والإداريّة، يشير عليه بمن يحضر مجالسه، ويوجّه سياسته العامّة ويرشّح الوزراء والقضاة والموظّفين الجدد، فكان المأمون لا يخالف له رأيا إلاّ نادرا. انظر: المرجع نفسه، ص37، 39، 54، 118، 139. 

22) عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص256-257، 263، 272. 

23) ممّا يؤكّد هذا الذوبان أنّ جانبا مهمّا من التراث المعتزلي تمّت المحافظة عليه بفضل احتضان الزيديّة له، وأنّ التصنيفات المتأخّرة في طبقات المعتزلة أنجزها شيعة ذوو ميول معتزليّة، مثل أبي سعد المُحَسِّن بن محمّد بن كرامة الحاكم الجشمي البيهقي(ت494هـ)، كتاب شرح عيون المسائل في علم الأصول (قسم منه في طبقات المعتزلة)؛ وأحمد بن يحي بن المرتضى (ت840هـ)، المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل (باب ذكر المعتزلة منه). 

24) W. Madelung, Imamism and mu’tazilite theology, in Religious schools and Sects in Medieval Islam, Variorum Reprints, London, 1985, pp25-26. 

25) انظر: أبا جعفر الطوسي، الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد، دار الأضواء، بيروت، ط2، 1986 ص263-268، 305-313، 367. 

26) للتوسّع في موضوع علاقة المعتزلة بالشيعة، راجع: عفاف بن الغالي، الشيعة في مرآة المعتزلة، دار جداول للنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 2011. 

27) انظر هذه العناوين ضمن قائمة مؤلّفاته في: D. Gimaret, Matériaux pour une bibliographie des Gubbâ’î, Journal Asiatique, 1976, pp277-332. وانظر مؤلّفات سائر شيوخ المعتزلة في: ابن النديم، الفهرست، تحقيق رضا، دار المسيرة، ط3، 1983. 

28) انظر أسلوب عمرو بن عبيد في تناول قضايا الكفر والإيمان ومرتكب الكبيرة التائب وغير التائب، في: علي بن عمر الدارقطني، أخبار عمرو بن عبيد، ص9-11. 

29) الخيّاط، الانتصار، ص139. وانظر نقد المعتزلة للموقف الإمامي المعادي لأكثر الصحابة في: المرجع نفسه، ص137-143. وانظر طرفا من اختلاف مواقف المعتزلة في عديد المسائل السياسيّة في: النوبختي، فِرَق الشيعة، تحقيق عبد المنعم الحنفي، دار الرشاد، القاهرة، ص23-27؛ الخيّاط، الانتصار، ص60-61، 97-100، 145؛ عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص142، 267؛ البغدادي، الفَرْق بين الفِرَق، تحقيق محي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، د. ت، ص120-121؛ الشهرستاني، الملل والنحل، ص57. 

30) W. Madelung, Imamism and mu’tazilite theology, pp28-29.

31) في معاني هذه المفاهيم عند المعتزلة وغيرهم، راجع: محمّد بوهلال، الغيب والشهادة في فكر الغزالي، نشر كلّيّة الآداب سوسة، ط1، 2003، ص192-218. 

32) راجع: عبد الجبّار بن أحمد، المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق جماعي، الدار المصريّة للتأليف والترجمة، ج15، ص26-29، 128-132؛ البغدادي، الفرق بين الفرق، ص132، 149؛ الشهرستاني، الملل والنحل، ص58؛ Van Ess, Prémices de la théologie musulmane, Albin Michel, Paris, 2002, pp136-145. 

33) ابن طيفور، كتاب بغداد، ص54-55. 

34) عبد الجبّار بن أحمد، فضل الاعتزال، ص276. 

35) نفسه، ص300. 

36) نفسه، ص306-307. 

37) القلهاتي، الكشف والبيان، (الأبواب الستّة المخصّصة لخلافة عثمان وعلي)، تحقيق محمّد بن عبد الجليل، حوليّات اجامعة التونسيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بتونس، عدد11، 1974، ص197-198.

38) عمروس النفوسي، أصول الدينونة الصافية، تحقيق حاج أحمد بن حمّو كرّوم، منشورات وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، عمان، ط1، 1999، ص73-76؛ الشهرستاني، الملل والنحل، ص134-135. 

39) الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، تحقيق ونشر إبراهيم طلاّي، د. ت، ج1، ص40-41؛ ناجية الوريمي، الإسلام الخارجي، سلسلة «الإسلام واحدا متعدّدا»، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2006، ص135-143؛ ألفرد بل، الفرق الإسلاميّة في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتّى اليوم، تع. عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3، 1987، ص147-148، 150-151؛ A. Laroui, L’histoire du Maghreb, Centre culturel arabe, Casablanca, 1995, pp90-93. 

