الدين: نشأتُه، ماهيّتُه، أدوارُه ووظائفُه

برّاق زكريا

توطئة: 

اختلف علماء الاجتماع في تحديد النُّظم الاجتماعية القائمة في المجتمعات البشرية، فمنهم من يرى -كالأستاذ سمنر(simner) أبي علم الاجتماع في الولايات المتحدة- أنّ أهمّها أربعة: الأُسرة، ونظام الملكية، والدين، والسياسة. ومنهم من قال: إن أبرزها خمسة هي: الأربعةُ السابقة مُضافاً إليها التربية. وحدّدها دوركهايم بستّة: الدين، والأخلاق، والقانون، والاقتصاد، واللغة، والفنّ الجمالي. وقد بَنَوا تحديداتِهم تلك إمّا على أُسسٍ حيوية جسمية، وإمّا على أُسـس نفسيةٍ داخلية. على أنه ليس من شأننا هنا أن نَعرِض للنُّقود التي وُجّهتْ إلى هذه النظريات, وأنها تحديداتٌ شخصية غيرُ موضوعية، وخلطتْ ما هو اجتماعيٌّ بعواملَ نفسيةٍ وبيولوجية وحيوية؛ وإنما موضوع كلامنا هنا هو النظام الديني فحسب. وفي هذا السياق، يذهب دوركهايم إلى أن النُّظم الاجتماعية ذاتُ أصل ديني، معتبراً أنّ الدين يتضمّن نشأة أو ميلاد كل نظامٍ اجتماعي، بمعنى أن النُّظم الاجتماعية نشأتْ أو انبعثت في أحضان الدين. ولذا فإنه توصل في النتيجة إلى أنه في رُوح الدين يكمُن رُوح المجتمع، وكل ما هو اجتماعي فهو دينيُّ الأصل، وهذا ما ذهب إليه أستاذه فوستل دي كولانج؛ لكنْ يُؤخذ على دوركهايم أنه يبالغ في الربط بين الدين والمجتمع إلى درجة أنه يعتبر اللهَ والمجتمعَ شيئاً واحداً(1).

ويرى العديد من الباحثين أنّ الدين عند الجماعات المتأخّرة هو البذرةُ والنواةُ التي منها خرجت سائر النُّظم الاجتماعية؛ بل هو المحورُ الذي تدور حوله؛ فالفنون الجمالية على أنواعها إنما تُقدَّم إرضاءً للآلهة. ولمّا كانت الحياة الاقتصادية إنما ترمي إلى إشباع حاجات الإنسان الضرورية، ولما كان الإنسان في إشباعِه حاجاته يتأثّر التأثُّر كُلَّه بالدين؛ فلا يأكل ولا يشرب إلاّ ما أباحه له وفي أوقاتٍ مخصوصة؛ فقد كان النظام الاقتصادي على علاقة وثيقة بالنظام الديني. ومثلُ ذلك سائر النظم الاجتماعية، ويسمّي علماء الاجتماع هذا الارتباط أو التداخل بـِ"الارتباط الوظيفي" (Functionnel Interconnection)(2). وبِداعٍ من هذا الارتباط بين الدين من جهة، وبين الاقتصاد والسياسة والأسرة وغيرها من النُّظم الاجتماعية من جهة أخرى؛ يرى العديد من الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع أنّ الدين هو أهمُّ الظواهر الاجتماعية طُرّاً، وأنها منه تفرّعت جميعُها، ويُدلّل هؤلاء لذلك بالطقس الديني المعروف عند زنوج أستراليا باسم "الأنتشيوما" وهو عبارة عن "احتفال ديني له أغراض اجتماعية مختلفة، منها الغرض العائلي، وهو تقويةُ ترابُطهم عن طريق أكل لحم الحيوان المفترس الذي يعبدونه في هذه المناسبة، فيشعرون بأنهم كتلةٌ واحدة في محاربة أعدائهم، وله غرض اقتصادي وهو إكثار النسل والخير المادّي. كما يرى بعض الدارسين أنه من القصص والأساطير الدينية خرجت فيما بعدُ الآدابُ والفلسفاتُ والعلوم، ومن الاحتفالات الدينية بمظاهرها البرّاقة خرجت الفنون الجميلة، كالرسم والتصوير والحَفْر والعمارة.. إلخ. كما أن كثيرا من الأوامر والقواعد الدينية خرجت أصول الأخلاق والقوانين الوضعية بعد ذلك(3).

بَـيْـدَ أنّ بعض الباحثين -ومنهم لوبوك (Lubbock) في كتابه مصادر الحضارة- يُقلّلون من شأن الدين، ويذهبون إلى أنه قد كان ثمّة جماعةٌ إنسانية أُولى انعدم فيها كلُّ أثر ديني؛ ولكنّ جميع ما قدّمه هؤلاء من شواهدَ وبراهينَ على دعواهُم هذه قد ردّها الدارسون؛ بل الطريف أنّ أوغست كونت وجيوفان أند (Van end) ذهبا إلى القول بوجود جراثيم الشعور الديني لدى الحيوانات؛ إذ إن بعض الحيوانات حين تُحسّ بالموت، أو حينما تشعر بِهُبوبٍ جارفٍ أو نكبةٍ كونية، يَشيع فيها نزعةٌ دينية غريبة. إلاّ أنّ عِلم النفس الحديث لم يقبل هذه التفسيرات، مؤكداً أنّ الدين فِعل إنساني بحت. كما ذهب هيغل إلى أن الإنسان وحده هو الذي اختُصّ بأن يكون له دين، وأما الحيوانات فإنها تفتقر إلى الدين بقدر افتقارها إلى القانون والأخلاق؛ فالتديُّن عنصر أساس في تكوين الإنسان، "والحِسُّ الديني إنما يكمن في أعماق كل قلب بشري، بل هو يدخل في صميم ماهية الإنسان، مثلُه في ذلك مثلُ العقل سواءٌ بسواء"(4). على أن الحِسّ الديني، وإن كان عنصراً أساسا في تكوين الإنسان وموجوداً لدى جميع الناس بدرجاتٍ متفاوتة؛ فإنه قد يكون مَـرِيناً عليه أو مطموراً عند من يحاول أن يحجُبه أو أن يحُول دُون ظُهوره، بل رُبّما يجحد وُجوده(5).

كما دحضت الأبحاث الاجتماعية الحديثة بعض التصوُّرات الفلسفية التي ذهب إليها بعض المفكرين، وبخاصةٍ ما نادى به جون جاك روسّو من أنّ الأقوام المتأخرين لا دين لهم، متأثّراً في ذلك بحالة الفطرة التي افترضها هو افتراضاً، ومعتبراً أن الإنسان يعيش فيها معيشة الحيوان ويسعى وراء إشباع غرائزه. وما هذه التصوُّرات التي يذهب إليها رُوسّو ومَنْ لَفّ لَفَّهُ إلاّ شطحاتٌ نظرية بعيدة من الواقع كما أثبتت الدراسات الاجتماعية الحديثة، مثل أبحاث دوركهايم وليفي بريل وغيرهما.. والتي أقامت البرهان على أن الدين قائم في المجتمعات المتأخرة، وهو أعظمُ الظواهر الاجتماعية كلِّها؛ لأنه يؤثّر فيها ويُلوّنها بلونه، بل إن العقلية المتأخّرة غارقةٌ في الاتجاه الديني؛ إذ إنّ "الدين مظهرٌ مهم من مظاهر الاجتماع، وبحُكم أنه ظاهرة اجتماعية فهو شيء لا يخلو منه مجتمع إنساني؛ لأنه من ضروريات الفطرة الاجتماعية"(6). كما أن أبحاث هؤلاء العلماء تخالف كذلك أوغست كونت، مؤسّس المذهب الوضعي في اعتباره -وذلك في نظرية الأطوار الثلاثة- أن الدين هو المظهر الأول الذي صبغ عقلية الإنسان في أول عهودها(7).

أولاً: الدين: في النشأة والتعريف

1- في النشأة: بدأت الدراسات الاجتماعية تبحث في أصل الدين وتحديد نشأته منذ نهاية القرن الثامن عشر، فظهرت نظرياتٌ عدّة في هذا الشأن؛ فمن الفلاسفة وعلماء الاجتماع من نَحَا نَحْواً إلحاديّاً في تفسير الدين إذ قال بإنسانيّته؛ أي أن الإنسان هو الذي صَنع الدين لغاياتٍ ومآربَ خاصة؛ بينما حاول آخرون أن يجدوا في أساس البشرية الأُولى اعتقاداً كامناً فطريّاً ينقدح في نفس البدائي عن فكرة الإله السامي. فالدين برأي هؤلاء بدَهيةٌ أولية في فجر الإنسانية؛ إذ إن الإنسان مجبُولٌ على الحاجة إلى أن يؤمن ويُقدِّس... فالإيمان مَركُوزٌ في طبعه وفي فطرته. ويسُوق علماء الاجتماع مجموعةً من الدوافع والبواعث التي يعُدُّونها أدلّةً على كون التديُّن فطرةً في نفس الإنسان، مثل: التطلُّع إلى الغيب، والعجز أو الشعور بالنقص والخوف، والتأمُّل في المُبدَعات الكونية(8). يقول الإمام محمد عبده عن الشعور الديني: "هذا الشعور العام بحياةٍ بعد هذه الحياة، المُنبثُّ في جميع الأنفس، عالِمها وجاهلِها، وَحْشِـيِّها ومُستأنسِها، بادِيها وحاضرِها...لا يمكن أن يُعَـدّ ضلّةً عقليةً أو نزعةً وهمية؛ وإنّما هو من الإلهامات التي اختُصّ بها هذا النوع... ذلك إلهامٌ يكاد يُزاحم البديهة في الجلاء"(9).

وثمة نظرياتٌ ومذاهبُ عدةٌ في أصل الدين ونشأته؛ بَيْدَ أنه يمكن حَصْرُ تلك الأفكار والنظريات في اتجاهين رئيسين:

أ- النظرية التطورية: وتَنزِع إلى أن فكرة "الله" وُجدت في المجتمعات الأولى بشكل عقائد انبثقتْ إمّا من الأفراد وإما من الجماعة. ويرى أصحاب مذهب التطوُّر التقدُّمي في تاريخ الأديان أنه مثلما يسُود التطوُّر "الحياة البيولوجية للإنسان، فإنه يسُود أيضاً الحياة العقلية؛ [إذ] إن الكائن ينتقل طِبقاً لقانون التطوُّر من ماهيةٍ أدنى إلى ماهية أسمى... فمن الأَولى إذن أن يتطور في حياته الفكرية، وأن تنتقل من طورٍ إلى طور حتى تصل إلى كمالها النسبي.. والدين عندهم ناحيةٌ من النواحي الفكرية بدأ مع الإنسانية في سذاجتها، وتطوَّر معها في درج الحياة حتى وصل إلى كماله الحالي"(10). ويندرج في إطار هذه النظريات مذاهبُ، أهمُّها: المذهب الحيوي(Animism)، والمذهب الطبيعي(Naturalism)، والمذهب التوتمي (Totemism).

ب- النظرية الفطرية: وتذهب إلى أن فكرة الله، أو الدين بعامةٍ هي فكرةٌ فطرية مركُوزة في النفس الإنسانية، وبعد الأبحاث التي نهضوا بها في هذا الشأن، وجد أصحاب هذا المذهب أنّ فكرة "الله" كانت موجودة لدى المجتمعات البدائية كافّة، ويستند أُولاء إلى "فكرة الخَلق". وقد عبّر أحسن تعبير عن النظريات الفطرية المذهبُ المؤلِّه عند شميت(Shmidt) ولانج...(11).

2- تعريف الدين: والمقصودُ بتعريف الدين -وإن كان ذلك أمراً بالغ التعقيد- تحديدُ الخصائص التي لا يُسمّى الدينُ ديناً إلا بها. والبحث في تعريف الدين مرتبطٌ أشدَّ ارتباط بالبحث في أصل الدين وجُرثومته الأولى؛ ذلك لأنّ "حقيقة الشيء هي العناصرُ المُكوِّنة له في أبسط مظاهره"(12). ويدأب الباحثون على بذلِ جهودٍ متواصلة في تعرُّف أصل الدين ووضْعِ تعريفٍ له يكون جامعاً مانعاً، على حدّ تعبير المناطقة. وما انفكُّوا منذ القرن الثامن عشر يحاولون أن يضعوا للأديان شجرةَ أنسابٍ شبيهةً بتلك التي وضعوها للُّغات. وممّا استعانوا به على مَقصِدهم هذا تعرُّفُ أصل مادّة "دين"، وتتبُّعُ المعاني المعروفة لهذه الكلمة.

أ- الدين في اللغة: في معاجم العربية(13) معانٍ كثيرة لِلفظ "دِين" بلغ بها بعضُهم زُهاء عشرين معنًى وتزيد. وأحسنُ مَنْ جمع هذه المعاني ابنُ منظور في لسان العرب والمرتضى الزبيدي في تاج العروس. لكن فيها ما هو مولَّدٌ بعضُه من بعض، وفيها ما هو مجازي، وبعضها مُتداخل، "والناظرُ في هذه المادّة يجد من تفنُّن العرب في الاشتقاق منها، وتعديد الصيغ، وفي تشعُّب استعمالاتهم لها ما لم تَجْرِ به عادتُهم في الكلمات المعرّبة"(14). على أنه ليس صحيحاً ما ذهب إليه بعضهم من أن "الدين" كلمة مُعرّبة، ولا أدري كيف زلّ الشيخ مصطفى عبدالرازق رحمه الله -على عُلُوّ كعبِه وطُول باعِه في العربية- مثلَ هذه الزلّة؛ قال أبو هلال العسكري في أثناء كلامه على الفَرْق بين الدين والملّة: "والفُرس تزعُم أنّ الدين لفظٌ فارسي، وتحتجّ بأنهم يجدُونه في كُتبهم المؤلَّفة قبل دخولِ العربية أرضَهُم بألف سنة... ونحن نجد أنّ للدين أصلاً واشتقاقاً صحيحاً في العربية، وما كان كذلك لا نحكُم عليه بأنه أعجمي. وإن صحّ ما قالوه؛ فإن الدين قد حصل في العربية والفارسية اسماً لشيءٍ واحد هو على جهة الاتّفاق"(15). والملحوظ أنّ جُلّ المُعجميّين يجمعون لفظ "دَين" بالفتح و"دِين" بالكسر في مَظِنّةٍ واحدة؛ على اعتبار أنّهما من مادّة واحدة. قال أحمد بنُ فارس: "الدالُ والياءُ والنُّون أصلٌ واحد إليه يَرجع فروعُه كلُّها"(16). ويمكن الربط بين "الدَّين" بالفتح و"الدِّين" بالكسر بأنّ ثمة جامعاً بينهما هو الإلزام: المالي في الأول، والأدبي في الثاني. ولا شك أن الدِّين هو الدَّين الأكبر لله على الناس(17). ناهيك بأنّ كليهما غيرُ حاضر، ففي لسان العرب: "والدَّين واحدُ الدُّيون معروف، وكلُّ شيءٍ غيرِ حاضر دَينٌ"(18)، وأساسُ الأديان كلِّها الإيمانُ بأمرٍ وراء هذا الوجود المحسوس. وعن الأصمعي أنّ فَـتْح دال "الدَّين"؛ لأن صاحبه يعلُو المَدِين، وضمّ دال "الدُّنيا"؛ لابتنائها على الشدّة، وكسر دالِ "الدِّين"؛ لابتنائه على الخضوع(19).

فالدِّينُ: الجزاءُ والمكافأة. يقال: كما تَدِينُ تُدان؛ أي كما تُجازِي تُجازَى بفِعلك وبحسَب ما عمِلت. وقيل: الدِّين هو الجزاء بقدر فِعل المُجازَى، فالجزاء أعمّ. والدِّين: العادة والشأن. يقال: ما زال ذلك دِيني ودَيدني؛ أي عادتي. والدِّين: الطاعة، وهو أصل المعنى، وقيل: بل الذلُّ والانقياد. على أنه ليس يعسُر الجمع بين القولين، فلا جَرَم أنّ الطاعة تكون مصحوبةً بذلٍّ وانقياد. والدِّين: الداءُ والقهرُ والغَلَبة والاستعلاء.. وينقل الأزهري في تهذيبه عن بعضهم: دَانَ الرجلُ: إذا عَزَّ، وإذا ذَلَّ، وإذا أطاع، وإذا عَصَى...(20). والدِّين: السلطان والمُلك؛ قال شَمِر: ومنه قولهم: يَدِينُ الرجُل أمرَه، أي يَملِك. والدِّين: الملّة، يقال اعتباراً بالطاعة والانقياد للشريعة. والدِّين: القِصاص، ومنه حديث سلمان: "إنّ الله لَيَدِينُ لِلجَمّاء من القَرْناء"؛ أي يقتصّ. وقد حاول بعض الباحثين المُحْدَثين التوفيق والجمع بين هذه المعاني جُلِّها أو كُلِّها، بأنْ ذهب إلى أنّ كلمة "دِين" عند العرب تُحيل إلى علاقةٍ بين طرفين: يُعظّم أحدُهما الآخر ويخضع له، ويملك الثاني الأولَ وله عليه السلطان. فإذا وُصف الأولُ بهذه العلاقة كانت بالنسبة إليه خضوعاً وطاعة، وإذا وُصف بها الثاني كانت أمراً وسلطاناً وإلزاماً..، وإذا قُصد بها الرباطُ الجامع بين الطرفين كانت هي الدستورَ المُنظِّم لتلك العلاقة، فهي علاقةُ إلزام والتزام(21).

ب- الدين في الاصطلاح: يقدّم علماءُ الدين المسلمون تعريفاتٍ عدّةً للدين. فهو عند التهانوي "وضع ٌإلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول السليمة باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل"(22). وعرّفه أبو البقاء بأنه "وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات، قلبيّاً كان أو قالبيّاً"(23). وحدَّهُ ابن الجوزي بأنه "قولٌ إلهيٌّ رادعٌ للنفس يُقوّمها ويمنعُها من الاسترسال فيما طُبعت عليه"(24). وهو عند محمد عبده "وضعٌ إلهي ومُعلّمُه والداعي إليه البشرُ... وهو عند جميع الأمم أولُ ما يمتزج بالقلوب، ويرسُخ في الأفئدة، وتصطبغ النفوس بعقائده وما يتبعُها من المَلَكات... فله السلطةُ على الأفكار وما يُطاوعها من العزائم والإرادات... وكأنما الإنسانُ في نشأته لوحٌ صقيل وأولُ ما يُخَطُّ فيه رسمُ الدين"(25). 

والكلمة الأجنبية التي تُقابل لفظ "دِين" العربي هي (Religion) المقتبسة من اللغة اللاتينية. وقد اختلف المُعجميُّون في أصل الاشتقاق لصيغة (religio) اللاتينية، على أنّ أكثر المتقدّمين يردُّها إلى مادةٍ تُفيد معنى الربط الشامل: لربط الناس ببعض الأعمال من جهةِ التزامهم وفرضها عليهم، ولربط الناس بعضِهم ببعض، ولربط البشر بالآلهة. بل يحاول بعض المتأخّرين أن يجعل مأخذ هذه الكلمة شاملاً لمعنى الربط وما إليه، كالجمع وغيره. هذا مع اختلاف الأقاويل في اللفظ الأول الذي هو مصدر الاشتقاق. وكلمة (Religio) اللاتينية تدلُّ في غالب استعمالاتها على معنى الشعور بحقّ الآلهة مع الخشية والإجلال(26).

وقد ذهب الباحثون طرائقَ قِدداً في تعريف الدين، وتنازَع علماءُ الاجتماع وعلماء النفس على الدين، وكِلا الطرفين تَجاذباه كلٌّ يريده إلى ميدانه: فهؤلاء يقولون: إنه ظاهرةٌ اجتماعية؛ نظراً لاتصاله بشؤون الجماعة، وأولئك يردُّون بأنّ الدين حالةٌ عاطفية نفسيةٌ مُنغرسة داخل النفس الإنسانية. هذا فضلاً عن علماء الأديان الذين يزعُمون أنهم "أُمّ الصبي" وأُولُو الاختصاص. أمّا علماء النفس الذين تناولوا الدين بالدراسة من الناحية السيكولوجية، فقد ذهبوا إلى أنّ الإنسان لم يكن بحاجةٍ إلى أن يبحث خارج نفسه عن منبت العقيدة الإلهية؛ أي أنه لم يكن يحتاج إلى أن يتأمّل في الكون وعظمتِه، ولا في الطبيعة وجمالِها، ولا في التجارب العجيبة في عالم الأرواح وأسرارها ومخبوءاتها... وإنما كانت تجاربُ الإنسانِ النفسيةُ كافيةً لتوجيه فِكره وبصرِه وبصيرته إلى تلك الحقيقة العُلوية. ومِن هؤلاء مَنْ رأى أنّ جُرثومة الدين تتولّد من الإدراك المركُوز في الفطرة الإنسانية للعِلّية والمعلولية بين الأشياء، ومنهم من يجعل أصلَ الدين شعورَ الإنسان بأنه غيرُ مُستقلٍّ في أفعاله وأحواله، ومنهم من يرُدّه إلى ما يُلقَى في روع الإنسان بالفطرة من وجودٍ لا يتناهى، ومنهم من يرى أنّ الدين ينبعث من نُزوعٍ إلى الزهد في الدنيا. على حين يذهب بعض علماء النفس إلى أنّ هذا الحدث من أحداث الحياة النفسية ليس بسيطاً بحيث يمكن ردُّه إلى سببٍ واحد بسيطٍ من هذه الأسباب؛ وإنما هو مَزيجٌ مَشيجٌ من مجموعها، على قاعدة أنّ "الإعمال أَولى من الإهمال" وفق تعبير الأصوليين. 

وقد ظهرت نظريات نفسانية عدّة في الدين، وفلسفتِه، وماهيّتِه بحسبانِه حالةً شعوريةً نفسيةً وِجدانيةً يعيشها الإنسان. ومِن أهم تلك النظريات نظريةُ الفيلسوف الفرنسي ساباتيه (Sabatier) التي ظهرت بخاصّةٍ في كتابه فلسفة الدين. فقد حاول في مؤلَّفه هذا أن يؤسّس العقيدة الدينية على أساس عواملَ نفسيةٍ؛ باعتبار أنّ العقيدة تتولّد في نفس الإنسان منذ نعومة أظفاره نتيجة شعوره بالتناقض الكبير بين أحاسيسه وإرادته، وهما القُوّتان اللّتان تتألّف منهما حياة النفس في أبسط صُورها. فالتديُّن برأي ساباتيه ينشأ من هذه المعركة النفسية الداخلية التي يعيشها الإنسان الذي لا مَطمع له في الفرار من هذا التناقض الذي يعانيه في داخله إلاّ بالتديُّن. فمن العبث -بنظر ساباتيه- أن يعتمد الناس على تقدُّم العلوم الطبيعية في إنقاذهم ممّا يعانونه من البؤس والشقاء؛ ذلك لأن العلم بدلاً من أن يخفّف من وطأة ذلك التناقض القديم الجديد، فإنه يزيد من حِدّتها؛ إذ إنّ كل اكتشاف علمي يُضيف حلقةً جديدة إلى سلسلة الأسباب الضرورية التي يحتاج إليها نظام الأشياء في اتّساقه وثباته وديمومته، فتزداد القيود على الحرّية قيداً يُضاف إلى ما يُحيط بأعناقنا من أغلال.. ولا نزال نتقدّم في هذا الاتجاه بهذه السيرورة حتى نصل إلى "التناقض العام" بين العلم والعمل، بين قوانين الطبيعة وقوانين الأخلاق. وهكذا، نعيش في دواخل نفوسنا حرباً داخليةً طاحنة بين القدرات والاستعدادات النفسية، تلك الحرب التي تنتهي برأي ساباتيه إلى شعورٍ باليأس من جدوى هذه الحياة. على حين أنّ هذا الحلّ الذي يقدّمه لنا التديُّن هو حلٌّ عملي محض؛ فإنه لا يفتح لنا "باباً جديداً" للمعرفة؛ وإنما يمنحنا الشعور بالثقة والاطمئنان والإيمان بمبدأ الحياة ونهايتها؛ ذلكم أنّنا نشعُر شُعوراً غلاّباً بالتبعية المطلقة لقانون الوجود العام، وما التديُّن إلاّ الاعتراف بهذه التبعية في تسليمٍ وانقياد ضروري في سفينة هذه الحياة التي تجري بنا في بحرٍ لُجّي غيرَ مختارين. وهذا الشعور بالتبعية المطلقة وَفْق ساباتيه هو الأساس التجريبي للعقيدة الإلهية، فما هو إلا شعورٌ بحضور السرّ الإلهي فينا، وذلك هو "الينبوع" الذي منه تَفيض الفكرةُ الإلهية بقوةٍ جارفة(27).

أما ماكس مولر (MULLER) (1822-1900) الفيلسوف ومؤرّخ الأديان، فعنده أنّ الدين قد تَولّد من تزاوُج مبدأينِ نفسـيَّـيْـنِ هما:

1- الذكاء الفطري: أي القدرة على الاستدلال، أو الوصول من مُقدّماتٍ إلى نتائجَ تلزم عنها. 2- حاسة الوجدان: وتقوم على حبّ الاستطلاع والبحث عن الأسباب... والإنسان -برأي مولر- عندما يتحطّم الإطار المألوف للحياة من حوله، تصبح حاجتُه ماسّةً إلى مساندة قُوًى أكبرَ من قُوّته، فإذا ما وجدها تَعلّق بها. وهو فقيرٌ بصفةٍ دائمة إلى هذه "المساندة العلوية" الخارجة عنه والتي يشعر حيالها بنقصٍ شديد لِبُعدِه عن الكمال، ولا شيء غير الإيمان بهذه القوة يمكن أن يساعده في التغلُّب على هذا الشعور. والدين عند مولر "كَدْحٌ من أجل تصوُّر ما لا يمكن تصوُّرُه وقولِ ما لا يمكن التعبيرُ عنه: إنه تَوْقٌ إلى اللانهائي"(28). 

وأما الذين تناولوا الدين بالدراسة من الناحية السوسيولوجية فيرون أن الدين إن كان لا يخلو من معنى العاطفة النفسية، فإنه في النهاية يتّصل بشؤون الجماعة؛ بل ينتهي الأمر بالعلماء الاجتماعيين الباحثين في تاريخ الأديان وأصولها إلى اعتبار الصبغةِ الاجتماعية في الدين أقوى وأرسخَ من كلّ صبغةٍ سواها(29). ويمكن تمييزُ ثلاثة مناهج رئيسة(30) يعتمدها الباحثون في المجال الديني هي: 

1-المنهج النفسي-الاستبطاني. 2- المنهج الحَدْسي. 3-المنهج الموضوعي. وهاكُم أبرزَ التعريفات التي تستند إلى كلٍّ من هذه المناهج الثلاثة:

1- أمّا التعريفات التي تستند إلى المنهج الاستبطاني، فمن أبرزها تعريف سبنسر الذي يحدّد الدين بأنه ذلك "الإحساس الذي نشعر به حينما نغُوص في بحرٍ من الأسرار"(31). أمّا شليرماخر (Shleiermacher) فيرى أن الدين هو خضوع الإنسان لموجودٍ أسمى. ويذهب فيورباخ (Feurbach) إلى أن الدين هو الغريزة التي تدفعنا نحو السعادة(32).

2- وأمّا التعريفات التي ترتكز على الحدس، فأبرزُها تعريف برغسون الذي يميّز بين نوعين من الدين: الدين الديناميكي: وهو من ابتداع إنسانٍ من صفوة البشر سَـمَا إلى فكرةٍ مثالية وحاول أن يَبذُر من أعماقِه ديناً أو فكرةً تَفيض على الإنسانية. وما حقّق ذلك إلا بعض كُمّل الخَلق من مثل المسيح وبعض أقطاب الصوفية. والدين الاستاتيكي: وهو عنده "ردُّ فعلٍ تُقاوِم به الطبيعةُ ما في ممارسة العقل ممّا يشُلّ حركة الفرد ويقضي على تماسك المجتمع"(33). 

3- المنهج المقارن الموضوعي، ونقارن فيه بين الأديان جميعِها، قديمِها وحديثِها، البدائيِّ منها وغير البدائي، بُغية تعيين عناصرها العامّة، لِنَخلُص من تلك العناصر العامّة الموجودة لدى الأديان كلّها إلى تعريفٍ جامعٍ مانع يصدُق على الأديان كافّة. ومن أبرز التعريفات التي تستند إلى هذا المنهج تعريف راڤي (Reville) الذي يحدّد الدين بأنه "تحقيق الحياة الإنسانية بواسطة الإحساس بأنّ رباطاً يصل الروح الإنسانية بالنفس الخفية، التي تعترف الأُولى بما لها من سلطان على العالم وعليها، والتي يجب أن تكون شاعرةً بالاتصال بها دائماً"(34).

والظواهر الدينية عند دوركهايم تنقسم إلى قسمين: العقائد(Les croyances) والعبادات (Les rites) وهي شبيهة إلى حدٍّ ما بما يسمّيه فقهاء المسلمين: الأصول والفروع. والدين عنده "مجموعة متماسكة من العقائد والعبادات المتصلة بالأشياء المقدّسة، مُميّزة وناهية، بحيث تؤلّف هذه المجموعةُ في وحدةٍ دينية متصلةٍ كلَّ من يؤمنون بها"(35). بَيد أنّ بعض علماء الاجتماع يَنزِعُون إلى أن الشعور الديني هو قوةٌ روحية قبل أن يكون ظاهرة اجتماعية. إنه -برأيهم- تلك القوةُ الروحية الباطنة التي تسمُو بالإنسان فترفعُه من عالم المادّة إلى عالم الروح بدافع التجرّد الخالص والحبّ العميم. ويأخذ هؤلاء على دوركهايم خَـلْطه ما هو "ديني" بما هو "اجتماعي"، فالشعور الديني هو شعورٌ فردي قبل أن يكون ظاهرةً اجتماعية؛ إذ إنه بدأ نقيّاً خالصاً ثم جاء العنصر الاجتماعي الأسطوري لِيُغلّفه من الخارج بطقوسٍ ورُسوم، ولِيَرِينَ على الجانب الفردي النقيّ ويطغى عليه، حتى قضت القشرة الخارجية للدين على تلك العاطفة الدينية الأوّلية. ولعلّ هذا ما استحثّ مارتن لوثر كَيْما يثُور على تلك القشرة التي حَجبتْ النقاء الديني، ولِيرفُض طقوس الكاثوليك وشعائرهم، ويُقيم المذهب البروتستانتي الذي يقلّل كثيراً من قيمة الشعائر في ذاتها، ويخفّف من طغيان الغطاء الاجتماعي على الدين(36).

ثانياً: أهمية الدين: لعلّ المفكر الفرنسي غوستاف لوبون ما أخطأ الحقَّ إذ رأى -لأهمية الدين ومكانته الباسقة في صدور الجماعات البشرية- أنّ من نافلة القول اعتبار أنه لا بدّ للجماعات من دين؛ ذلكم لأن الاعتقاد برأيه ضروريٌ للإنسان، وهو عنصرٌ نفسيٌّ مثلُ الألم واللذّة، والحُزن والفرح.. إلخ. فالنفس البشرية تُبغض الشك والارتياب، وإذا ما حدَث أنْ تَطرّق الشكُّ إلى قلب المرء فذلك لأجلٍ محدود. يقول لوبون: "ومهما يكن عِرقُ الناس ووقتُ ظهورهم ودرجةُ جهلِهم وعِلمِهم، فإنهم سواءٌ في عطشهم إلى المعتقد، فكأنّ المعتقد غذاءٌ نفسيٌّ ضروري لحياة الروح كضرورة الغذاء المادّي لِحفظ الجسم"(37). وفي هذا السياق يرى أرنولد توينبي أنّ التغيُّر الديني -يعني تراجع المسيحية- في القرن السابعَ عشرَ قد فُسّر تفسيراً خاطئاً حينما اعتُبر مجرّد حادثة سلبية. فالطبيعة البشرية بنظره تمقُت الفراغ الديني مقتاً شديداً، ومن ثَمّ فالمجتمع يتّجه حين تتراجع ديانتُه السلفية إلى الاستبدال بها -عاجلاً أم آجلاً- ديانةً أخرى. "فإنّ الفراغ الذي أوجده تراجعُ المسيحية في القرن السابع عشر قد ملأه نشوءُ ثلاثة أديانٍ أخرى هي: الإيمانُ بحتمية التقدّم من خلال تطبيق العلم نظاميّاً على التكنولوجيا، والقوميةُ، والشيوعية"(38). ولا مندوحة للجماعات بحسب لوبون عن أن يكون لها دينٌ ما دامت جميع المعتقدات -السياسية أو الإلهية أو الاجتماعية.. إلخ- لا تطمئنُّ لديها إلاّ إذا لبستْ ثوب الدين؛ بل إنه لو تأتّى لنا أن نُدخل عدم الاعتقاد في صدور البشر "لاشتدّ تعصُّبهم فيه كأنه معتقدٌ ديني، ولَصار في الخارج ديناً يتعبّد به الناس"(39)؛ ذلك أن للدين جاذبيةً كبرى لا يُضارعه في قُوّتها غيرُه من سائر النُّظم الاجتماعية؛ يقول الأستاذ أرنست رينان -الذي كانت بينه وبين الشيخ محمد عبده مُطارحاتٌ في الدين والعلم والعلاقة بينهما-: "إن الدين هو أعلى مظاهر الطبيعة الإنسانية وأكثرُها جاذبية"(40). ولذلك فإننا إذا ما أجَلْنا البصر وأمعنّا النظر في اعتقادات الجماعات أيام سيادة الأديان أو في أزمنة الثورات الكبرى التي غيّرتْ وجه العالم؛ لَتَبيّن لنا أنّها تتصبّغ دائماً بصبغةٍ خاصة لا يمكن التعبير عنها بأحسنَ من تسميتها بالشعور الديني. أكثر من ذلك، إن لوبون يَنزِعُ إلى أنّ للإلحاد ناحيةً دينيّة، وقد خصّص عنواناً مستقلاًّ للحديث عمّا أسماه "الشكل الديني للإلحاد"(41). بل إنّ الثورة الفرنسية نفسَها -التي يعتبرها رُوّاد العلمانية القطيعةَ المعرفية الكبرى التي آذنتْ بأُفول نَجْم الدين وانبلاج صُبح الفكر الحُرّ- لم تكن أكثرَ من ديانةٍ وضعية جديدة اجتاحت العقول والقلوب، وتخلّلتْ مِخيال الجماهير، فألهبت النفوسَ وخَلَبتْ الألباب. وكان مِن أثر الهزة التي أحدثَتْها أنْ نَزعتْ الفلسفة الأوروبية في القرنِ التاسعَ عشرَ إلى محاولة اكتشاف "إنجيل" أخلاقي واجتماعي حديث. أما الفلاسفة الألمان فقد وجدوا هذه "العُلوية المُحْدَثة" في فكرة "الصيرورة الكلّية"، على حين أنّ الإصلاحيين الفرنسيين اتجهوا إلى "الإنسانية" على اعتبار أنها واقعٌ أعلى. وفي هذا السياق يرى الفيلسوف البريطاني جون هيك أنّ الدين لا ينحصر وجوده في المجتمعات المُتديّنة فحسب؛ بل في المجتمعات العلمانية والملحدة كذلك؛ فالاتحاد السوفياتي بنظره لم يفعل أكثر من أنه استبدل بفكرة الدين التي تقوم على الاعتقاد بالله عقيدةً ماركسية ذاتَ بِنيةٍ دينية تُوفّر غطاءً مثاليّاً لنظام المجتمع القائم، ولعلّ هذا ما دفع عالم الاجتماع روبرت بيلاّ (Belllat) إلى أنْ يتحدّث عمّا أسماه "نظام الدين السياسي عند ماركس". وفي هذا الشأن يقول جون هيك: إننا "نفهم الدين كمجموعةٍ من التشابهات العائلية وشبكة خصائص متماثلة ومتمايزة في آنٍ، تجعل الشيوعيةَ الماركسيةَ وأشكالَ الطاوية الصينية تنتمي إلى تلك العائلة الموسّعة التي ترى في الدين ظاهرةً كونيةً طبيعية لا يخلُو منها أيُّ مجتمع، حتى ولو كان علمانيّاً"(42). وممّا يعضد ذلك أنّ إيمان الماركسية العلماني يشتمل على رُؤيةٍ شمولية للعالم، وعلى نصوصٍ تأسيسية، وبنًى خَلاصيةٍ، وادّعاءاتٍ أخلاقية عامّة -وهل الدين إلا مجموعُ هذه الاعتبارات؟!- مع افتقادِه بالطبع خاصيةً محوريةً في الأديان الإلهية هي: الإيمان بالحقيقة الإلهية العليا. وإلى مثل ذلك نزع أرنولد توينبي؛ إذ يرى أن الشيوعية ما هي في الواقع إلا بدعةٌ مسيحية، والميثولوجيا الشيوعيةُ عنده هي الميثولوجيا اليهوديةُ والمسيحيةُ مُترجَمةً إلى مفردات غير توحيدية؛ فالإله الوحيدُ والقادرُ على كلّ شيء "يهوه" تُرجم إلى الضرورة التاريخية، و"الشعب المختار" تُرجم إلى البروليتاريا، وتُرجم "العصر الألفي السعيد" إلى التلاشي النهائي للدولة. كما ورثت الشيوعية من المسيحية الإيمان بضرورة التبشير لهداية البشر أجمعين؛ بل إنّ أوغست كونت -أبا الوضعية المنطقية- نادى بديانةٍ جديدة سمّاها "ديانة الإنسانية": مبدؤُها الحب، وأساسُها النظام، وغايتُها التقدُّم، وأراد لها أن تجعل من الإنسانيةِ جمعاءَ الإلهَ الذي يجب أن نُقدّسه، وتحُلّ محلّ فكرة: الله(43).

ثالثاً: وظائف الدين: يرى العديد من مؤرّخي الأديان أن وظيفة الدين الأوّلي للبشرية كانت تتمثّل في الحفاظ على النظام الكوني والاجتماعي، ثم جاءت مرحلةٌ تاريخية ومفصلية في الحياة البشرية حصل فيها انتقالٌ من شكلٍ دينيٍّ إلى آخرَ مختلف، واتخذ الدين بَعدها وظيفةً مختلفة عن العصر الأوّلي تمثّلتْ -بشكلٍ رئيسٍ- بسؤال الخلاص والتحرُّر الإنساني. ففي العصر ما قبل المِحوري كانت وظيفة الدين ترتكز على إطالة وتجديد التوازن القائم بين الخير والشرّ ودفع المصائب، وكان الإلهُ الأزلي خالقاً وحافظاً ولم يكن مُخلِّصاً أو مُحرِّراً، وكانت العلاقة مع الإله قائمةً لجعل المستقبل يأخذ صورة الحاضر أو يُكرّرها، لا أنْ يؤمّن مستقبلاً أفضل. وظلّ هذا الوضع قائماً في الحياة البشرية لدى تلك الشعوب والمجتمعات إلى أن جاءت فترةٌ محورية من التاريخ الإنساني حصل فيها تحوُّلٌ مركزي للدين، حيث تَـقدّم فيها الوعي الفردي والذاتي، وانبثق من داخل الدين وعيٌ خَلاصيٌّ يحثُّ الإنسان على التفكير في خلاصِه وانعتاقه، ويدفعه إلى البحث في مصيره والنظر في احتمالات حياةٍ أفضل(44).

1- دور الدين في قيام الحضارات: يرى المفكّر الياباني دايساكو إكيدا أنّ التاريخ يعلّمنا أنّ الحضارات كالكائنات الحيّة تمرُّ بدوراتٍ متكرّرة من النشوء والنموّ والتطوُّر، وفي عهودٍ مختلفة من الزمن تُنجِز الخَصِـيصةُ الحضارية لأمّةٍ من الأمم مراحلَ متعدّدةً من النموّ. ومصدرُ هذه الحيويّة في الشعوب التي تُنتج هذه الحضارات هو الدينُ الذي يشكّل الدافع الرئيس الذي يحرّض الإنسان على استخدام طاقته في عملٍ يكون ذا معنى، وسرعان ما يتبيّن للمرء ألاّ أَجَـلَّ من الإسهام في بناء الحضارات. ومع اعتراف إكيدا بأنّ الفائض في القدرة الإنتاجية، والتنظيمات الاجتماعية.. إلخ، قد تكون من بين العناصر التي أسهمت في بناء الحضارات، فإنه يجزم أنها على الرغم من ذلك لا تُشكّل الروح التي يجب أن تسري في الحضارة لتُحْيِـيَها. وعنده أنه ينبغي للناس الذين يُبدعون الحضارة أن يدركوا الغاية التي يَرْمُون إليها في أعمالهم، وما يُؤمّن للناس القدرة على استيعاب معنى هدفهم ويُبيّن لهم السبيل المُثلى التي يجب أن يسلكوها هما شيئان: الفلسفة والدين. فلا مِراء -بحسب إكيدا- في أنّ "الأهرامات تُخبرنا بما هو أكثرُ من مجرّد أنّ مِصرَ في عصرها امتلكت فائضَ الطاقة البشرية... والتكنولوجيا الهندسية الكافية للقيام ببنائها: إنها تكشف قوة الرؤية المصرية للحياة والموت التي أوجبت تشييد النُّصُب المأتمية... كانت هذه الفكرة الدينية هي التي قَوّتْ رغبة المصريين في إنفاق طاقة العمل الضخمة في هذه المشروعات. كما أَلْهَم التوهُّج الديني بناءَ غيرها من نماذج العمارة الهائلة في العالم"(45)، مثل معابد "المايا" (Maya) و"الأزتيك" (Aztec) و"الإنكا" (Inca) والتي ما تزال صامدةً وشاهدةً على عظمة تلك الحضارات التي اندرستْ ولم يَبقَ منها إلا أطلالُها. أمّا أرنولد توينبي فيَنزِع إلى أن أسلوب أي حضارةٍ من الحضارات إنما هو التعبير عن ديانتها، مُوضحاً أن ما يعنيه بالدين هو الموقفُ من الحياة الذي يُمكّن الناس من التغلُّب على الصعاب، بتقديمِه لهم أجوبةً تَبعث على الرضى الروحي عن الأسئلة الأساسية المتعلّقة بأسرار الكون ودور الإنسان فيه، ومن خلال رسمهِ لهم قواعدَ سلوكٍ عمليةً للعيش بطريقةٍ قويمة آمنةٍ في هذا الكون. ولا شكّ بحسب توينبي في أنّ نجاح الثقافة أو إخفاقها مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بديانة الشعب؛ ما يعني أنّ ما يقرّر شكل الحضارة هو نوعيةُ الدين الذي تتأسّس عليه. ولأنّ ديانة الحضارة هي مصدرُ حيويّتها وتلك الروحُ الباطنة السارية فيها؛ فإنّ فقدان الإيمان بهذا الدين يُفضي حتماً بالحضارة إلى السقوط والأُفول لتحُلّ مَحلَّها حضارةٌ أخرى على ديانة جديدة. فلا مِراء من وجهة نظره في أنّ كلّ حضارة مَدِينةٌ -في قيامتها ونُموّها وازدهارها وحِفظها- لذلك العمل الإبداعي الذي رَفعتْ أركانَه فئةٌ قليلة من ذوي الامتياز، والتي شيّدتْ بناء هذه الحضارات بالتعاون والتآزُر فيما بينها. ولم يكن لتلك الجهود الجبّارة -التي قامت بها هذه الطليعة بالتساند والتعاضد مع الجماهير- أن تُؤتي أُكُلها لولا تِلكُم الرابطةُ الروحيّة التي أمّنها الإيمانُ الديني المشترك. ويقطع توينبي بأنّ التوافقية والحيوية الاجتماعية اللتين جعلتا التعاون بين القادة والمقُودين ممكناً؛ إنما نشأتا من الإيمان الديني الذي يشترك فيه الطرفان، والذي كان هو القوةَ الروحية التي جعلت بالإمكان إنجاز الأعمال الاقتصادية الأساسية العامة التي أنتجت الفائض الاقتصادي. كما كان الدينُ بنظرِه هو القوةَ الروحية التي جعلتْ كلّ مجتمعٍ متحضّر يتماسك ويصمُد زمناً مديداً أمام تَينِكَ الآفتين الاجتماعيتين اللتين لطالما كانتا موجودتين في جميع الحضارات: الحرب والظلم الاجتماعي(46).

2- دور الدين في السياق الاجتماعي: ليس من مِريةٍ في أنّ الوظيفة الجُلّى الرئيسة للدين تظهر بأجلى صورة في السياق الاجتماعي، فمن وظائف الدين في هذا المجال توثيقُ أواصر العلاقات بين أفراد الجماعة. وينبغي أن يكون منّا على بالٍ أنّ دور الدين ليس يقتصر على مجرّد إقامة التوازن بين جانبَي حياة الإنسان الرئيسيَّيْن: المادّي والروحي، وليست مهمّتُه محصورةً في أنّه تلك المنارةُ السامقة لتهذيب أنماط السلوك، والارتفاع بمستويات التعامل إلى الدرجة المُثلى، وتطبيق قواعد العدل..؛ وإنما له كذلك وظيفةٌ إيجابيةٌ أخرى أعمقُ أثـراً في كِيان الجماعة؛ إذ إنه يربط بين قلوب أفراد المجتمع برِباطٍ من المحبة والتراحُم لا يَعْدِله رباطٌ آخرُ من الجنس، أو اللغة، أو المصالح المشتركة.. إلخ. وقد أتى حينٌ من الدهر كان الدين فيه هو المصدرَ الأساس للقانون، وبالتالي فقد كان وسيلةَ ضبطٍ مهمةً في المجتمع؛ حيث كان يُنظر إلى القانون المصري بحسبانه من صُنع الآلهة، ولطالما كانت الكنيسة في أوروبا قوةً اجتماعية تفُوق قوة الدولة. وفي العصر الحديث -رغم أن الدين والدولة يعملان بشكل مستقلّ- فإن الدولة لا تزال تستند في سلطتها إلى كثيرٍ من القواعد الدينية ذات التأثير الاجتماعي، كأمور الزواج والأحوال الشخصية... إلخ. وفي هذا السياق يحسُن بنا الإلماع إلى أنّ الأنظمة السياسية والتدبيرات الاجتماعية كافةً إنما قامت منذ بدء التاريخ على معتقدات دينية، وأن الآلهة هي التي كانت صاحبة الدور الأكبر في حوادث الحياة الإنسانية. فالمعتقد هو الذي يوحّد الأمة على كلمة واحدة؛ ذلك أنه ينشأ عن المعتقد القوي إيمانٌ راسخٌ رُسوخ الجبال ويقينٌ لا يُزعزعه شيء، وبسببٍ من مثل هذا اليقين الراسخ قامت حوادث التاريخ الكبرى التي زَلزلتْ الدنيا وغَيّرتْ مجرى الحياة الإنسانية برُمّتها، "فقد أيقن محمد [صلّى الله عليه وسلّم] أنّ الله أمره بالدعوة إلى دينٍ جديد أوحى به [إليه] لتجديد العالم، فاستطاع بفضل يقينه أن يَقلب الدنيا... وأيقن لوثر أن البابا عدوُّ المسيح وأنْ لا أساس للمطهر في النصرانية، فاستطاع بذلك اليقينِ أن يُشعل في أوروبا حُروباً امتدّت قروناً... وأيقن شارلُ التاسع ولويسُ الرابعَ عشرَ أنّ خالق السماوات والأرض لا يسمح ببقاء البروتستانت، فأوجب الأولُ حدوث ملحمة السان برتيلمي، وطارَدهم الثاني شرَّ مطاردة"(47). وفي هذا المجال يشير برغسون إلى أهمية ما يقوم به الدين في المجتمع وما له من وظيفة جليلة تتعلق بالتكامل والتماسك الاجتماعيَّين، معتبراً أن الدين هو مصدر وحدة المجتمع التي هي مَأتَى ما يسُود المجتمع من علومٍ وفنون وفلسفة مشتركة(48). ولا شك في أن الدين يمثّل أحد أقوى الروابط والوشائج التي توحّد المجتمع وتُقوّي تماسُكه وتعاضُده، ومن ثَم فلا بِدْعَ أنْ جعَله الماوردي قاعدةً اجتماعية تأسيسية(49). يقول أستاذنا رضوان السيد معبّراً عن هذا المعنى بلغةٍ سامقةٍ تنمّ على عُلوّ كعبٍ وطُول باعٍ وسليقيةٍ أخّاذة في هذا الشأن: "إن عناصر الانتظام والتناثُر، والأُلفة والطَّرد، والالتقاء والافتراق في الاجتماع البشري تجدُ اتّساقها والنظامَ لها ليس من ضمن مقولة التوازن بينها، أو بين عناصرها؛ بل من خارج ناظم ومنسِّق ومُلائم لا يملك إلغاء النقائض؛ لكنه يملك إشاعة اتّساقٍ معيّن تسُوده جدليةٌ مُعقّدة لا تَمنع الحرَكية والمَوْر: إنه الدين"(50). وينبغي ألاّ يعزب عنّا أنّ الدين كان هو المحرّكَ للثورات، وأنّ له فِعلَهُ وسُلطانه الذي يكفُل مهابة النظام الاجتماعي في النفوس، وليس كالدين من رادعٍ يكافئه أو يُدانيه في كفالة احترام القانون. ويرى دوركهايم أنّ أعظم وأجلّ مهمةٍ للدين هي دورُه في جعل الفعل مُمكناً وجعلِ الحياة مستمرّةً. وعنده أنّ "المؤمن الذي يتّصل بربّه ليس مجرد شخصٍ يرى بعض الحقائق التي يجهلها غيرُ المؤمن، وإنما هو إنسانٌ أقوى، وهذه القوة يستمدُّها من شعورٍ داخلي بقوة أكبر؛ لكي تُمكّنه من تحقيق الاستمرار في الوجود الاجتماعي، أو قهرِه والتغلُّب عليه"(51)؛ بَيْد أنّ أهم الأدوار التي أدّاها الدينُ برأيه دورُه في انبثاق المقولات الأساسية للفكر "مقولات الفهم"، (الزمان والمكان، والعلّة والمعلول...)، وعند "تحليل المعتقدات الدينية البدائية... نجد المقولاتِ الأساسيةَ موجودةً بالطبيعة، فهي تُولد في الدين ومن الدين؛ بل هي ثمرةُ الفكر الديني"(52).

وليس يخفى ما للدين من دور في مجال التربية والأخلاق بما يَفيض به من قِـيمٍ سامية وشمائلَ سَـنيّة، فلا مِرية في أن الدين هو أسرعُ مؤثّرٍ في الأخلاق، ولا يُدانيه -بَلْهَ يُضارعه- في ذلك أيُّ مؤثّرٍ آخر. وفي هذا الشأن يذهب علماء التربية إلى أنّ قاعدة السلوك الخُلقي لا تَـقوى على البقاء دُونما تأييدٍ من الدين. فالنظام الديني سلطةٌ قوية لتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس في ضوء مشيئة قُوًى فوق-بشرية، والدين هو الحافظُ الأول للأخلاق منذ العصور التاريخية الأولى أيام كانت الأخلاقُ والقانون والعادات والدينُ كُلاًّ واحداً لا يتجزّأ، وكان الدين هو التنظيمَ الاجتماعي الوحيد الذي يسُود الحياة الاجتماعية ويُنسّـقها. إضافة إلى ذلك ينبغي ألاّ يغيب عن بالِنا جملةُ الوظائف "الانتمائية" التي ينهض بها الدين، من حيث إنه يجيب عن تساؤلات الإنسان -السؤول بطبعِه- التي ما انفكّتْ تُؤرّقُه وتجتاح كِيانه وتملأ نفسه رَيبةً وحَيرةً، وبخاصةٍ تلك الوجوديةَ المتعلّقة بمصيره وعاقبته. فوظيفةُ الدينِ الرئيسةُ كما يرى عبدالكريم سرّوش تتبدّى في أنه يجعل الحياة مُستساغةً وممكنة، بمعنى أنه لا يَنِـي يعمل على إيجاد التوافُق وخَـلق مُصالحةٍ بيننا وبين العالم. والأهمُّ أنه يجيب عن الأسئلة المصيرية الوجودية التي تتعلق بمآل الإنسان، من مثل: مَن أنا؟ مِن أين جئت، ولماذا؟ إلى أين أنا سائر، وإلامَ أنا صائر؟.. إلخ. فهذه الـ "لِماذات" لا تجدُ لها أجوبةً شافيةً، تُسكّن من رَوع الإنسان وتُزوّدُه بقوة مهولةٍ يَركنُ إليها في تقبُّل هُمومِه وغُمومه، إلا في الدين. ومن ثَمّ فلا بِدْعَ أنْ كان لفظُ "الأمن" و"الأمان" و"الإيمان" من جِذرٍ لغوي واحد. وإلى مثل هذا المعنى يَنزِعُ محمّد أركون الذي يرى أنّ مهمّة الدين ليست تكمُن في أنه قدّم للإنسان التفسيرات والإيضاحات فحسب؛ وإنما أيضاً في أنه أمدّه بالأجوبة العملية القابلة للتطبيق فيما يخصّ علاقته بالوجود والمحيط الفيزيقي وحتى الميتافيزيقي(53).

أما فيما يخص تأثير الدين في الحياة السياسية، فإنه على مدى التاريخ لا يقلّ عنه شأناً في مختلف نواحي الحياة وفي سياسة الشعوب، ومَأتى قوة الدين العظيمة برأي لوبون من "كونه العاملَ الوحيدَ الذي تتوحّد به وقتاً ما منافعُ الأمة ومشاعرُها وأفكارها... ولذلك تجد أنّ قيام الأمم بأعظم الأعمال... وتأسيس أكبر الممالك التي أدهشت العالم كان في عصر تديُّنها. كذا اتّحدت بعض قبائل العرب بفكرة محمّد فاستطاعوا قَهْرَ أممٍ كانت لا تعرف منهم حتى الأسماء، وشادُوا تلك الدولة الكبرى"(54). وفي المجال الاقتصادي، لا جِدال في أن أطروحة ماكس فيبر حول الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، هي إحدى أهم الدراسات السوسيولوجية التي عُنيتْ بتسليط الضوء على الدور الضخم الذي نهض به الدين في مجال الاقتصاد. وفحواها أنّ الأخلاق البروتستانتية -الكالفينية بخاصة- كانت أحد أهم العناصر التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تطوُّر الروح الرأسمالية الحديثة؛ بل إن "فروع الرأسمالية هي نفسها رُوح العقيدة البروتستانتية بما تنطوي عليه من أنماطٍ سلوكية أخلاقية وعملية"(55).

ولعلّ أهمّ ما كان من تأثير المبادئ الدينية أنْ جعلَتْ العقل البشري المتديّن مُتشبّعاً بفكرة السعادة، وهذا ما جعلها تمتاز عن كلّ مؤثّرٍ سواها، فلا شكّ في أن الدين هو الذي يُشيع في الوجود كلِّه روحاً من تفاؤلٍ تنكّبتْ وسائلَه وغاياتِه الفلسفاتُ القديمة، وهو الذي يمدّ الإنسانية في تطوُّرها المستمرّ بكثيرٍ من إمكانات الخير الأعظم؛ إذ حتى الفلسفة -على عُلُوّ شأنِها- قد قصُرتْ عن إدراك هذه الغاية. فالدين هو الذي يوفّر السعادة للإنسان، حتى إنه لربما "كانت الضحايا فوق مَراقدها أسعدَ من قاتليها، وكم فالِحِ أرضٍ بيديه يقضم كِسرة الخبز بالثوم أسعدُ بكثيرٍ من مُوسرٍ متدفّق الثروة تكاتفتْ حوله الهموم"(56). ويبقى الدين هو سفينةَ النجاة أو تلك المنارة السامقة الباسقة التي عليها تُعلِّق الجماهير آمالها لتحقيق ما تصبُو إليه من السعادة والحياة الرغيدة في عالمٍ لؤُه الضياعُ والمخاطر والشكوك... إلخ.

خلاصة:

جُملة القول أنّ للدين أهميةً كبرى في حياة الناس، أفراداً وجماعاتٍ، فهو الذي يَربِطُ الفرد بالناس وبالعالم كلِّه، كما يربطه بالماضي والحاضر والمستقبل وباللانهاية. وقد عرضنا للبراهين التي يسُوقها الباحثون في مجال سوسيولوجيا الدين لإقامة الحجّة على أنه ليس يمكن نُكرانُ وجود الدين ولا تجاهُل دوره في التاريخ الإنساني كلّه؛ فإنه شعورٌ فطريٌّ مركُوز في النفوس البشرية، وبيّنا أنه حتى المذاهب والمشارب والأيديولوجيات المُناوئة للدين، يعمد أتباعُها إلى تعويض حاجتهم إلى إشباع ذلك الشعور المغروز في داخلهم -التعطُّش إلى الإيمان- باللجوء إلى تقديس بعض أرباب تلك المذاهب من أصحاب الشخصيات (الكاريزمية)، وذلك بالطاعة المطلقة، أو بإقامة الأنصاب والتماثيل...إلخ. بَيد أنه لا مِراء في أنّ للدين مدّاً وجَـزْراً، صُعوداً وهبوطاً، ولئنْ أتى عليه حينٌ من الدهر -سِيّما في العقود الأخيرة- مرّ فيه بظروف عصيبة، فليس ثمة مَنْ يُنازع في أنه قد عاد -والعَودُ أحمدُ- عَوْداً قويّاً، بل إن بعض الباحثين المعاصرين في مجال السوسيولوجيا الدينية يرون أنّ حضور الظاهرة الدينية في العالم المعاصر بعامةٍ قد تَغوّل إلى حدٍّ مهول، ولا أدلَّ على ذلك من تفاخُر كبار زعماء العالم وساسَـتِه وقادتِه بانتمائهم إلى الدين وتمسُّكِهم به واستلهامِهم إياه في أعمالهم وسياساتِهم...

على أنه لا شكّ في أنّ مفهوم الدين قد تغيّر، ففي مجتمعاتنا العربية والإسلامية غدا الدين كما يُقدّمُه بعض الحَرَكيّين الإسلاميين قانوناً صارماً لا لِين فيه ولا هوادة؛ فلا يكون المرءُ مُتديّناً في مقاييسهم إلا إذا انتظم في سِلكهم ووَرَد مَورِدهُم. وقد فاتهم أنّ هذا الدين رحمةٌ، دأبُه الرفْقُ واللِّـيْنُ، وذروةُ سَنامِه الدعوةُ بالتي هي أحسن، وغايتُه خلاصُ البشريةِ جمعاءَ وسعادتُها، لا أن يُشَـقّ على الناس ويُكلَّفوا ما لا يُطيقون. وعَزَب عن هؤلاء أنّ «هذا الدين يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»(57)، وأغفلوا: «إن الله لم يبعثني مُعَنِّـتاً ولا مُتعنّتاً، ولكنْ بعثني مُعلِّماً مُيسـِّراً»(58). لقد تَصوّروا الدينَ أصفاداً قيّدُوا بها عُقولهم ويُريدون أن يُقيّدوا بها ألباب الناس وأبدانهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- انظر: عبدالعزيز عزت، أهم نُظم الجماعات المتأخّرة، دار التأليف، القاهرة، ط1، 1956، ص4-5، وقبارى محمد إسماعيل؛ إميل دوركهايم مؤسّس علم الاجتماع المعاصر نظريّاً وتطبيقيّاً؛ منشأة المعارف بالإسكندرية؛ 1976، دون رقم الطبعة؛ ص219-270.

2- انظر: نبيل السمالوطي؛ الدين والبناء الاجتماعي؛ دار الشروق؛ جدّة، السعودية؛ ط1، 1981؛ ج2؛ ص12. وزيدان عبدالباقي، علم الاجتماع الديني، دار غريب للطباعة؛ القاهرة؛ دون رقم الطبعة وتاريخها؛ ص35-38 و97-108.

3- انظر: عبدالعزيز عزت؛ أهم نُظم الجماعات المتأخرة؛ ص6-7، و28-29، وعبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص49-50. لكن في المقابل لا شك أن ثمة توتُّراتٍ بين الدين والنشاطات الأخرى، وقد تصدّى ماكس فيبر لرصد هذه التوتّرات (التوتُّر مع الطوائف الأخرى، ومع الاقتصادي، والسياسي، والفنّ... إلخ). انظر: جوليان فروند؛ سوسيولوجيا ماكس فيبر؛ ترجمة جورج أبي صالح؛ مركز الإنماء القومي؛ بيروت، ط1؛ دون تاريخ؛ ص89-91

4- المعتقدات الدينية لدى الشعوب؛ المشرف على التحرير: جفري بارندر؛ ترجمة إمام عبدالفتاح إمام؛ عالم المعرفة؛ عدد173؛ مايو\أيار، 1993؛ ص7.

5- انظر: تقديم إمام عبدالفتاح إمام لـِ المعتقدات الدينية لدى الشعوب؛ ص7. ولعلّ ممّا يَعْضُدُ هذا المعنى أنّ الكُفر لُغةً هو السَّـتْـرُ والحَجْب.. انظر: ابن منظور؛ لسان العرب؛ دار إحياء التراث العربي-مؤسسة التاريخ العربي؛ بيروت، ط2، 1993؛ مج12؛ ص118-122، والمرتضى الزبيدي؛ تاج العروس من جواهر القاموس؛ تحقيق: علي شيري؛ دار الفكر، بيروت، 1994، دون رقم الطبعة؛ مج7؛ ص451.

6- زيدان عبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص15.

7- انظر: عبدالعزيز عزت؛ أهم نظم الجماعات المتأخرة؛ ص16. وحول نظرية أوغست كونت في الدين، انظر: إسماعيل مظهر؛ تاريخ الفكر العربي؛ دار الكاتب العربي، بيروت؛ دون رقم الطبعة أو تاريخها؛ ص109-110، وزيدان عبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص26-29

8- الطريف أنّ بعضهم غلا غُلوّاً كبيراً في التشديد على أن الدين مغروز في طبع الإنسان حتى قال: إن الإنسان حيوانٌ متديّن بفطرته، قياساً على قولهم: إنه حيوان مدَني بطبعه. انظر: محمد الزحيلي؛ وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه؛ منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية؛ طبعة خاصة، 1991؛ دون مكان الطبع؛ ص32، و34-48، وعلي سامي النشّار؛ نشأة الدين: النظريات التطورية والمؤلِّهة، مكتبة الخانجي؛ مصر؛ دون رقم الطبعة أو تاريخها؛ ص9-10.

9- محمد عبده؛ رسالة التوحيد؛ دار الكتب العلمية؛ بيروت، ط1، 1986؛ ص48.

10- علي سامي النشّار؛ نشأة الدين؛ ص2.

11- انظر: النشار؛ نشأة الدين؛ ص181-214 و184-195، و222-228

12- مصطفى عبدالرازق؛ الدين والوحي والإسلام؛ مكتبة الشباب-الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ ط2؛ 1997؛ دون مكان الطبع، ص12.

13- انظر: المرتضى الزبيدي؛ تاج العروس؛ مج18؛ ص214-219، ومقاتل بن سليمان البلخي؛ الأشباه والنظائر؛ تحقيق عبدالله شحاته؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ ط2، 1994؛ ص133-134، وابن الجوزي؛ نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر؛ تحقيق محمد الراضي؛ مؤسسة الرسالة؛ بيروت، ط1، 1984؛ ص295-299، وابن منظور؛ لسان العرب؛ مج4؛ ص458-462.

14- مصطفى عبدالرازق؛ الدين والوحي والإسلام؛ ص25.

15- أبو هلال العسكري؛ كتاب الفُروق؛ قدّم له وضبطه وعلّق حواشيه وفهرسه: أستاذنا أحمد سليم الحمصي؛ جروس برس؛ طرابلس، لبنان؛ ط1، 1994؛ ص242-243.

16- أحمد بن فارس؛ معجم مقاييس اللغة؛ اعتنى به: محمد عوض مرعب، وفاطمة محمد أصلان؛ دار إحياء التراث العربي؛ بيروت، ط1، 2001؛ مج1، ص353.

17- انظر دراسة أستاذنا رضوان السيد التي قدّم بها لـِ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك؛ للماوردي؛ بتحقيقه؛ المركز الإسلامي للبحوث ودار العلوم العربية؛ بيروت، ط1، 1987؛ ص23-24.

18- ابن منظور؛ لسان العرب؛ مج4؛ ص459.

19- انظر: المرتضى الزبيدي؛ تاج العروس؛ مج18؛ ص214.

20- انظر: الأزهري؛ تهذيب اللغة؛ تحقيق رياض قاسم؛ دار المعرفة؛ بيروت، ط1، 2001؛ مج2؛ ص1137.

21- انظر: نبيل السمالوطي؛ الدين والبناء الاجتماعي؛ ج2؛ ص18-19.

22- محمد علي التهانوي؛ موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم؛ تقديم وإشراف ومراجعة رفيق عجم؛ تحقيق علي دحروج؛ نقل النص إلى العربية: عبدالله الخالدي؛ مكتبة لبنان ناشرون؛ بيروت، ط1، 1996؛ ج1، ص814.

23- أبو البقاء أيوب بن موسى الحُسيني الكَفَوي؛ الكُلّيات؛ تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري؛ مؤسسة الرسالة، بيروت؛ ط2، 1993؛ ص443.

24- ابن الجوزي؛ نزهة الأعين النواظر؛ ص295.

25- محمد عبده؛ الإسلام بين العلم والمدنية؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ دون تاريخ؛ ص6-7.

26- انظر: مصطفى عبدالرازق؛ الدين والوحي والإسلام؛ ص13-14. لكن الأستاذ النشّار لا يوافق على أنّ أصل اشتقاق كلمة(Religion) هو من (Religio) التي تعني: يربط أو يجمع؛ ويرى أن "الكلمة في الحقيقة مستمدّة من (religere) أي يعبد بخوف واحترام". النشّار؛ نشأة الدين؛ ص12.

27- انظر تفصيل نظرية ساباتيه في: زيدان عبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص135-140، ونبيل السمالوطي؛ الدين والبناء الاجتماعي؛ ج2؛ ص79-80.

28- عن: فراس السوّاح؛ دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني؛ دار علاء الدين؛ دمشق، ط2، دون تاريخ؛ ص23-24

29- انظر: مصطفى عبدالرازق؛ الدين والوحي والإسلام؛ ص14-15.

30- انظر: علي سامي النشّار؛ نشأة الدين؛ ص20-21.

31- عن: مصطفى عبدالرازق؛ الدين والوحي والإسلام؛ ص21.

32- انظر: مصطفى عبدالرازق؛ المصدر نفسه؛ ص21، والنشّار؛ نشأة الدين؛ ص21

33- عن النشّار؛ نشأة الدين؛ ص22

34- عن النشّار؛ نشأة الدين؛ ص22-23.

35- عن النشّار؛ نشأة الدين؛ ص28. وانظر لمزيد بيانٍ: المصدر نفسه؛ ص22-28.

36- انظر: قبارى محمد إسماعيل؛ إميل دوركهايم مؤسس علم الاجتماع؛ ص263-267.

37- غوستاف لوبون؛ الآراء والمعتقدات؛ نقله إلى العربية: محمد عادل زعيتر؛ المطبعة العصرية، مصر؛ دون رقم الطبعة أو تاريخها؛ ص140-141.

38- أرنولد توينبي ودايساكو إكيدا؛ التحديات الكبرى: الحياة والدين والدولة؛ ترجمة محمود منقذ الهاشمي؛ منشورات وزارة الثقافة في سوريا؛ 1999، دون رقم الطبعة؛ ص372.

39- غوستاف لوبون؛ الجماعات: أفكارها ومعتقداتها؛ ترجمة أحمد فتحي زغلول وعادل زعيتر؛ دار بيبليون؛ باريس، 2006؛ دون رقم الطبعة؛ ص80.

40- فيلسيان شالي؛ موجز تاريخ الأديان؛ ترجمة حافظ الجمالي؛ دار طلاس، دمشق؛ ط3، 2007؛ ص15.

41- غوستاف لوبون؛ الجماعات؛ ص76، وانظر: المصدر نفسه؛ ص77.

42- وجيه قانصو؛ التعددية الدينية في فلسفة جون هيك؛ الدار العربية للعلوم ناشرون-المركز الثقافي العربي؛ بيروت؛ ط1، 2007؛ ص135. والطريف أنه عندما نشبت الثورة الفرنسية فكّر رجال الثورة في إيجاد آلهةٍ تحلُّ محلّ المسيحية، فأقاموا في كنيسة "نوتردام" (Notre-dame) عبادةً لـ "إلهة العقل" تُماثل العبادة التي دأب الناس عليها. انظر: فرانسوا غريغوار؛ المذاهب الأخلاقية الكبرى؛ ترجمة قتيبة المعروفي؛ منشورات عويدات، بيروت، ط3، 1984؛ ص86-89، وإريك هوبزباوم؛ عصر الثورة، أوروبا 1789-1848؛ ترجمة فايز الصُيّاع، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2007؛ ص409

43- انظر: زيدان عبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص111-115، وتوينبي وإكيدا؛ التحدّيات الكبرى؛ ص376.

44- انظر: قانصو؛ التعددية الدينية في فلسفة جون هيك؛ ص136-149.

45- أرنولد توينبي ودايساكو إكيدا؛ التحديات الكبرى؛ ص366-367.

46- انظر: المصدر نفسه؛ ص367.

47- غوستاف لوبون؛ الآراء والمعتقدات؛ ص145، وانظر: عبدالباقي الهرماسي؛ "علم الاجتماع الديني: المجال-المكاسب-اساؤلات"؛ في: الدين في المجتمع العربي؛ مجموعة من الباحثين؛ مركز دراسات الوحدة العربية؛ بيروت؛ ط1، 1990؛ ص18.

48- انظر: نبيل السمالوطي؛ الدين والبناء الاجتماعي؛ ج2، ص41-44.

49- انظر: تقديم أستاذنا رضوان السيد لِـ تسهيل النظر وتعجيل الظفر؛ للماوردي، ص11-13

50- رضوان السيد؛ الجماعة والمجتمع والدولة؛ دار الكتاب العربي، بيروت؛ ط2، 2007؛ 282.

51- عن: عبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص124، وانظر: المصدر نفسه، ص115-125.

52- عن: عبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص127-129

53- انظر: عبدالكريم سرّوش؛ الصراطات المستقيمة: قراءة جديدة لنظرية التعدُّدية الدينية؛ ترجمة أحمد القبانجي؛ مؤسسة الانتشار العربي؛ بيروت، ط1، 2009؛ ص205-240، ومحمد أركون؛ العلمنة والدين؛ ترجمة هاشم صالح؛ دار الساقي؛ لندن، ط1، 1990؛ ص23.

54- غوستاف لوبون؛ سرّ تطور الأمم؛ نقله إلى العربية: أحمد فتحي زغلول باشا؛ وضبط نصوصه ووضع حواشيه: أسعد السحمراني وعدنان حسين؛ دار النفائس؛ بيروت، ط1، 1987؛ ص132.

55- عبدالباقي؛ علم الاجتماع الديني؛ ص108، وأستاذنا رضوان السيد؛ سياسيات الإسلام المعاصر؛ دار الكتاب العربي، بيروت؛ ط1، 1997؛ ص337-355، وإبراهيم الحيدري؛ "جدلية الحوار حول أطروحة ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية""؛ مجلة العلوم الاجتماعية؛ مج18؛ عدد1؛ ربيع 1990؛ ص159-167

56- غوستاف لوبون؛ سرّ تطور الأمم؛ ص130.

57- البخاري؛ الصحيح؛ دار الكتب العلمية؛ بيروت، دون تاريخ؛ ج1، كتاب الإيمان، باب: الدين يُسر..؛ ص15. وانظر حول تغيُّر مفهوم الدين: برهان غليون؛ نقد السياسة، الدولة والدين؛ المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ بيروت، ط1، 1991؛ ص316-317

58- النووي؛ شرح صحيح مسلم؛ المطبعة المصرية بالأزهر؛ ط1، 1929؛ ج10، ص81.

59- مصطفى عبدالرازق؛ مذكّرات مسافر: رحلة شيخ الأزهر إلى أوروبا، 1909-1914؛ حرّرها وقدّم لها: أشرف أبو اليزيد؛ دار السويدي؛ أبو ظبي-الإمارات، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ بيروت، ط1، 2004؛ ص49.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/224

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك