المسيحية الأرثدوكسية والإسلام: من الأوحدية إلى التعددية الثقافية وأخلاقيات السلم
بانتليس كلايتزيديس
ـ I ـ
يشهد كل يوم على مزيد من العنف وعلى مزيد من الفظاعات التي ترتكب باسم الدين، كما يشهد على أفعال قمع وتسخير وتلاعب بالعقول وتفشي نزعة سياسية محافظة ونزوع إلى الاستبداد؛ وكل ذلك يتم بالعودة إلى تأصيل ديني أو بالاستيحاء منه. وإذا ما نحن نظرنا إلى 11 سبتمبر 2001 باعتباره قمة الإرهاب وتجنيد الإسلام السياسي لخوض شكل جديد من أشكال الجهاد ضد الغرب(1)- بطريقة تصنفه على أنه أصولية دينية متطرفة - وإذا ما نحن كذلك اعتبرنا التدخل الذي حدث عام 2003 بواسطة "القوة الخيرة العليا/ الإمبراطورية" - على شكل حملة ضد العراق وما سواه من البلدان - فإننا نتذكر بوضوح أن ثمة تلاقيا بين الدين والسياسة، وأن هناك وجود لـ"حزب يميني مسيحي"، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، أو على نحو أدق واجهة دينية وتبرير أو غطاء (بحجج لاهوتية مدهشة في بدائيتها) لإيديولوجية سياسية نزاعية تصارعية فائقة المحافظة(2).
ولئن كانت النزعة الأصولية الدينية والسياسية تشكل إحدى جوانب نقاشاتنا؛ فإن العولمة هي الجانب الآخر، أو بالأحرى الإطار والسياق الذي تعبر بداخله كل هذه الظواهر عن نفسها. ولا تجد المشاكل المثارة في هذه الورقة نفسها في جزء معزول من كوكبنا؛ وإنما قُرْبنا، سواء أكنا بنيويورك أم بالشرق الأوسط أم بالشرق الأقصى. ففي عالمنا المعولم، وفي "قريتنا العالمية"، وتحت التأثير القوي الذي تحدثه التجديدات المتنوعة، المالية والتكنولوجية والثقافية والسوسيو - سياسية، يتم تجاوز العديد فالعديد من الحدود والاختلافات القطرية، على حساب التقاليد المحلية والقومية، ولصالح القيم الكونية والنزعة الكسمبوليتية [الكونية] (3). وإن فقد التقليد على هذا النحو، وفقد الهوية الدينية والقومية، وفقد المجتمعات الصغيرة و"المغلقة" - والتي تعبر عن نفسها باللجوء إلى الديني كما بالاستناد إلى المرويات القومية - قد نُظر إليه من لدن العديد كما لو كان سببا ليس في ميلاد النزعة الأصولية فحسب؛ وإنما أيضا في بزوغها وانتشارها (لا سيما في الستينيات من القرن الماضي). وقد أشار أنطوني غيدانز إلى أن النزعة الأصولية "بزغت كردة فعل على تأثيرات العولمة التي نشهدها كلنا من حولنا... إنما الأصولية بنت العولمة، وهي ردة فعل عنها واستعمال لها في آن واحد. وكل الجماعات الأصولية تقريبا في كل مكان استعملت تكنولوجيات التواصل الجديدة استعمالا موسعا "(4). ولهذا الداعي وسم كل من مارتن مارتي وسكوت أبليبي في مفتتح عملها الضخم المكون من خمسة أجزاء - "المشروع الأصولي"(5)- وسما كل ضرب من ضروب الأصولية بوسمه "ضربا حربيا من الروحانية"؛ بينما عرف غيدنز الأصولية بوصفها "تقليدا محاصرا" وبوسمها تقليدا "مدافعا عنه بطريقة تقليدية - بالعودة إلى الحقيقة الطقوسية - في عالم معولم يسأل عن تقديم العلل وتوضيح الدواعي. ومن ثمة ما كانت للنزعة الأصولية أية صلة تذكر بسياق المعتقدات سواء أكانت دينية أم غير دينية، فما يهم هو الطريقة التي يتم بها الدفاع عن حقيقة المعتقد وتأكيدها"(6).
إن الحركات السياسية الدينية التي توصف بكونها أصولية إنما هي ردة فعل ليس فحسب على العولمة وإنما أيضا على الحداثة. وبالفعل، فإن ردة الفعل على الحداثة تتقدم على ردة الفعل على العولمة، وإن علة ميلاد الأصولية لهي الحداثة، ومن ثمة الثورة التي جاءت بها الحداثة في كل المجالات (الصلة بين الدين والسياسة وبين المقدس والدنيوي وتحرر المجتمعات والفرد من كل تأثير ديني، والمقاربات الـتأويلية الجديدة للثورات وللنصوص المقدسة، وإعادة فحص الصلة بين الإيمان والعلم، وإعادة تقويم الطبيعة والعالم الطبيعي، إلخ). هذا هو السبب الذي يجعل الأصولية لا تكون مفهومة اللهم إلا في سياق الحداثة، ويجعلها لا يمكن أن تفهم إلا باعتبارها ردة فعل على الحداثة(7). وفضلا عن هذا، فإن الأصولية -قبل أن تعد وليدة العولمة- ينبغي أن تعد وليدة الحداثة، والتي ينبغي أن تقابل معها مقابلة تضاد جذرية، كما أن لا سبب لوجودها من غيرها. وإن السمة الغالبة على الأصولية وردة فعلها الجذرية على الحداثة هي ظاهرة "العودة إلى الرب" و"الأوبة إلى الدين"، وبتعابير أخرى عودة الظهور الدينامية للعامل الديني في المجال العمومي وعلى واجهة السياسة والتاريخ.
لقد أكدت أحداث 11 سبتمبر الدرامية -وبأوضح سبيل يكون- هذه "العودة إلى الرب"، وتتردد اليوم على كل الشفاه مواضيع معنى الدين وأهميته. والحال أن "الدنيويين" يخشون من هذه العودة؛ بينما الجموع المؤمنة تتلذذ "بانتقامها". على أن هذه الظاهرة ما كانت بالظاهرة الجديدة؛ فبدءا من منتصف السبعينات من القرن الماضي، ظهرت الحركات الدينية الجذرية في العالم الإسلامي واليهودي والمسيحي الغربي، لا سيما في مجال السياسة، حيث وصفت العديد منها بأنها أصولية، وحيث سعت بنشاط حماسي إلى إعادة التمكين لها في العالم. والحال أن بزوغ مثل هذه الحركات كانت له صلة -من جهة- بنهاية الأيديولوجيات والتصورات الدنيوية للسعادة العامة (لا سيما تلك التي كان لها أصل وتوجه أخروي ونبوئي، كما هو حال الماركسية)، ومن جهة أخرى، بالمجادلة في أمر معنى التقدم ودلالته على النحو الذي قدمته الحداثة في القرون الأخيرة. كما أن هذا البزوغ ارتبط أيضا باختلال الموازين - لصالح الديني - بين المقدس والدنيوي، وبين الديني والسياسي الذي أقامته الحداثة. ومع ذلك؛ فإن هذا الاختلال فشل في أن يجعل من الحداثة واقعا جديرا بالثقة ومقبولا في السياقات غير الغربية، وذلك بسبب عجزه عن تقديم أجوبة وحلول لمختلف المشاكل الاجتماعية الثقافية والقومية. وفضلا عن هذا، كانت ثمة -لا سيما في العالم النامي- موجة عامة أو أزمة هويات كان السبب فيها الانتقال من الحداثي إلى ما بعد الحداثي، من عالم الحداثة المعقد؛ لكن المهيكل إلى "كل شيء يجوز" لما بعد الحداثة الفوضوي المبرقش.
والحق أنه كانت لظاهرة "العودة إلى الرب" أو"الأوبة إلى الدين" أصلا قائمة مراجع دولية طويلة(8)، ولما تمت الإشارة المبكرة إلى أن هذه العودة - بالقدر الذي كانت تصور فيه الدين بحسبانه عنصرا من عناصر الهوية القومية أو الثقافية، وباعتباره جزءا من الذاكرة التاريخية والتقليد أو التراث - ما كانت تقتدر على أن تعني أيضا عودة للإيمان أو إعادة اكتشاف ذلك بسبب أن هذا الأمر كان لا يزال يعتبر قرارا شخصيا، وطريقة في العيش، تفيد -من حيث سماتها الأساسية- الخضوع والاستسلام لإرادة الرب واتباع تعاليمه، وما يرافق ذلك من تغير ذي دلالة في حيواتنا وأفعالنا وقيمنا(9). وبالضد، فإن النسخة من الدين المشار إليها أعلاه (الأصولية)- أو على وجه الدقة الحركات الدينية المتطرفة التي ألهمت من لدن هذه النسخة الصورة من الصور التي يتلبس بها الدين - طمحت إلى أن تحتل مكانة الأيديولوجيات الدنيوية، وذلك عن طريق تحويل نفسها إلى إيديولوجيات أو عن طريق منافستها للأيديولوجيات الدنيوية. وإن الحالة الأكثر تمثيلية لهذا الاستبدال -وما كانت هي بالحالة الوحيدة- إنما حدثت في الإسلام حيث إنه، -منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي- أدى فشل رؤى القومية العربية والاشتراكية إلى إحياء نزوع ديني مناضل نشيط، وإلى بزوغ دينامي للإسلام السياسي(10). وهذا الضهور الجديد للإسلام -القائم على الدين والحادث باسم الدين- يمثل بديلا سياسيا له آثار ثورية، وله سمات أصولية بدية من معاداة للغرب وإنكار للحداثة(11).
والحال أن هذه الصلة المشكلة مع الحداثة التي لا تجد حلولا لإشكالها هذا، أو حتى المنكرة للحداثة، هي ما يجمع بين الإسلام والمسيحية الأرثدوكسية، وذلك بالرغم من اختلافاتهما المذهبية واللاهوتية الهامة. فكلاهما يواجه اليوم إحراج "إما العولمة أو الأصولية؟"(12). لكن -من حيث الجوهر- لا أحد منهما - كل لأسبابه الخاصة - تمكن من حل معضلة صلته بالحداثة. ويبدو أن السيرورة نفسها تسم ميلاد وظهور المسيحية الأصولية بالولايات المتحدة الأمريكية. فهذه الأخيرة إنما ولدت عن لقاء أو مواجهة بين الدوائر البروتستانتية المحافظة والحداثة الغربية الناشئة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر(13). وفي حين تركز الصراع الأصلي على مسألة الصلاحية العلمية للتأويل الحرفي لمرويات التوراة الخاصة بخلق العالم (انظر سفر التكوين)، فإن السجال البروتستانتي المحافظ اتخذ في النهاية صورة سجال ضد كل "منجزات" الحداثة. والحال أن الشعار الأصولي: "العودة إلى أصول الإيمان والسنة" كان جاهزا تماما للتصدير، وتبناه بسرعة المؤمنون المحافظون عبر العالم - سواء كانوا من الكاثوليكيين أومن الأرثدوكسيين الشرقيين أو حتى من اليهود والمسلمين - حتى يحددوا صلتهم بالحداثة.
لندع لبرهة الصلة بين الإسلام والحداثة، والتي أشرنا إليها إشارة خاطفة(14)، ولنركز أكثر على الصلة بين المسيحية الأرثدوكسية والحداثة. أعتقد أنه آن الأوان لكي تتوقف الأرثدوكسية عن الفزع من الحداثة، وأن تسعى إلى فتح حوار جدي مع الحداثة. وينبغي التسليم بأنه من وجهة النظر الأرثدوكسية، ما تم أبدا إجراء حوار جدي بين الحداثة والمسيحية الأرثدوكسية. والحاجة إلى لقاء مثمر بل حتى توليفة (ولِمَ لا؟) بين الأرثدوكسية والحداثة لا تزال أمرا مطلوبا. على أنه يبدو أن الأرثدوكسية تسعى سعيا قصديا إلى تفادي مثل هذا اللقاء؛ بينما يبدو أن الحداثة تتجاهل المسيحية الأرثدوكسية وحقيقتها الروحية العميقة. وإنه ليبقى سؤالا مفتوحا ما إذا كان هذا التجاهل المتبادل أو التشكك الحذر يعني عدم التلاؤم بينهما أم أنه ثمرة لظروف تاريخية. وبالفعل، فإنه أساسا لعوامل تاريخية لم يشارك العالم الأرثذوكسي في ظاهرة الحداثة، ولم يخبر النهضة والإصلاح الديني المضاد والحروب الدينية والتنوير والثورتين الفرنسية والصناعية وبزوغ الفرد والفردانية وحقوق الإنسان والدولة القومية الدنيوية. ولهذا السبب، يبدو كل ما تم توصيفه بوسمه إنجازا للحداثة أمرا غربيا عن الأرثدوكسية، التي لم تنخرط بعد في الحداثة. ولهذه الحيثية تجد الأرثدوكسية -بحسب ما ذهب إليه العديد من الباحثين- صعوبة في التواصل مع العالم الحديث والمعاصر(15).
ومن منظور مسيحي أرثذوكسي، فإن السؤال الحاسم الذي ينبع من هذا الحال - لا سيما في وضعنا المعاصر الذي يتسم بعودة ظهور النزاعات الدينية، وبالانجذاب نحو الأصولية، وببروز النزعة التقليدية في الوقت نفسه الذي صارت فيه القيم تتعولم والنزعة الكونية تعم والانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة يتم - يمكن أن يلخص على النحو التالي: هل وقفت الأرثدوكسية عائقا أمام الحداثة؟ وبعبارات أخرى: ألا يعمل اللاهوت المسيحي الأرثذوكسي إلا داخل بيئات تقليدية؟ وهل رمزياتها اللاهوتية والطقوسية، وأسلوبها في الدعوة، وبنية إدارة كنيستها -ولا سيما تصوراتها الراسخة عن الصلة بين المقدس والدنيوي والدين والسياسة والكنيسة والدولة- لا تستعير إلا نماذج وصورا من المجتمعات الزراعية؟ وهل تقبل المسيحية الأرثدوكسية منجزات الحداثة وآثارها على الحقول الدينية والاجتماعية والثقافية، أم أننا معشر الأرثذوكسيين أسارى أرسوماتنا التنظيمية وبنيات ماضينا المجيد (الإمبراطوري البيزنطي على وجه الخصوص)؟ لربما لا زلنا نحلم - في اتفاق مع منطق الأصولية المستورد - بعودة إلى ما قبل الحداثة، ندير الظهر لمكاسب الحداثة ونذهب إلى حد تأويل ما بعد الحداثة على أنه انتقام للكنيسة ضد الحداثة؟ وفي هذه المسألة بالذات، هل نكون محاكين ردة فعل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قبل أن تتصالح لا سيما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني مع الواقع الجديد وتقرر أن تتعامل مع الحداثة بالحوار والجدل؟(16)
والنتيجة -بالنسبة إلى الأرثدوكسية وإلى الإسلام معا- أنهما يظلان مرتهنين إلى شكل مبكر وأولي للتنظيم، ويعجزان عن تحقيق أي حضور روحي حقيقي، أو يدشنان أي حوار جدي مع العالم الحديث. وهما في ذلك يفقدان وعيهما اللاهوتي الحقيقي بما أنهما تحولا إلى حركات موصولة بالسياسة والهوية والتجديد القومي. والحال أن التقليديين اللاهوتيين والدينيين الحقيقيين قد تضررا من هذا الوضع؛ حيث صارت الصورة الأكثر محافظة والأكثر بعدا عن مواكبة حركة التاريخ لهذين التقليدين الروحيين الكبيرين تكتسب الذيوع والشهرة أكثر فأكثر. ففي التقليدين معا، كانت ثمة - ولا تزال - مقاومة قوية للحداثة، والتي -بتواطؤ مع الهيمنة العثمانية وتأثير عوامل اجتماعية أخرى- أدت إلى الظهور المتأخر لوعي قومي، والذي بالمقارنة مع أوربا الغربية أدى إلى تبني متأخر لنظام الدولة القومية. وينبغي ربط هذا التأخر أيضا بوعي قوي بالكونية كان قد نماه التقليدان معا (الإسلام والأرثدوكسية)، كما أن له علاقة بتشكلات الإمبراطورية المسيحية (الرومانية/ البيزنطية) السياسية المتعددة العرقيات في العهد الوسيط وما بعده، وأخيرا له صلة بحكم الخلفاء الأوائل وبالإمبراطورية الرومانية. وبينما كانت الدول القومية ومبدأ القوميات قد نتجا عن التنوير والحداثة، الذين قاومتهما الأرثدوكسية والإسلام مقاومة شرسة، فإنهما اليوم انتهيا إلى تبني - كل واحدة منهما بطريقتها الخاصة وشكلها المخصوص - القومية وقيم الدولة القومية، بينما أمستا تقاومان بشراسة كل فكرة متعلقة بالكونية أو بالعولمة. وفيما يخص الإسلام تفهم هذه المقاومة في سياق الامبريالية الغربية التي لم تحطم رؤى وتطلعات العرب القومية فحسب؛ وإنما دمرت أيضا كرامتهم الإنسانية والقومية(17). وفي البلدان "الأرثدوكسية" الشرقية -من جهة أخرى- فإن للنزعة المضادة للإمبريالية هذه صلة بجروح الماضي (الحملة الصليبية، سقوط بيزنطة على يد الأتراك، الدعوة البابوية، كارثة آسيا الصغرى عام 1922 وجلاء ساكنة الأناضول الأرثدوكسية اليونانية، وحديثا هجمة الحلف الأطلسي على صربيا عام 1999)، كما لها صلة أيضا بقومية القرن التاسع عشر الدينية وبالأيديولوجيات اللاهوتية والكنسية القائلة بفكرة "شعب الله المختار الجديد"، سواء أكان هو الشعب اليوناني أم الروماني أم السلافي، إلخ... كل هذا أدى إلى التماهي الأصولي للهوية الكنسية مع الهوية القومية. والحال أن هذه التوليفة بين ما هو كنسي وما هو قومي -فضلا عن نفيها الروح الكنسية للأرثدوكسية- استوردت فكرة القومية، وأدخلتها إلى حياة الكنيسة خالقة بذلك خليطا متفجرا لا يعمل إلا على النفخ في نيران الأصولية(18). وقد تم ضم إنكار الغرب إلى هذا الخليط؛ هذا الغرب الذي هو بالنسبة إلى العديد من الأرثدوكس - كما بالنسبة إلى العديد من المسلمين - مصدر معاناتهم وشقائهم وفي الوقت نفسه موضوع رغبتهم السري...
ـ IV -
يوجد هذا الخلط الأصولي وما قبل الحداثي بين الهويتين القومية والدينية في الإسلام أيضا؛ حيث -ولأسباب عديدة لا يمكن تحليلها في هذا المقام- تصعب صعوبة جمة بل تستحيل باستحالة مطلقة إقامة تفرقة بين الديني والسياسي أو بين الديني والمجالات الدنيوية. وغالبا لا دائما ما يكون الخلط -في البلدان الأرثدوكسية المسيحية والإسلامية التقليدية (أساسا في الشرق الأدنى وببلدان البلقان وبأوربا الشرقية والجنوبية الشرقية)- بين الهوية الدينية والقومية ذا صلة بظاهرة شديدة الأهمية والجدية: دعوى أن البلد موقوف على ديانة معينة لا يتجاوزها. وهو الأمر الذي يقف -حسب تصوري- خلف العديد من الحروب والنزاعات والتطهيرات العرقية في القديم والحاضر معا. واليوم، ليس يمكننا الحديث عن الهويات من غير إحالة إلى الصراعات والنزاعات والحروب والتطهيرات العرقية... إلخ. وبالفعل، لا يبدو أن ثمة صراعا إثنيا أو عرقيا أو دينيا لا يقف وراءه ادعاء لهوية قومية أو ثقافية/ دينية، أوْ لا يتضمن ادعاءات خصوصية إقليمية. ففي الحلم الوطني للعديد من الشعوب، عادة ما يتم التعبير عن الادعاء بالخصوصية بوفق إصطلاحات دينية، ومن أكثرها استعمالا وتفضيلا فكرة "شعب الله المختار" التي -لسوء الحظ- ليست غائبة عن كل تقليد ديني بما في ذلك الشعب "التوراتي" و"المسيحي"، وبطبيعة الحال الشعوب "الأرثدوكسية" لدول البلقان وأوربا الشرقية. وكما نعلم جميعا، لا يوجد "شعب مختار" من غير "أرض موعودة" ومن غير "أرض قدسية ومقدسة"، أرض يتم فيها تنصيب شعب عليها حاكما ومديرا لشؤونها ويكون عليه أن يدعي اختصاصه بهذه الأرض، وعادة ما يتم ذلك باسم الرب والحقيقة الوحيية...إلخ(19). لكن، أين يمكن وجود هذه الأرض "الموقوفة" "المخصوصة" "الطاهرة" سواء في بلدان البلقان وأوربا الشرقية أم في الشرق الأوسط؟ أين يمكن أن نعثر على بلد غير مختلط لا قوميا ولا عرقيا ولا دينيا ولا لسانيا؟ ما الحل الذي يمكن العثور عليه حين تكون مدينتي أيضا مدينة "الغير"، وبلدي بلد "الغير" - وعندما تكون الأقاليم التي أدعي أنها أقاليمي باسم تاريخي أو ديني هي في الوقت نفسه أقاليمه؟ ومتى كانت القومية والنزوع إلى ضم بلدان الغير والمذابح الجماعية والتجنيس القومي والحروب الدينية أو المدعاة "وطنية" و"دفاعية" الحل، كما يبدو أن بعض الناس يعتقدون ذلك؟ وهلَّا تعلمنا أي شيء من المشاكل التي حدثت مؤخرا، ومن النزاعات في فلسطين والشرق الأوسط والبوسنة ويوغوسلافيا السابقة بعامة؟ وهل ذوت وذبلت ذاكرتنا التاريخية المشتركة؟ وإن لم يكن قد أصابها ذلك، هل نحن قادرون على تصور رسائل إيجابية من أجل الحاضر، لا سيما مما وراء الحدود التي تميز الإمبراطوريات العابرة للقومية في منطقتنا الشاسعة (البيزنطية والعربية والعثمانية)؟
ومن الصعوبة كذلك تصور النزاعات الإثنية والدينية من غير إيديولوجية أو حتى لاهوت تبرير الذات، ومن غير عقلية الاكتفاء الذاتي الروحي والانغلاق على النفس، من غير تنمية الفخر الوطني، وعبادة الأسلاف والخصوصية، وكل هذه الأمور عادة ما تؤدي إلى انعدام التسامح اتجاه ما هو مخالف، وإلى كل صنوف التطهيرات العرقية والنزعات. لكن، كلما فضلنا روح الاكتفاء الذاتي والتسويغ الذاتي، حيث تزدهر الآراء المقولبة عن الوطن والدين والقبيلة والأمة، وحيث يسيطر مديح منجزات وفضائل أسلافنا، وحيث أخيرا تجد مختلف أشكال اﻷنانية الجماعية -شأن القومية- ملجأ لها. فهذه هي الخطة التي يكون فيها الغفران والنقد الذاتي غائبين، وهنا أيضا تصير حلماً واهماً متبخرا، كل نافدة وجودية تنشئ غرفة من أجل أي نوع من " الغير " و"الغريب "، وأي نوع من رفيقنا في العيش المشترك، وجارنا الذي هو على صورة "الغير" أو"الغريب" بامتياز. كما أنه -على نحو ما يمكن أن نفهم بكل يسر- من غير توبة وغفران ﻻ يمكن أن يتم أي صفح ﻻ وﻻ يمكن الحديث عن أي تصالح. وإذا ما نحن اعتبرنا الحرب والعنف وكل ألوان النزاعات -بما في ذلك تلك التي تنشأ باسم الدين- من وجهة نظر روحية، فإنها تظهر -في النهاية- على أنها ليست إلا ثمرة اﻷنانية الجماعية، وهي ﻻ تشهد سوى على غياب الغفران والتوبة الحقيقية والتنكر للصليب، كما يقال بوفق اصطلاحات المسيحية.
فخلف أي نزاع يمكن أن نتبين بسهولة توثينا للدين والقبيلة واﻷمة، ووثنية للبلد واﻷرض والكون أو للشعب الحامل لرسالة الرب وادعاءاته بالخصوصية؛ وهو اﻷمر الذي يعد فتنة حقيقية(20).
والحال أن هذه التوليفة بين اﻷرض الجغرافية والخصوصية القومية أو الدينية هي ما حلله تحليلا بديعا الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري في قسم من كتابه " الرب: مسار" يحمل هذا العنوان المميز " كلنا حيوانات ثديية"(21)؛ وذلك ﻷن ادعاء هذا الضرب من الخصوصية تمت الموازاة بينه -من لدن دوبري- وبين ممارسة الثدييات التي تحاول -عبر البول- أن تحدد و"تعين " وتؤمن المكان الذي ترغب في أن تحتله وأن تراقبه مراقبة مخصوصة. وعلى الرغم من ذلك فإنه -كما ذكرنا بذلك دوبري كذلك- مع ظهور المسيحية فإن اصطلاحات ووقائع سكان " اﻷرض الموعودة " و" اﻷرض المقدسة " و"المدينة المقدسة"... إلخ فقدت أهميتها. وكما أبرز ذلك بألمعية اﻷب إلكسندر شنيمان (لربما كان الرجل أعظم وأهم دارس أرثدوكسي للعبادات والشعائر في القرن العشرين) وفي منظور ﻻهوتي /قرباني قدسي/ أخروي واضح وليس من دون أساس تاريخي وآبائي(22): "ما كان المسيحيون اﻷولون ليعنوا بأي جغرافية مقدسة، وﻻ بأي معابد، وﻻ بأي عبادة يمكن أن يتعرف عليها بحسبانها كذلك من لدن أجيال تغذت من شعائر عبادة اﻷسرار؛ إذ كان للدين القديم ألف مكان مقدس ومعبد؛ أما بالنسبة إلى المسيحيين فإن كل ذلك كان قد مضى وانتهى. وما كانت ثمة من حاجة إلى معابد مبنية من حجارة: إذ كان جسد المسيح، والكنيسة نفسها، والناس الذين تعلقوا به واتحدوا، هم المعبد الحقيقي الوحيد ولقد أمست الكنيسة نفسها أورشليم الجديدة والسماوية. وبالضد، ما كانت الكنيسة بأورشليم ذات أهمية، وإن واقعة عودة المسيح وحضوره لأشد أهمية من اﻷماكن التي كان بها. وبطبيعة الحال، فإن الواقع التاريخي للمسيح هو اﻷساس الذي ﻻ جدال فيه ﻹيمان المسيحيين اﻷوائل، لكن ما كانوا ليتذكروا إﻻ أنه كان حاﻻ بين ظهرانيهم متواجدا معهم"(23).
ويمثل التقليدان اﻷرثدوكسي واﻹسلامي معا حالتين منفصلتين للممارسة العبادية وللكونية، مع أمثلة مشهود بها عن التعايش والتساكن مع " الغير " - لكن كذلك مع انجذاب ما يفتأ يتكرر نحو اضطهاد " الغير ". فلا واحد منهما -على اﻷقل إلى حدود نهاية القرن 18 الميلادي- شكل وعيا قوميا، ﻻ وﻻ سقط هو -حتى إلى تاريخ متأخر- صريع جاذبية القومية. واليوم حيث تنزع التطورات العامة إلى تجاوز الدولة القومية والتشرذمات المتشظية، يعمل التنكر للكونية، والنزعة المحلية العدوانية، والنزوع إلى توحيد الكنائس، والسعي إلى الانعزالية، والتعصب الديني واﻷصولية والتشدد والمحافظة - وكلها تسير ضد التعددية والغيرية - على إفقار اﻷرثدوكسية واﻹسلام معا، لاهوتيا وروحيا، وذلك عند إعادة فتح النقاش حول الصلة بين العنف والديانات التوحيدية(24).
وفي هذا السياق، ينبغي التنبيه -بالنظر إلى المسيحية اﻷرثدوكسية- أنه بينما الخطاب الكنسي الرسمي يتحدث ضد العولمة أو ينادي بالمقاومة، فإنه ﻻ يثير حججا أو معايير ﻻهوتية وإنما ثقافية وقومية، يثير حججا حول الدفاع عن الاستقلال القومي وحول اللغة والهوية وقد أمسيا في خطر. ومع ذلك، فإنه يهمل اﻹشارة إلى العواقب المالية والاجتماعية السلبية للعولمة على الفقير والمهمش. وما يحدث هنا هو القلب التام لمعيار الإنجيل: فالدفاع عن الفقير الذي كان يحظى بالأولوية في تعاليم المسيح(25) يتوارى ويصير يحتل مكانته الدفاعُ عن الهوية القومية والثقافية. والحال أن مثل هذه المفاهيم كانت يعدّ -من لدن يسوع- ذات أهمية لا تعتبر؛ بل كانت تعد أحيانا عوائق أمام مملكة الرب القادمة، مثلما كانت الحركات المندفعة المتحمسة الوطنية الدينية التي شارك فيها يهوذا الذي خان يسوع(26). على أن مقاربة متوازنة لمشكلة العولمة هذه الحاسمة إنما قدمها لنا أسقف تيرانا وسائر ألبانيا أنستاسيوس (يانولاتوس) في كتابه "مواجهة العالم: مقالات مسيحية أرثدوكسية عن الشؤون الكونية"(27). وقد ناقش سعادته التحديات المطروحة على الكونية ومخاطر العولمة باستعمال حجج ومعايير لاهوتية وتوراتية، كما قوم الحوار بين المسيحية الأرثدوكسية والإسلام تقويما بوفق مفاهيم تاريخية ولاهوتية، محاولا بهذا القيام بفهم لاهوتي للمذاهب الإيمانية الأخرى(28).
استدعى تحدي العولمة وواقع مجتمعات التعددية الثقافية، مع تصاهر الساكنة والثقافات والأديان، على وجه السرعة بروز مسألة الغيرية الدينية؛ أي مسألة الصلة مع "الغير"، والتي تجسد "الغير" بلا مدافعة. وإن ظهور وتعزز العديد من أصناف "الغيرية" (القومية والدينية والأيديولوجية والاجتماعية والعمرية، إلخ) في حياة الشعوب والمجتمعات، لتؤدى إلى فقدان فضاء مشترك اجتماعي وديني، وإلى التحول الجذري للمجتمعات التقليدية المغلقة نحو أمر جديد كليا. ولقد أدى التطور الاقتصادي والتكنولوجيا الإعلامية وثورة التواصل والمتغيرات الجيوسياسية السريعة وما ترتب عنها من حركات ديمغرافية، كل هذا أدى إلى مزج جذري بين الشعوب وانصهار ثقافي؛ الشيء الذي تولد عنه مطلب التعايش الديني والحوار بين الثقافات باعتباره صار مطلبا مستعجلا وراهنيا، وذلك في الوقت نفسه الذي نبع عنه بروز خطر التوليف الديني - دائما مع ذلك مطلب النزعة الإنجيلية والتبشير تاركا مفتوحا. ولقد حدث كذلك تحول من الجماعة والحقوق الاجتماعية إلى الحقوق الفردية التي "تؤدلج" تشظي وتشذر الذات وتذررها. وإذا ما نحن استعملنا مصطلحات زيغموند باومان(29)، فإن الحداثة "المائعة" المتدفقة أو "السيالة" إنما صارت تتسم بانتقال من هوية فردية كثيفة معتمة إلى تعدد في الهويات، فصارت المجتمعات الحديثة تطلب أن تكون "مجتمعات مفتوحة"، حيث كل ضرب من ضروب الغيرية ينبغي له أن يتم قبوله واحترامه في سياق المساواة الديمقراطية المؤسسية. وإن مطلب الأدوار المهيمنة أو ذات الأفضلية في المجتمعات ليؤدي إلى أنحاء من سوء الفهم وسوء التقدير، وغالبا ما تقود هذه إلى صراعات عقيمة وغير مجدية.
وعلى الرغم من ذلك فإن التقاليد الدينية الحية مطالبة بأن تستجيب لهذه التحديات استجابة إيجابية، والمسيحية الأرثدوكسية -على وجه الخصوص- مدعوة إلى صياغة لاهوت للغير وللهوية. وهذه تشمل وفق منظور روحي وأخروي، كذلك الغيرية؛ وذلك بوصفها "الغير الذي يصير جزءا وجوديا من هوية الذات"، بحيث "لا تمسي الغيرية تهديدا للوحدة؛ وإنما شرطا لها لا غنى عنه"، وذلك بقدر ما "تكون الغيرية مكونة للوحدة وليست مستتبعة لها"، إذا ما نحن أعملنا معايير جون زيزولاس رئيس أساقفة برغامون(30). فاللجوء إلى النزعة الأصولية والتقليدية، والتنكر للحداثة وللمجتمعات التعددية الثقافية، ورفض الحوار مع "الغير" والنزوع إلى تبني صورة للدعوة المسيحية والتجربة الكنسية قومية الهوى؛ كل هذه الأمور إنما تشكل جميعها جاذبيات ومنزلقات، على الأرثدوكسية وعلى التفكير اللاهوتي المنفتح أن يستبعدها وأن يتجاوزها. وكذلك هو علم الكلام الإسلامي "المتنور" مطالب بمواجهة مثل هذه الانجذابات والإغراءات، وممارسة النقد الذاتي والحوار والقبول بالديمقراطية وبالغيرية وباحترام حقوق الانسان.
- V -
من وجهة نظر أرثدوكسية، أؤمن أن النزعة الأخروية هي مفتاح الإجابة عن المسائل والمشاكل المثارة أعلاه؛ ذلك أن فكرة الأخروية تدخل إلينا الانتظار والأمل، وهما اللذان يرافقان بعد المستقبل ونسيم الروح المتجدد، إنهما العنصران الحاسمان لحياة ولاهوت الكنيسة؛ لكنهما غالبا ما يكونان غائبين اليوم في ممارسة الكنيسة الأرثدوكسية. وبالبدل من ذلك، فإن رياحا عاتية من النزعة المحافظة والأصولية تهب مرة أخرى على حياة الكنيسة وعلى اللاهوت، وذلك بسبب من تحدي العولمة والكسمبوليتية. وبينما تعني الأصولية العودة إلى الماضي وإلى ما قبل الحداثة ومعاكسة مسار التاريخ، فإن الأخروية -من جهة أخرى وبوسمها انتظار نشيطا لمجيء مملكة الرب والعالم الجديد- تقود إلى التزام دينامي اتجاه الحاضر وإلى موقف إيجابي من المستقبل وانفتاح عليه، حيث تكمن حقيقة كمال الكنيسة وهويتها. وبتعابير أخرى، لا ترسم الكنيسة معالم تجسدها بدءا من الماضي أو استنادا إلى الحاضر، وإنما اعتمادا على ما سوف يحدث في المستقبل، في اليوم الآخر، والتي ستعقب رجعة المسيح والعنصرة، فإنها تكون قد بدأت في تنوير التاريخ والحاضر والتأثير فيهما(31). فالكنيسة نهج نحو الآخرة (اليوم الآخر) وليست عودة إلى تقليد، إلى مجتمع أو إلى "إمبراطورية مسيحية" مثالية. وبينما الجراح التاريخية أساسا وفقدان رؤية الكنيسة الأخروية يقودان إلى نزوع نحو العودة إلى الماضي؛ أي نحو رؤية مستلهمة من الرومانسية أو التوتاليتارية أو الأصولية، فإنه ينبغي التشديد على أن هذا انجذابٌ أرثذوكسي مسيحي ثابت دائما، وليس هوية الكنيسة الحقيقية التي تأتي من اليوم الآخر، من مستقبل مملكة الرب.
وهكذا، فإن شرط الكنيسة الأول، بغاية النجاح في الحديث إلى الشخص الحديث - هذه الكنيسة التي تبقى من ذلك مؤمنة بنفسها، قائمة بالدعوة إلى إنجيل المملكة في عالمنا - إنما هو رفض الأصولية رفضا حاسما، وتجاوز الخطاب المتمركز على الإثنية، والتخلي النهائي عن كل حلم بالعودة إلى الأشكال التيوقراطية(32) أو إلى أي صورة أخرى للمجتمع المسيحي" تكون معادية للحداثة ورومانسية؛ ذلك أن التيوقراطية والقومية الجديدة -اللتين ليستا هما شيئا أكثر من أشكال دنيوية للنزعة الأخروية_ لا يمكنهما أن يستمرا في تشكيل مضمون الدعوة الكنسية الأرثدوكسية ورسالتها في العالم المعاصر.
وهذا الأمر برمته لا يمكن تصوره من غير قبول -حتى وإن كان متأخرا- لمنجزات الحداثة الغربية، ودراسة للاهوت جدية، وحوار مع ما بعد الحداثة القادمة(33)- أو التي هي متحققة أصلا، بالنسبة إلى آخرين - بل وحتى مع واقع مجتمع متعدد الثقافات(34). إن التماهي بين الكنيسة وبيزنطة وعهد السيطرة العثمانية -كما مع المجتمعات التقليدية والزراعية- والغياب التاريخي والسائر للحوار مع الحداثة، كل هذه الأمور تشكل مشكلة رعوية ولاهوتية حاسمة تجعل من كل محاولة للتحاور بين الكنيسة الأرثدوكسية والعالم المعولم أمرا مستحيلا؛ وذلك بسبب أن هذه المجتمعات التي تتضمنها - حتى لما تلجأ إلى موقف دفاعي من الصنف الأصولي - لا تصير مفهومة خارج سياق الحداثة. ولئن كان ثمة من أمر يمكن أن نتعلمه من الرؤية الأخروية للكنيسة؛ فإنه يكمن في أن الكنيسة لا تتماهى مع أي فترة من فترات التاريخ، ولا مع أي مجتمع، ولا مع أي شكل من الأشكال المتعينة؛ وذلك بينما لب حقيقتها لا يمكن أن يرتهن أو يقصر على أي من نماذج الماضي للعلاقة بين العالم والكنيسة. ففي هذه العلاقة نجد أن الكنيسة - التي هي "خميرة صغيرة تخمر العجين كله"(رسالة إلى أهل كورنثوس، 5. 6)- إنما تبارك وتزرع نفسها في كل حقبة وفي كل مجتمع، وهكذا توسع هي من متضمنات التجسيد في المكان والزمان وتشهد على عيد عنصرة مستمر تحياه الكنيسة.
- VI -
كانت للقرن العشرين ولأغلب الصراعات والهزات التي وسمته نتائج درامية على مسيحيي الشرق وعلى الإسلام سواء بسواء، وكان أن انسحب ذلك الأثر على مواطنهما التقليدية التي تتقاطع مع الشرق الأوسط والأدنى. فقد شهدت العقود الافتتاحية لهذا القرن على أول إبادة جماعية في التاريخ، الإبادة الجماعية للأرمن (1915- 1916)، وتبعها الإجلاء التام للساكنة اليونانية الأرثدوكسية من آسيا الصغرى (الأناضول) والتي تم اقتلاعها من جذورها وإجلاؤها إلى اليونان (1922 - 1923). لقد تمت التضحية ببيوت الأسلاف القديمة وبآلاف الأعوام من التاريخ والحضارة - سواء بالنسبة إلى الأرمن أو إلى اليونانيين، باعتبارهما جزءا من المخطط غير المعلن عنه لخلق "دولة قومية خالصة إثنيا "، أو من أجل تحصيل منفعة جيوسياسية واقتصادية. كما أن ضحايا أخر لهذا التبرير كانوا يتواجدون في المنطقة الواسعة من آسيا الصغرى (ومن الشرق الأدنى والأوسط)؛ عنيت العرب من النصارى الأرثدوكس (الروم) في منطقة أنطاكية وطوائف الآراميين والسريان والكلدانيين والكلدان السريان. وإن إقامة دولة إسرائيل والعقود الأربعة من احتلال القدس والأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية أدى إلى جلاء الساكنة المسيحية عن الأرض المقدسة (عام 1945 كان عدد المسيحيين الفلسطينيين يعد 20 بالمائة من الساكنة، أما اليوم فلا يتعدى 2 بالمائة)، مثلما أدى إلى تبني الساكنة العربية الإسلامية موقفا راديكاليا. إن عدم حل المشكلة الفلسطينية وظاهرة التطرف الإسلامي التي حدثت مؤخرا، التي تغذي هذا الأمر أيضا لتكمن -إلى حد كبير- في جذور المشكلة اللبنانية وفي تقلص عدد ساكنة لبنان من المسيحيين. والحال أن هذه التصورات الدارمية تنامت فيما بعد بسبب التدخل الأمريكي غير السعيد في العراق، والذي قاد -من بين ما قاد إليه- إلى مزيد من راديكالية وتسيس الإسلام، وإلى الجلاء الأكبر للمسيحيين عن المنطقة(35).
ولهذا السبب، فإن الهجوم على مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر من عام 2001 من جهة، واحتلال العراق وغياب العدالة الفاضح في معالجة المشكلة الفلسطينية والإهانات المتكررة للشعوب والأمم العربية، من جهة أخرى، أدت كلها مجتمعة إلى استفحال الظاهرة وإلى التوترات التي حاولنا -بشكل مختصر- تحليلها أعلاه. وإن علينا الاعتراف بخطر ظلم بعض العناصر الخاصة والحقائق المتعلقة بالمسيحية الأرثدوكسية وبالإسلام، وذلك على الرغم من نوايانا الطيبة. وإنني لمضطر هنا إلى توضيح أنني -وبسبب من ضيق المكان وقصر الوقت- عرضت فحسب للجانب الرسمي أو الغالب على ممارسة التقليدين الروحيين معا، دون أن أنسى أبدا الاستثناءات المميزة التي تحفظ أصالة الإيمان وأصالة الحياة الروحية، بينما لم أحلل بالتفصيل الجانب الاقتصادي للعولمة وآثاره؛ وذلك بسبب أنني أعد نفسي غير مؤهل لذلك بتأهل تام -بوصفي عالم لاهوت- لكي أحاول القيام بمثل هذا التحليل. ومن هنا، علي أن أؤكد على أن الأصولية لا ترتبط بالإسلام وحده، لا ولا تحدي العولمة يهم المسيحية الأرتدوكسية دون غيرها. وكما أشرت إلى ذلك فيما تقدم من ورقتي، فإن الأصولية -بوسمها موقفا وذهنية ونظرة إلى التاريخ وإلى التقدم، وبوصفها محاولة للاحتماء بالماضي ولنكران الحاضر والمستقبل- إنما تهم المسيحية الأرثدوكسية كما تهم المسيحية الغربية (التي هي أصلها)؛ بينما العولمة - هي والتأخر في القبول بالحداثة - تشكل أهم وآلم التحديات المطروحة على الأرثدوكسية وعلى الإسلام سواء بسواء(36).
وفي عالمنا الذي يشهد على العولمة، والذي يتسم بعدم الاستقرار وبعدم اليقين، فإن إقصاء العناصر الدينية من حداثة برمجت على "ألا تكون دينية" قد تأدى إلى ما يسمى ظاهرة "العودة إلى الرب" وإلى بزوغ النزعة الأصولية، مع كل ما يحمله هذا البروز من صراعات قومية ودينية، ومن جدالات محلية، ومن مناقشة. ويود البعض أن يربط ذلك بما أعلنوه من "صدام الحضارات" ومن "حرب الأديان" المتوقعة المنتظرة(37). وإن العالم لفي أشد الحاجة وعاجلها إلى تعايش سلمي وإلى تسامح، وهو الأمر الذي يشترط مسبقا إجراء الحوار بين الثقافات والأديان، كما يشترط تأويلا للنصوص المقدسة يكون تحريرا / روحيا، وليس أصوليا / حرفيا. ففي هذا العالم المتجادل في شأنه و"السيال" ثمة وعي مشترك بتحسين دور الأديان ومعناها، وذلك بالرغم من أن التحسين والتطوير لم تكن له دائما نتائج إيجابية. على أن الأديان تركز -في جوهرها- على القيم الإنسانية، وعلى قيم السلم والأخوة والمحبة. ومع الأسف، فإن العداء الديني والكراهية والتعصب تبرز دائما جنبا إلى جنب مع عدم التسامح ومع الانشقاقات الثقافية والقومية والدينية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الدين أسس نفسه -على نحو غير متوقع- بوصفه القوة الأخلاقية المهمة الوحيدة ضد الاقتصاد العولمي الجموح. وبمعنى آخر، إذا ما نحن تبنينا فكر الناشط وعالم السياسة الأمريكي ر. فالك، فإن الدين يسهم في إقامة رؤية للعولمة إنسانية في مقابل العولمة الاقتصادية(38)، مذكرا إيانا جميعا بأن رسالة الدين الأساسية إنما هي استقبال الأغيار الذين يكونون مخالفين لنا واستضافتهم، بما أنهم خلقوا على صورة الرب الواحد الأحد. وفضلا عن هذا، فإن المؤمنين مدعوون إلى الوقوف إلى جانب ضحايا التاريخ، وإلى العمل على شفاء الجراح التي تسبب في إحداثها العنف التاريخي، والعمل على إشاعة الصفح والعفو والغفران والمصالحة. وفق هذا المنظور يحتل الحوار أهمية إضافية، لا سيما الحوار بين الأديان والثقافات.
واليوم قبل أي وقت آخر، صرنا ندرك بأنه ليس بمكنتنا أن نتحدث عن الثقافة بمعزل عن الدين، وأن نتكلم بمناى عن "حوار الثقافات" عن "حوار الأديان". من المؤكد أن التحقق من هذا الأمر ودركه ذو صلة بالوشيجة التي قامت منذ القدم بين الدين والثقافة، والتي بقيت قائمة سليمة إلى عصر النهضة والتنوير؛ لكنه ذو صلة أيضا بالظاهرة المسماة "عودة الدين"، والتي ليست تعني دوما، مع ذلك، العودة والقبول بالرب الحي - رب آبائنا: إبراهيم وإسحاق ويعقوب - في حياتنا وفي أرواحنا. ينبغي أن نكون في موقف يسمح لنا بالتمييز بين التجربة الدينية الأصيلة الحقة واستعمال الدين أداة لأغراض أخرى (قومية، اجتماعية، ثقافية، تشكيل الهوية، إلخ). ولهذا الباعث، فإن العديد من الناس يتحدثون اليوم عن "الحوار بين مؤمني مختلف الأديان" أكثرمن حديثهم عن "حوار الأديان". وإن هذا الضرب من الحوار ليتسم بالتفاهم [الفهم المتبادل] وبتبادل وجهات النظر والتجارب والعطايا الروحية، وما كان هو أبدا عملية أكاديمية شكلية لا تنظر إلا إلى أوجه الائتلاف وأوجه الاختلاف بين الأديان. وإن علماء اللاهوت الأرثدوكس الشرقيين من أولئك الذين يدعمون (على أساس اقتصاد الروح القدس(39)) الحوار الديني الداخلي، ليلحون على أن الاحترام المتبادل، وعلى أن بناء علاقات الثقة، وعلى أن التفاهم والمحبة، إنما هي أمور تقود لا إلى النزعة التوليفية التلفيقية، لا ولا إلى توحيد الاختلافات حد التنميط، ذلك أنه ليس الغرض من الحوار بين أنحاء الإيمان توليف دين عالمي؛ وإنما يمثل ذلك جهدا لنشر روح التعاون بغاية الوصول إلى إدارة الوحدة في عالم يعج بالانقسامات وبالخلافات وبالصراعات(40).
إننا لفي أمس الحاجة إلى مزيد من الحوار الموسع بين التقاليد الدينية، وذلك بما أنه تمت البرهنة تاريخيا -في الماضي وفي الآونة الأخيرة- على أن الأديان أسهمت في انفجار العالم، وتميزت بالجدالات وبإقصاء بعضها بعضا وبالصراعات وبالحروب الشاملة، ولهذا السبب أنت تجد عالم اللاهوت السويسري الشهير هانس كونج يلحظ أن العيش في العالم غير ممكن من غير إفشاء السلام بين الأديان و"لا سلام ممكن بين الأديان من غير حوار فيما بينها"(41). وفي الجملة، ليس ثمة من تطلع أودع وأنبل لدى المسيحيين، أو لدى مؤمني الأديان الأخرى، من النظر قدما إلى عالم لا تشكل فيه الأديان عاملا إضافيا للانشقاق والفرقة والتشرذم والصراع؛ وإنما تكون فيه مصدر غفران وسماحة وسلام، وطريق إبراء الذاكرة وإشفائها وتحقيق التصالح(42).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) من أجل تحليل هذه الظاهرة يرجى النظر في:
G. Kepel, Jihad: the trail of political Islam, translated by A. F. Roberts, Cambridge, Massachusetts: Belknap Press of Harvard University Press, 2002; idem, The war for Muslim minds: Islam and the West, translated by P. Ghazaleh, Cambridge, Massachusetts: Belknap Press of Harvard University Press, 2004. Cf. also, A. Lamchichi, Jih�d: un concept polys�mique et autres essais, Paris: L’Harmattan, 2006.
2) انظر مثلا:
S. Bruce, The Rise and Fall of the New Christian Right: Conservative Protestant Politics in America, 1978-1988, Oxford-New York, 1990; I. Kristol, Neoconservatism: The Autobiography of an Idea, Chicago: Elephant Paperbacks, 1995; M. Cromartie (ed.), Disciples and Democracy: Religious Conservatives and the Future of American Politics, Grand Rapids: Eerdmans, 1995.
3) لإلقاء نظرة مجملة على هذه المسائل ينظر:
Z. Baumann, Globalization. The Human Consequences, Cambridge: Polity Press, 1998; U. Beck, What is Globalization? Cambridge: Polity Press, 2000; A. Giddens, Runaway World: How Globalization is Reshaping Our Lives, New York: Routledge, 2003.
4) A. Giddens, Runaway World, pp. 48-50.
5) Martin E. Marty and R. Scott Appleby, The Fundamentalism Project, vol. 1: Fundamentalisms Observed, Chicago-London: University of Chicago Press, 1991.
6) A. Giddens, Runaway World, p. 49.
7) Cf. J. Moltmann, “Fundamentalism and Modernity”, in: H. K�ng-J. Moltmann, Fundamentalism as an Ecumenical Challenge, Concilium journal Special issue, London: SCM Press, 1992, pp. 99-105.
8) انظر مثلا:
G. Kepel, The Revenge of God: The Resurgence of Islam, Christianity and Judaism in the Modern World, Cambridge, Polity Press, 1994.
9) حول هذه المسألة يرجى النظر في:
St. Zoumboulakis, “God Returns to Europe? An Essay on the Religious Possibility of Godless Religion,” God in the City: Essays on Religion and Politics, Athens: Hestia, 2002, pp. 11-47 [in Greek].
10) Ang. Ziaka, “Conflict within Islam. The Dynamic of Shi‘a Islam in the Middle East,” F. Tsimbiridou and D. Stamatopoulos (eds.), Orientalism in the limits. From the Ottoman Balkans to the Contemporary Middle East, Athens: Kritiki, 2008, 327-364
11) G. Kepel, Jihad: the trail of political Islam, op. cit., especially part I: Expansion, pp. 23-202. For a consideration of political Islam in the aftermath of September 11, 2001, see among others, the study by J. L. Esposito and N. J. De Long-Bas, “Modern Islam,” in the volume: J. Neusner (ed.), God's Rule. The Politics of World Religions, Washington: Georgetown University Press, 2003, pp. 131-158. For Orthodoxy, see the study by P. Vassiliadis, “Orthodox Christianity,” in the same volume, pp. 85-106.
12) انظر حول الإسلام:
. Roy, Globalised Islam: The Search for a New Ummah, London: Hurst & Company, 2004.
وحول الأرثدوكسية:
P. Kalaitzidis-N. Ntontos (eds), Islam & Fundamentalism-Orthodox Christianity and Globalization, Athens: Indiktos Publications, 2004 [in Greek].
13) G. M. Marsden, Understanding Fundamentalism and Evangelicalism, Grand Rapids, Michigan: Eerdmans, 1991; M. Volf, “The Challenge of Protestant Fundamentalism,” in: H. K�ng-J. Moltmann, Fundamentalism as an Ecumenical Challenge, op. cit., pp. 89-98.
14) أحيل هنا القراء المهتمين على مزيد من الدراسات ذات التحليلات العميقة:
Lamchichi, Islam, islamisme et modernit�, Paris: L'Harmattan, 1994; A. S. Ahmed-D. Hastings (ed.), Islam, Globalization and Postmodernity, London-New York: Routledge, 1994; M. Alam Choudhury, Reforming the Muslim World, London-New York, Kegan Paul International, 1998; T. Ali, Clash of Fundamentalisms: Crusades, Jihad and Modernity. London: Verso, 2002; M. Berhil, Les jeunes en France entre Islam et modernit�, Paris: Publibook, 2003; J. Cesari, L’islam � l’�preuve de l’Occident, Paris: La D�couverte, 2004 ; R. Benzine, Les nouveaux penseurs de l’islam, Paris: Albin Michel, 2004 ; T. Ramadan, Western Muslims and the Future of Islam, Oxford University Press, 2004; M. Chebel, Manifeste pour un islam des Lumi�res. 27 propositions pour r�former l’islam, Paris: Hachette, 2004; A. Filali-Ansary, R�former l’islam? Une introduction aux d�bats contemporains, Paris: La D�couverte, 2005 ; A. Durand, L’islam au risque de la la�cit�: �mergences et ruptures, Paris: L’Harmattan, 2005. Cf. also, M. Haddad, “Islam and Democracy, Islam and Modernity,” paper presented at the Volos Academy for Theological Studies 2006-07 series of public lectures on: “Orthodox Christianity and Islam-Islam in Europe” (under publication in the volume of the proceedings). For a critical approach of Islam, especially of muslim fundamentalism, see: A. Meddeb, La maladie de l’islam, Paris: Seuil, 2002 ; cf. idem, Contre-pr�ches. Chroniques, Paris: Seuil, 2006.
15) من بين بعض الدراسات المتوفرة من وجهة نظر أرثدوكسية حول الموضوع، أشير بالخصوص إلى:
P. Kalaitzidis, Orthodoxy and Modernity. An Introduction, transl. by Elizabeth Theokritoff, Crestwood, New York: St Vladimir’s Seminary Press (under publication); P. Kalaitzidis-N. Ntontos (eds), Orthodoxy and Modernity, Volos Academy winter program 2001-02, Athens: Indiktos, 2007 [in Greek]; As. El. Kattan-F. Georgi, (eds.), Thinking Modernity. Towards a Reconfiguration of the Relationship Between Orthodox Theology and Modern Culture, Tripoli, Lebanon-M�nster, St John of Damascus Institute of Theology, University of Balamand-Center for Religious Studies, University of M�nster, 2010; As. El. Kattan, “La th�ologie orthodoxe interpel�e par l’herm�neutique moderne,” Contacts, n� 234, 2011, 180-196. See also, P. Vassiliadis, Postmodernity and the Church: The Challenge for Orthodoxy, Athens: Akritas, 2002 [in Greek]; G. N. Nahas, “Th�ologie orthodoxe et modernit�”, Contacts, n� 234, 2011, 154-167.
16) انظر على وجه الخصوص في ما يتعلق بهذه المسألة الأخيرة:
P. Kalaitzidis, “Ist das orthodoxe Christentum in der Vormoderne stehengeblieben? Das Bed�rfnis nach einer neuen Inkarnation des Wortes und das eschatologische Verst�ndnis der Tradition und des Verh�ltnisses zwischen Kirche und Welt,” in: Fl. Uhl-S. Melchardt-Ar. R. Boelderl (Hg.), Die Tradition einer Zukunft: Perspektiven der Religionsphilosophie, Berlin, Parerga V., 2011, 141-176.
17) Tariq Ali, Clash of Fundamentalisms.Crusades, Jihads and Modernity, Verso, London,2002, 155f [in the Greek edition]; D. Stamatopoulos, “Islamism and Nationalism,” paper presented at the Volos Academy for Theological Studies 2006-07 series of public lectures on: “Orthodox Christianity and Islam-Islam in Europe” (under publication in the volume of proceedings); G. Karabelias, Islam and Globalization: The Deadly Tug of War, Athens: Enallaktikes Ekdoseis, 2001 [in Greek]. G. Karabelias, in fact, in his introduction to the collective work: The East-West Conflict and the Huntington Challenge (with texts by S. Huntington, W. McNeil, T. Stoforopoulos, K. Zouraris, and C. Yannaras), third edition, Athens: Enallaktikes Ekdoseis, 2001 [in Greek], argues that the Islamic attack on the twin towers of New York—as well as, of course, the mass movements that developed in the Western world, culminating in Genoa in July 2001—are voices of protest and opposition to the process of globalization.
18) في ما يتعلق بهذه القضايا، أستسمح القارئ في الإحالة إلى دراساتي:
“The Temptation of Judas: Church and National Identities”, The Greek Orthodox Theological Review, 47 (2002), pp. 357-379; “Orthodoxy and Modern Greek Identity: Reflections from the Standpoint of Theology,” Indiktos, Issue 17, 2003, pp. 44-94 [in Greek]; “Orthodoxy and Modern Greek Identity. Theological Approach to the Issue of Continuity”, A Lecture addressed to the Program in Hellenic Studies of Princeton University, Princeton, New Jersey, January 14, 2009; “Greek Religious Nationalism Facing the Challenges of Evangelization, Forgiveness, and Reconciliation,” paper presented at the consultation: Orthodox Peace Ethics in Eastern and Oriental Christianity, organized by the Institute for Theology and Peace, in collaboration with the Romanian Patriarchate, the WCC/DOV, the Institute for Peace Studies in Eastern Christianity and the Boston Theological Institute, Bucharest, Romania, June 29-July 2, 2009 (in collaboration with N. Asproulis; see Chapter six in this volume); “La relation de l’Eglise � la culture et la dialectique de l’eschatologie et de l’histoire,” Istina, 55 (2010), pp. 7-25; “Orthodoxy and Hellenism in Contemporary Greece,” St Vladimir’s Theological Quarterly, 54 (2010), pp. 365-420.
19) للمزيد من التعرف على هذه الفكرة يرجى النظر في ورقتي:
“Christian Identity, National Identity, and the Claims of Territorial Exclusiveness. An Essay on Christian Delocalization,” presented at the International Conference on “Forgiveness, Reconciliation and Peace,” organized by the Volos Academy for Theological Studies, the Boston Theological Institute, and the World Council of Churches/Decade for Overcoming Violence, Volos, Greece, May 19, 2007 (under publication).
20) للمزيد، يرجى النظر في:
P. Kalaitzidis-N. Asproulis, “Greek Religious Nationalism Facing the Challenges of Evangelization, Forgiveness, and Reconciliation,” op. cit. On the connection between religion, ethnicity, national identity and the idea of a “chosen people,” and its impact on the issues of violence and fundamentalism, see C. Cr. O’Brien, God Land. Reflections on Religion and Nationalism, Cambridge, Massachusetts-London, Harvard University Press, 1988; M. E. Marty-R. Sc. Appleby (eds), Religion, Ethnicity, and Self-Identity. Nations in Turmoil, Hanover-London: University Press of New England, 1997; Th. Meyer, Identity Mania. Fundamentalism and Politicization of Cultural Differences, London-New York: Zed Books, 1997; R. Scott Appleby, The Ambivalence of the Sacred. Religion, Violence, and Reconciliation, Lanham, Maryland: Rowman & Littlefield, 2000; A. D. Smith, Chosen Peoples. Sacred Sources of National Identity, Oxford University Press, 2003.
21) R. Debray, Dieu, un itin�raire. Mat�riaux pour l’histoire de l’Eternel en Occident, Paris: Odile Jacob Poches, 2003, pp. 147 ff. See ibidem, pp. 139-142.
22) انظر مثلا:
See for example St Gregory of Nyssa, Letter 2: On Pilgrimages to Jerusalem, PG 46, 1009C, 1012D, 1015C-1016A. English translation by William Moore and Henry Austin Wilson, Nicene and Post-Nicene Fathers, Second Series, Vol. 5, ed. Philip Schaff and Henry Wace, Edinburgh: T&T Clark, 1892, pp. 42-43.
23) Alexander Schmemann, For the Life of the World, Crestwood, NY: St Vladimir’s Seminary Press, 2002, p. 20. Cf. idem, Introduction to Liturgical Theology, trans. by Asheleigh E. Moorehouse, Crestwood, NY: St Vladimir’s Seminary Press, 2003, p. 116.
24) انظر في ما يخص الصلة بين العنف والتوحيد:
R. Schwartz, The Curse of Cain: The Violent Legacy of Monotheism, Chicago: University of Chicago Press, 1997; K. Armstrong, The Battle for God: Fundamentalism in Judaism, Christianity and Islam, Harper Collins, 2000; St. Zoumboulakis, “God Returns to Europe?”, op. cit., especially pp. 27-30, 45ff. Ren� Girard, in his work I See Satan Fall Like Lightning, trans. J. G. Williams, Maryknoll, NY: Orbis, 2001, reads the Gospels as a reply to ancient religious violence.
25) See “Truly, I say to you, as you did it to one of the least of these my brethren, you did it to me,” Mt. 25:40. See also N. Berdyaev’s aphorism: “The question of bread for myself is a material question, but the question of bread for my neighbours, for everybody, is a spiritual and a religious question.” (The Origin of Russian Communism. Translated from the Russian by R. M. French. Ann Arbor, MI: The University of Michigan Press, 1960, p. 185. Cf. idem, The Destiny of Man, Translated by Natalie Duddington, San Rafael, CA: Semantron Press, 2009 (Greek translation by Evtychia B. Gioultsis, Thessaloniki: Pournaras, 1980, p. 135).
26) للمزيد من هذا التحيل الموسع مع دفاعي عنه يرجى النظر في:
P. Kalaitzidis, “The Temptation of Judas: Church and National Identities,” op. cit., especially pp. 355-362.
27) Archbishop Anastasios (Yannoulatos), Facing the World. Orthodox Christian Essays on Global Concerns. Translated by Pavlos Gottfried, Geneva-Crestwood, NY: WCC Publications-St Vladimir’s Seminary Press, 2003.
28) See Archbishop Anastasios (Yannoulatos), Facing the World, op. cit., pp. 103-126 and 127-153, respectively. On the dialogue between Orthodoxy and Islam, see also J. Meyendorff, “Byzantine Views on Islam,” Dumbarton Oaks Papers, 18 (1964) 115-132; A. Th. Khoury, Les th�ologiens byzantins et l’Islam. Textes et auteurs (VIIIe-XIIIe s.), Louvain-Paris, 1969; G. Khodr, “Pour un dialogue avec l’Islam,” Contacts, n� 66, 1969, 159-169; idem, “La nature de l’Islam”, Service Orthodoxe de Presse (SOP), n� 320, juillet-ao�t 2007; D. Sahas, “Captivity and Dialogue: Gregory Palamas (1296-1360) and the Muslims,” The Greek Orthodox Theological Review, 25 (1980), pp. 409-436; idem, “Gregory Palamas (1296-1360) on Islam,” The Muslim World, 73 (1983), pp. 1-21; M. Talbi-Ol. Cl�ment, Un respect t�tu, Paris: Nouvelle Cit�, 1989; N. M. Vaporis (ed.), Orthodox Christians and Muslims, Brookline, Massachusetts: Holy Cross Orthodox Press, 1986; A. Kariotoglou, Orthodoxy and Islam, Athens, 1994 [in Greek]; Gr. Ziakas, “The Ecumenical Patriarchate of Constantinople and the Dialogue with Islam,” in: Phanari: 400 Chronia, Istanbul: Ecumenical Patriarchate, 2001, pp. 575-725 [in Greek]; P. Kalaitzidis-N. Ntontos (eds), Islam & Fundamentalism-Orthodox Christianity and Globalization, Athens: Indiktos Publications, 2004 [in Greek]; Ant. Arjakovsky, “Orthodox Christianity, Islam, and Fundamentalisms: Before A General Catastrophe”, Church, Culture, and Identity: Reflections on Orthodoxy in the Modern World, Lviv: Ukranian Catholic University Press, 2007, pp. 220-231; G. Massouh, “Le dialogue theologique entre chretiens et musulmans en Orient,” Contacts, n� 234, 2011, 168-179; A. M. Sharp, Eastern Orthodox Theological and Ecclesiological Thought on Islam and Christian-Muslim Relations in the Contemporary World (1975-2008), PhD dissertation, University of Birmingham, Department of Theology and Religion, February 2010. Ang. Ziaka, � Le dialogue Interreligieux dans la r�alit� grecque," in Jean marc Aveline (dir.), Guy-Real Thivierge (pr�face), Sur le chemin de l'autre, Eduquer au dialogue interreligieux en M�diterran�e, Contribution d'universit�s catholiques, Marseille: Chemins de Dialogue, 2010, 57-80. Idem, “Interreligious dialogue in promoting peace and overcoming religious conflicts,” in E. Eynikel, A. Ziaka [et al] (eds.), Religion and Conflict. Essais on the Origins of Religious Conflicts and Resolution Approaches, Harptree Publishing: London, 2010, 251-290.
29) Cf. Z. Bauman, Liquid Modernity, Cambridge-Malden, Massachusetts: Polity Press-Blackwell, 2000; idem, Liquid Times: Living in an Age of Uncertainty, Cambridge: Polity Press, 2007.
30) Metropolitan of Pergamon John (Zizioulas), “Communion and Otherness,” St Vladimir’s Theological Quarterly, 38 (1994), pp. 10, 9. See also the recent work by Metropolitan John of Pergamon, Communion and Otherness. Further Studies in Personhood and the Church, London-New York: T&T Clark, 2006. For one of the few Orthodox contributions to a theology of otherness, see E. Clapsis, “The Orthodox Church in a Pluralistic World,” Orthodoxy in Conversation: Orthodox Ecumenical Engagements, Geneva-Brookline, Massachusetts: WCC Publications-Holy Cross Orthodox Press, 2000, pp. 127-150. Cf. also, L. Kamperidis, “The Pluriformity of Orthodoxy in a Univocal World: Philosophical, Theological and Historical Approaches to the Issue of Otherness,” Indiktos journal, issue 21, 2006, pp. 47-62 [in Greek]; St. Yangazoglou, “Person and Otherness. An Essay Toward a Theology of therness,” Indiktos journal, issue 21, 2006, pp. 87-125 [in Greek].
31) من أجل الاطلاع على مناقشة هذه الفكرة من لدن الأرثدوكس، يرجى النظر إلى المؤلف الجامع:
P. Kalaitzidis (ed.), The Church and Eschatology, Volos Academy Winter Program 2000-01, Kastaniotis, Athens, 2003 [in Greek; English translation forthcoming].
32) Cf. O. Pl�ger, Theocracy and Eschatology, trans. S. Rudman, Oxford: asil Blackwell, 1968.
33) See P. Vassiliadis, Postmodernity and the Church: The Challenge for Orthodoxy. Athens: Akritas, 2002 [in Greek].
34) On this, see issue 16 (2000) of the Greek theological journal Kath’ Odon dedicated to multiculturalism [in Greek]. See also, P. Kalaitzidis-N. Asproulis (eds), Orthodoxy and Multiculturalism, Volos Academy for Theological Studies, winter program 2003-2004, Athens: Indiktos Publications [in Greek, forthcoming].
35) بالنسبة إلى وضع المسيحيين في الأرض المقدسة والشرق الأوسط، يرجى الاطلاع من بين ما يطلع عليه على:
R. Debray, Un candide en terre sainte, Paris: Gallimard, 2008. See also, Cl. Lorieux, Chr�tiens d’Orient en terres d’Islam, Paris: Perrin, 2001 ; Cath. Dupeyron, Chr�tiens en terre sainte. Disparition ou mutation ?, Paris: Albin Michel, 2007 ; Ant. Sfeir (ed.), Chr�tiens d’Orient. Et s’ils disparaissaient?, Montrouge: Bayard, 2009 ; S. de Courtois, Le nouveau d�fi des chr�tiens d’Orient. D’Istanbul � Bagdad, Paris: Jean-Claude Latt�s, 2009 ; J.-M. Cadiot, Les Chr�tiens d’Orient. Vitalit�, souffrances, avenir, Paris: Salavator, 2010. Cf. on the same issue the well documented journals: Confluences/M�diterran�e (: “Chr�tiens d’Orient”), nr 66, �t� 2008 ; Les Cahiers de l’Orient (: “Chr�tiens d’Orient, Quel avenir ?”), nr 93, hiver 2009.
36) See the collected volume: P. Kalaitzidis-N. Ntontos (eds), Islam and Fundamentalism, Orthodox Christianity and Globalization, Volos Academy for Theological Studies, Athens: Indiktos Publications, 2004 [in Greek]. Especially on the issue of Orthodox fundamentalism see, J. W. Morris, Orthodox Fundamentalists: A Critical View, Minneapolis, Minnesota: Light and Life Publ. (without year of publication); C. Yannaras, “The Challenge of Orthodox Traditionalism,” in: H. K�ng-J. Moltmann, Fundamentalism as an Ecumenical Challenge, op. cit., pp. 73-79; Seraphim, Bishop of Ottawa and Canada. “Orthodox Fundamentalism,” The Orthodox Church, 39, n. 5/6 (2003).
37) Cf. S. Huntington, “The Clash of Civilizations,” Foreign Affairs, vol. 72, no 3, Summer 1993, pp. 22-49; idem, The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order,New York: Simon & Schuster, 1996. For a critique of this type of approach, see, among others, Tz. Todorov, La peur des barbares: Au-del� du choc des civilisations, Paris: Robert Laffont, 2009. R. Falk, “Religion and Globalization,” in: Em Clapsis, The Orthodox Churches in a Pluralistic Word. An Ecumenical Conversation, Geneva-Brookline, Massachusetts: WCC Publications-Holy Cross Orthodox Press, 2004, pp. 67-76.
38) Cf. Georges Khodr (Metropolitan of Mount Lebanon), “Christianity in a Pluralistic World. The Economy of the Holy Spirit”, The Ecumenical Review, 23 (1971), pp. 118-128; reprint in: Constantin G. Patelos (ed.), The Orthodox Church and the Ecumenical Movement. Documents and Statements (1902-1975), Geneva: WCC Publications, 1978, pp. 297-307; Em. Clapsis, “Toward a Theology of Religions,” paper presented at the International Conference: “Neo-Patristic Synthesis or Post-Patristic Theology: Can Orthodox Theology Be Contextual?”, organized by the Volos Academy for Theological Studies, in collaboration with the Orthodox Christian Studies Program of Fordham University, the Chair of Orthodox Theology of M�nster University, and the Romanian Institute for Inter-Orthodox, Inter-Confessional, Inter-Religious Studies (INTER-Cluj-Napoca), Volos, Greece, June 3-6, 2010 (under publication in the volume of proceedings). Cf also, J. Karmiris, “The Universality of the Salavation in Christ”, Theologia, 51 (1980), pp. 645-691, 52 (1981), pp. 14-45 [in Greek].
39) See P. Vassiliadis, “The Theological Frame of Inter-Religious Dialogue,” paper presented at the Volos Academy for Theological Studies 2006-07 series of public lectures on: “Orthodox Christianity and Islam-Islam in Europe” (under publication in the volume of the proceedings) [in Greek].
40) أورده:
Quoted in P. Vassiliadis, op. cit. Cf. also Ang. Ziaka, “Interreligious dialogue in promoting peace and overcoming religious conflicts,” op.cit., p. 251.
41) من أجل إسهام أرثدوكسي شرقيةفي هذه المسائل انظر السلسلة الصادرة مؤخرا:
Eleni Kasselouri-Hatzivassiliadi (ed.), And on Earth Peace...: Vision and Demand for Societies and Churches Today-An Orthodox Contribution, Volos Academy for Theological Studies, Athens: Indiktos Publications, 2010 [in Greek with English Abstracts]. Regarding the intra-Orthodox discussion about just war, see the issue of St Vladimir’s Theological Quarterly: “Justifiable War?”, vol. 47, issue 1, 2003.