40) في التعريف بمفهوم العزّابي ونظام العزّابة، انظر: الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، ج1، ص4، 171 وما بعدها؛ فرحات الجعبيري، نظام العزّابة عند الإباضيّة الوهبيّة في جربة، المطبعة العصريّة، تونس، 1975؛ الوريمي، الإسلام الخارجي، ص219-228. 

41) انظر: ابن إباض عبد الله(ت88هـ)، رسالة ابن إباض إلى عبد الملك بن مروان، دراسة وتحقيق لطيفة البكّاي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2002. 

42) انظر: أبا حفص عمروس النفوسي، أصول الدينونة الصافية، ص79؛ الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، ج1، ص47-49، 51-52، 53، 55، 60، 67، 118، 183. وكان ابن إباض قد اتّخذ لقب «أمير المؤمنين» حين اختير إماما لـ«جماعة المسلمين» بالبصرة، وهي التنظيم الإباضي بهذه المدينة. وذكر الشمّاخي أنّه أُعطيت له الألقاب التالية أيضا: إمام أهل الحقّ، إمام المسلمين، إمام القوم. سير الشمّاخي، ص77؛ البرّادي، الجواهر المنتقاة فيما أهمله كتاب الطبقات، ص155، نقلا عن: Pierre Cuperly, Introduction à l’étude de l’Ibâdisme et de sa théologie, Office des Publications Universitaires, Alger, 1984, p24, note 48. 

43) انظر مثلا تمجيد القلهاتي لشهداء معركة النهروان وما أورده من أحاديث وأخبار تزكّي حرقوص بن زهير وتبرز فضله، في: الكشف والبيان، ضمن حوليّات الجامعة التونسيّة، ص236-237. 

44) انظر كيف حكم الإباضيّة على عثمان وطلحة والزبير بالبدعة والإحداث والكفر لمجرّد أفعال اجترحوها. ابن ذكوان، سيرة سالم بن ذكوان، حقّق قسما منها مايكل كوك (Michael Cook) ونشره ضمن كتابه Early muslim dogma, Cambridge University Press, London, New York, First published, 1991,، ص78، 92. وانظر نقد ابن ذكوان للأزارقة وتضليله إيّاهم، تارة لأسباب فقهيّة وتارة لأسباب عقديّة. نفسه، ص106-112. 

45) الوارجلاني، الدليل والبرهان، ج1، ص42-49. وبرّر موقفه الإقصائي بحديث الافتراق: «فإن قال قائل: هذه أمّة أحمد -صلَّى الله عليه سلَّم- قد قضيتم عليها بالهلاك والبدعة والضلال وحكمتم عليهم بدخول النار ما خلا أهل مذهبكم، قلنا: إنّما قضاه رسول الله -صلَّى الله عليه سلَّم-، لا نحن، بقوله حين يقول: "ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّهنّ إلى النار ما خلا واحدة ناجية"». نفسه، ص49-50. 

46) انظر قائمة بالمآخذ السلوكيّة عليهم في خطبة مختار بن نوف الأزدي المعروف باسم أبي حمزة الخارجي أو الشاري، ألقاها بمكّة وأوردها: الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، دار سحنون للنشر، تونس، ط5، 1990، ج2، ص122-124. 

47) من رسالة ابن إباض إلى عبد الملك ضمن: لطيفة البكّاي، قراءة في رسالة بن إباض، ص84-85. وانظر نقد الوارجلاني لعثمان وعلي وطلحة والزبير والفِرَق في: الدليل والبرهان، ج1، ص27-32. 

48) راجع تراجمهم ومصنّفاتهم في: ابن سلاّم الإباضي، بدء الإسلام وشرائع الدين، تحقيق غيرنر شغارتس وسالم بن يعقوب، نشر فرانز شتاينر بفيسبادن، ألمانيا، 1986، ص108-117؛ الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، ج2، ص205-290؛ الوريمي، الإسلام الخارجي، ص182-194؛ P. Cuperly, Introduction; P. Crone and F. Zimmermann, The Epistle of Sâlim Ibn Dhakwân, Oxford University Press, 2001, pp301-315. 

49) راجع تراجمهم ومصنّفاتهم في: ابن سلاّم الإباضي، بدء الإسلام وشرائع الدين، ص108-117؛ الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، ج2، ص205-290؛ الوريمي، الإسلام الخارجي، ص182-194؛ P. Cuperly, Introduction; P. Crone and F. Zimmermann, The Epistle of Sâlim Ibn Dhakwân, pp301-315. 

50) راجع: الوريمي، الإسلام الخارجي، ص183. 

51) انظر إشارة إليها وتعريفا موجزا بها وبغيرها من المصطلحات الإباضيّة في: الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، ج1، ص4-6؛ ابن ذكوان، سيرة سالم بن ذكوان، ص102-104، 144؛ فرحات الجعبيري، نظام العزّابة عند الإباضيّة الوهبيّة في جربة، ص23؛ أبي القاسم بن إبراهيم البرّادي، رسالة في الحقائق، مترجمة إلى الفرنسيّة ضمن: P. Cuperly, Introduction, pp327-330. 

52) راجع: الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، ج1، ص147-156. 

53) رغم إغراء العنوان فإنّ الكاتب لم يخصِّص سوى الباب الأوّل من كتابه الصغير الحجم (ص59-84) لمسائل العقيدة، وكرّس بقيّة الأبواب (ص85-159) لمسائل الفقه في أبواب العبادات والمعاملات. 

54) طُبع هذا الكتاب سنة 1984 في تسعة أجزاء بعناية وزارة التراث القومي بسلطنة عمان، ولا يتعدّى الكلام على المسائل الكلاميّة فيه 157 صفحة من الجزء الأوّل. 

55) كان للخوارج -قبل أهل السنّة- دور رئيس في بلورة مفهوم السنّة وتكريسه بمعنيين: معنى تاريخي سياسي يشمل سيرة النبي والخليفتين أبي بكر وعمر وكلّ المستقيمين على طريقتهم من المؤمنين بعدهم، ومعنى أصولي هو السنّة النبويّة المتمّمة للقرآن في باب التشريع. عبّر الإباضيّة عن وعيهم المبكّر بمفهوم السنّة، وهو ما يظهر في قول سالم بن ذكوان: «ثمّ إنّا لا نرى اليوم شيئا أفضل ولا أهدى ولا أقرب إلى طاعة الله ولا خيرا فيما بعد الموت ولا أوجب للحُجّة في الدنيا من الرضى بسبيل من هدى اللهُ قبلَنا والاقتداءِ بصالح سنّتهم... فأمرنا اليوم تَبَعٌ لأمر المسلمين قبل نزول الفتنة... ورأينا اليوم تبع لرأيهم يومئذ، وتأويلنا القرآن اليوم تبع لتأوّلهم يومئذ، لسنا ممّن يزعم أنّه أفاد اليوم علما في القرآن والسنّة خفي عليهم- سيرة سالم بن ذكوان، ص128-130. وفي قول ابن سلاّم الإباضي (ت: بعد273هـ): «وديننا دين النبي وأبي بكر وعمر بن الخطّاب- بدء الإسلام وشرائع الدين، ص72. وقوله في موضع آخر: «وديننا دين الجماعة من أصحاب النبي عليه السلام من المهاجرين والأنصار ودين ما اجتمعوا وتألّفوا عليه قبل افتراق الأمّة واختلافها»؛ واستشهاده بالحديث النبوي: «آمُرُكُمْ بخمس خصال: السمع والطاعة والجماعة والهجرة والجهاد في سبيل الله- وشرحه السمع والطاعة بمعنى اتّباع كتاب الله وسنّة نبيّه، وتفسيره الجماعة بأنّها «ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار من السنن والشرائع قبل افتراق الأمّة، فمن خالف ذلك في الحال والسيرة فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه؛ لأنّه يقال: نجا من اتّبع وهلك من ابتدع، ولا يوجد الهدى في خلافهم- نفسه، ص79-81. 

56) انظر تعبيرا مركّزا عن هذه المعاني الثلاثة في: سالم بن ذكوان، سيرة سالم بن ذكوان، ص50-52. 

57) راجع: الدرجيني، طبقات المشايخ بالمغرب، ج1، ص191-195؛ P. Cuperly, Introduction. 

58) انظر كلام الدرجيني على الميول الدنيويّة والأفعال الخسيسة لعدد من زعماء الإباضيّة وشيوخها، مثل أبي قدامة يزيد بن فندين اليفريني وشعيب وفرج بن نصر نفاث وأبي يزيد مخلد بن كيداد. طبقات المشايخ بالمغرب، ج1، ص47-51، 63-64، 77-90 101-113، 124-131. وانظر كلامه على الشيخين أبي خزر وأبي نوح اللذين بذلا الطاعة «لمن يَدينان بالبراءة منه، لينالا المعافاة في أنفسهما... وصبرا على المكروه في الدين تقيّة- نفسه، ج1، ص187-188. 

59) راجع: ابن ذكوان، سيرة سالم بن ذكوان، ص74-76، 126. 

60) راجع: محمّد بوهلال، الغيب والشهادة في فكر الغزالي، ص606-613.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/10/202

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك