فقه النصر والتمكين

في القرآن الكريم 

أنواعه - شروطه - أسبابه - مراحله وأهدافه

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

+يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ" [آل عمران: 102].

+يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء:1].

+يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا 
عَظِيمًا
" [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فإن موضوع فقه التمكين في القرآن الكريم يحتاج لبحث تحليلي عميق لخطورته ولأهميته في حياتنا المعاصرة حيث إن الأمة تمر بفترة عصيبة من تاريخها, فهي في أشد الحاجة لفهم فقه التمكين حتى ترسم أهدافها وتسعى لتحقيق آمالها وفق سنن الله الجارية في الشعوب والأمم والمجتمعات والدول، ولقد لاحظت في دراستي للقرآن الكريم أن أصول فقه التمكين واضحة المعالم في كتاب الله الكريم, فما على الباحث إلا أن يجمعها ويرتبها ويحللها ويبين أثرها على حياة الأمة عندما حرصت على تطبيقه في كل شئون حياتها، وماذا أصابها عندما ابتعدت عن كتاب ربها وسنة نبيها ×، إن وصول الأمة الإسلامية في هذا الزمان إلى التمكين ليس بالأمر السهل، ولكنه كذلك ليس بالأمر المستحيل، إذ على الرغم من التضييق الشديد والحرب الضروس التي تشن على الإسلام والمسلمين، فإن كثيرًا من المسلمين يرون أن التمكين لدين الله قاب قوسين أو أدنى من ذلك، ومهما رأى الأعداء أن التمكين للإسلام بعيد يشبه المستحيل فإن المسلم واثق بوعد الله أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وهذا ليس من باب الأحلام والتمنيات، ولكن من باب الثقة في الله تعالى، واليقين بوعده، إن كثيرًا من علماء الأمة وطلاب العلم فيها أجادوا في التصنيف في فنون متعددة ومتنوعة من علوم الدين، كما أنهم أفادوا الأمة في شرح الداء الذي أصيبت به الأمة, وفي بيان المؤامرات التي تحاك ضدها من قبل اليهود والنصارى وأعداء الإسلام، وبينوا شراسة الحملة التي شنها أعداء الإسلام بضراوة، وبكل الصور والأساليب على الأمة الإسلامية لتثبيط المسلمين، وخنق الأمل في صدورهم، وبث روح الهزيمة النفسية بين جوانحهم حتى لا ترتفع رؤوسهم، ولا تقوى عزائمهم، فيظلون في ذلك الضعف والهوان الذي صاروا إليه، فيصل بهم الأمر إلى الذوبان، والضياع، والتمزق بين سطوة الأمم التي تداعت عليها كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها، لقد تحدث بعض الخطباء والوعاظ عن مشاكل الأمة، وفساد أحوالها، بصورة تنشر اليأس وتوصد أبواب الأمل في وجه أبناء الأمة الغيورين، وشاعت روح الهزيمة بين صفوفهم، وأصبحنا كثيرًا ما نسمع من يقول: ماذا نفعل؟ ضاع الإسلام والمسلمون!..ويقفون على ذكريات الماضين ويتغنون بأمجادهم، فأدركت أن الأمر كبير, والقضية خطيرة ورأيت أن الأمة في أمسَّ الحاجة إلى ما يرد إليها ثقتها بربها، ومنهجها، في حاجة إلى من يوقظ الإيمان في قلبها، ويرشدها للأخذ بأسباب التمكين وشروطه، ويبين لها طبيعة الطريق، وكيفية السير فيه، ويوضح لها المعالم لتعرف كيف تعمل؟ وإلى أين تسير؟

إن الأمة في أشد الحاجة إلى فقه التمكين والعمل به، وعلى حد إطلاعي المحدود على هذا الفقه تعتبر أبحاثه جديدة؛ حيث بدأت الكتابة فيه والإشارة إلى أهميته مؤخرًا، وقد ظهرت بعض الكتب القيمة كالرسالة العلمية التي قُدمت للأزهر الشريف للباحث محمد يوسف بعنوان التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن الكريم، وما كتبه الدكتور على جريشة في كتابه: دعوة الله بين التكوين، والدكتور على عبد الحليم في كتابه: فقه الدعوة إلى الله، وفقه المسئولية، وقد رأيت أن مادة فقه التمكين من أهم الأبحاث والأطروحات التي يجب أن يهتم بها الباحثون، ولذلك استعنت بالله ثم بشيوخي الكرام, وأخص بالذكر الدكتور أحمد محمد جيلي للخوض في بحر فقه التمكين.

إن مادة فقه التمكين في القرآن غزيرة جدًا بحيث نجد أن القرآن الكريم تكلم 
عن أنواع التمكين، قال تعالى: +وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ" [يوسف: 21]، وقال تعالى: +وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ..." [يوسف: 56].

فإذا تأملت في الآيتين تلاحظ أن الآية الأولى أشارت للتمكين الجزئي ليوسف عليه السلام، والآية الثانية للتمكين الكلى في حقه، كما نجد أن القرآن الكريم أشار إلى أسباب التمكين المعنوية والمادية في قوله تعالى: +وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" [الأنفال: 60]، وأشار القرآن الكريم إلى شروط التمكين في قوله تعالى: +وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا"[النور: 55].

وأشار القرآن الكريم إلى مراحل التمكين في قصة بني إسرائيل من زمن موسى عليه السلام إلى العصر الذهبي في زمن داود وسليمان عليهما السلام.

وأشار القرآن إلى أهداف التمكين في قوله تعالى: +الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ"[الحج: 41], كما أشار القرآن الكريم إلى سيرة بعض المصلحين من الأنبياء والمرسلين وبين صفاتهم التي أهلتهم إلى أن أكرمهم الله بالتمكين كيوسف عليه السلام، قال تعالى: +نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 56].

وكسليمان عليه السلام في قوله تعالى: + رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ `فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ..." إلى أن قال: + هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ص: 36- 40].

وأشار القرآن الكريم إلى تمكين الله لذي القرنين وصفاته الربانية وشكره لله على نعمة التمكين، قال تعالى: +إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا"[الكهف: 84]، وقال تعالى: +قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا"[الكهف: 95].

وأشار القرآن الكريم إلى صفات جيل التمكين، قال تعالى: +يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" [المائدة: 54].

لقد قمت بدراسة الآيات السابقة من خلال أقوال المفسرين والعلماء والفقهاء وحاولت أن أنزلها على واقع المسلمين المعاصر حتى يتضح شيء من معالم فقه التمكين الذي نحن في أشد الحاجة إليه، وحاولت أن أستشهد بسيرة النبي × على التطبيقات العملية لفقه التمكين, وحرصت على دراسة السيرة النبوية دراسة متأنية مع التأمل بالإضافة لسيرة الخلفاء الراشدين حيث يعتبر عصرهم مدرسة مهمة في تطبيق هذا الفقه وتعرضت للحركات الإسلامية التي كان لها أثر في القرنين الماضيين والتي تركت معالم نيرة في فقه التمكين والتي توارثتها الحركات الإسلامية المعاصرة محاولاً إبراز فقه التمكين عندها ومناهج الإصلاح والتغيير التي انتهجتها في سعيها لتمكين الإسلام في هذا الزمان.

لقد كان اختياري لهذا الموضوع لأسباب من أهمها:

1- رغبتي في بحث يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فيقدم ما ينفع لعصرنا مما قرره علماء التفسير، فيكون فهمنا لفقه التمكين مستفادًا من فهمهم، فيجمع بذلك بين حفظ أقوالهم، وتقديم الحلول الصحيحة للمشكلات التي تتعرض لها الأمة في سعيها للتمكين.

2- بيان ضوابط وقواعد، ورسم معالم وحدود نفهم بها حقيقة فقه التمكين من خلال إبراز أنواعه وأسبابه وشروطه، ومراحله وأهدافه.

3- محاولة لم شَعْثِ موضوع فقه التمكين في رسالة علمية، تعطى فكرة متكاملة 
عن موضوعه.

4- دحض شُبه المغْرضين، وتفنيد آراء المغترين، الذين يتهمون ديننا بالجمود والقصور وعدم الوفاء بمتطلبات العصر, وأنه ليس له القدرة على خوض معارك التغيير والوصول بالأمة نحو التمكين الشامل لدينها من خلال دولة تحكم بشرع الله تعالى.

خطة البحث:

لقد اقتضت طبيعة الموضوع منى جعل البحث في:

مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة، وتفصيلها على النحو التالي:

أولاً: المقدمة:

تكلمت فيها عن أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، والخطة التي سرت عليها، والمنهج الذي سلكته في معالجة مسائل البحث.

ثانيًا: التمهيد:

وتكلمت فيه عن مصطلحات عنوان البحث من الناحية اللغوية والشرعية.

ثالثًا: الأبواب:

الباب الأول: أنواع التمكين في القرآن الكريم، وفيه أربعة فصول:

الفصل الأول: تبليغ الرسالة وأداء الأمانة.

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: أصحاب القرية.

المبحث الثاني: أصحاب الأخدود.

المبحث الثالث: تمكين الله تعالى لرسول الله لتبليغ الرسالة في مكة.

الفصل الثاني: هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين ونصرهم في المعارك.

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: قصة نوح عليه السلام وهلاك قومه.

المبحث الثاني: موسى عليه السلام مع فرعون.

المبحث الثالث: طالوت عليه السلام مع بنى إسرائيل.

المبحث الرابع: الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع قومه.

الفصل الثالث: في المشاركة في الحكم، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: أدلة المانعين وأدلة القائلين بالجواز.

المبحث الثاني: شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة.

الفصل الرابع: إقامة الدولة، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام.

المبحث الثاني: فقه التمكين عند ذي القرنين.

الباب الثاني: شروط التمكين وأسبابه، وفيه فصلان:

الفصل الأول: شروط التمكين، وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: الإيمان بالله والعمل الصالح.

المبحث الثاني: تحقيق العبادة.

المبحث الثالث: محاربة الشرك.

المبحث الرابع: تقوى الله.

الفصل الثاني: أسباب التمكين، وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: سنة الأخذ بالأسباب وإرشاد القرآن للإعداد.

المبحث الثاني: الأسباب المعنوية.

المبحث الثالث:الأسباب المادية.

الباب الثالث: مراحل التمكين وأهدافه، وفيه فصلان:

الفصل الأول: مراحل التمكين، وفيه خمسة مباحث.

المبحث الأول:مرحلة الدعوة والتعريف بالإسلام.

المبحث الثاني: مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة.

المبحث الثالث: مرحلة المغالبة.

المبحث الرابع: مرحلة التمكين.

المبحث الخامس: الحركات الإسلامية ودورها في العودة إلى التمكين.

الفصل الثاني: أهداف التمكين، وفيه مبحثان.

المبحث الأول: إقامة المجتمع المسلم.

المبحث الثاني: نشر الدعوة إلى الله.

رابعًا: الخاتمة, وفيها أهم نتائج البحث.

*  منهجي في البحث:

لقد كانت كتابتي في هذا الموضوع ضمن منهج معين التزمت به قدر الإمكان، وهذا المنهج فيما يأتي:

1- الرجوع إلى المصادر الأصلية في البحث ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

2- الحرص على التزام الأمانة العلمية في عزو الأقوال إلى قائليها، وبذل الجهد في نقل قول كل قائل من مصدره على قدر المستطاع.

3- الحرص على تدعيم البحث بالنصوص الشرعية من الكتاب والسُنَّة، ونصوص العلماء مع تمييز كل ذلك بعلامات التنصيص، والأقواس.

4- بيان مواضع الآيات القرآنية الكريمة في المصحف الشريف، وذلك بذكر اسم السورة ورقم الآية.

5- تخريج الأحاديث النبوية الواردة في ثنايا الرسالة من كتب الأحاديث المشهورة.

6- تخريج الأبيات الشعرية من دواوين قائليها إن تمكنت من ذلك، وإلا ذكرت مَنْ ذكرها من العلماء.

7- الترجمة للأعلام الواردة أسماؤهم في الرسالة.

8- شرح المصطلحات والكلمات الغريبة.

9- وضع فهارس علمية في آخر الرسالة تسهل الاستفادة منها وهي كالآتي:

  أ- فهرس المصادر والمراجع.

ب- فهرس الموضوعات.

هذا، وإني بذلت ما في وسعى في معالجة قضايا هذا الحديث ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، غير أن قِلّة بضاعتي، وصعوبة هذا البحث، وتشعب مباحثه أثنتني عن كثير مما أردت.

ولا يفوتني - في الختام - أن أتقدم بجزيل الشكر إلى أستاذي وشيخي الجليل فضيلة الدكتور: أحمد محمد جيلي الذي أكرمني الله تعالى به للإشراف على هذه الرسالة، ولقد كان - حفظه الله- مثالاً حسنًا للأخلاق الفاضلة، ونموذجًا حيًا للصدق والإخلاص، والتواضع، والكرم، وبشاشة الوجه.

ولقد أفادني بتوجيهاته المفيدة، وآرائه السديدة، وتعليقاته النفسية، ولقد أعطاني من وقته وتوجيهاته ما ذلل أمامي عقبات كثيرة في البحث، لقد كان -حفظه الله تعالى - بعد الله - عونًا مخلصًا، وكنت إذا ما واجهتني مشكلة في البحث، أتصل به، فأجد من فضيلته كل ترحيب وتقدير.

فالله أسأل أن يثيبه وأن يجزيه أحسن الجزاء، وأن يطيل عمره في طاعته وأن يبارك له في وقته وأهله وماله.

كما أتقدم بالشكر إلى أساتذتي وإخواني الذين وقفوا معي بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا البحث, ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر إلى جامعة أم درمان الإسلامية على ما تبذله من عطاء متجدد للأمة الإسلامية، وغرس للعقيدة الصحيحة في نفوس أبنائها، وقد أكرمني الله بالدراسة فيها, فأسأله سبحانه أن يجزى القائمين عليها خير الجزاء، وأن يعينهم على أداء واجبهم, إنه سميع قريب.

كما أسأله سبحانه أن يمن علينا بنعمة الإيمان والعيش مع القرآن والعمل للإسلام مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وأن يجعل ما قدمنا حجة لنا لا حجة علينا.. إنه ولي ذلك والقادر عليه.

* * *

 

تمهيـــــــد

هذا تمهيد مختصر يعطى نبذة موجزة عن المصطلحات المتعلقة بعنوان البحث:

أولاً: الفقه:  له معنيان، معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي.

أ- والمعنى اللغوي فيه ثلاثة أقوال:

1- الفقه: مطلق الفهم سواء كان غرضًا للمتكلم أم لغيره، وهذا الذي عليه أئمة اللغة، واستدلوا له بما ورد في القرآن الكريم مثل قوله تعالى في شأن الكفار: +فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا" [النساء: 78]، ومثل قوله تعالى على لسان قوم شعيب عليه السلام: +مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ" [هود: 91] فيستفاد ويفهم من الآية الأولى أن فهم أي حديث ولو كان واضحًا سمي فقهًا، ويفهم من الآية الثانية أن قوم شعيب عليه السلام كانوا يفهمون بعض كلامه. ([1])

ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: +وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" [الإسراء: 44]، وقوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: +وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ` يَفْقَهُوا قَوْلِي" [طه: 27، 28].

وقوله ×: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».([2])

2- الفقه: هو فهم غرض المتكلم من كلامه سواء كان الغرض واضحًا أم غير واضح، فلا يسمى فهم ما ليس غرضًا للمتكلم فقهًا كفهم لغة الطير مثلاً.

3- الفقه: هو فهم الأشياء الدقيقة، فلا يقال فقهت أن السماء فوقنا والأرض تحتنا([3])، وهذا مردود بما قاله أئمة اللغة: إن الفقه هو مطلق الفهم، وامتناع قولهم فقهت السماء والأرض إنما هو من ناحية أن الفقه يتعلق بالمعاني لا بالمحسوسات، والسماء والأرض من قبيل المحسوسات.

والراجح من هذه المعاني هو المعنى الأول للفقه، الذي هو مطلق الفهم، ويقال فقه بكسر القاف: أي فهم، وفَقُهَ بالضم: صار الفقه له سجية وملكة، وفَقَه بالفتح: سبق غيره إلى الفهم. ([4])

ب- المعنى الاصطلاحي للفقه:

يراد بالفقه في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. ([5]أو هو: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية. ([6])

ج- التطور التاريخي لكلمة (فقه):

أذن النبي × لبعض الصحابة في الاجتهاد بعد أن توافرت فيه شروطه وبسبب ابتعادهم عن النبي × وتعذر مراجعتهم له حين حدوث الواقعة كمعاذ بن جبل رضي الله عنه ([7]حين بعثه إلى اليمن معلمًا وقاضيًا, وكان الصحابة الذين يجتهدون في بعض الوقائع الخاصة يعرضون اجتهادهم على النبي × بنية إقرارهم أو توجيههم إلى الصواب، ومع ذلك لم يشع إطلاق اسم الفقهاء عليهم، وإنما كانت هذه الكلمة ترد في توجيهات الرسول × وعلى ألسنة الصحابة والتابعين، وكان معناها عندهم يقصد به أصحاب الفطنة والبصيرة النافذة في أحكام الدين ومعاني النصوص من الكتاب والسُنَّة، ففي الحديث يقول ×:«نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربّ حامل فقه ليس بفقيه»([8])، فذل الحديث على تفاوت الناس في فهم معاني النصوص وما ترمى إليه عند استخلاص الأحكام منها. ([9])

ومن هنا يتضح أن إطلاق كلمة (الفقه) كانت تعنى العلم بأحكام الدين على وجه العموم والشمول سواء كان فقه العقيدة، أو فقه التفسير أو فقه الحديث أو فقه الفتيا في أمور العبادات، والمعاملات، فيكون المقصود (بالفقهاء) هم العلماء في أمور الدين الإسلامي جملة، أما في أوساط عهد التابعين، فقد أخذت كلمة (الفقه) مدلولاً أخص من مدلولها الأول، فلا تطلق إلا على علم الأحكام الشرعية العملية التي يتوصل العلماء إلى استنباطها من الأدلة التفصيلية، واشتهر من اشتغل بهذا الجانب (بالفقهاء) فقيل: فقه الإمام أحمد([10]), وفقه الإمام الشافعي([11]), وفقه الإمام مالك, وفقه الإمام أبى حنيفة([12]وهكذا([13]).

ثانيًا: التمكين في اللغة والاصطلاح:

أ- التمكين في اللغة:

مصدر الفعل (مَكَّن) الذي يتكون من الحروف (م، ك، ن) ومنه (أمْكَنَه) منه بمعنى استمكن الرجل من الشيء، وتمكّن فلان من الشيء، وفلان لا (يُمْكِنه) النهوض أي لا يقدر عليه. ([14])

ومن التمكين المَكِنَة تقول العرب: إن بنى فلان لذو مَكِنة من السلطان أي تمكَّن ([15]). وتسمى العرب موضع الطير مكنة لتمكن الطير فيه ([16]), والمكانة عند العرب هي المنزلة عند الملك، والجمع مكانات، لا يجمع جمع تكسير، وقد مَكُن مَكانةً فهو مَكين، والجمع مُكنَاء, ونُمكّن - تمكُّن.

والمتمكن من الأسماء: ما قبـِـلَ الرفع والنصب والجر لفظًا. ([17])

فالتمكين في اللغة: سلطان وملك.

وقد أشار المولى عَزَّ وَجَلَّ في قوله تعالى عن ذي القرنين: +إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [الكهف: 84].

والمعنى: أن الله مكن لهذا العبد الصالح في الأرض، فأعطاه سلطانًا قويًا، ويسر له كل الأسباب التي تدعم هذا السلطان، وأعطاه من كل شيء مما يحكم السلطان ويقويه، وكذلك الشأن في حديث القرآن الكريم، عن نبي الله يوسف بن يعقوب، عليهما السلام، فقد مكن الله ليوسف في الأرض + وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ` وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" [يوسف: 56، 57].

ب- التمكين في الاصطلاح:

دراسة أنواع التمكين وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع الأمة إلى ما كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس.

وقد عرفه الشيخ الدكتور على عبد الحليم، بقوله: (هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام، فالدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها، والحركة وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال، والتنظيم، وما يستهدفه في الدعوة والحركة، والتربية بكل أبعادها وأنواعها وأهدافها ووسائلها بحيث لا يختلف على ذلك الهدف الأكبر أحد العاملين من أجل الإسلام، كل العاملين مهما اختلفت برامجهم - بشرط أن تكون هذه البرامج من العاملين نابعة من القرآن الكريم والسنَّة المطهرة، وليس فيها شيء مما يغضب الله - لا يستطيعون أن يختلفوا في أن التمكين لدين الله في الأرض هو الهدف الأكبر في كل عمل إسلامي ([18]), حتى يكون سلطان الدين الإسلامي على كل دين, ونظام الحكم بهذا الدين على البشرية كلها وهذا التمكين يسبقه الاستخلاف والملك والسلطان، ويعقبه أمن بعد خوف) ([19]).

وعرفه الأستاذ محمد السيد محمد يوسف بقوله: (دراسة الأسباب التي أدت إلى زوال التمكين عن الأمة الإسلامية، والمقومات  التي ترجع الأمة إلى التمكين، والعوائق التي تعترض العمل للتمكين، دراسة طبيعة الطريق إلى التمكين، وكذلك المبشرات على هذا الطريق، وذلك كله في ضوء القرآن الكريم مع الاستعانة بأحاديث النبي العظيم ×).([20])

وعرفه الأستاذ فتحي يكن بقوله: (بلوغ حال من النصر، وامتلاك قدر من القوة، وحيازة شيء من السلطة والسلطان، وتأييد الجماهير والأنصار والأتباع، وهو لون من ألوان الترسيخ في الأرض، وعلو الشأن) ([21]).

ثالثًا: القرآن الكريم في اللغة والاصطلاح:

أ- معنى القرآن في اللغة:

القرآن من مادة قرأت, ومنه قرأت الشيء فهو قرآن: أي جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم، ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقة جنينًا، أي لم تضم رحمها على ولد ([22]).

قال أبو عبيدة ([23])- رحمه الله -: (...وإنما سمي قرآنًا لأنه يجمع السور فيضمها, وتفسير ذلك في آية القرآن، قال الله تعالى: +إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" [القيامة: 17]، أي: تأليف بعضه إلى بعض...) ثم قال: وفي آية أخرى: +فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ" [النحل: 98]، أي: إذا تلوت بعضهم في إثر بعض، حتى يجتمع، وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه: يصير إلى معنى التأليف والجمع، ثم استشهد على هذا المعنى بقول عمرو بن كلثوم: ([24])

ذراعــي حـــرة أدمــاء بــكر            هيـــجان اللــون لــم تقــــرأ جنينــا ([25])

أي لم تضم في رحمها ولدًا قط([26]), فيسمى القرآن قرآنًا، لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور: بعضها إلى بعض([27]).

يذكر أبو بكر الباقلاني([28]): أن القرآن يكون مصدرًا واسمًا: مصدرًا كما في قوله تعالى: +إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" [القيامة: 17] واسمًا كما في قوله تعالى: +وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا" [الإسراء: 45] ويروى عن الشافعي - رحمه الله - أن القرآن اسم علم لكتاب الله، غير مشتق: كالتوراة والإنجيل. ([29])

قال القرطبي ([30])- رحمه الله-: (والصحيح الاشتقاق في الجميع) ([31]أي في القرآن والتوراة والإنجيل.

ب- معنى القرآن في الاصطلاح:

القرآن الكريم: هو اسم لكلام الله تعالى، المنزل على عبده ورسوله محمد×، وهو اسم لكتاب الله خاصة، ولا يسمى به شيء غيره من سائر الكتب ([32])، وإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله.

ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى، وفي كلام الله خاصة، من قبل الزنادقة، وفرق المبتدعة، احتاج أهل السُّنَّة إلى تعريف القرآن تعريفًا يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة، وفي صفة الكلام خاصة، ومنه القرآن, مخالفين بذلك أهل البدع من الجهمية([33]والمعتزلة ([34]وغيرهم.

قال أبو جعفر الطحاوى ([35])-رحمه الله -: (وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا, وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه، فزعم أنه كلام البشر فقد كفر)([36]).

* * *

 

 

 

 

 

 

 

 
   

 

 

 

 

 

أنواع التمكين

فــــــي  القرآن الكريم

 

 

 

تمهيد

قال تعالى:+إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ"[غافر: 51].

وقال سبحانه: +وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47]. وقال تعالى: +إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ" [محمد:7]. وقال تعالى: +وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ` إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ` وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" [الصافات: 171- 173].

إن هذه الآيات وأمثالها تشير إلى نصر الله وإعزاز أهل الإيمان ممن يحرصون على الدعوة ويتحملون المشاق في سبيلها سواء كان الداعية رسولاً كريمًا أو أحد المؤمنين، وهذا الإعزاز والانتصار والتمكين يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.

ونجد في القرآن الكريم والسنُّة النبوية المطهرة، أن من الأنبياء من قتله أهل الكفر والشرك، كيحيي وزكريا عليهما السلام وغيرهما، ومنهم من حاول قومه قتله إلا أن الله نجاه منهم كنبينا محمد × وعيسى ابن مريم عليه السلام، وكإبراهيم الذي ترك قومه وعشيرته مهاجرًا إلى الشام, ونجد من أهل الإيمان على مر العصور ومر الدهور من يسام سوء العذاب وفيهم من يلقى في خدود الأرض المليئة بالنيران المحرقة، ومنهم من يقتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟ وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟ ([37])

يقول سيد قطب - رحمه الله -: (ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل:

إن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير.

إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة، فأما المقياس الشامل، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان، ولو نظرنا إلى قضية الإيمان والاعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الإيمان هو انتصار أصحابها، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها.

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقي في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها..أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك -في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار, كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد.. فأما في الحقيقة قريب من قريب). ([38])

(وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته  الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزًا محركًا لخطى التاريخ كله مدى أجيال). ([39])

(إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة: ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد × في حياته، لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعًا، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعية تاريخية محدودة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه) ([40]).

إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة، وصور متنوعة من أهمها؛ تبليغ الرسالة، وهزيمة الأعداء، وإقامة الدولة.

الفصل الأول

تبليغ الرسالة وأداء الأمانة

إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم، تمكين الله تعالى للدعاة، بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، واستجابة الخلق لهم، وقد أشار القرآن إلى عدة نماذج من ذلك:

المبحث الأول: أصحاب القرية

قال تعالى: +وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ` إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ` قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ` قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ` وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ` قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" [يس: 13- 18].

إن أهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين، ومضوا في كفرهم وعنادهم غير مبالين، وهددوا المرسلين بالرجم والعذاب الأليم، والمتأمل في الآيات القرآنية تظهر له بعض معاني النصر والتمكين، التي حققها المرسلون، وبذلك يكونون قد نصروا نصرًا مؤزرًا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، إن معاني النصر ظهرت في الحقائق التالية:

1- تمكين الله تعالى للمرسلين بحيث استطاعوا تبليغ رسالته، ولم يستسلموا لشبهة أهل القرية أولاً، وتهديدهم ثانيًا، وهذه هي مهمتهم: +وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" [يس: 17] ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.

2- إن استجابة رجل من أهل القرية لهم، وتأييده لدعوة التوحيد علانية يعد نصرًا وانتصارًا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفًا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.

3- إن استشهاد الرجل الذي جاء من أقصى المدينة نصر له ولدعوة التوحيد حيث استطاع أن يودع في قلوب الناس من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي كتبها بدمه، فأصبحت حافزًا محركًا لأهل الإيمان على مر الدهور ومر العصور منذ نزول القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، 
إن قتله في سبيل دعوة التوحيد كان سببًا في فوزه الأبدي بدخول الجنة +قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ" [يس: 26].

لقد تمكن التوحيد في قلبه فجعله حريصًا على هداية قومه، فلم يحمل حقدًا ولا ضغينة مع تعذيب قومه له وقتله، وهذا انتصار عظيم على النفس البشرية: +قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ` بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ" [يس: 26، 27].

إن وصول دعوة التوحيد إلى أقصى المدينة دليل على المجهود العظيم الذي بذله المرسلون وتدل على المعاني العظيمة من الصدق والإخلاص التي تمكنت في نفوسهم من أجل دعوة التوحيد.

4- إن انتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية الذي جاء من أقصى المدينة توجت بهلاك القوم الذين كذبوا بدعوة المرسلين +وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ` إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ" [يس: 28، 29].

إن الدعاة إلى الله في أمسِّ الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتأملوا ويتفكروا في أبعادها ونهاياتها. إنني أريد أن أقف مع الرجل المؤمن الذي تمكن الإيمان في قلبه, ماذا فعل في نفسه ذلك الإيمان العظيم، لقد وفق سيد قطب رحمه الله في تحليل نفسية هذا النموذج الطيب والرجل المؤمن المستجيب لدعوة الرسل، وحلل نفسيته الخيرة، فقال: إنها استجابة الفطرة السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيها الصدق والبساطة، والحرارة، واستقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القوي للحق المبين.

فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها بعد ما رأى فيها دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته، وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور، ولكنّه سعى بالحق الذي استقر في ضميره, وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه، وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويتهدّدون.

وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفّهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبّوه على المرسلين.

وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنّها العقيدة الحيّة في ضميره، تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها.([41])

ولقد أجاد الإمام الفخر الرازي([42]في الإشارة إلى بعض المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب الرجل المؤمن الصادق المخلص.. وأنقل إليك بعض هذه المعاني:

1- إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات القصّة له وجهان:

أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين، حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا ففي قوله: +مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ" بلاغة باهرة، فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى المدينة.

الثاني: أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب أصحاب الرسول × وتثبيتهم على الدعوة، كما كان ذكر الرسل الثلاثة تسلية لقلب الرسول ×.

2- في تنكير +رَجُلٌ" فائدتان وحكمتان:

الأولى: أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجوليّة.

الثانية: أن يكون مفيدًا لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنَّهم تواطأوا.

3- في قوله: +يَسْعَى" تبصير للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، ساعين فيه، مقتدين بالرجل الذي جاء يسعى.

4- في قوله: +يَا قَوْمِ" معنى لطيف, حيث يشير إلى إشفاقه عليهم، وإضافتهم إليه دليل على أنه لا يريد بهم إلا خيرًا.

5- في قوله: +اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" دعوة منه لهم إلى اتباع المرسلين، ولم يقل: اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة غافر، وذلك لأنه جاء من أقصى المدينة، ولم يكن معهم ولا بينهم، فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل، وأوضحوا لهم السبيل.

6- جمع في قوله: +اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" بين إظهار النصيحة في قوله: +اتَّبِعُوا" وإظهار الإيمان في قوله: +الْمُرْسَلِينَ" وقدّم النصيحة على الإيمان لكونه أبلغ في النصح.

7- في قوله: +اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ" معنى حسن لطيف، واستخدام لأحسن الأساليب في النقاش والجدال والإقناع، حيث نزل فيه درجة لإقناعهم، وكأنه يقول لهم: افترضوا أنهم ليسوا مرسلين ولا هداة، ولكنهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة التي توصلهم إلى الحق، ثم هم لا يسألونكم أجرًا ولا مالاً، وهذا الأمر يدعوكم إلى اتباعهم والاستجابة لهم.

8- في قوله: +وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" استفهام استنكاري، وفيه إشارة إلى أن الأمر من جهة عبادة الله وحده لا خفاء فيه، وعلى الذي لا يعبده أن يقدّم السبب الذي يمنعه من عبادته، أما أنا فلا أجد مانعًا يمنعني من عبادته.

9- وفي قوله: +وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" لطيفة أخرى، حيث عدل عن مخاطبة القوم إلى الحديث عن نفسه، والحكمة في ذلك، وهو أنه لا يخفى عليه حال نفسه، ولذلك فهو لا يطلب العلة والدليل من أحد آخر، لأنه أعلم بحال نفسه.

10- جمع في قوله: +وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" بين أمرين يتعلقان بإيمانه بالله.

الأول: هو عدم المانع الذي يمنعه من الإيمان في قوله: +وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي".

والثاني: هو قيام المقتضى الذي يدعوه إلى الإيمان، وهو في قوله: +الَّذِي فَطَرَنِي"، فالله الخالق مالك ومنعم, وعلى العبيد عبادته وشكره.

11- قدم عدم المانع من الإيمان على المقتضى الذي يدعوه للإيمان في قوله: +وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه هو الأهم من المقصود من السياق.

12- قال: +فَطَرَنِي" ولم يقل: (فطركم) لأنه يتحدث عن نفسه وليس عنهم، ولتناسقه مع قوله: +وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ"، حيث أسند العبادة إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه.

13- يتضمن قوله: +وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" الخوف والرجاء في عبادة الله، فمن يكون إليه المرجع والمآب، يخاف منه ويرجى.

14- هناك حكمة لطيفة من الالتفات إليهم في قوله: + وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله، فرجوعه هو إلى الله ليس كرجوعهم هم.

رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله، ولهذا رجوعه للإكرام والإنعام، أما رجوعهم هم، فهو رجوع الكافر العاصي، ليحاسب ويعاقب ويعذّب, فرجوعهم للعذاب والإهانة وشتان بين رجوعين.

15- في قوله: +أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى كمال التوحيد، فقوله: +وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" إشارة إلى وجود الله، وفي قوله:+أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة إلى نفي الشرك به وعدم عبادة غيره.

16- في قوله: +مِن دُونِهِ آلِهَةً" إشارة لطيفة، فالدونية هنا مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود، فكل غير الله هم ++دُونِهِ"" وهؤلاء جميعًا مشتركون في كونهم مخلوقين ضعفاء، محتاجين إلى الله، مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا جميعًا عابدين له، وبما أنهم كلهم (من دونه شركاء في الدونية) فكيف يكون من بينهم آلهة؟!

17- في قوله: +إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ" يخاطب الجميع، سواء كانوا من المرسلين أو من أهل القرية، لكنه أول ما يتوجه إلى أهل القرية، حيث يثبت لهم أن الله وحده ربُّهم.

18- في قوله: +فَاسْمَعُونِ" ما يدل على أنه كان مترويًا مفكرًا، فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين، فإنه يتفكر فيه، كما أنه يقصد أن يُسمعهم ليقيم الحجة عليهم، وكأنه يقول لهم: إني أخبرتكم بما فعلت، حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك، ولو أظهرت أمرك لاتبعناك.

19- المراد بالسماع في قوله: +فَاسْمَعُونِ" ليس مجرد سماع الصوت، بل قبول الدعوة، والاستجابة لصوت الحق والدخول في الإيمان. ([43])

إن هذه المنهجية الفريدة مع صدق الدعوة وإخلاص التوجه، والحرص على الهداية، وظهور الشجاعة، وترتيب الأفكار، وقوة المنطق ترجع إلى تمكن الإيمان الحقيقي في قلب ذلك الرجل الرباني، كما أن المرسلين الذين استطاعوا أن يضموا إلى موكب الإيمان وقافلة الدعوة مثل هذا الرجل المخلص لَدلَيل على نصر الله لهم وتمكين دعوتهم وظهور حجتهم. إن دعوة الله يستجيب لها من اتصف بصفة الرجولة, وهناك فرق بين الرجولة والذكورة، فإن الذكورة تقابل الأنوثة، فالزوجان هما الذكر والأنثى.

والذكورة صفة جسدية بدنية ليس إلا؛ لكنّ الرجولة تشير إلى الشدة والقوة والتحمُّل والشجاعة والثبات، فهي تشير إلى صفات نفسية، ومزايا معنوية، وفضائل أخلاقية.

ولعله لأجل هذا وردت صفة الرجولة في مقام مدح وثناء وإشارة، قال تعالى: +وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ..." [القصص: 20].

وقال تعالى: +وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" [يس:20].

وقال تعالى:+وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ" [غافر:28].

وقال تعالى:+مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" [الأحزاب: 23].

وقال تعالى:+فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ `رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ" [النور: 36، 37].

وقال تعالى:+فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ" [التوبة: 108].

إن خطوة ذلك الرجل المؤمن تعتبر موقفًا إيمانيًا عظيمًا، وتدل على أن الحياة فعلاً مواقف، وأن الرجال بمواقفهم لا بأعمارهم، لقد آمن في وقت المحنة والشدة والابتلاء، واتَّبع المرسلين وهم مستضعفون، وتحدى بذلك القوة المادية الغاشمة، وأعلن عن إيمانه وطلب أن يسمعوه، مع أنه يرى الخطر أمامه، ويتوقع أن يناله الأذى والمكروه، وقد يؤدي موقفه إلى إزهاق روحه، ومع ذلك آمن وأعلن إيمانه، واستعد لتحمل نتيجة موقفه. ([44])

إن الذين يسعون لتمكين شرع الله في دنيا الناس عليهم أن يتصفوا بصفات الرجولة ويحرصوا على ضم من تظهر فيهم هذه الصفات الجميلة إلى صفوفهم.

إن ذلك الرجل الرباني أصبح نبراسًا ومعلمًا بارزًا على طريق الدعوة، يقتدي به الدعاة في انحيازهم إلى جانب الحق والتزامه والدعوة إليه، ولسان حال أحدهم يقول للآخرين: +إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ".

إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه، يحتاج إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الآخرون، إن جمال الحياة ورونقها البهي وحلاوتها النضرة تكون بنصرة الحق ودك الباطل في حصونه.

وإن المواقف الإيمانية ابتغاء مرضاة الله رفعة للداعية في الدنيا والآخرة.

إن أصحاب المواقف الإيمانية هم دائمًا الرابحون، فعندما يدفع الإنسان المؤمن حياته وعمره ودنياه، وهو هبة ومنحة وعطية وفضل من الله مقابل الجنة والنعيم الدائم والخلود الأبدي يكون ربح ربحًا وفيرًا وفاز فوزًا عظيمًا.

إن أهل الإيمان يكظمون غيظهم، ويحلمون على الجهلة والصبر على دعوة الأشرار وأهل البغي والسعي في تخليصهم, ويبتعدون عن الشماتة بالأعداء, ألا ترى كيف تمنى الرجل الرباني الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبده أصنام. ([45])

إن دخول الجنة مع الشهادة في سبيل الله نوع من التمكين، واستئصال أهل الشرك الذين عاندوا الدعاة نوع من النصر لأولياء الله.

المبحث الثاني

 أصحـــــاب الأخــــــــــدود

إن قصة الغلام مع الملك الكافر من أوضح القصص في تمكين الله تعالى للدعاة في تبليغ رسالتهم وأداء أمانتهم.

قال رسول الله ×: «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلىَّ غلامًا لأعلمه السحر، فدفع إليه غلامًا كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، قال: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بنى أنت أفضل مني, ستبتلي، فإن ابتليت فلا تدل علىَّ؛ فكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم بإذن الله, وكان للملك جليس فعمى، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال: ما أنا أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أو لك رب غيري؟ قال: نعم، ربي الله وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بنى، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفى أحدًا، إنما يشفى الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: أنا؟ قال: لا. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضًا بالعذاب لم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى الراهب، فقال: ارجع عن دينك، فأبي فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبي، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوا، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهو، أجمعون، وجاء الغلام يلتمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله - تعالى -, فبعث به مع نفر في قرقور في البحر، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرّقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال: الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل, وضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.

فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدَّد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبرى يا أمّاه فإنك على الحق».([46])

لقد انتصر الغلام بعقيدته على الملك الكافر، وتمكن منهجه الرباني في نفوس رعايا الملك المشرك الغادر, وثبتوا على عقيدتهم وضحوا بأنفسهم من أجل إيمانهم وعلموا البشرية معنى من معاني الانتصار.

قال سيد قطب رحمه الله: (في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان, وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية في نفوس الفئة الخيرية الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان.

في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.

ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئًا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.

إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام, ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.

إن الناس جميعًا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون - جميعًا - هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون كثير من الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس - أيضًا - إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرّية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.

+وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ" [البروج: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.

إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئًا آخر على الإطلاق, وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة. ([47])

إن المتأمل في قصة الغلام يجد أن الغلام انتصر بعقيدته ومنهجه, وكذلك الراهب الذي ثبت من أجل أن تبقي عقيدته في مقابل أن تزهق روحه، أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.

إن الراهب والأعمى قد خلّدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدًا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم فعلوا ذلك من أجل الدين.

لقد كان الغلام ذكيًا ألمعيًا, وحين سنحت له فرصة عظيمة في تبليغ رسالة ربه، اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوم النصر والتمكين.

لقد انتصر الغلام بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان, وانتصر عندما وفق لاتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيًا جميع العقبات، ومستعليًا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا، وانتصر على هذا الملك المتجبر المتغطرس، الذي أعمى الله قلبه، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

إن الغلام كان عبقريًا عندما خطط لإهلاك الملك الكافر وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله.

لقد كان الانتصار العظيم في المعركة بين الكفر والإيمان لصالح موكب التوحيد، لقد استشهد فرد وحيت بسببه أمة فآمنت برب الغلام.

إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.

لقد انتصر الغلام عندما جعله الله قدوة لمن بعده، وأبقى له ذكرًا حسنًا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين، لقد كانت انتصارات متلاحقة ووصلت إلى ذروتها عندما آمن الناس برب الغلام, آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنالك جن جنون الملك، فقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.

ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب, إذا نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار ولا غريب، لأن الإيمان بث في نفوسهم الشجاعة، والثبات, وها هم يجدّون في اللحاق بالغلام، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداءً لعقيدتهم ودينهم.

إن الإيمان الحقيقي يصنع بالأمم الغرائب, ويبدد الظلام الطويل الذي عاشوه، والسنوات المديدة التي استعبدهم فيها الطغاة، ومع قصر المدة التي قد يأتي فيها الإيمان إلى النفوس إلا أنه كفيل بتعريف الناس بحقيقة المنهج الرباني كما نرى في هذه الأمة السعيدة التي آمنت برب الغلام، وكأنهم عرفوا المنهج وعاشوا فيه كما عاش الراهب طوال عمره، أو تربوا عليه كما تربي الغلام في صباه.

إن حقيقة الإيمان عندما تخالط بشاشة القلوب، وتلامس الأرواح تفعل العجب.

لقد كان انتصار الناس الذين آمنوا برب الغلام انتصارًا جماعيًا مباركًا يدل على صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم لحقيقة الانتصار.

إننا لا نجد في القرآن ولا في السُّنَّة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا, ولله في ذلك حكمة  قد تخفى علينا([48]).. نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير: +إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" [البروج: 10].

قال الحسن البصري ([49]): «انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة». ([50])

أن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، مَنْ المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحُرّق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله - إن لم يتب - إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟

هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني.. حريق الدنيا وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حُرّقوا في الدنيا، فـ +لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ" [البروج: 11]، وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها ولا جدال: +ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" أليس هذا هو الانتصار؟ ([51]) هذا في الآخرة, وفي الدنيا تمكن المنهج من قلوب الناس وتم ظهوره.

 

المبحث الثالث

تمكين الله تعالى لرسول الله × لتبليغ الرسالة في مكة

بعد الإعداد الرفيع الذي قام به النبي × لتربية أصحابه, وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية، وبعد أن قطع المرحلة السرية بكل نجاح وتفوق، نزل قول الله تعالى: +وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ" [الشعراء: 214] فخرج رسول الله × حتى صعد الصفا فهتف: «يا صباحاه»، فاجتمعت إليه قريش، فقال: «يا بنى فلان، يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟» قالوا: ما جربنّا عليك كذبًا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًا لك، أما جمعتنا إلا لهذا, ثم قام فنزلت هذه السورة +تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" [المسد:1].

من الطبيعي أن يبدأ الرسول × دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعنى أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية. ([52])

ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، ولقد اشتد الصراع بين النبي × وأصحابه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة، ساهم في أشد وألد أعدائها، ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يُسَلِّمون بدعاوى القرشيين، بل كان يوجد من مختلف القبائل من يتابع الأخبار، ويتحرى الصواب فيظفر به.

وكانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة, وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول ×، وأصبح  هذا الحدث العظيم حدث الناس في كل مكان، وبدأ رسول الله × يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة، والانتقال بها إلى مواقع جديدة، وسنرى ذلك في عرضه للدعوة على القبائل، والخروج للطائف، وهجرة الحبشة.

لقد كان أولى الناس بتوجيه الدعوة إليهم: قريش وأهل مكة وبالأخص عشيرة النبي × الأقربين فوجه إليهم الدعوة من خلال هذا المنبر العلني، وأنذرهم عذاب الله وبأسه إن لم يؤمنوا ([53]).

ولكن قريشًا رفضت الاستجابة والانقياد للحق المبين, وكان موقفهم كموقف الأقوام السابقة من رسلهم، فحاربوا الدعوة الجديدة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.

لقد فكر النبي × بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من أهمها:

1- البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم، ويسلمون من أذى قريش وفتنتها، حيث لا تطالهم يدها، ولا يمتد إليهم بطشها.

2- البحث عن بيئة تقبل الدعوة، وتستجيب لها، في مقابل عنت القرشيين وكنودهم، ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق الأرض، تحقيقًا لأمر الله بالتبليغ للعالمين ([54]).

فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة، فكانت الأولى في شهر رجب سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة خرجوا مشاةً إلى البحر فاستأجروا سفينة.

وقد صورت أم سلمه زوج النبي× - وهي ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى - الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة فقالت: (لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله × وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله × في منعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه, فقال لهم رسول الله ×: «إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه» فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار, أمنا على ديننا ولم نخش منه ظلمًا) ([55]).

لقد كانت هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ذات أبعاد سياسية وإعلامية ودعوية, وكان اختيار النبي × للحبشة في غاية الدقة وبعد النظر؛ لأنه (التفت × إلى ما يحيط به من الداخل والخارج، وما ينتظر دعوته من أخطار، فوجد أن جذورها قد امتدت في أعماق الجزيرة العربية، بين مؤمن قوى الإيمان، وبين كافر معاند شديد الحرص على زعامتها، عظيم الحقد على الدعوة وصاحبها).

وأما خارج الجزيرة، فتوجد إمبراطورية فارس وقد أعماها دخان النار، وإمبراطورية الروم وقد عبدوا الملوك ودنياهم، أما الحبشة فما يزال بها بعض وميض من صدق رسالة عيسى عليه السلام، وأن بها ملكًا لا يُظلم أحد بأرضه ([56]).

وهذا يدل على اهتمام رسول الله × بما يدور حوله ومعرفة الدول وطبائعها.

ولقد كانت الهجرة وسيلة من أهم وسائل الإعلام في الإسلام؛ لأن مجرد خروج المسلمين من بلد كانوا فيه منذ النشأة، يخلق تساؤلاً كبيرًا في المجتمع المليء 
بالكذب والأراجيف والمتخصص في تشويه أخبار الدين الجديد، وخرجوا وقد تركوا تساؤلاً في أذهان الناس: ما الذي حملهم على ترك أوطانهم وأموالهم وأهليهم؟ إنه 
لأمر عظيم.

لقد خرج الوفد الإعلامي الإسلامي الأول للحبشة بخطة محكمة وتدبير مقصود لنشر الدعوة الإسلامية وإعلانها في كل مكان, حيث إن الرسول × أرسل كتابًا للنجاشي يشير فيه إلى البر بالمسلمين ويدعوه فيه إلى الإسلام ([57]).

وهكذا ترى أن اختيار الزمن والمكان لم يكن لمجرد الصدفة والهروب من شدة العذاب فقط، بل كان بعضهم في حماية قبيلة يستطيع البقاء في مكة دون إيذاء مهلك ([58]).

وكان الوفد الإعلامي الأول أشبه بسفارة في أيامنا الحاضرة لكنها تحمل شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتعمل جاهدة على نشره، لقد كان الهدف الأول من هجرة المسلمين إلى الحبشة حماية المستضعفين من أذى قريش، ودفع غربتهم المعنوية، وتأمينهم على دينهم، وفتح آفاق جديدة للدعوة إلى الله يشرف عليها المهاجرون، والحط من مكانة قريش عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحَمَلتها، يجعل الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون من طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم وغربائهم وهذه كلها آثار إيجابية، لا يضير أن يوجد إلى جوارها آثار سلبية قليلة، منها: أن إيواء الحبشة للمسلمين وطيب مقامهم بها أذكى نار الحقد لدى قريش، فضاعفت من حربها ومكرها، وعداوتها([59]).

وعندما تسامع المهاجرون بأن قريشًا قد أسلمت، وكفت عن إيذاء النبي × رجعوا، فوجدوا الأمر أشد مما كان، فأذن النبي × بالهجرة الثانية، فهاجر قرابة المائة ما بين رجل وامرأة واستقروا هناك([60]).

لقد ذكر ابن إسحاق ([61]دوافع الهجرة الثانية، فقال: (فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله ×، وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة) ([62]).

لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة يحملان الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، فقابلا النجاشي طالبين إليه إعادة من هاجر من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى المسلمين فسألهم عن دينهم فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (أيها الملك كنا قومًا على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسئ الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى ونصوم، ولا نعبد غيره).

فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال جعفر: نعم.

قال: هَلُمَّ فاتلُ علىَّ ما جاء به.

فقرأ عليهم صدرًا من كهيعص ([63])، فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها عيسى.. انطلقوا راشدين.

ولما أخفقت محاولة وفد قريش في استعادتهم، أثار عمرو بن العاص في اليوم التالي موقف المسلمين من عيسى عليه السلام، فقال للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيمًا, فأرسل النجاشي إليهم فسألهم فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فقال النجاشي: ماعدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود, وأعطى النجاشي الأمان للمسلمين، فأقاموا مع خير جار في خير دار كما تقول أم سلمة رضي الله عنها ([64]).

إن مسارعة قريش لإرسال وفد لاستعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة تدل على إدراكها لخطورة الموقف إذا ما حصل المسلمون على مأوى لهم يأمنون فيه، والحبشة نصرانية، وملكها عرف بالعدل، وهي قريبة من مكة، وكل ذلك يشكل خطرًا على قريش في المستقبل.

لقد فتحت جبهة جديدة لقريش انهزمت فيها معنويًا وسياسيًا وإعلاميًا أمام 
ضربات المسلمين الموفقة، وخطواتهم المتزنة، وأساليبهم الرصينة من أجل تبليغ دعوة الله وإبلاغ رسالته.

لقد قاد المعركة السياسية والدعوية والعقدية جعفر بن أبي طالب، وكان صادق اللهجة، فصيح اللسان، قوي البيان، فتأثر النجاشي من قوله وخابت آمال قريش، وظهرت ملامح الإيمان في وجه النجاشي.

إن جعفر رضي الله عنه قاوم حملة قريش الإعلامية المضللة بكل دقة وموضوعية وصدق ونقل الأخبار والحقائق من مصادرها، فأعلن رضي الله عنه ما سمعه من 
النبي × ردًا على سؤال النجاشي في أمر عيسى عليه السلام دون مداهنة أو مواربة أو نفاق، لقد تلألأ وجه النجاشي بالإيمان الصادق دون بطارقته وقال للمهاجرين: (اذهبوا فأنتم شيوم أرضى آمنون، من سبكم غرم -كررها ثلاثًا-، ما أحب أن لي دبرًا ([65]من ذهب، وأني آذيت رجلاً منكم. ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها, فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين ردّ علىّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه).

وقد امتلأت القلوب حقدًا وغيظًا على الإسلام والمهاجرين الذين اطمأنوا في عبادتهم ونشر دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد آمن النجاشي ملك الأحباش وكسبت الدعوة أنصارًا جددًا, وتوسعت دائرة المسلمين وكسبوا معارك سياسية وإعلامية، ودعوية بتوفيق الله تعالى لهم ([66]).

لقد بقى المسلمون في الحبشة إلى أن استقر الإسلام في المدينة فهاجر بعضهم إليها وبقى جعفر ومن معه ([67]إلى فتح خيبر سنة 7هـ.

وحاول رسول الله × أن يوسع مجال دعوته؛ فخرج إلى الطائف وعرض الإسلام على زعمائها إلا أنهم رفضوا ذلك وبالغوا في السفه وسوء الأدب معه، فقام رسول الله × من عندهم، وقصد مكة ليواصل تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ونصح الأمة, ولم يدخل مكة بدون تخطيط أو دراسة مستوعبة لكل الملابسات والظروف المحيطة به، بل درس الأمر وخطط للمرحلة القادمة، ورأى بثاقب بصره وبعد نظره أن يتصل بمطعم بن عدى سيد قبيلة بنى نوفل بن عبد مناف وطلب جواره, فاستجاب لطلب النبي × ودخل رسول الله × ومعه زيد بن حارثة في حراسة بنى نوفل الذين تحلقوا حوله بالسلاح وهو يصلي في البيت الحرام وذهبوا في حراسته حتى دخل بيته.

لقد كان بنوا نوفل مؤسسة قوية في المجتمع القرشي الذي له أعرافه وتقاليده المقدسة، فاستفاد الرسول × من تلك القوانين الموجودة ووظفها بكل دقة وحنكة وسياسة لمصلحة الدعوة ([68]).

هكذا × دخل إلى مكة بعد رجوعه من الطائف, وبدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم: يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عزَّ وَجَلَّ وكان رسول الله × يتحرك في المواسم التجارية ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل وفق خطة دعوية واضحة المعالم ومحددة الأهداف, وكان × يعرض نفسه على القبائل على أنه حامل دعوة من الله من أجل حمايته لكي يتمكن من تبليغ دعوة الله إلى الناس، ومن أجل نصرته فيما يسعى إليه من إقامة سلطان لتلك الدعوة، ويوفر لها ولأتباعها الحماية والأمن، ومن ثم يمكنها من الانطلاق في الأرض داعية كل جنس ولون إلى الاستجابة لأمر الله.

ومن توفيق الله لدعوته أن المدينة المنورة كانت تعيش ظروفًا خاصة ترشحها لاحتضان دعوة الإسلام، وتجتمع فيها عناصر عديدة لا تجتمع في غيرها:

1- منها التشاحن والتطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة: الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بعاث وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبق إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، وليلتئم شملهم تحت ظله, فكان يوم بعاث أمرًا قدّمه الله تعالى لنبيه ×، فقدم وقد قتل معظم سرواتهم وجُرحوا، فقدمه الله لرسوله × في دخولهم الإسلام ([69]).

2- ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم - ولو يسيرًا - بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم - في مجتمعهم - يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية، وليسوا مثل قريش التي لا يساكنها أهل كتاب، وإنما غاية أمرها أن تسمع أخبارًا متفرقة عن الرسالات والوحي الإلهي، دون أن تلح عليها هذه المسألة، أو تشغل تفكيرها باستمرار، فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي × فالتقي بهم عند العقبة - عقبة منى - فعرض عليهم الإسلام، فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي × في بيوتها ([70])، وكان هذا هو «بدء إسلام الأنصار» كما يسميه أهل السير ([71]).

لقد كانت المدينة المنورة تربة صالحة لانتشار الإسلام، فاليهود يهددون بنبي أظل زمانه يتبعونه ويقتلون الأوس والخزرج قتل عاد وإرم, والعرب أهل فراسة ونخوة أضاءت بعض شموع الحق بينهم، وكأنها إرهاصات للنصرة والنجدة وقام الوفد بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة.

ولما جاء وقت العام التالي وافي الموسم ضِعف العدد الأول - اثنا عشر رجلاً من المؤمنين- فبايعهم النبي × على ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم, ولا يعصوه في معروف, وتعرف هذه البيعة ببيعة العقبة الأولى.

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (إني لمن النقباء الذين بايعوا 
رسول الله ×، وقال: بايعناه على ألا نشرك بالله شيئًا ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا ننهب، ولا نعصى، فالجنة إن فعلنا ذلك، فإن 
غشينا ([72]من ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله) ([73]).

ولقد بعث الرسول × مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم الدين ويقرؤهم القرآن، فكان يسمى في المدينة المقرئ وكان يؤمهم في الصلاة ([74]).

ولقد اختاره الرسول × عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان رضي الله عنه بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء وحسن الخلق والحكمة قدرًا كبيرًا, فضلاً عن قوة إيمانه وشدة حماسه للدين،  ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم([75]).

لقد كانت دعوة مصعب رضي الله عنه في المدينة موفقة وحققت أهدافها, وشرع يشرح للناس تعاليم الدين الجديد وتعاليم القرآن الكريم وتفسيره، وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي × وصحبه بمكة المكرمة، لإيجاد القاعدة الأمنية لانطلاق الدعوة. لقد كان الدور الإعلامي والتعليمي والتوجيهي الذي قام به مصعب في المدينة له أثر كبير لتهيئة الظروف للمرحلة التي بعدها، لقد فتحت المدينة بالقرآن وبالدعوة إلى الله, وأصبح ولاء كثير من الأوس والخزرج لعقيدة الإسلام وشريعة الرحمن وتشكل وفد من الأنصار لعقد البيعة الثانية مع النبي ×، لتنتقل الدعوة إلى طور جديد ومرحلة أخرى.

لقد اهتم × ببناء الفرد المسلم الذي يحمل تكاليف الدعوة ويضحى من أجلها, ولذلك نجد جعفرًا يقوم بدور عظيم في تبليغ الدعوة وأداء الأمانة في أرض الحبشة, ونجد مصعبًا يفتح الله على يديه المدينة ويدخل كثير من أهلها في دعوة الإسلام.

إن النبي × في طور المرحلة المكية قام بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة على خير قيام وكانت عناية الله وحفظه له وتأييده ظاهرة للعيان.

ولقد سار على نهج رسول الله × في تبليغ الرسالة وأداء الأمانة كثير من الدعاة على مر العصور وكر الدهور, ومكن الله لهم بين الناس حتى أدوا واجبهم في الدعوة إلى الله ومن أمثال ذلك: الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، والعز بن عبد السلام, ومحمد بن عبد الوهاب في الجزيرة، ومحمد بن على السنوسى في ليبيا، وسعيد النورسى في العصر الحديث في تركيا، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، وحسن البنا في مصر، وغيرهم كثير، ومنهم من استشهد في سبيل دعوته إلا أنها انتشرت بعد مماته انتشار الضياء في الظلام، ولقد لاحظت في سيرة هؤلاء الأعلام في القديم والحديث حماية الله لهم ورعايته وحفظه وتثبيته لهم في المحن والشدائد, وتهيئة الله قلوب الناس لاستماع دعوتهم ونصحهم، وكانوا رحمهم الله رجالاً للعقيدة عاشوا من أجل هذا الدين وماتوا في سبيله.

* * *

 

الفصل الثاني

هلاك الكفار ونجاة المؤمنين أو نصرهم في المعارك

إن قصة نوح وموسى عليهما السلام نموذج رفيع للتدليل على أن من أنواع التمكين هلاك الكفار ونجاة المؤمنين، وقصة نوح مع قومه منهج عظيم للدعاة إلى الله, وقصته مليئة بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:

1- أن نوحًا عليه السلام أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.

2- امتداد الزمن الذي قضاه في دعوة قومه (950 سنة).

3- كونه من أولى العزم الذين ذكروا في القرآن.

4- ورد اسمه كثيرًا في القرآن الكريم حيث بلغ (43) مرة في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن تقريبًا، مع ورود سورة باسمه في القرآن.

وأما قصة موسى عليه السلام مع فرعون، فتبين ضراوة الصراع بين الحق والباطل, والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنور والظلام, وتسلط الأضواء على استكبار فرعون وتجبره واستعباده عباد الله واستضعافهم واتخاذهم خدمًا وحشمًا وعبيدًا، وكيف أراد الله لبنى إسرائيل أن يرد إليهم حريتهم المسلوبة وكرامتهم المغصوبة, ومجدهم الضائع وعزهم المفقود، إن من يقف أمام إرادة الله فهو عاجز ضعيف، وهو فاشل مهزوم, وإن أعداء الله أينما كانوا هم إلى هزيمة وخسارة وهوان، وتبين لنا كيف انتقم الله من فرعون ونصر وليه موسى عليه السلام وقومه.

وأما قصة طالوت، فتوضح مرحلة مرت بها أمة بنى إسرائيل، فبعد أن وقعوا في المعاصي، وانحرفوا عن منهج الله وسلط الله عليهم الأعداء وأصاب بني إسرائيل ذل وخيم، ومرارة أليمة، وهزيمة عظيمة, وأرادوا أن يغيروا واقعهم المهين، وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصرًا، وعلموا أن السبيل لذلك هو الجهاد والقتال، فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم ملكًا يتولى أمورهم، ويقودهم إلى العزة والنصر، ويقاتل لهم أعداءهم، في سبيل الله، فوقع خيار الله على طالوت ليكون ملكًا عليهم، ومن ثم يقودهم إلى النصر والعزة والتحرير، فاعترض الملأ على نبيهم قائلين: +أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ"، فبين لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم، والله حكيم خبير، وإن الله زاده بسطة في العلم والجسم، وتسلم طالوت قيادة بنى إسرائيل وكانت قصة طالوت مع بنى إسرائيل من أروع القصص القرآني في بيان سنن الله في النهوض بالأمم المستضعفة، وما هي السمات والصفات المطلوبة للقيادة التي تتصدى لمثل هذه الأعمال العظيمة لتقوية الشعوب والنهوض بها نحو المعالي، وفق منهج رباني ووسائل عملية وتربوية عميقة على معاني الطاعة والثبات والتضحية والفداء من أجل العقيدة الصحيحة.

وفي سيرة النبي × نجد هذا النوع من التمكين -ألا وهو النصر على الأعداء- واضحًا، فبعد أن هاجر × إلى المدينة قدّر ظرفه وزمانه ومكانه وجهز قوات جهادية حققت أهدافها القريبة والبعيدة، معتمدًا على الله في ذلك، شارعًا في الأخذ بالأسباب التي أمره الله بها، فترك لنا معالم نيرّة في مغازيه الميمونة, ودروسًا عظيمة في كيفية تحقيق النصر على الأعداء والتمكين لدين الله تعالى، بدأ بالسرايا، فحققت أهدافها، ومضى يحاصر قوى البغي والكفر والضلال حتى فتحت مكة، ومن ثم وحدت جزيرة العرب, وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى الوثنية في كل مكان وإلى اليهود الذين نقضوا العهود, وإلى ملوك الأرض يدعوهم للإسلام، فترك البناء متينًا. وقام الخلفاء الراشدون من بعده ليتوسعوا بالإسلام شرقًا وغربًا، وهكذا توالت الأجيال لحمل الرسالة ولأداء الأمانة، وكان تاريخ أمتنا مليئًا بهذا النوع من التمكين، ففي عهد صلاح الدين كانت موقعة حطين على يديه وكان فتح القدس، وفي عهد يوسف بن تاشفين كانت معركة الزلاّقة، وفي عهد محمد الفاتح كان فتح القسطنطينية، وأما في العصر الحديث، فالملحمة الجهادية بين الروس والأفغان انتهت بهزيمة الإلحاد، والمعارك بين الإسلام والنصرانية في جنوب السودان فتحت للمسلمين أبواب الشهادة والعزة والنصر والتمكين، والصراع بين اليهود والمسلمين في فلسطين بين الكر والفر، وهكذا نجد دائمًا عون الله لأهل التوحيد والإيمان على مر العصور وكر الدهور وتوالى الأزمان.

المبحث الأول

قصة نجاة نوح عليه السلام وهلاك قومه

قال تعالى:+لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" [الأعراف: 59].

إن ثوابت دعوة نوح عليه السلام، الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، والتحذير من عدم الاستجابة إلى توحيده.

فلم يستجب قومه إلى ما دعاهم إليه، بل استكبروا وعتوا وتجبروا، قال سبحانه:+وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ" [يونس: 71].

وجاءت سورة هود لتبين لنا الحوار الطويل بينه وبين قومه، الذين حاججهم وجادلهم وأقام عليهم الحجة وبين لهم طريق الهداية، حتى أجاب قومه بقولهم:+يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" [هود: 32].

ثم بين الله له النهاية في هؤلاء:+وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُّؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ `وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ" [هود:37،36].

لقد كان نوح عليه السلام صابرًا وثابتًا في دعوة قومه إلى عبادة الله تعالى، فاتخذ معهم جميع الأساليب الدعوية المتنوعة في محاولة صادقة لهدايتهم وتعبيدهم لله تعالى، قال تعالى:+قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا ` فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا ` وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ` ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا" [نوح: 5- 8].

ومع هذا الجهد العظيم والصبر الجميل والثبات المنقطع النظير، والحرص المستمر إلا أن قومه رفضوا وامتنعوا من الإجابة +قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ" [الشعراء: 111]. ثم قالوا: +لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" [الشعراء: 116]، ولم يؤمن مع نوح إلا فئة قليلة من قومه حتى زوجته وأحد أبنائه غرقوا في مستنقع الكفر الخبيث, قال تعالى:+ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ" [التحريم: 10]، وقال تعالى:+وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ" [هود: 45]، وقال تعالى: +قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ" [هود: 40]. وفي نهاية المطاف وفي آخر مراحل الدعوة وبعد أن علم استحالة استجابة قومه لدعوة التوحيد، قال كما حكى عنه القرآن الكريم في قوله تعالى:+قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ` فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" [الشعراء: 117، 118]، وقوله تعالى:+فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ" [القمر: 10]، وقال تعالى:+وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ` إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا" [نوح: 26، 27].

لقد استجاب الله لدعوة نوح عليه السلام, ولقد أحسن نوح عليه السلام استعمال هذا السلاح العظيم الذي يغفل عنه الكثير من الدعاة العاملين.

قال تعالى:+فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ` فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ` وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ` وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ` تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَنْ كَانَ كُفِرَ ` وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" [القمر: 10- 15]، لقد لبث قرابة عشرة قرون، وكانت النتيجة:

1- لم يؤمن من قومه إلا قليل.

2- لم تؤمن زوجته ولا أحد أبنائه وهم أقرب الناس إليه, ومع ذلك فإنه يعد منتصرًا، بل إنه حقق أعظم الانتصارات وتمثل ذلك في:

1- صبره وثباته طوال هذه القرون، وعدم ميله إلى محاولات قومه - وحاشاه من ذلك - أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم.

قال تعالى:+وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ" [هود: 38].

2- حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم:+قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" [الشعراء: 116]، ولم ينته نوح عن دعوة التوحيد وتحقيق معاني العبادة لله ومع ذلك ما استطاعوا إليه سبيلاً.

3- إهلاك قومه الذين كذبوا بالغرق:+وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ" [الأعراف: 64].

4- نجاة نوح ومن آمن معه+فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ" [الأعراف: 64].+وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ` تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَنْ كَانَ كُفِرَ " [القمر: 13، 14].

5- إن قصة انتصار نوح وإهلاك قومه أصبحت آية يعتبر بها، وجعل الله لنوح لسان صدق في الآخرين:+وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ" [القمر: 15]. +ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا" [الإسراء: 3]. +سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ" [الصافات: 79].+إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" [آل عمران: 33].

وهكذا تتضح حقيقة النصر من خلال قصة نوح عليه السلام.. إن قوم نوح لم يكن في زمانهم على وجه البسيطة إلا هم، وقد كفروا بالله، وتمردوا على رسوله، سوى فئة قليلة هي التي آمنت به، فإن الله - سبحانه - أهلك جميع من في الأرض، يومئذ سوى نوح ومن آمن معه، حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض للزوال إن بقى هؤلاء.

قال تعالى:+إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا" [نوح: 27].

فأهلك هؤلاء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون الحق ويدافعون عنه، لقد أهلك الله تعالى أهل الكفر والطغيان، ومكن لأهل التوحيد والإيمان, وأصبحوا على وجه البسيطة موحدين محققين لمعاني العبادة في الحياة ([76]).

قال تعالى:+ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ" [الإسراء: 13]، قال الإمام الطبري ([77]رحمه الله: (وذلك أن كل من على الأرض من بنى آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة، قال قتادة ([78]): والناس كلهم ذرية من أنجى الله من تلك السفينة، قال مجاهد ([79]): بنوه ونساؤهم ونوح) ([80]).

قال سبحانه:+أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ" [مريم: 58].

إن التمكين الفعلي والانتصار العظيم والإعزاز الكريم عندما يتمكن منهج رب العالمين من نفوس أهل الإيمان، وإن كانوا قلة، فالعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق، وإنما في صفاء المنهج الرباني الذي يعتقده أولئك الأفراد سواء أقلوا أم كثروا، ولذلك فإن بضعة نفر أو يزيدون، ولا يتجاوزون ثلاثة عشر فردًا يحملون معنى التوحيد، ويحققون معنى العبودية، يهلك أهل الأرض جميعًا حماية لهؤلاء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه، ما دام هناك خطر يهدد بزوالهم، ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه:+إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا" [نوح: 27].

إن هلك الكافرين ونجاة المؤمنين، وسلامة المنهج الرباني القائمين عليه وما بذلوه من الصبر والثبات على ذلك نوع من أنواع التمكين التي يكرم الله بها من يشاء من عباده.

إن الله مكن لنوح عليه السلام ومن آمن به على وجه الأرض، فأمر السماء أن تقلع والماء أن يغيض في الأرض, والسفينة أن تستوي على جبل الجودي تمكينًا لسفينة الإيمان وأهلها ([81]).

* * *

 

المبحث الثاني

قصة موسى  u مع فرعون

قال تعالى:+وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً 
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 
` وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ" [القصص: 5، 6].

لقد تطاول فرعون وعلا وأسرف في الأرض وأذل بنى إسرائيل، فقتل الأولاد واستحيا النساء ظلمًا وعلوًا واستكبارًا في الأرض، وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بنى إسرائيل ويجعلهم ملوكًا وولاة ويجعلهم يرثون الأرض من بعد فرعون, ويمكن لهم بعد الذل والصغار, وينتقم من فرعون وهامان وجنودهما ويريهم ما كانوا يخافون من زوال ملكهم على رجل من بنى إسرائيل ([82]).

وقال الإمام ابن كثير ([83]في تفسيره: (لقد سلط على بنى إسرائيل هذا الملك الجبار العتيد (فرعون) يستعملهم في أخس الأعمال، ويكدهم ليلاً ونهارًا في أشغال رعيته ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيى نساءهم إهانة لهم واحتقارًا لهم, وخوفًا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه، وكانت القبط قد تلقوا هذا من بنى إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخدها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه، فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك مصر على يديه، فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بنى إسرائيل، ولن ينفع حذر من قدر، لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب.

أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه من ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب، بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه, بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفًا من الولدان إنما منشؤه ومرباه فراشك وفي دارك, وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدللـه, وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه، لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم 
يشأ لم يكن) ([84]).

وقال البيقاعى ([85]رحمه الله: (ونمكن أي نوقع التمكين لهم في الأرض أي كلها لا سيما أرض مصر والشام، بإهلاك أعدائهم وتأييدهم بكليم الله، ثم الأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بحيث سلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من الملائكة وتظهر لهم من الخوارق، ولما ذكر التمكين، ذكر أنه مع مغالبة الجبابرة إعلامًا بأنه أضخم تمكين) ([86]).

وقال الشيخ محمد الأمين ([87]في تفسيره لهذه الآية، قوله تعالى: +وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا" [القصص: 5]، هو الكلمة في قوله تعالى:+وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ" [الأعراف: 137]، ولم يبين هنا السبب الذي جعلهم به أئمة جمع إمام، أي قادة في الخير دعاة إليه على أظهر القولين، ولم يبين هنا أيضًا الشيء الذي جعلهم وارثيه، ولكنه بين جميع ذلك في غير هذا الموضع، فبين السبب الذي جعلهم به أئمة في قوله تعالى: +وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" [السجدة: 24]، فالصبر واليقين، هما السبب في ذلك، وبين الشيء الذي جعلهم له وارثين: +فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ` وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ` كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ"[الشعراء: 57- 59]([88]).

قال محمد الطاهر بن عاشور ([89]رحمه الله: (إن الله وصف فرعون وصفًا دلّ على شدة تمكين الإفساد من خلقه+إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" [القصص: 4] فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، لأن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة:

المفسدة الأولى:

التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمّة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم, وخصوصًا إذا كان حاكمًا أو وليًا فيعامل الناس بالغلظة, وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أم المفاسد وجماعها.

المفسدة الثانية:

جعل شعبه شيعًا قرب بعضهم وأبعد بعضهم, وتولدت بينهم مفاسد عظيمة من الحقد والحسد والوشاية والنميمة.

المفسدة الثالثة:

جعل طائفة من أهل مملكته في ذل وصغار واحتقار، عذبهم ونكل بهم ومنعهم من حقوقهم وجعلهم عبيدًا للطائفة المقربة لديه.

المفسدة الرابعة:

اجتهد في قتل أطفال الطائفة المعذبة من الذكور حتى لا يكون لبنى إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم وحتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.

المفسدة الخامسة:

كان يستحيي النساء أي يستبقى على حياة الإناث من الأطفال حتى يصبحن بغايا إذ ليس لهن أزواج. (وكان قوم فرعون يحتقرونهن ويأنفون أن يتزوجوا بهن ولم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، فانقلب استحياء البنات إلى مفسدة عظيمة تصل إلى منزلة تذبيح الأبناء) ([90]).

وعندما كان فرعون يستعلى ويتكبر ويتعجرف على بنى إسرائيل كانت إرادة الله في تلك الأحداث تريد أن تجعل من بنى إسرائيل أمة عظيمة, وينتقم من فرعون وملئه, قال تعالى:+وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ` وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ" [القصص:5، 6].

+وَنُرِيدُ" جئ بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال؛ لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد من ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة.

قوله: +اسْتُضْعِفُوا" فيه تعليل، بأن الله رحيم بعباده، وينصر المستضعفين, وخَصَّ بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل +نَّمُنَّ" عطف الخاص على العام، وهي: جعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة ([91]).

إن الله تعالى من سننه الجارية في الأمم والشعوب والمجتمعات والدول إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه, وأتى به شيئًا فشيئًا بالتدرج لا دفعة واحدة، فعندما وصل الظلم إلى أقصى منتهاه، ووصل الاستضعاف إلى أسفل نقطة ممكنة، كانت تلك النقطة بداية التمكين لبنى إسرائيل، وبدأت قصة التمكين وإنفاذ مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ بالاهتمام بالرضيع في قوله تعالى: +وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"[القصص: 7].

ويظهر من خلال الآيات الكريمة: أن الله عزَّ وَجَلَّ أوحى إلى أم موسى بأن ترضعه فإذا خافت عليه، فعليها أن ترميه في اليم، فالله عَزَّ وَجَلَّ لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وعلى أهل الحق أن يبذلوا جهدهم، وهو إن كان قليلاً فإن الله عَزَّ وَجَلَّ سوف يبارك فيه، وسوف يهيئ من الأسباب التي يمكن بها لدينه وأهله.

إن سنن الله الكونية نافذة وعلى أهل الإيمان ألا يتأخروا في الأخذ بالأسباب المتاحة، فهذا مبلغ جهد أم موسى في حماية موسى الرضيع، والذي تولى حمايته ونصره في الحقيقة هو الله عَزَّ وَجَلَّ ذو الجلال والإكرام، وكان يمكن أن تحصل الحماية والرعاية دون أسباب؛ ولكن الله من سنته إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابه، فألقى الله في قلب امرأة فرعون محبة موسى وكان سببًا في نجاته من الذبح، لقد مكن الله تعالى حب موسى عليه السلام من قلب زوجة فرعون وأعطاها من القدرة على الجدل والنقاش بحيث أقنعت 
فرعون بتركه لها.

ونرى في الآيات الكريمة لطف الله بأم موسى بذلك الإلهام الذي به سلم ابنها، ثم بتلك البشارة من الله لها برده إليها، التي لولاها لقضى عليها الحزن بسبب ولدها، وبذلك وغيره نعلم أن ألطاف الله على أوليائه لا تتصورها العقول، ولا تعبر عنها العبارات، وتأمل موقع هذه البشارة وإنه أتاها ابنها ترضعه جهرًا، وتسمى أمه شرعًا وقدرًا وبذلك اطمأن قلبها وازداد إيمانها ([92]).

إن الله مكن حب موسى عليه السلام من قلب امرأة فرعون، فكان سببًا في تمكين موسى عليه السلام من ثدي أمه وحضنها الحنون.

ونرى في الآيات الكريمة إرشادًا مهمًا ألا وهو: أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق، وأن وعد الله نافذ لا بد منه، فإنه لا يهمل فعل الأسباب التي تنفع، فإن الأسباب والسعي فيها من قدر الله، فإن الله قد واعد أم موسى أن يرده عليها ومع ذلك لما التقطه آل فرعون سعت بالأسباب وأرسلت أخته لتقصه وتعمل الأسباب المناسبة لتلك الحال ([93]).

وهذه إشارة قرآنية في قوله:+قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ" [القصص: 11]، إلى الأخذ بالأسباب والحذر والاهتمام بالتربية الأمنية العالية خصوصًا للأمة التي تسعي للتخلص من الظلم والجبروت وكبرياء المتسلطين، بل إن من أسباب نجاح الحركات التي تعمل لتحرير شعوبها من أغلال الحكام الظالمين نجاحها في الجوانب الأمنية، ونرى من خلال الآيات الكريمة: أن الأمة المستضعفة، ولو بلغت من الضعف ما بلغت، لا ينبغي أن يستولى عليها الكسل عن السعي في حقوقها, ولا اليأس من الارتقاء إلى أعلى الأمور، خصوصًا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله أمة بنى إسرائيل على ضعفها واستعبادها لفرعون وملئهم منهم، ومكنهم في الأرض وملكهم بلادهم ([94]).

وكان من إعداد الله تعالى لموسى عليه السلام أن تربي في قصر فرعون بين مظاهر الترف ومباهج الملك والسلطان، نشأ كما ينشأ أبناء الملوك، وهكذا زالت من قلب موسى مهابة الملوك والأغنياء، ولم يخف على موسى أنه دخيل  على أهل فرعون وأنه يرجع في أصله الحقيقي إلى يعقوب عليه السلام، فعندما بلغ أشده واستوى أكرمه الله بالحكمة والعلم، لكونه من المحسنين، وذات يوم عند الظهيرة وجد رجلين يقتتلان أحدهما من قومه والآخر من قوم فرعون، فطلب الإسرائيلي من موسى نصرته فتدخل موسى فوكز المصري فقضى عليه، وهذا يدل على قوة موسى عليه السلام وشدة غضبه, ويعبّر أيضًا عما كان في نفسه من شعور بالضيق والظلم من فرعون وقومه؛ ولكن موسى عليه السلام لم يقصد قتل القبطي ولذلك ندم واسترجع وعزاها إلى الشيطان وغوايته.

+قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ" [القصص: 15]، ثم توجه إلى ربه طالبًا مغفرته وعفوه: +قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" واستجاب الله إلى ضراعته واستغفاره +فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [القصص: 17].

لقد أصبح موسى عليه السلام خائفًا يترقب في المدينة وإذا بالمعركة الثانية بين الإسرائيلي والفرعوني، وتدخل موسى عليه السلام لفض النزاع ووجه لومه إلى الذي من بنى قومه، وقال له: +إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ" [القصص: 18]، إلا أن الإسرائيلي ظن أن موسى يريد أن يبطش به، فوجه له تهمة وموسى برئ منها:+إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ" [القصص: 19].

إن موسى عليه السلام كان يرى أن المعارك الجانبية لا تفيد قومه, ولذلك وصف الذي من شيعته بأنه غوى: أي بعراكه هذا الذي لا ينتهي, واشتباكه الذي لا يثمر إلا إثارة الثائرة على بنى إسرائيل وهم عن الثورة الكاملة عاجزون، وعن الحركة المثمرة ضعفاء، فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تنفع ولا تفيد ([95].

وهذا درس عميق يفيد العاملين الذين يسعون لتمكين دين الله؛ عليهم أن يبتعدوا عن المعارك الجانبية وأن يوحدوا صفهم ويجمعوا قوتهم لساعة الصفر التي يعلو فيها نجم الإيمان وتنطمس فيها رايات الكفر والطغيان.

لقد تسرب خبر قتل موسى عليه السلام للقبطي واجتمع الفراعنة للبت في أمر موسى الذي ظهر لهم أنه رمز لثورة تحارب الظلم وتسعي لعز بنى إسرائيل وقرروا إلقاء القبض عليه.

وهنا جاء دور رجل تعاطف مع الحق والعدل الذي يحمله موسى عليه السلام، فأسرع لإنذاره ونصحه، وهنا إشارة قرآنية نحو الاهتمام بالتواجد الأمني داخل المؤسسات الفرعونية والاستفادة من المعلومات التي تنير طريق الدعاة في حركتهم المباركة.

+وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ" [القصص: 20].

لقد أكرم الله موسى عليه السلام بهذه المعلومات النافعة وقرر أن يهاجر من بلاد الفراعنة.

وهذا إرشاد قرآني لمن خاف التلف بالقتل بغير حق في موضع، فلا يلقي بيده إلى التهلكة ويستسلم للهلاك، بل يفرّ من ذلك الموضع مع القدرة كما فعل موسى عليه السلام، كما أن فيه توجيهًا نحو ارتكاب إحدى المفسدتين يتعين ارتكاب الأخف منهما، دفعا لما هو أعظم وأخطر، فإن موسى لما دار الأمر بين بقائه في مصر ولكنه يقتل، أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي لا يعرف الطريق إليها، وليس معه دليل يدله غير هداية ربه، ومعلوم أنها أرجى للسلامة، لا جرم آثرها موسى ([96])  .

+فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ` وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ" [القصص: 21، 22]، ونلمح شخصية موسى عليه السلام فريدًا وحيدًا مطاردًا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين جنوبي الشام وشمالي الحجاز, مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفًا يترقب، وخرج منزعجًا بنذارة  الرجل الناصح، ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه مستسلمة له، مطلعة إلى هداه ([97]):+عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ".

كانت رحلة طويلة من الرعاية والتوجيه، ومن التلقي والتجريب، قبل وحي الله له بالنبوة: (تجربة الرعاية والحب والتدليل, وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس, وتجربة الندم والتحرج والاستغفار, وتجربة الخوف والمطاردة والفزع, وتجربة الغربة والوحدة والرجوع، وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة، والمشاعر المتباينة، والخوالج والخواطر، والإدراك والمعرفة إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة، إن الرسالة تكليف ضخم شاق متُعدد الجوانب والتبعات، يحتاج إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي، إلى جانب هبة الله اللدنية، ووحيه وتوجيه للقلب والضمير) ([98]).

إن الله تعالى أراد أن يربي موسى عليه السلام بالأحداث قبل الرسالة, ولهذا دخل بقدرة الله إلى مجتمع الرعاة، مستشعرًا النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى بعد الخوف والجوع والمطاردة والمشقة.

وعاش مع البسطاء في أخلاقهم وعاداتهم وخشونتهم وفقرهم وهذا كله تمرين له على تكاليف الدعوة التي سيتحملها.

إن التجارب الميدانية أقوى وأفيد في تربية النفوس البشرية من قراءة الكتب والمجلدات والجرائد, ومن الندوات والحلقات الهادئة البعيدة عن المحن والشدائد والصعاب.

إن الشعوب التي تربت على الذل والخنوع والمهانة والقسوة في العادة تفقد القدرة على التفكير والتدبير وتنتظر من يقودها نحو حريتها وكرامتها وعزتها.

وإن هذا القرآن الكريم ليمد الطلائع المتحفزة نحو التغيير بخبرات الأنبياء والمرسلين والذين سعوا لتحرير شعبهم من الظلم والجبروت والطغيان ويضع أيديهم على مفاصل التغيير في الأمم والشعوب وكيفية السعي بها من الضعف ومن دياجير الظلام وأغلال العبودية للعبيد إلى القوة ونور الحريات، وعبادة الواحد الديان.

إن تجربة موسى عليه السلام في تغيير الشعوب من أضخم التجارب، فقد واجه بدعوته المباركة أعتي ملوك الأرض في زمانه، وأقدمهم عرشًا، وأثبتهم ملكًا، وأعرقهم حضارة، وأشدهم تعبدًا للخلق واستعلاء في الأرض.

لقد حان وقت خلاص بنى إسرائيل من الظلم والاضطهاد والعسف والجور, وأكمل موسى عليه السلام مدته في أهل مدين، وعزم على التكليف الرباني بالرسالة والنهوض بالشعب المستضعف من قبل رب العالمين لموسى الكليم، وأمده المولى عَزَّ وَجَلَّ بالمعجزات الواضحة والبراهين الدامغة والأدلة الساطعة.

وأمره بالذهاب إلى القوم الفاسقين لإقامة الحجة على الفراعين وتخليص بنى إسرائيل من ظلم العبودية وظلم العباد وقسوة الفراعنة حتى يعبدوا الله أحرارًا، ولم يتردد موسى عليه السلام في طلب العون من مولاه وربه ومبتغاه, قال سيد قطب رحمه الله: لقد استجاب ربه رجاءه وشد عضده بأخيه، وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين +وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا" [القصص: 35]، فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار، إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان، ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار +فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا" [القصص: 35]، وحولكما من سلطان الله سياج ولكما منه حصن وملاذ، ولا تقف البشارة إلى هذا الحد ولكنها الغلبة للحق، والغلبة لآيات الله يجابهان بها الطغاة، فإذا هي وحدها السلاح القوي وأداة النصر والغلبة +بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ" [القصص: 35] ([99]).

إن موسى عليه السلام باشر في تنفيذ أمر ربه سبحانه وتعالى, وأيده بالمعجزات وصدع بكلمة الحق أمام فرعون الطاغية الجبار، وأقام عليه الحجة والبراهين، والأدلة على صدق رسالته وتعرّض فرعون وقومه بالأخذ بالسنين والنقص في الثمرات وابتلاهم الله بالقمل والضفادع والدم وغير ذلك.

ولم يؤمن الجبار العنيد؛ بل اتهم موسى الكليم بالسحر وقرّر أن يجمع كل السحرة للوقوف أمام دعوة الحق التي يقودها رسول الله موسى عليه السلام.

واجتمع الفريقان لميقات يوم معلوم، وبدأ السجال, وألقى السحرة إفكهم وخداعهم ثمّ عرج موسى عليه السلام على باطلهم بالحق المبين، بإلقائه العصا التي انقلبت إلى حية تسعى، فإذا هي تلقف ما يأفكون وكانت الجولة والصولة.

قال تعالى:+وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ` فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ` فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ" [الأعراف: 117- 119].

قال صاحب الظلال:

(إنه الباطل ينتفش ويسحر العيون ويسترهب القلوب ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف وأنه محق، وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفشئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا الحق راجح الوزن ثابت القواعد عميق الجذور، والتعبير القرآني هنا يلقى هذه الظلال وهو يصور الحق واقعًا ذا ثقل+فَوَقَعَ الْحَقُّ" وثبت واستقر وذهب ما عداه فلم يعدله وجود +وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" وغلب الباطل والمبطلون وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون +فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ" ولكن المفاجأة لم تختم بعد والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة كبرى:+وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ` قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ` رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ" [الأعراف: 120- 122].

إنها صولة الحق في الضمائر، ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقى الحق والنور واليقين) ([100]).

لقد احتج فرعون على إيمان السحرة وأرغى وأزبد، لأنهم آمنوا بدون إذنه:+آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ" [الأعراف: 122]، كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق، وهم أنفسهم لا سلطان لهم عليها، أو يستأذنوه في أن ترتعش وجداناتهم وهم أنفسهم لا يملكون من أمرها شيئًا، ولكنه الطاغوت جاهل غير مطموس، وهو في الوقت ذاته متعجرف متكبر مغرور.

ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز، والمسألة واضحة المعالم إنها دعوة موسى إلى رب العالمين هي التي تزعج وتخيف، إنه لا بقاء ولا قرار لحكم الطواغيت مع الدعوة إلى رب العالمين، وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية الله للبشر بتنحية شريعته وإقامة أنفسهم أربابًا من دون الله؛ يشرعون للناس ما يشاءون ويعبدون الناس لما يشرعون، إنهما منهجان لا يجتمعان، أو هما دينان لا يجتمعان, أو هما ربان لا يجتمعان. وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع: +فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ` لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ" [الأعراف: 124،123].

إنه التعذيب والتشويه والتنكيل وسيلة الطواغيت في مواجهة الحق الذي لا يملكون دفعه بالحجة والبرهان، وعدة الباطل في وجه الحق الصريح.

ولكن النفس البشرية حين تستعلي فيها حقيقة الإيمان تستعلي على قوة الأرض وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة، وتختصر الفناء الزائل إلى جوار الخلود المقيم، إنها لا تقف لتسأل ماذا ستأخذ وماذا ستدع، ماذا ستقبض وماذا  ستدفع، ماذا ستخسر وماذا ستكسب، وماذا ستلقى في الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؛ لأن الأفق المشرق الوضئ أمامها هناك، لا تنظر إلى شيء في الطريق ([101]).

+قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ` وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ" [الأعراف: 125، 126]، لقد أقام موسى عليه السلام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة، على فرعون الطاغية المتكبر وطلب منه أن يرسل معه بنى إسرائيل، فامتنع وشرع للكيد لموسى وقومه، وكانت النتيجة أن تمكن الإيمان من قلب السحرة وأعلنوها صيحة مدوية في آفاق الأرض:+فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ 
الدُّنْيَا 
` إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" [طه: 72].

لقد انتقم فرعون من السحرة الذين آمنوا وصلبوا في جذوع النخل وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتشاور الملأ من القوم مع زعميهم الطاغية وقرر الأخير مضاعفة العذاب والانتقام من الشعب المستضعف الذي بدأ يزحف نحو النور والحرية والكرامة والتوحيد الصحيح.

لقد حاور موسى عليه السلام فرعون الطاغية وساجل سحرته، وكانت محاولته لمعالجة الوضع من فوق، لتحقيق تغيير أشمل، ولكن سرعان ما تبين أن الجدار الفرعوني لا يخترق ولا يستمال ولا يحيَّد ولا يكسب، حتى بعد أن كسب المعركة عقديًا وفكريًا وسياسيًا حين لقفت عصاه عصي السحرة فكان لا بد من الخروج ببني إسرائيل خلسة وباستخدام أسلوب التمويه حتى يكسب بعض الوقت قبل اكتشاف أثرهم واللحاق بهم، فالمواجهة كانت تعنى الهلاك، بل فشل الفرار كان يعنى الهلاك كذلك.

وكان لابد من التوجه نحو الصحراء حتى يمنع اللحاق بهم ويصلوا أرض الميعاد، بل كل هذا المجهود الفذ الذي قام به موسى عليه السلام لتخليص قومه من الذل والخنوع والاستعباد ما كان لينجح لولا توفيق الله عَزَّ وَجَلَّ ومعجزة شق البحر، وإغراق فرعون وجنوده وهم يكادون يمسكون بالهاربين ([102]).

لقد كان للأثر السياسي والاجتماعي ومظاهر البيئة الخارجية والداخلية تأثير في اتخاذ أسلوب الهجرة السرية لموسى وقومه، وعلى الشعوب المستضعفة: أن تعمل ما في جهدها وطاقتها ووسعها وتوقن أن نصر الله قادم ما دامت تريد أن تعبد الخلاق العليم على نهجه وشرعه ودينه القويم, لقد حان وقت هلاك فرعون اللعين ونجاة موسى الكليم ومن معهم من المؤمنين:

قال تعالى: +وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ ` فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ` إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ` وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ` وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ` فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ` كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ` فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ` فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ` قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ` فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ` وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ ` وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ` ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ ` إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ` وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" [الشعراء: 52- 68].

إن الآيات الكريمة توضح لنا سنة من سنن الله الماضية والجارية في المجتمعات والشعوب والأمم ألا وهي سنة إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه، وتتضح سنة أخرى ألا وهي سنة الاستدراج وكيف أن المولى عَزَّ وَجَلَّ قرب فرعون وجنوده وأدناهم بل وسلب عقولهم بحيث إنهم تابعوا موسى وقومه, ونقف مع الرسول الكريم في قوله تعالى: +كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ" هنا دلالة مهمة ألا وهي: أن الرسل هم أوثق الناس بنصر الله عز وجل ووعده، فلو ضاقت الأمور وشك الناس في وعد الله بالنصر والفرج فإن الرسل هم أوثق الناس بنصر الله.

إن فرعون الطاغية حاول أن يرفض الاستسلام لآيات الله ومشيئته وتكبر وتجبر وتغطرس وهذه هي النهاية: استدرج بعيدًا عن عرشه وقصره وسلطانه وأصبح من المغرقين، وأصبح وقومه أثرًا بعد عين, وبدأ نجم المستضعفين في الصعود إلا أن سنوات القمع والظلم وضعف العقيدة لا زال أثرها في نفوس بنى إسرائيل إلا أن هذا الانتصار العظيم لموسى الكليم على الطاغية اللئيم نوع من أنواع التمكين الذي ذكرت في القرآن الكريم وكان خطوة نحو التمكين الأكمل والنصر الأعظم الذي تم في عصر داود وسليمان عليهما السلام.

 

المبحث الثالث

قصة طالوت عليه السلام مع بنى إسرائيل

قال تعالى: +أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ` وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ` وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ` فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ` فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ` تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" [البقرة: 246- 252].

إن قصة طالوت عليه السلام توضح نوعًا من أنواع التمكين ألا وهو نصر الله للمؤمنين على الكافرين في المعارك.

وهذه القصة وقعت أحداثها بعد دخولهم الأرض المقدسة في فترة من فترات حياتهم, بعد أن انحرفوا عن منهج الله سلط الله عليهم من يضطهدهم ويهزمهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، وقد سلب الله منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.

وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند الجميع، العامة والملأ المالكين فيهم، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل، وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصرًا، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد والقتال، لذلك لجأ الملأ الحاكمون فيهم إلى نبيهم، وفزعوا إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم ملكًا يتولى أمورهم، ويقودهم إلى العزة والنصرة، ويقاتل لهم أعداءهم في سبيل الله. ويبدو أن ذلك النبي كان يعلم طبيعتهم المائعة وهمتهم الرخوة، وأنهم عندما يؤمرون بالقتال، فسوف ينكصون عنه ويقعدون عن خوضه، فقال لهم: أخشى عليكم الامتناع عن أمر الله عندما يأمركم بالجهاد، فردوا بحماسة بأنهم عازمون, وبينوا الأسباب التي تدعو إلى قتال أعدائهم, فبعد ذلك سأل نبيهم ربه، فأوحى إليهم أن طالوت ملكهم، فاحتجوا بحجج واهية نسفها لهم نبيهم وعندما جاء وقت الجد والكفاح والقتال والجهاد بدأوا في التساقط ولم يصبر مع طالوت إلا فئة قليلة سمعت وأطاعت واعتمدت على خالقها،  فنصرهم الله على أعدائهم.

ولقد وقف العلماء على هذه القصة العظيمة يدرسونها ويغترفون من بحرها العميق دروسًا مفيدة في تكوين الأفراد وقيادة الجماعات وإحياء الشعوب والسعي بها نحو التمكين ومن أهم هذه الدروس والعبر: ([103])

أولاً: مبهمات هذه القصة:

نلاحظ في هذه القصة مبهمات كثيرة لم يتعرض لها القرآن، لأنه لا فائدة في ذكرها، وإنما ذكر المولى عَزَّ وَجَلَّ ما يفيد المسلمين وأهل النظر والاعتبار.

إن في قصة طالوت نرى مبهمات كثيرة منها:

1- الزمان الذي وقعت فيه قصة طالوت، فكل ما يؤخذ من الآيات أنها وقعت لبنى إسرائيل من بعد موسى، يعنى بعد إقامتهم في فلسطين، أما تحديد السنة أو الفترة أو الحالة التي عليها بنو إسرائيل، فهذا لا يمكن تحديده.

2- اسم النبي الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكًا، فقد يكون شمعون أو صمويل وقد يكون غيرهما، فلا نجعل أحدًا من الأنبياء إلا بنص صريح، لاحتمال أن لا يكون نبيًا، وبذلك نؤمن بنبوة غير النبي! وهذا لا يجوز.

3- السبب الذي دفعهم ليطلبوا من نبيهم ذلك الطلب.

4- نسب طالوت، وبداية أمره، وتفصيلاته قبل تملكه عليهم.

5- تفصيلات ببسطة طالوت في العلم والجسم.

6- تفصيلات بملك طالوت عليهم.

7- التابوت وقصته وتاريخه عندهم ومقاساته، وتفصيلات السكينة والبقية التي فيه، التي تركها آل موسى وآل هارون وغير ذلك من المبهمات.

والعجيب أن بعض المفسرين والمؤرخين والكتّاب والمحدثين لم يقفوا عند هذا البيان القرآني والنبوي، فذهبوا إلى الإسرائيليات، وطلبوا منها حل تلك المبهمات، وتفصيل تلك الأحداث، فلم يقدموا لنا علمًا ولا فائدة ولا عبرة.

وبذلك تضيع جهود وأوقات في غر محلها، ويتركون عرض القرآن وما احتواه من دروس ودلالات وعبر، فالقصة هذه مثلاً:

فيها دروس للدعاة في التعامل مع الآخرين، ودروس للمصلحين الذين يريدون تغيير الواقع السيء الذي تعيشه الأمة، ودروس للمجاهدين الذين يعملون على تبديل الذل إلى عزة والهزيمة إلى نصر، ودروس للذين يعتمدون على الجماهير، ويصدّقون اندفاعهم وحماستهم، ويضعون على أساسها خططهم وبرامجهم، فتتخلى عنهم الجماهير وقت الحاجة، ودروس في التربية الفردية والجماعية، ودروس في الضبط والحزم والامتحان، ودروس في الجهاد والقتال وخوض المعركة، والتوجه إلى الله والاستنصار به، وعدم الرعب والهلع من قوة الأعداء، وفيها دروس في أسس اختيار الحكام والمسئولين وما هي مواصفات الحكام المطلوبة، إن هذه القصة مليئة بالدروس والعبر في مجال الدعوة والداعية، والحاكم والمحكوم، والجندي والقائد، وفي مجال الإيمان والعقيدة، والدعوة والجهاد، والإصلاح والتغيير, والتوجيه والتربية، والسياسة والولاية، والحكم والسيادة.

إن كثيرًا من المفسرين ملأوا كتبهم بتيه الإسرائيليات والخرافات والأساطير، وتجاوزوا كثيرًا من الدروس والدلالات ([104]).

إن هذا العصر يتطلب من العلماء أن يبتعدوا عن الترف الفكري والعلمي، لأننا مطالبون بالإصلاح والدعوة والتغيير، كما أن علينا مسئوليات عظيمة لتغيير واقع الأمة من الحضيض التي فيه إلى قمة العزة والتمكين التي يريدها الله لها.

ثانيًا: أهم سنن حياة الأمم والشعوب التي يمكن استخلاصها في هذه القصة:

حاول الشيخ محمد رشيد ([105]رحمه الله أن يتأمل في هذه القصة ويستنبط منها أهم السنن الاجتماعية في حياة الأمم والمجتمعات والشعوب وذكر منها:

السُّنة الأولى: أن الأمم إذا اعتدى على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم، فتسعى للوحدة التي يمثلها الزعيم العادل، فتتوجه إلى طلبه، كما وقع من بنى إسرائيل، بعد تنكيل أهل فلسطين بهم.

السُّنة الثانية: أن شعور الأمة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة استقلالها، يكون موجودًا عند خاصتها وأهل الفكر والرأي فيها، فالملأ من بنى إسرائيل، هم الذين طلبوا الملك.

السُّنة الثالثة: متى عظم الشعور بوجوب حفظ حقوق الأمة ومحاربة أعدائها عند خواص الأمة، فإنه لا يلبث أن يسرى إلى عامتها، حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور، انكشف عجز الأدعياء، ولم ينفع إلا صدق الصادقين.

السُّنة الرابعة: من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس، والاختلاف مدعاة للتفرق، فلا بد من مرجِّح ترضى به الأمة، كما طالبت بنو إسرائيل من نبيهم اختيار ملك لهم، فكان هو المرجح، والمرجح عند المسلمين هم أهل الحل والعقد منهم.

السُّنة الخامسة: أن الناس لا يتفقون على التقليد أو الأتباع فيما يرونه مخالفًا لمصلحتهم الاجتماعية، ولذلك اختلف بنو إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت ملكًا عليهم، واحتجوا على ذلك بما لا ينهض حجة إلا في ظن المنكرين, ومن عجيب 
أمر الناس أن كلاً منهم يحسب أنه على صواب في السياسة ونظام الاجتماع في 
الأمم والدول.

السُّنة السادسة: أن الأمم في طور الجهل ترى أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، كما في قول المنكرين على طالوت: أني يكون له الملك 
علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ فهذا الاعتقاد من السنن العامة في الأمم الجاهلية.

السُّنة السابعة: أن الشروط التي ينبغي اعتبارها في الاختيار لملك هي:+إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 247] فيما يأتي:

1- الاستعداد الفطري للشخص +إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ".

2- السعة في العلم الذي يكون به التدبير +وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ".

3- بسطة الجسم المعبَّر بها عن صحته، وكمال قواه المستلزم ذلك صحة 
الفكر +الْجِسْمِ".

4- توفيق الله تعالى لا سبب له، وهو المعبّر عنه بقوله: +وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ".

السُّنة الثامنة: هي ما أفاده قوله تعالى:+وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ".

فمشيئة الله سبحانه، إنما تنفذ بمقتضى سنته العامة في تغيير أحوال الأمم، بتغييرهم ما في أنفسهم، وفي سلب ملك الظالمين، وإيراث الأرض للصالحين، وتأويل هذه الآيات وأمثالها مشاهد في كل زمان، وأين المبصرون؟

السُّنة التاسعة: أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة الأمر وقوانين الجندية في هذا الزمان حتى عند الغربيين مبنية على طاعة الجيش لقواده في المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول.

السُّنة العاشرة: أن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات وطاعة القواد، الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والاتحاد مع طاعة القواد، لأن النصر مع الصابرين، أي جرت سنته بأن يكون النصر أثرًا للثبات والصبر، وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم على أنفسهم وهذا مشاهد في كل زمان.

السُّنة الحادية عشرة: أن الإيمان بالله، والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلاء والقتال.

السُّنة الثانية عشرة: أن التوجه إلى الله بالدعاء مفيد في القتال كما يدل عليه قوله: +فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ" إذ عطفها بالفاء على آية الدعاء، وذلك معقول المعنى، فإن الدعاء هو آية الإيمان بالله والتصديق بلقائه.

السُّنة الثالثة عشرة: دفع الله للناس بعضهم ببعض من السنن العامة، وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر بتنازع البقاء، ويقولون إن الحرب طبيعة في البشر؛ لأنها من فروع سنة تنازع البقاء العامة، وأنت ترى في قوله تعالى: +وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ" ليس نصًا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة، بل هو لكل نوع من أنواع التنازع بين الناس، الذي يقتضى المدافعة والمغالبة ([106]).

إن السنن الربانية ثابتة في الكون، وتقع على الإنسان في كل زمان ومكان, وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين تعلقًا وثيقًا.. ولقد شاء الله رب العالمين أن يُجرى أمر هذا الدين - بل أمر هذا الكون - على السنن الجارية، لا على السنن الخارقة وذلك حتى لا يأتي جيل من أجيال المسلمين فيتقاعس، ويقول: لقد نصر الأولون بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة، وانقطاع النبوات ([107]).

وعلى المسلمين أن يدركوا سنن ربهم المبرزة لهم في كتاب الله تعالى وفي سنة 
رسوله × حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين «فإن التمكين لا يأتي عفوًا، ولا ينزل اعتباطًا ولا يخبط خبط عشواء؛ بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة» ([108]).

إن الوقوف على معرفة سنن الله ودراستها أمر لا بد منه للأمة الإسلامية وذلك حتى يستفيدوا منها، ولا يصطدموا بها.

يقول حسن البنا: «لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها، واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض»([109]).

إن سنة التدافع متعلقة بالتمكين تعلقًا وطيدًا «فالله تعالى يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفًا، ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة - فإذا مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر، ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل، ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان, ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة... فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله، والباطل وحزبه، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً» ([110]).

«وهي سنة فطرية جارية بين الناس حفظًا لاستقامة حال العيش، واعتدالاً 
لميزان الحياة» ([111]).

لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية هي القرآن الكريم بصفة عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه: ([112])

الآية الأولى: قوله تعالى في سورة البقرة: +وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [البقرة: 251].

الآية الثانية: قوله تعالى في سورة الحج: +وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40].

والملاحظ أن آية البقرة تأتى بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيل الله - تعالى - الآية بقوله تعالى:+وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" [البقرة: 251]، (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلَّهم) ([113]).

وتأتى آية الحج بعد إعلان الله تعالى أن يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم - سبحانه - بقتال عدوهم، ويختتم الآية بتقرير الله تعالى لقاعدة أساسية: +وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40].

إن من الضروري للأمة الإسلامية أن تعي سنة الله - تعالى - في دفع الناس بعضهم ببعض: «لتدرك أن سنة الله - تعالى - في تدمير الباطل أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة، ثم يقذف الله - تعالى - بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» ([114]).

إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضى به، وقلوب تحنو عليه، وأعصاب ترتبط به.. إنه يحتاج إلى الطاقة البشرية, الطاقة القادرة القوية، والطاقة الواعية العاملة..إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله تعالى في الحياة الدنيا سنة ماضية([115]): +فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً" [فاطر: 43].

وهكذا يتضح أن سنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية, وما على الأمة إلا أن تعى هذه السنة، لتستفيد منها وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين([116]).

ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من أمور دينهم ودنياهم, ويبين بكل جلاء ووضوح سنن الله تعالى في الآفاق والمجتمعات والأمم، ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي الأسباب التي تتخذ، فعندما أراد الله لبنى إسرائيل أن ينصرهم على عدوهم ويمكن لهم في الأرض سبق ذلك التمكين وذلك النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلام.. وقد أجاد سيد قطب - رحمه الله - في بيان هذه الحقائق فقال: (والعبرة الكلية تبرز من القصة كلها، هي أن هذه الانتفاضة- انتفاضة العقيدة - على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من نقص وضعف، ومن تخلى القوم عنها فوجًا بعد فوج في مراحل الطريق على الرغم من هذا كله، فإن ثبات حفنة قليلة من المؤمنين عليها قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة جدًا، فقد كان فيها العز والنصر والتمكين، بعد الهزيمة المنكرة، والمهانة الفاضحة، والتشريد الطويل، والذل تحت أقدام المتسلطين، ومن خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية، كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك:

1- أن الحماسة الجماعية، قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة.

2- أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الثائر في نفوس الجماعات، ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول.

أ- فإن كثرة بنى إسرائيل هؤلاء قد تولَّوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيهم، وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت.

ب- ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول، وشربوا من النهر، ولم يجاوز معه إلا عدد قليل.

ج- وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحي، أمام كثرة الأعداء وقوتهم، تهاونت العزائم، وزلزلت القلوب.

د- وأمام هذا التخاذل ثبتت القلة القليلة المختارة، واعتصمت بالله، ووثقت بوعده، وهي التي رجحت الكفة وتلقت النصر، واستحقت العز والتمكين.

لقد تمت تصفية بنى إسرائيل ثلاث مرات، وخلاصة الخلاصة، هم الذين صدقوا الله في الجهاد فصدقهم الله وعده، وأنزل عليهم نصره.

3- في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة، وكلها واضحة في قيادة طالوت - تبرز فيها:

أ- خبرته بالنفوس.

ب- عدم اغتراره بالحماسة الظاهرة.

ج- عدم اكتفائه بالتجربة الأولى.

د- محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة.

هـ - فصله للذين ضعفوا، وتركهم وراءه.

و- ثم - وهذا هو الأهم - عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة.

4- والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة.. أن القلب الذي يتصل بالله، تتغير موازينه وتصوراته، لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود, فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها، ما يراه الآخرون الذين قالوا: +لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ" ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكمًا آخر، فقالت: +كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" ثم اتجهت لربها تدعوه: +رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين، إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه.

وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقًا، وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح، وهكذا يثبت أن التعامل مع الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!.

ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة، فالنصوص القرآنية - كما علمتنا التجربة- تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن، وبقدر حاجته الظاهرة فيه.

ويبقى لها رصيدها المذخور، تتفتح به على القلوب، في شتى المواقف، على قدر مقسوم ([117]).

إن القرآن الكريم يحتاج منا إلى تأمل وتفكر عميق، وسنجد خبرات لا تعد ولا تحصى في كل شئون الحياة الدنيوية والأخروية، وتمد العاملين من أجل الإسلام بالصبر والثبات.

إن دعاء القلة المؤمنة +رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" ليس خاصًا بها، بل يصلح لكل فئة مجاهدة صابرة، تقف أمام أعدائها، وهناك لفتة في ترتيب فقرات الدعاء الثلاثة: الصبر وتثبيت الأقدام والنصر، فكل فقرة مبنية على ما قبلها وترتيبها ترتيبًا مرحليًا، فعند مواجهة الأعداء يحتاج المجاهد أولاً إلى الصبر- بمفهومه الشامل وميادينه المتعددة - فإذا صبر حاز المرحلة الثانية وهي ثباته وتثبيت قدميه، ولن تثبت الأقدام إلا عند الصابرين وإذا ثبتت الأقدام واستبسل المجاهد في القتال نصره الله على الأعداء, ونلاحظ في الدعاء الالتفات إلى أهمية الحالة النفسية والناحية المعنوية، وتقديمها على الحالة الخارجية المادية، ولذلك قدم الصبر على المعركة، وعلى تثبيت الأقدام فيها، كما نلاحظ تناسقًا وتنسيقًا بين موقفي اغترافهم من النهر اغترافًا، بينما يطلبون إفراغ الصبر عليهم إفراغًا، وصبّه عليهم صبًا، ولعل في هذا إشارة أخرى: فمن استعلى على الدنيا وحاجاتها، لم تتعبده ملذاتها، من حرم نفسه من بعض متاعها ومباحاتها، ابتغاء وجه الله، عوّضه الله عن ذلك، وأمده الله بمدد من عنده، فها هي القلة المؤمنة امتنعت من الشرب من النهر، واستعلت بذلك على متاع الدنيا ومباحاتها، فعوّضها الله عن ذلك الصبر حيث أفرغه عليهم إفراغًا، ونلاحظ: أن داود عليه السلام خرج من وسط الجيش المجاهد، فمن ميدان المعركة بدأ أمره، وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة والمسئولية، وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة، والميدان هو الذي يكشف عن المواهب، فالقائدان طالوت وداود ظهرا من وسط الناس، وقدمهما للناس الميدان والعمل والواقع، فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون الأمة إلى طريق النصر والتمكين ([118]).

ومن حكمة الله تعالى في قتل داود لجالوت، أن داود كان فتى صغيرًا من بنى إسرائيل، وجالوت كان ملكًا قويًا وقائدًا مخوفًا... ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجرى بظواهرها، إنما تجرى بحقائقها, وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا بواجباتهم، ويفوا الله بعهدهم ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده.

وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.

إن انتصار بنى إسرائيل على جيش طالوت نوع من أنواع التمكين التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم, وإن النظرة المتأملة للقرآن الكريم تكسب الذين يسعون لتحكيم شرع رب العالمين تجارب بشرية ضخمة, وتمدهم بتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله، وتورّث أجيال الأمة ميراث الأنبياء والمرسلين في نظرتهم للواحد الديان، والحياة، والكون، وحقيقة الإنسان ومناهج التغيير التي خاضوها في هذه الحياة.

* * *

 

المبحث الرابع

الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع قومه

إن انتصار أهل الإيمان على أهل الكفر في المعارك القتالية، يظهر جليًا في سيرة النبي × وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي تاريخ الأمة المجيدة.

إن النبي × بعد استقراره في المدينة شرع يخطط للأعمال الجهادية، ويحث أصحابه على فنون القتال ويرسل السرايا والبعوث، ليضيق على حركة قريش التجارية، ويؤدب القبائل المشركة ويؤمن دولة الإسلام من أعدائها، ويخوّف المتربصين بالمسلمين، ويهيئ أصحابه للمهمات التي تنتظرهم بعد أن أذن الله لهم بالقتال، فبعث × مجموعة من البعوث والسرايا حققت بعض الأهداف الاستراتيجية من أهمها:

1- الاستطلاع: حتى يتعرف المسلمون على الطرق المحيطة بالمدينة والمؤدية إلى مكة، خاصة الطرق الحيوية التجارية لقريش في الجزيرة واهتموا بالتعرف على قبائل المنطقة وموادعة بعضها.

2- الحصار الاقتصادي: على قريش ومنعها من مواصلة تجارتها مع الشام ما أمكن إلى ذلك سبيلاً ومنع الحصار الاقتصادي المتوقع على المدينة من قبل القبائل المحيطة بها، وذلك بعقد أحلاف مع بعضها وقتال البعض الآخر, ومفاجأة كل تجمع يخشى منه ضرر على الدولة المسلمة، فكان × يقظًا سريع الحركة ما يكاد يسمع بتجمع للمشركين يهدده إلا فاجأهم وشتت شملهم وألقى الرعب في قلوبهم، فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع.

3- لقد أثبتت حركة السرايا والبعوث أن المسلمين أصبحوا قوة يحسب لها حسابها من قبل المشركين من قريش والقبائل المجاورة, واضطرت بعض القبائل إلى مهادنة وموادعة المسلمين، هذه بعض الأهداف التي حققتها تلك السرايا والبعوث.

إن معارك النبي × ضد المشركين وانتصاره عليهم نوع من أنواع التمكين, ومن أهم هذا المعارك: بدر، والخندق، ففي معركة بدر بيَّن تعالى أن حقيقة النصر من الله تعالى, قال تعالى:+وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [آل عمران:123].

إن الله تعالى بين أن النصر لا يكون إلا من عند الله عَزَّ وَجَلَّ, والمعنى ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أي ذو العزة التي لا ترام ([119]), و(الحكيم) أي الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى ([120]).

ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه من التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون لكن يجب أن لا يغتروا بها, وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب والوسائل حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين وأن النصر الذي كان في بدر وقتلهم المشركين، ورمي 
النبي × المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته، وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه, فقال تعالى:

+فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأنفال:17].

ولما بين سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده وضح بعض الحكم من ذلك النصر:

فقال تعالى:+لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ` لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" [آل عمران: 127، 128].

وأمر سبحانه المؤمنين أن يتذكروا دائمًا تلك النعمة العظيمة نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر.

قال تعالى: +وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [الأنفال: 26].

لقد كانت نتائج غزوة بدر على المسلمين عظيمة، ومن أهم تلك النتائج:

1- ضعف موقف المشركين واهتزاز هيبتهم أمام قبائل الجزيرة العربية.

2- ظهور قوة جديدة في الجزيرة أصبح الجميع يحسب لها حسابها.

3- بدأ النفاق في المدينة يظهر جليًا بعد بدر، واستمر المنافقون في أذاهم للمسلمين.

4- شرع اليهود في إظهار عداوتهم للمسلمين بعد بدر حسدًا وبغيًا وأول من أظهر بغيه يهود بنى قينقاع.

5- أصبحت الحرب معلنة بين المسلمين وقريش لم تنته إلا بفتح مكة.

6- تشجع كثير من الناس لدخول الإسلام ودخلت المدينة في طور جديد من الجهاد المسلح.

7- خص الله أهل بدر من الصحابة الكرام بالمغفرة وشرّف من حضرها من الملائكة وأصبحت غزوة بدر شرفًا ومنقبة لمن حضرها من المسلمين والملائكة.

أما غزوة الخندق فقد تحدث القرآن عنها وبين أمورًا من أهمها:

1- تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم كما قال تعالى:+يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا" [الأحزاب: 9].

2- التصوير البديع لما أصاب المسلمين من هم بسبب إحاطة الأحزاب بالمدينة +إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا" [الأحزاب: 10].

3- الكشف عن نوايا المنافقين السيئة، وأخلاقهم الذميمة، وجبنهم الخالع, ومعاذيرهم الباطلة ونقضهم للعهود, قال تعالى:+وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا" [الأحزاب: 12].

4- حض المؤمنين في كل زمان ومكان على التأسي برسول الله × في أقواله وأفعاله وجهاده وكل أحواله استجابة لقوله تعالى:+لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا" [الأحزاب: 21].

5- مدح المؤمنين على مواقفهم النبيلة وهم يواجهون جيوش الأحزاب بإيمان صادق، وفاء بعهد الله تعالى، قال تعالى:+مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" [الأحزاب: 23].

6- بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف, وهي جعل العاقبة للمؤمنين والهزيمة لأعدائهم، قال تعالى: +وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا" [الأحزاب: 25].

7- امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين حيث نصرهم على بنى قريظة وهم في حصونهم المنيعة بدون قتال يذكر, حيث ألقى سبحانه الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله ([121])، قال الله تعالى: +وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ` وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا" [الأحزاب: 26، 27].

لقد كانت غزوة الأحزاب من الغزوات الهامة التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة:

1- انتصار المسلمين وانهزام أعدائهم وتفرقهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم.

2- تغير الموقف لصالح المسلمين فانتقلوا من موقف الدفاع إلى الهجوم, وقد أشار إلى ذلك النبي × حيث قال: «الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم» ([122]).

3- كشفت هذه الغزوة خبث يهود بنى قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع النبي × في أحلك الظروف وأصعبها.

4- كشفت غزوة الأحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين وحقيقة المنافقين وحقيقة يهود بنى قريظة، فكان الابتلاء بغزوة الأحزاب تمحيصًا للمسلمين وإظهار حقيقة المنافقين واليهود.

5- كانت غزوة بنى قريظة نتيجة من نتائج الأحزاب حيث تمّ فيها محاسبة يهود بنى قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي × في أحلك الظروف وأقساها.

حروب الردة:

عندما توفى رسول الله × ارتدت أحياء كثيرة من العرب، وظهر النفاق، وقد كان أهل الردة على قسمين:

القسم الأول: ارتدوا عن الدين ونابذوا الملّة، وهذه الفرقة طائفتان:

1- الطائفة الأولى: فمنهم التارك للدين بالمرّة، وهم بنو طيئ، وأسد, ومن تبعهم من غطفان وعبس وذبيان وفزارة اتبعوا طليحة بن خويلد الأسدي مدعى النبوة في بنى أسد، وبنو حنيفة الذين اتبعوا مسيلمة الكذاب، وأهل اليمن الذين اتبعوا الأسود العنسى، وكثير غيرهم، وهؤلاء ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملّة، واتبعوا مُدّعى النبوة في الجزيرة، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وعاد إلى ما كان عليه من الجاهلية.

2- الطائفة الثانية: هم الدين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها, وهم بعض بنى تميم، الذين يرأسهم مالك بن نويرة، وبنو هوازن وغيرهم.

وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلاف، فثبت أبو بكر رضي الله عنه ثم وافقه جميع الصحابة على قتال جميع المرتدين ومانعي الزكاة ([123]).

وخاض الصديق معارك طاحنة في الجزيرة العربية، وهزم جيوش المرتدين ونتج عن تلك المعارك نتائج مهمة من أهمها:

1- ظهرت أهمية القاعدة الصلبة في المجتمع الإسلامي، وأثبتت حروب الردة أن هناك معادن أصيلة قوية، تشكلت منها القاعدة الصلبة في المدينة والتي لم تكن رخوة أو هشة، أو ساذجة، بل كانت قوية واعية تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عودها، وتستوعب أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، ولهذا أزاحت كل العراقيل والصعاب التي وضعت أمامها، لقد التفت هذه القاعدة حول الصديق رضي الله عنه، فقادهم لحفظ الدولة، وتقوية دعائمها بعد رسول الله ×, وكان لهذه القاعدة أثر في الحشد الذي تم لمواجهة أحداث الردة، وكان لهذه القاعدة دور في لَمَّ شمل الناس من حولهم...وعلى عاتقهم تم حفظ كيان الأمة وحرصوا على بقائها وتنميتها, وضحوا بالمهج والأموال، ولعل موقفهم في حروب الردة وخصوصًا في حرب ردة اليمامة وهي أعظمها بيَّن أهميتها في بقاء الدولة واستمرارها حيث تميز المهاجرون والأنصار بإيمانهم وثباتهم وصبرهم, وكان القتل في المهاجرين والأنصار قد استحرّ, وأكرمهم الله بالنصر على عدوهم بسبب صدقهم وإخلاصهم وثباتهم.

2- لقد تكسرت وتحطمت قوى الشر من يهود ونصارى ووثنيين الذين تستروا تحت شعارات عدة أمام صلابة التوحيد وحقيقة التصور السليم، والقيادة الحكيمة، وتركت لنا تلك الأحداث الجسيمة ثروة ضخمة في معاملة المرتدين وأحكامهم، ومعاملة الخارجين عن دولة الإسلام العظيمة.

3- استطاعت القيادة الإسلامية بزعامة الصديق رضي الله عنه أن تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للانطلاق لفتح العالم أجمع, وأصبحت الجزيرة هي النبع الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى صقاع الأرض بواسطة رجال عرّكتهم الحياة، وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في مجالات التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لإسعاد بنى الإنسان حيثما كان.

4- أصبحت الجزيرة العربية تحت نظام واحد وقيادة واحدة بعد تاريخ طويل من التمزق والفرقة والشتات بسبب الصراع القبلي والأطماع الفردية، والنزعات العشائرية وتحقق مفهوم الأمة على أسس عقدية وفكرية ومنهجية ربانية, وانصهرت القبائل في كيان الأمة ذات الفكرة الواحدة، والقيادة الواحدة، وأصبحت جزءًا من كيانها المتماسك.

5- كانت حروب الردة إعدادًا ربانيًا للفتوحات الإسلامية حيث تميزت الرايات وظهرت القدرات، وتفجرت الطاقات، واكتشفت قيادات ميدانية, وتفنن القادة في الأساليب والخطط الحربية، وبرزت مؤهلات الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل، وتقدم كل شيء وهي تعلم من أجل ماذا تضحي وتبذل، ولذا كان الأداء فائقًا والتفاني عظيمًا ([124]).

6- وضع الصَّديق التقسيم الإداري بعد انتصاره في حروب الردة لدولة الإسلام على نظام الولايات وهي: مكة وكان أميرها عتاب بن أسيد، والطائف أميرها عثمان بن أبي العاص، وصنعاء أميرها المهاجر بن أبي أمية، وحضر موت ووليها زياد بن لبيد، وخولان ووليها يعلى بن أمية، وزبيد ورقع ووليهما أبو موسى الأشعري، أما جند اليمن، فأميرها معاذ بن جبل، ونجران ووليها جرير بن عبد الله، وجرش ووليها عبد الله بن نور، والبحرين ووليها العلاء بن الحضرمي, وعمان ووليها حذيفة القلعانى، واليمامة ووليها سليط بن قيس([125]).

الفتوحات الإسلامية:

تحركت جيوش المسلمين بقيادة الصديق بعد حروب الردة لنشر الإسلام في الآفاق، فكانت حروب العراق بقيادة خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة, وكانت معارك الروم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح. وبعد وفاة الصديق تولى الخلافة عمر رضي الله عنه والذي تحقق في زمن خلافته انتصار المسلمين الساحق على الروم في اليرموك وانتصارهم على الفرس في المدائن, وبذلك فتحت إمبراطورية الروم في بلاد الشام، وإمبراطورية الأكاسرة في بلاد الفرس أمام دعاة الإسلام يقدمون للأمم دين الله الذي ارتضاه لعباده.

وسار المسلمون على هدى أسلافهم في خوض المعارك الضارية ضد أعداء الإسلام، فسجل لنا التاريخ انتصار المسلمين على النصارى في معركة الزلاقة عام 479هـ بقيادة يوسف بن تاشفين قائد دولة المرابطين، وانتصارهم على النصارى في معركة حطين عام 583هـ وفتحت بعدها القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي.. وكان انتصار المسلمين على أعدائهم يحدث عندما يأخذ المسلمون بأسباب التمكين وشروطه وسننه التي لا تحابي ولا ترحم ولا تجامل، إن هذا النوع من التمكين يتجدد كلما حققت الأمة صفات جيل التمكين سواء على أفراد الأمة أم قادتها.

                                                    * * *

 

الفصل الثالث

المشـــــــاركة في الحكــــم

تمهيد:

إن تولى أهل التوحيد والإيمان أعباء الحكم لدولة غير مؤمنة نوع من أنواع التمكين، وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع من التمكين في قصة يوسف عليه السلام, قال تعالى:+اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" [يوسف: 55].

لقد تقدم يوسف عليه السلام بهذا الطلب إلى ملك مصر المشرك من أجل عقيدته ودعوته وتقديم الخير للناس، ولقد تحرك يوسف عليه السلام وفق الإمكانات والظروف التي مرّ بها واستفاد من الفرصة التي سنحت له.

وهذا المسلك الذي اتخذه يوسف عليه السلام يدلنا على أن طرائق نشر الإسلام، ودعوة المجتمعات إلى الإيمان له أكثر من سبيل، كما أن هذا المسلك لا يوجد فيه تناقض بين المبدأ الذي يحمل رايته، وهو أن الحكم لله والعبودية المطلقة للواحد الديان وبين توليه الوزارة، ليجعل المجتمع أقرب إلى دعوة الله، وهذا أمر لا شك فيه، لأن يوسف عليه السلام نشر دعوة التوحيد في السجن فكيف به وهو في سُدّة الحكم.

إن دخول يوسف عليه السلام في الوزارة كان سندًا للحركات الإسلامية المعاصرة التي ترى جواز المشاركة في الحكومات الجاهلية إذا كان للمشاركة مصلحة كبرى أو دفع شر مستطير، ولم يكن بإمكان المشارك أن يغير في الأوضاع تغييرًا جذريًا, وذهب إلى هذا الاجتهاد كثير من العلماء وأهل الحل والعقد في الحركات الإسلامية المعاصرة إلا أن هذه المسألة لم تخل من معارضة بعض الباحثين الذين استدلوا بأدلة تدل على عدم جواز المشاركة في الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله, واعتبر مسألة المشاركة في الحكم من مسائل العقائد، والذي يبحث في هذه المسألة من الناحية الشرعية والممارسات التاريخية يصل إلى نتيجة أن المسألة تدخل تحت السياسة الشرعية للجماعة المسلمة الرشيدة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه؛ ولذلك سنحاول أن نناقش الموضوع مناقشة علمية هادئة بعيدة عن التوتر والتشنج، وإنما مقصدنا الوصول إلى ما يحبه الله ويرضاه.

 

المبحث الأول

أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم

أولاً: أدلة المانعين المشاركة في الحكم:

يرى أصحاب الرأي الذي يمنع دخول الإسلاميين من المشاركة في الحكم أدلة من أهمها:

1- النصوص الحاكمة على من لم يحكم بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم والفسق:

قال تعالى: +وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة: 44].

وقال تعالى: +وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [المائدة: 45].

وقال تعالى: +وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [المائدة: 47].

2- إن الحاكمية يجب أن تكون لله وحده:+إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ 
إِيَّاهُ
" [يوسف: 40].

3- نهى رب العالمين المؤمنين أن يحتكموا إلى شريعة غير شريعة الله، وجعل ذلك منافيًا للإيمان, قال تعالى:+فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65].

4- في المشاركة في الحكم غير الإسلامي مفاسد عظيمة، فالذين لا يحكمون شرع الله يحادون الله في أمره، وينازعونه في حكمه +إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ" [يوسف: 40]، +وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف: 110]، فكيف يشارك المسلم في هذا النوع من الحكم؟

5- مشاركة المسلم في هذا النوع من الحكم توقعه في تناقض كبير، فالمسلم مطالب بأن يجاهد، لإقامة حكم الله، وينكر أشد الإنكار على من حكم بغير ما أنزل الله، فكيف يكون مقيمًا للحكم بغير ما أنزل الله.

6- إن طاعة الحكام فيما يشرعونه مخالفين أمر الله تعنى اتخاذ المطيع لهم أربابًا من دون الله، كما قال تعالى: +اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا" [التوبة: 31].

7- من المفاسد التي تترتب على المشاركة أن بعض الحكام قد يتخذون من يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يحلون بها حكمهم، ويدلسون بذلك على السذج والعوام، فيقولون: لو كنا على الباطل لما قبل فلان مشاركتنا في الحكم، ويزداد الطين بلة عندما يمررون من خلال الوزير المسلم القوانين الجائرة الظالمة وبعد أن يحققوا من ورائه أهدافهم ينبذونه نبذة النواة.

8- وفي المشاركة في الحكم ركون إلى الذين ظلموا، وقد حذرنا الحق من الركون إليهم: +وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ" [هود: 113].

9- وقد يكون في المشاركة في الحكم إطالة لعمر هذا النمط من الحكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله في بعض الأحيان ([126]).

ثانيًا: أدلة القائلين بالجواز:

قالوا: إن الأصل عدم جواز المشاركة ولكن هناك حالات استثنائية أباحت الشريعة فيها المشاركة، واستدلوا بأدلة من أهمها دخول يوسف عليه السلام في الوزارة:

1- إن يوسف عليه السلام تولى المنصب الذي تولاه بإذن الملك وإرادته، يدلنا 
على ذلك طلب يوسف عليه السلام من الملك أن يوليه: +قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" [يوسف: 55].

فالنص صريح في الدلالة على أن الملك هو الذي يملك التولية, والنص صريح أيضًا في أن يوسف عليه السلام قد طلب منصبًا في دولة الملك، ولم يطلب أن يعزل الملك نفسه ولم يكن ذلك الطلب لنفسه.

قال سيد قطب - رحمه الله-: (لم يكن يوسف يطلب لشخصه، وهو يرى إقبال الملك عليه، فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض، إنما كان حصيفًا في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعية الضخمة في أشدّ أوقات الأزمة، وليكون مسئولاً عن إطعام شعب كامل) ([127]).

ويرى ابن تيمية - رحمه الله -: (أن هذا المجتمع الكافر لا بدّ أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكنه فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن أن يناله بدون ذلك - وهذا كله داخل في قوله تعالى: +فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]) ([128]).

لقد اعترض المانعون على المجيزين في استدلالهم بقبول يوسف عليه السلام للوزارة وقالوا: إن شرعنا لا يجيز تولى الوزارة في ظل حاكم غير مسلم، وأما تولى يوسف للوزارة فهو شرع لمن قبلنا، وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في شرعنا ما ينقضه.

ورد المجيزون على هذا الاعتراض بوجوه:

الوجه الأول: أن شرعنا وشرع يوسف عليه السلام بل شرائع الأنبياء جميعًا متفقة في تقرير حاكمية الله تبارك وتعالى.

فيوسف عليه السلام يقرر في مخاطبته للفتيين اللذين دخلا معه السجن أن الحكم لله وحده +إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ" [يوسف: 40].

ويشرح الأستاذ سيد -رحمه الله- كلمة يوسف هذه بقوله: إن الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته، إذ الحاكمية من خصائص الألوهية, من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص الألوهية ([129]).

ويوسف عليه السلام الذي يعلم هذا الحكم المقرر في جميع الأديان هو الذي يتولى منصب عزيز مصر، ويقول للملك:+اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ" [يوسف:55].

فيتولى هذا المنصب وهو يعلم أن للملك نظامًا وشريعة لا يستطيع أن يزيحها بين عشية وضحاها: +مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ" [يوسف: 76].

يقول سيد قطب في الظلال: (إن هذا النصر يحدد مدلول كلمة الدين في هذا الموضوع تحديدًا دقيقًا، إنه يعنى نظام الملك وشرعه، فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته) ([130]).

فإذا كان فقه يوسف للحاكمية هو نفس الفقه المقرر في شريعتنا ومع ذلك تولى الوزارة فإنا نجزم في هذا المقام بأمرين:

1- أن توليه للوزارة لم يناقض عقيدته في كون الحاكمية لله وحده.

2- وأنه لم يكن مخطئًا عندما تسلم الوزارة، لأنه نبي معصوم.

الوجه الثاني: ومما يدل على نفى هذه الشبهة وإبطالها إخبار الحق تبارك وتعالى أن استلام يوسف الوزارة كان رحمة ونعمة ولم يكن عذابًا ونقمة، +قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ` وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 56،55].

فالله يقرر أن تسلم يوسف للوزارة هو من باب التمكين له في الأرض، وأنه رحمة أصابه بها وأنه أجر دنيوى عاجل، وما ينتظره من الثواب الآجل أعظم وأكبر +وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" [يوسف:57].

ويوسف عليه السلام يصرح بأن تسلمه للحكم كان من نعمة الله عليه، ولم يكن نقمة:+رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" [يوسف: 101].

الوجه الثالث: والنصوص التي ذكرت تدل على أن هذا الحكم ليس خاصًا بنبي الله يوسف، دون سواه، وذلك أن النص صيغ صياغة عامة: +نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" [يوسف: 56].

ثم من ادعى أن هذا الحكم خاص بيوسف دون سواه عليه أن يأتي بالدليل، لأن الأصل في سير الأنبياء والمرسلين يراد به التأسي والاقتداء، فكيف إذا جاءت النصوص القرآنية نافية الخصوصية مشيرة إلى العموم ([131]).

لقد تحدث المفسرون في هذه القضية:

1- نقل القرطبي - رحمه الله - عن بعض أهل العلم: (إباحة طلب الرجل الفاضل أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه، فيصلح منه ما شاء، وأمّا إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك، ونقل القرطبي عن قوم أن هذا كان ليوسف خاصة دون غيره، ولكنه رجح القول الأول) ([132]).

2- واستدل الألوسي- رحمه الله - بطلب يوسف الولاية على جواز ذلك لغيره إذا كان الطالب قادرًا على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة, وإن كان من يد الجائر أو الكافر، بل ذهب الألوسي إلى أنه قد يجب الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلاً، وكان متعينًا لذلك ([133]).

3- وقال الشوكاني: «وقد استُدل بهذه الآية على أنه يجوز تولى الأعمال جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق» ([134]).

وهذا من أقوى الأدلة في جواز المشاركة في الانتخابات.

المبحث الثاني

شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة

استطاع الإسلاميون في بعض بلدان العالم الإسلامي أن يدخلوا بعض الوزارات عن طريق الانتخابات والمصالحات والأحلاف التي عقدوها مع بعض الأنظمة والأحزاب، وأثارت هذه الخطوات الجريئة مناقشات واعتراضات في داخل الحركات الإسلامية وخارجها، ولذلك نحاول أن نسلط الأضواء على بعض هذه التجارب والتي من أهمها: تجربة الأردن، واليمن، وتركيا، ولقد راعت هذه الحركة القواعد الشرعية في مبادئ المصالح والمفاسد، وحاولت جاهدة أن تلتزم بقواعد الضرورة، ومصلحة العمل الإسلامي، ومصالح المسلمين في هذه الأقطار، فإذا كانت هناك مصلحة حقيقية أو كان في اشتراكها في الحكومات سيعود بالنفع العميم على المسلمين, أو سيمنع فسادًا كبيرًا وضررًا مصيريًا يحيق بهم أو يهدد وجودهم فالاشتراك في هذه الحالة يدخل في حكم الواجب بالنسبة لها.

لقد دخلت هذه الحركات المباركة في تجارب الحكم، ضمن شروط واضحة ومصالح بينة، وضرورة تفرضها الظروف واستراتيجية مدروسة والتزام بالقواعد الشرعية عند الممارسة، فلم يكن الحكم واستلام السلطة هدفًا بذاته تتمسك به هذه الحركات على حساب المبادئ أو على حساب الشعب، أو على حساب الحركات، أو على حساب أقوات الناس، أو على حساب استقلال البلاد واسترجاع الأوطان، ولقد شاركت هذه الحركات في الحكم بالطرق الشرعية عن طريق تفويض الشعب لهم خلال الانتخابات، ولقد قامت هذه الحركات بدراسات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية.. إلخ، قبل الدخول في الحكم حتى تأكدوا أن وجودهم في مقاعد السلطة أفضل للإسلام والمسلمين من مقاعد المعارضة.

أولاً: الحركة الإسلامية في الأردن:

لا يزال وضع الحركة الإسلامية في الأردن يختلف عن كثير من بلاد العالم الإسلامي، إذ كانت الأردن تتميز عن غيرها بالحريات وإعطاء العمل السياسي فرصة أكبر، ولذلك وجدت الحركة الإسلامية متنفسًا ومناخًا طبيعيًا لأعمالها السياسية والدعوية والاجتماعية والتربوية والتعليمية.

ويعتبر تاريخ تأسيس الحركة الإسلامية في الأردن عام 1946م وهي السنة التي حصل فيها الأردن على استقلاله وسعت منذ تأسيسها إلى إحياء مظاهر الحياة الإسلامية في المجتمع الأردني، وركزت جهودها على قطاع التربية والتعليم في سبيل بناء جيل إسلامي جديد، فأنشأت وأدارت مؤسسات متخصصة في التعليم والرعاية الاجتماعية والعناية الصحية في شتى أنحاء البلاد، ووقفت بجانب المؤسسات الحكومية القائمة على هذا المجالات وساهمت بشكل فعال بدعمها. وتميزت ظروف الحركة في الأردن بظهور حالة من التعايش بين الحركة والنظام، مما أتاح لها حرية نسبية من النشاط والعمل الإسلامي، وحرصت الحركة من طرفها، كما سعي النظام من جهته أيضًا، إلى الحفاظ على عناصر هذا التعايش ([135]).

أ- عناصر التعايش بين الحركة والنظام:

1- إدراك الحركة لوضع الدولة وضعف إمكاناتها واعتمادها على الدعم الاقتصادي الخارجي، ولذلك تجنبت إحراج النظام فيما لا طاقة له به، فالأردن كيان صغير نشأ في ظل تجزئة الوطن العربي ضمن مخطط أعداء الأمة الهادفة إلى إضعاف كيانها ومنعها من نهوضها من جديد.

2- إدراك الحركة أن الأردن لا تملك عناصر ومقومات الدولة الإسلامية ولذلك اطمأن النظام إلى أن أهداف الحركة لا تقوم على السعي إلى استبداله بنظام دولة إسلامية في الأردن.

3- تعتبر الحركة عنصر أمان للنظام ضد أية محاولات انقلابية عليه بسبب ما لها من قوة اجتماعية وانتشار عميق في مختلف قطاعات المجتمع الأردني، ولقد وقفت الحركة موقفًا بطوليًا في منتصف الخمسينيات ضد مظاهرات القوى اليسارية التي كانت تسعى لإسقاط النظام، واستبداله بنظام ماركسي كان يمكن أن تشاهد الأردن تلك المآسي التي شهدتها الدول التي حكمتها الأحزاب الشيوعية والتي قمعت وبطشت بمظاهر الحياة الإسلامية في بلدانها.

4- تنظر الحركة إلى النظام القائم بأنه خير للأردن من كل الأنظمة اليسارية والأحزاب التي حكمت المنطقة وبطشت بالحركات الإسلامية فيها.

5- ترفض الحركة العنف، وتشجب الإرهاب، ولا تؤمن بالتغيير القائم على الثورة؛ بل تؤمن بالتغيير الهادئ القائم على الإقناع والتدريج في الإصلاح، وهذا يعتبر موضع قبول لدى النظام.

6- المرونة في الأزمات بين الحركة والنظام، سواء كانت الحركة هي المبادرة بتصعيد المواقف أو النظام، ففي كلتا الحالتين يعكس النظام والحركة مرونة تجاه بعضهما البعض بامتصاص التوتر والانحناء قليلاً للعاصفة.

7- التوازن في منهج الحركة بين ثوابتها ومتطلباتها وبين محدودات الواقع الأردني.

8- مطالب الحركة الإسلامية هي مطالب إصلاحية تشمل كل مجالات الحياة، وتعتمد على أسس إسلامية، وهذه المطالب في أقصى حالاتها لا ترقى إلى تهديد النظام ولا تشكل طرحًا بديلاً له، ولذا فإن النظام لا يرى فيها خطورة على استمراره أو استقراره([136]). هذه هي أهم عناصر التعايش بين الحركة الإسلامية في الأردن ونظامها، وبالتالي يكون من الطبيعى أن تكون للحركة تجربة متميزة في المشاركة في الحكم.

ب- المشاركة في الحكم:

ظهرت الحركة الإسلامية كقوة سياسية كبيرة على الساحة السياسية الأردنية في عام 1989م وذلك عندما قررت الاشتراك في الانتخابات النيابية، إثر قرار الملك حسين - ملك الأردن - استئناف الحياة الديمقراطية في الأردن، وإجراء الانتخابات في أجواء ديمقراطية حرة، متعهدًا بكفالة نزاهتها، وبالحيلولة دون تدخل الدوائر الرسمية فيها.

ولقد نجحت الحركة الإسلامية في إدارة حملتها الانتخابية، وتميزت بأسلوبها المنظم الذي لم يشهد له الأردن مثيلاً، وذلك بسبب قدراتها التنظيمية، ولكونها مثلت تطلعات المسلمين في الأردن المتعطشين إلى استئناف حياة إسلامية، وكانت الحركات الإسلامية في الأردن هي التكتل الوحيد الذي أعلن عن ترشيح قائمة تحتوي على أسماء سبعة وعشرين مرشحًا، طلبت من الأمة التصويت لهم جميعًا، وقد ضمنت برنامجها الانتخابي في كتيب وزعته في جميع أنحاء البلاد، اشتمل بالإضافة إلى البرنامج الانتخابي على أسماء المرشحين وصورهم.

فازت الحركة باثنين وعشرين مقعدًا من مقاعد مجلس النواب الأردني الثمانين، كما تمخضت النتيجة عن نجاح ما لا يقل عن عشرة مرشحين آخرين من الإسلاميين المستقلين، ونظرًا لأن مرشحي الحركة كانوا يشكلون أكبر كتلة داخل البرلمان الأردني، فقد اتصل رئيس الوزراء المكلف من قبل الملك بتشكيل الحكومة، وبعد مفاوضات جرت بين رئيس الوزراء والكتلة البرلمانية للحركة، اعتذرت الحركة عن الاشتراك في الحكومة، لأن رئيس الوزراء لم يستجب لمطالبها بتخصيص سبع حقائب وزارية للحركة تشتمل على حقيبة وزارة التعليم.

وفي تحرك سياسي آخر، دخلت الحركة في مفاوضات مع رئيس الوزراء حول منح الثقة لحكومته، حيث اشترطت الحركة أربعة عشر شرطًا مقابل منح الثقة، وكان من ضمن هذه الشروط أن تتعهد الحكومة - بكل إخلاص - بالتوجه نحو تطبيق الشريعة الإسلامية في ميادين التعليم والاقتصاد والإعلام، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الحركة الإسلامية مثل هذه المبادرة في الحلبة السياسية، وبدأ الناس الذين كان يظن الكثير منهم قبل هذه التجربة ببعد احتمال أن يشترك الإسلاميون فيما يسمى بالحكومة غير الإسلامية، بالتعامل مع هذه القوة السياسية الناشئة، وفتح أمام الإسلاميين مجال عملي جديد، لم يكن من قبل متاحًا لهم، للتمرس في العمل السياسي.

وفي تطور تال، اتخذت الحركة الإسلامية بادرة سياسية أخرى، بالموافقة على الاشتراك في اللجنة الملكية لوضع الميثاق الوطني التي أعلن عنها ملك البلاد وعين أعضاءها بنفسه, والميثاق الوطني أشبه ما يكون بعقد اجتماعي تجمع عليه الأحزاب والجماعات المختلفة في الأردن، ويغطي كل الأوجه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقد اتخذت الحركة الإسلامية قرارًا بالمشاركة في هذا المشروع، نظرًا لما رأته من ضرورة اللقاء والتحاور والتفاوض مع المجموعات السياسية الأخرى في البلاد، وتبادل الآراء معها حول القضايا المهمة التي يتناولها الميثاق ([137]).

لقد ظهر من قيادات الحركة مقدرة فائقة في إدارة الحوار وممارسة فن المفاوضات وشهد لهم دهاقنة السياسة بمقدرتهم السياسية الرفيعة، ولقد ناور زعماء الحركة وحققوا ما استطاعوا من أهداف لصالح التيار الإسلامي في الأردن، واستطاعت أن تمنع نفسها من الدخول في الوزارة عندما كانت مصلحة المبادئ التي يحملونها في الامتناع، وتقدمت بكل شجاعة لتسلم الحقائب الوزارية عندما رأت أن المصلحة في ذلك، وتسلمت خمس حقائب وزارية، هي وزارة التربية والتنمية الاجتماعية والعدل والصحة والشئون الإسلامية.

وبعد ستة أشهر من المشاركة، انتهت حرب الخليج، وبدأت حقبة جديدة من التطورات السياسية التي تمخضت عما يسمى بمؤتمر السلام، وكانت الحركة الإسلامية قد حذرت رئيس الوزراء من أنه إذا ما أقدمت حكومته على فتح أية قنوات للتفاوض مع إسرائيل، فإن وزراء الحركة الإسلامية سيستقيلون على الفور.

إلا أن الحكومة ما لبثت أن استقالت بكاملها، لتمهد الأرضية لاستعدادات الحقبة الجديدة، حقبة مؤتمر السلام في مدريد، وحرصت الحكومة الجديدة، التي تشكلت للقيام بهذه المهمة، على السعي منذ تشكيلها لنيل الثقة، ومع أن أعضاء الكتلة الإسلامية البرلمانية ومعهم عدد من النواب الآخرين في مجلس النواب حجبوا الثقة عنها، موضحين أنهم ما كانوا ليمنحوا الثقة لأية حكومة تضع التفاوض مع إسرائيل على جدول أعمالها، إلا أن الحكومة حصلت على الثقة، ولكن بأغلبية هشة، إذ صوت لصالحها سبعة وأربعون نائبًا فقط من أصل ثمانين، وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الجديد كان ينفى طوال ذلك الوقت التزامه أو وزارته بمحادثات السلام مع اليهود، إلا أن الحكومة ما لبثت، وبعد مرور شهرين فقط على تشكيل الوزراء، أن أعلنت عن تشكيل وفدها لعملية السلام، فبادرت الكتلة الإسلامية البرلمانية بالالتقاء مع عدد من التكتلات الصغيرة في مجلس النواب، ووقَّعوا جميعًا عريضة حملت 48 توقيعًا رفعوها إلى الحكومة حجبوا بموجبها الثقة عنها، بعد أن كان بعضهم قد منحها إياها في وقت سابق، وعندما حل موعد استئناف الدورة الاعتيادية الجديدة للمجلس النيابي لم يكن أمام الحكومة خيار سوى الاستقالة، فتشكلت حكومة أخرى لم تمنحها كتلة الحركة الإسلامية ثقتها، لأن مهمتها كانت الإشراف على المشاركة الأردنية في عملية السلام ([138]).

ج- إنجازات المشاركة:

لقد اكتسبت الحركة الإسلامية في الأردن من خلال المشاركة السياسية تجارب عديدة، وخبرات متعددة، وأصبحت أكثر واقعية، واستطاعت من خلال هذه التجربة أن تطور قدرتها وتحسن أداءها، ولقد أعطت صورًا مختلفة عن تلك التي ترسخت في عقول خصومها الذين أخذوا فكرة عن الحركة الإسلامية كما لو كانت مجموعة من المتطرفين أو المتعصبين أو المتشددين، ومن أهم الإنجازات والمكاسب التي حققتها هي:

1- تشكيل تصور سليم عن الحركة، وإزالة الشكوك والمخاوف التي كانت تثيرها بعض الجهات، فقد أعرب كثير من الوطنيين والقوميين في مناسبات كثيرة عن قناعتهم بأن الحركة تتسم بالاعتدال والتحرك المسئول الواعي، وتحترم الرأي الآخر، إذ أظهرت مرونة وقدرة على التنسيق والحوار مع الأحزاب والحكومات والشخصيات السياسية، وبذلك أزيل الحاجز النفسي الذي كان يفصل بين الحركة والآخرين.

2- كان لنواب الحركة حضور قوي وفعال في اللجان المتخصصة، مثل لجنة الحريات، واللجنة المالية، واللجنة القانونية، ولجنة التحقيقات النيابية، وقد كان أداؤهم في هذه المجالات وفي غيرها يعبر عن جهد كبير دءوب، وعن موضوعية وإنصاف، وعن إحاطة بالقضايا الفنية والتخصصية، وكان هذا الأداء باستمرار موضع تقدير المؤسسات الرسمية والإعلامية.

3- المشاركة في إنجاز مجموعة من القوانين والتشريعات المهمة، وفي تعديلها، بما يلائم المصلحة العامة وحقوق المواطنين ويتفق مع الشريعة الإسلامية، ومن ذلك قانون الأحزاب، وقانون الدفاع، وقانون رد الاعتبار، والقانون الخاص بمحكمة العدل العليا، وقانون محكمة أمن الدولة، وقانون النقابات، وقانون الكسب غير المشروع، وقانون الاستيراد والتصدير، وقانون إلغاء الأحكام العرفية، وقانون الشباب وقانون الخمر.

4- طرح الرأي والموقف الإسلامي في المواقف والأحداث، ودفع الحكومة إلى الالتزام به أو احترامه وتقديره، أو سماعه على أقل تقدير.

5- التنسيق والتعاون مع الفعاليات السياسية المختلفة، حكومية وحزبية ونقابية، بما يخدم الأمة والوطن، وبما يضمن تنفيذ برامج الحركة الإسلامية وتحقيق أهدافها، ومن القضايا التي تم التنسيق بشأنها موضوع التسوية السلمية، والموقف من أزمة الخليج، وقضايا محاكمة الفساد، والدفاع عن الحريات، وقانون الأحزاب وقانون أمن الدولة

6- إحراز رئاسة المجلس ورئاسة كثير من اللجان النيابية وهو إنجاز يعبر عن تأثير نواب الحركة وقدرتهم على التنسيق والحشد.

7- الإسهام في تأسيس حزب جبهة العمل الإسلامي، المشروع الذي تأمل الحركة أن يستوعب جماهيرها ومؤيديها من مختلف الفئات، ويوسع آقاق العمل الإسلامي.

8- المساهمة في رد الحقوق إلى أصحابها، وشمل ذلك إعادة المفصولين، والإفراج عن المعتقلين، وضمان حرية السفر والتنقل وحرية الرأي والتعبير، والحد من تدخل الأجهزة الأمنية في التوظيف وفي شئون النوادي والجمعيات، هذه ولئن كانت إنجازات دون المستوى المطلوب، إلا أنها بالمقارنة بما كانت عليه الأوضاع قبل استئناف الحياة البرلمانية، بل وبما عليه الحال في كثير من الدول العربية الأخرى، تعتبر نقلة نوعية جديدة، وإنجازًا كبيرًا.

9- تخفيف حالة الاحتقان والعداء مع الحكومة، وحماية الحركة من محاولات جرها إلى صدام مع النظام لا يعود بالفائدة إلا على أعداء الحركة وأعداء الوطن.

10- تنمية العلاقات مع المسئولين المحليين في المحافظات والألوية، من حكام إداريين ومديري دوائر، والتعاون معهم في العمل والخدمة وحل المشكلات.

11- دعم القضية الفلسطينية والسعي قدر الإمكان إلى دفع الحكومة للالتزام بما لا يضيع حقوق الفلسطينيين في أرضهم، وعلى المستوى المحلي ساعدت جهود نواب الحركة في التوصل إلى قرار في مجلس النواب يحد من معاناة أهالي غزة وحملة البطاقات 
المقيمين في الأردن، ومن ذلك متابعة قضية العائدين من دول الخليج لمساعدتهم 
وتحصيل حقوقهم.

12- دعم القضايا الإسلامية الأخرى، مثل قضايا أفغانستان، والبوسنة والهرسك، وغيرها.

13- التفاعل مع الأحداث على الساحة العربية والإسلامية من خلال إرسال البرقيات وحضور اللقاءات والمشاركة في النشاطات والاجتماعات، وقد أصدر مكتب نواب الحركة الإسلامية عشرات البيانات والبرقيات في المناسبات المختلفة، وشارك نواب الحركة باستمرار في نشاط الوفود البرلمانية إلى الأقطار العربية والإسلامية وغيرها.

14- مواجهة الفساد الإداري والمالي، ومحاسبة الوزراء والحكومة وكبار المسئولين، والرقابة على أداء الأجهزة بما يحقق المصالح والمنافع ويحمي البلد ومؤسساته من الإهمال والعبث والفساد.

15- نشر الفكر والدعوة وخدمة القضايا الإسلامية، وتسهيل هذه المهمات للقائمين عليها وحمايتهم، وتفعيل المؤسسات الإسلامية حتى أصبح الرأي الإسلامي المعبر عن الموقف الإسلامي الصحيح يطرق كل منافذ النشر والتبليغ.

16- ساهم نواب الحركة في تحقيق كثير من المشاريع والخدمات العامة ومن ذلك:

كلية الشريعة في جامعة اليرموك، بالإضافة إلى المطالبة بإنشاء المدارس والطرق والمراكز الصحية وتمديد الخدمات الكهربائية والمائية والهاتفية في مختلف المناطق والمحافظات.

17- استقبال المراجعين والمواطنين والسعي في حاجاتهم والوقوف مع المواطنين في كثير من القضايا والمشكلات التي تعسر عليهم حلها مع الدوائر الحكومية ومطالبة الحكومة بالمذكرات وبالاتصال الشخصي بمساعدة المواطنين وتنفيذ المشروعات، والحد من الغلاء وتخفيف الضرائب ([139]).

هذه بعض إنجازات الحركة.

د- مطالب الحركة من العمل السياسي:

إن الحركة الإسلامية في الأردن تدرك جيدًا الظروف التي تمر بها المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وتدرك محدودية إمكانات الأردن في ظل هذه الأوضاع والمعادلة الدولية الحالية؛ ولذلك نهجت أسلوب العمل الإصلاحي المتدرج، يقينًا منها بأن التحسن الجذري للأوضاع مرتهن بتبدل ظروف الأمر الواقع المفروض على المنطقة ككل، وليس على الأردن فقط، ووفاءً بواجب الدعوة إلى الله والإصلاح في حدود المستطاع فإن الحركة تسعى جاهدة إلى تحقيق بعض الأهداف المهمة في هذه المرحلة منها:

1- تحقيق العدل والحرية والمساواة بين المواطنين.

2- ترسيخ الممارسة الديمقراطية وضمان احترام خيار الشعب.

3- تشكيل حكومة نظيفة، ومسئولة، ومخلصة وعادلة، ومؤهلة لقيادة شئون المجتمع الأردني، وتلتزم بمقاومة الفساد والانحلال الخلقي بكل أشكاله، وبوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والاحتكام إلى مبادئ الجدارة والاستحقاق في التوظيف والتعيين.

4- محاربة الطائفية والإقليمية، والتركيز على الوحدة الوطنية، وتعزيز الجبهة الداخلية.

5- مناصرة ودعم حقوق الإنسان، ورفض القمع والظلم.

6- شجب العدوان،وتأييد حركات التحرر ضد الهيمنة الاستعمارية على الشعوب.

7- السعي إلى إقامة صيغ الوحدة بين أقطار العالم العربي والإسلامي، وإنشاء مؤسسات التضامن العربي والإسلامي في المجالات الاقتصادية، والسياسية والثقافية، وصولاً إلى صيغ التكامل بين أجزاء الأمة العربية والإسلامية.

ثانيًا: الحركة الإسلامية في اليمن:

قد يظن البعض أن مشاركة الحركة الإسلامية اليمنية في السلطة لم تبدأ إلا بعد الانتخابات النيابية التي جرت في 27أبريل 1993م، يبد أن الحقيقة هي أن الحركة بدأت تجربتها في المشاركة منذ وقت مبكر وعلى أصعدة متعددة وبأساليب متنوعة حسبما تتطلبه الظروف والمراحل، وإن كانت السنوات الأخيرة من عمر التجربة السياسية للحركة اليمنية تظهر مع قرار الحركة في المشاركة في انتخابات أبريل 1993م، ثم المشاركة في الحكومة حيث أظهرت ملامح الحركة السياسية قدرتها على خوض الصراع السياسي بمهارة فائقة وقدرة نادرة وتخطيط صحيح وإدارة رشيدة وتنظيم قوي.

لم يكن برنامج العمل السياسي للتجمع اليمنى للإصلاح إلا وليد مجهودات سبقت, وسنين من العمل والجهاد المتواصل، ظهرت رؤيته العقدية وصبغته الشرعية ومنظومته الفكرية والثقافية منذ اليوم الأول لاندلاع ثورة سبتمبر 1962م التي أطاحت بنظام الإمامية وجاءت بالنظام الجمهوري وأخذت هذه المنظومة تتطور مع الزمن حتى برزت في هيكلها الأخير للتجمع والإصلاح، ولقد ساعدت عوامل عدة في نمو الحركة السياسي والتنظيمي مع الامتداد الشعبي المتوازن, ومن أهم هذه العوامل:

1- بقاء اليمن الشمالي حرًا بعيدًا عن الاستعمار الأجنبي.

2- تأكيد النظام الجمهوري بعد قيامه على سيادة الشريعة الإسلامية وجعلها مصدر القوانين جميعًا.

3- وجود مجال رحب للعمل السياسي استفادت منه الحركة في تنمية قدراتها وتفجير طاقاتها وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها.

4- امتلاك الشعب للسلاح وبذلك حافظ على حريته؛ ولم تستطع الحكومات العلمانية أن تذله وتكبل حريته وتصادر حقوقه؛ ولذلك لم تتعرض الحركة الإسلامية بشكل جماعي ومنظم طوال فترة ما بعد الثورة إلى اليوم لأية محنة كبيرة أو إجراءات قمعية شديدة كالسجن أو النفي أو المطاردة أو غير ذلك ([140]).

5- ظهور المد الشيوعي في جنوب اليمن ووصول الحزب الماركسي إلى مقاليد الحكم في اليمن الجنوبي، مما جعل مصالح مشتركة بين الحكومات الشمالية والحركة الإسلامية مع ظهور قيادات فذة في الحركة استطاعت أن تستفيد من هذه المعادلة لمصلحة الإسلام في اليمن إلى غير ذلك من العوامل.

وكانت لجهود الجهاد التي قادها الشهيد محمد محمود الزبيري رصيد حي للحركة الإسلامية في اليمن, وتعتبر شخصيته من أبرز الشخصيات الوطنية التاريخية المعاصرة، وقد أجمعت كل القوى السياسية بعد استشهاده على إطلاق لقب «أبو الأحرار» عليه.

كان للحركة الإسلامية مشاركة سياسية قبل الوحدة، وشاركت بعدد من أعضائها في مجلس الشورى لعام 1971م وحرصت على أن تؤدي دورًا متميزًا، رغم قلة أعضائها، في مجال وضع التشريعات القانونية التي انبثقت جميعها من الشريعة الإسلامية ([141]).

واهتمت الحركة في اليمن بالجانب التعليمي والتربوي وأعطته اهتمامًا خاصًا، فساهمت في إعداد المناهج الدراسية لمختلف المراحل التعليمية، وكان حظ مناهج التربية الإسلامية وافرًا، حيث حشدت الحركة العشرات من العلماء البارزين - من المذهبين الزيدي والشافعي- لوضع هذه المناهج برؤية توحيدية جامعة تتجاوز التعصب المذهبي، إذ تم الاتفاق على أن تكون مناهج الفقه والحديث نابعة من الدليل الأصوب، دون التحيز والتعصب لأحد المذهبين المذكورين, وكان من فضل الله على أهل اليمن ثم بهذا الجهد المبارك أن نشأت الأجيال منذ ذلك الحين حتى اليوم برؤية فقهية موحدة تجاوزت فيها الحساسيات والصراعات الموروثة على مدار التاريخ وتجنبت البلاد مرارة الصراع المذهبي بهذا الفعل الرشيد.

- وبنفس الرؤية التوحيدية الجامعة ساهمت الحركة الإسلامية في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، وتميز في الفترة التي ترأس فيها القاضي عبد الكريم العرشي مجلس الشعب التأسيسي من 1978م إلى 1988م بالنشاط الدءوب والعمل الجاد حتى أطلق على هذه الفترة بالعصر الذهبي في هذا المجال، وأصبح القضاء في جميع اليمن ملتزمًا برؤية شرعية موحدة. وكان لهذا المسلك على المستويين التعليمي والتشريعي أثره الفعال والكبير في ترسيخ دعائم الوحدة الوطنية في اليمن.

- اهتمت الحركة بالجانب الثقافي والتوجيه للمجتمع اليمنى, واتجهت نحو العمل المؤسسي، وكان أبرز ثماره مكتب التوجيه والإرشاد، الذي صدر وفق قانون في عهد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدى، وترأسه على التوالي كل من الشيخ عبد المجيد الزنداني والقاضي يحيي الفسيل، ونص القانون على أن يكون رئيس المكتب بدرجة وزير، ونائبه بدرجة نائب وزير، ووكيله بدرجة وكيل وزارة، وكان نشاط المكتب عظيمًا وأثره في الجانب الشعبي كبيرًا، حيث استطاع من خلال قوافل التوجيه والدعوة أن يتغلغل في وسط القبائل والقرى والمدن وطعم جهوده الجبارة بدعوة عدد من كبار مفكري العالم الإسلامي مثل الدكتور يوسف القرضاوى، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور الترابي، والأستاذ يوسف العظم، والشيخ حسن أيوب، والدكتور الصواف، والدكتور أحمد العسال وعشرات غيرهم، نجح المكتب من خلال ذلك في أن يحدث وعيًا شعبيًا بقضايا الأمة الإسلامية، سواء كانت قضايا فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك.

- واهتمت الحركة بتأسيس المعاهد العلمية، التي يدرس طلابها نفس مناهج التربية والتعليم مع زيادات مقدرة في المجال الشرعي واللغة العربية، بهدف تزويد الطلاب بقدر أكبر من تلك العلوم والمعارف، وقد بدأت المعاهد العلمية منذ قيام الثورة في عام 1962م كمعاهد أهلية، ثم أصبحت منذ أوائل السبعينيات تابعة لإدارة خاصة بها ضمن وزارة التربية والتعليم، ثم تطورت لتصبح تابعة لهيئة أعلى، لكن موازناتها ظلت ضمن موازنة وزارة التربية والتعليم، وفي عام 1980م صدر قانون من مجلس الشعب التأسيسي وموقع من قبل الرئيس على عبد الله صالح بتوحيدها ضمن جهاز واحد يسمى الهيئة العامة للمعاهد العلمية، بموازنة مستقلة وبجهاز فني مستقل، على أن يرأسها مسئول بدرجة وزير، ومنذ ذلك الوقت تناوب على رئاستها ثلاث من الشخصيات الإسلامية البارزة بدءًا بالقاضي يحيى الفسيل (1980- 1985) ثم الأستاذ أحمد عبد الله الحجري (1985- 1988م) ثم المهندس أحمد الآنسي (1988- 1990), ومنذ قيام الوحدة لم يعين لها رئيس حتى الآن؛ بل تتم إدارتها من قبل وكيل الهيئة والجهاز الفني، وذلك بسبب الخلاف السياسي على وجودها واستمرارها، إذ كان يصر الحزب الاشتراكي اليمنى على دمجها ضمن وزارة التربية والتعليم بينما يرفض التجمع اليمنى للإصلاح ذلك، ويقف المؤتمر الشعبي العام موقف الحياد بين الطرفين، وقد أعطت المعاهد العلمية في الجانب التربوي والتعليمي عطاًء كبيرًا، وتركت آثارًا طيبة على جمهور المواطنين، وتوسعت المعاهد العلمية لتجاوز خمسمائة معهد على مستوى الجمهورية يرتادها ما لايقل عن ثلاثمائة ألف طالب وطالبة.

واشتملت هيئة المعاهد على إدارة عامة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم تتبعها أكثر من مائة مدرسة ويرتادها أكثر من ثمانين ألف طالب وطالبة، ورغم موقف الحزب الاشتراكي المهزوم من المعاهد العلمية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم عندما كان في الحكم إلا أنه لم يستطع منع إقبال الناس عليها من المحافظات الجنوبية والشرقية التي كان يحكمها الحزب، ووجد الحزب نفسه مرغمًا على قبول فتح معاهد علمية ومدارس لتحفيظ القرآن الكريم في مختلف أرجاء تلك المحافظات الست.

- وفي المجال السياسي دخلت الحركة الإسلامية في لجنة الحوار الوطني التي شكلها على عبد الله صالح في عام 1980م والتي تكونت من خمسين شخصية يمنية، مثلت فيها معظم القوى السياسية بما في ذلك الحركة الإسلامية، واستمرت اللجنة لمدة عامين تقريبًا تدير حوارًا وطنيًا وشعبيًا موسعًا لوضع صيغة لمشروع ميثاق وطني يتم إقرارها من خلال مؤتمر شعبي عام بحيث يكون هذا الميثاق هو الدليل النظري والفكري للشعب اليمنى وقيادته، وخلال عامين من المداولة والتباحث، توصلت لجنة الحوار الوطني إلى صيغة لمشروع ميثاق غلب الطابع الإسلامي عليه، ثم عرضت هذه الصيغة شعبيًا من خلال استبيان أبدى فيه مئات الآلاف الذين شاركوا فيه رأيهم في الصيغة المقترحة، وطالبوا ببعض التعديلات التي صبت معظمها في الاتجاه الذي دفعت صوبه الحركة الإسلامية، فأعيدت الصياغة بموجب نتائج الاستبيان الشعبي، ثم قدمت إلى المؤتمر الشعبي العام الذي انعقد في 24أغسطس (آب) 1982م وأقر الصيغة النهائية للميثاق الوطني, وأقر المؤتمر كذلك استمرار المؤتمر الشعبي العام كصيغة للعمل السياسي وإطار يجمع القوى الوطنية ويشرف على تطبيق الميثاق الوطني عمليًا، وانتخب المؤتمر الرئيس على عبد الله صالح أمينًا عامًا له، كما انتخب لجنة دائمة (مركزية) من خمسين عضوًا، كان نصفهم تقريبًا من الإسلاميين، وقد انتخبت اللجنة الدائمة د.أحمد الأصبحى (إسلامي) 
أمينًا لسرها وعبد السلام العنسي (إسلامي) وعبد الحميد الحدي (قومي) مساعدين لأمين السر.

وساهم الإسلاميون فيما بعد على المستويين التنظيمي والفكري في ترسيخ قواعد المؤتمر الشعبي العام، الذي كان أول صيغة سياسية تعترف بالقوى السياسية عمليًا دون الإعلان عن وجودها بشكل رسمي ([142]).

هذه بعض الملامح الرئيسية في مشاركة الحركة الإسلامية في العمل السياسي على مستوى الدولة قبل تجربة الوحدة.

ب- تجربة ما بعد الوحدة:

إن تجربة الحركة الإسلامية فيما بعد الوحدة تختلف اختلافًا كبيرًا عن تجربة ما قبل الوحدة، وهو اختلاف يكمن سره في الانتقال من العمل السري إلى العمل العلني، وفي تحول النظام الحاكم في اليمن نحو الديمقراطية والتعددية.

لقد كان إنشاء التجمع اليمنى للإصلاح نقلة نوعية كبيرة لم يقتصر أثرها على الحركة الإسلامية وحدها؛ بل امتد ليشمل الساحة اليمنية بأسرها، فبروز حزب جديد يمتلك قاعدة شعبية عريضة مؤثرة وفاعلة جعل الخريطة السياسية اليمنية تنتقل إلى مرحلة من التوازن, ووجد الكثيرون ممن لا يرغبون في الانضمام إلى الحزبين الكبيرين (المؤتمر والاشتراكي) مجالاً لممارسة العمل السياسي ضمن الحزب الجديد، وكان الإصلاح هو حزب المعارضة الرئيس والمؤثر خلال سنوات الفترة الانتقالية من 22مايو 1990إلى 27أبريل 1993م.

وبرز دور الإصلاح وتأثيره في المعارضة أثناء فترة الاستفتاء على مشروع دستور دولة الوحدة التي استمرت ثلاثة أشهر، من فبراير إلى مايو 1991م، حيث كان الإصلاح يرى وجوب إجراء بعض التعديلات على الدستور قبل الاستفتاء عليه بسبب كثرة التناقضات التي اشتمل عليها، ناهيك عن الغموض الذي اكتنف الكثير من مواده، حيث كان هذا الدستور قد وضع من قبل لجنة مشتركة من شطري اليمن في الفترة ما بين مارس 1979م إلى ديسمبر 1981م، أي حينما كان المعسكر الشيوعي في أوج قوته، مما أدى إلى أن يتجه النظامان حينها إلى صيغ توفيقية وتلفيقية لتجاوز خلافاتهما، وهكذا أصبحت هوية النظام السياسي غامضة، فلا يوجد مثلاً نص صريح على التعددية، وكذلك الأمر بالنسبة لهوية الاقتصاد فلا هو إسلامي ولا هو اشتراكي ولا هو رأسمالي، ولم ينص الدستور على الفصل بين السلطات، ولا على التداول السلمي للسلطة.

انتقد الإسلاميون الدستور بسبب الثغرات الكثيرة ولم يرضوا اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع؛ بل طالبوا بأن يكون المصدر الوحيد للتشريع، لذلك قرر الإصلاح أن يقود معارضة شعبية واسعة للدستور، وقد اصطف وراءه ما يزيد على عشرين حزبًا من مختلف الاتجاهات الإسلامية والقومية والليبرالية. وبدأت حملة المعارضة بالمحاضرات والندوات والملصقات والمهرجانات الجماهيرية، فيما اتفق أكثر من أربعمائة من كبار علماء الشريعة في اليمن على توقيع وثيقة تطالب السلطة بتعديل الدستور قبل الاستفتاء عليه، وفي ذات الوقت بدأ الإصلاح بجمع توقيعات المواطنين المطالبين بتعديل الدستور، حتى تجاوزت هذه التوقيعات مليونا ونصف المليون توقيع من مختلف مناطق البلاد.

بلغت الحملة ذروتها بالمسيرة المليونية التي قادها الإصلاح داخل العاصمة، وشارك فيها مواطنون من مختلف أنحاء البلاد اتجهوا إلى مقر رئاسة الجمهورية مطالبين بالتعديل، فأصدر مجلس الرئاسة الحاكم بيانًا سياسيًا ضمنه أهم مطالب الإصلاح، ومنها:

1- الالتزام بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع وبطلان أي قانون يخالفها.

2-إعادة الحقوق والأملاك التي أممها النظام الشيوعي في عدن إلى أصحابها.

3- الالتزام بالنظام الديمقراطي القائم على أساس التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة.

4- الالتزام بتعديل الدستور إثر أول انعقاد لمجلس النواب المنتخب بعد نهاية الفترة الانتقالية، فرحب الإصلاح وأحزاب المعارضة المتحالفة معه بالبيان، وطالبوا بجعله جزءًا من الدستور والاستفتاء عليه حتى يكتسب قوة دستورية وقانونية، ولما لم تستجب السلطة لهذا المطلب أصدر علماء الشريعة فتوى بوجوب مقاطعة الاستفتاء على الدستور، وهذا ما تم فعلاً فبدا الاستفتاء هزيلاً بضعف الإقبال الشعبي عليه يومي 16، 17مايو 1991م.

ومن خلال موقعه في المعارضة ساهم الإصلاح بفاعلية في صياغة أهم القوانين التي صدرت في الفترة الانتقالية، مثل قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، وقانون الصحافة، وقانون تنظيم حمل السلاح، وقانون الإدارة المحلية، والقوانين الاقتصادية، وقانون الانتخابات ([143]).

رأي التجمع اليمنى للإصلاح أن استمرار الأوضاع كما هي عليه، حيث يحتكر الحزبان الحاكمان (المؤتمر والاشتراكي) حق إدارة شئون البلاد والعباد، سيدفع البلاد نحو الانهيار الشامل، ولذلك فإن دخول الإصلاح كشريك في السلطة من شأنه أن يحقق نوعًا من التوازن السياسي في البلاد، كما أن مشاركة الإصلاح تعطي تجربة فريدة في العالم العربي والإسلامي تتمثل في تشكيل ائتلاف حكومي يضم اليمين المحافظ المتمثل في المؤتمر الشعبي العام، واليسار المعتدل المتمثل في الحزب الاشتراكي، والوسط الإسلامي المتمثل في التجمع اليمنى للإصلاح، كما أن مشاركة الإصلاح في السلطة ستخفف من حدة النزعات المتطرفة التي بدأت في الظهور، وخاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية التي كان يحكمها الاشتراكيون قبل الوحدة كرد فعل على تطرفهم.

ومن الفوائد المرجوة من مشاركة الإصلاح في الحكم، إتاحة الفرصة أمام العديد من كوادر الإصلاح للتأهل والتدريب على ممارسة الحكم، وصناعة القرار، والإحاطة بآليات إدارة السلطة وأسرارها وخفاياها.

وكذلك إتاحة الفرصة أمام الإصلاح ليقدم نموذجًا جيدًا يتسم بدقة الإنجاز وطهارة اليد وسلامة الضمير وعلمية التخطيط ومحاربة الفساد الشامل في كل مرافق الدولة.

وبعد خوض الانتخابات استطاع الإصلاح أن يحتل المرتبة الثانية بعد أن تحصل على 63مقعدًا, والاشتراكي 56مقعدًا, والمؤتمر 127مقعدًا، والمستقلون 47مقعدًا، والبعثيون 7مقاعد، والوحدوي الناصري مقعد واحد، والناصري الديمقراطي مقعد واحد، والتصحيح الناصري مقعد واحد، وحزب الحق مقعدين، وبحصول الإصلاح على المرتبة الثانية تأكدت مشاركته في السلطة، حيث دعا الرئيس على عبد الله صالح ونائبه على سالم البيض إلى اجتماع مشترك مع الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، زعيم الإصلاح، اتفق فيه الزعماء الثلاثة على تشكيل ائتلاف حاكم بحيث تتوزع الرئاسات الثلاث على الأحزاب الثلاثة، فتكون رئاسة الدولة للمؤتمر، ورئاسة البرلمان للإصلاح، ورئاسة الحكومة للاشتراكي.

بدأت المفاوضات حول تشكيل الحكومة الجديدة، ووزعت الحقائب بحيث حصل المؤتمر على أربع عشرة حقيبة تنازل عن واحدة منها للمستقلين، وحصل الاشتراكي على تسع حقائب منها حقيبة رئيس الوزراء وحقيبة نائب رئيس الوزراء وسبع حقائب وزارية, بينما حصل الإصلاح على ست حقائب من بينها حقيبة لنائب رئيس الوزراء تولاها الأمين العام للتجمع الأستاذ عبد الوهاب الآنسى، وخمس حقائب وزارية هي الإدارية المحلية وتولاها الأستاذ محمد حسن دماج، والتموين والتجارة وتولاها د. عبد الرحمن بافضل، والصحة العامة وتولاها الدكتور نجيب غانم، والأوقاف والإرشاد وتولاها الدكتور غالب القرشي، والشئون القانونية وشئون مجلس النواب وتولاها الأستاذ عبد السلام خالد.

ولم تمضى شهور قليلة على تجربة الإصلاح في المشاركة حتى دخلت البلاد في أزمة سياسية انتهت بالحرب بين القوات النظامية والقوات الموالية للحزب اليمنى الاشتراكي الذي أعلن من طرف واحد انفصال الجنوب عن الشمال، وبعد شهرين من المعارك الدامية (قتل فيها حوالي سبعة آلاف شخص) تمكنت القوات النظامية من دخول آخر معاقل الانفصاليين بعد سقوط مدينتي المكلا وعدن وفرار زعماء الاشتراكي إلى 
خارج البلاد.

لقد كان دور الإصلاح في المحافظة على وحدة اليمن عظيمًا، والتف الشعب اليمنى المناصر للوحدة والمنابذ للفرقة حول الحكومة الشرعية والحزبين الكبيرين الإصلاح والمجتمع, واستطاعوا بفضل الله ثم جهودهم أن يمحوا الحزب الشيوعي الاشتراكي من الوجود بعد أن عاث في الأرض فسادًا.

واستمر الحزبان المتحالفان في الحكم، وتركت مشاركة الإصلاح في السلطة أثرًا إيجابيًا على المستوى الشعبي، وأوجدت أملاً لدى المواطنين في إمكانية التغيير إلى الأفضل، فسمعة الإصلاح ظلت نقية طوال الفترة الماضية قبل الوحدة وبعدها، فالناس أدركوا من خلال تجارب فترة ما قبل الوحدة أن أكثر الوزراء والحكام الإداريين (المحافظين) نجاحًا وإخلاصًا في عملهم هم أولئك الذين ينتمون إلى الحركة الإسلامية تنظيمًا أو فكرًا أو سلوكًا، ولم ينس اليمنيون إنجازات الإسلاميين على صعيد التعليم والحركة التعاونية وفي مجالات التشريع والثقافة والإرشاد, وبعد انتخابات عام 1997م أصبح الإصلاح في المعارضة وضرب أروع الأمثلة في المعارضة السلمية النزيهة البعيدة عن المزايدة والكذب والتزوير والخداع ([144]).

إن تجربة الإصلاح في العمل السياسي تعتبر من أنضج التجارب المعاصرة في 
العالم الإسلامي.

ثالثًا: الحركة الإسلامية في تركيا:

تأتي قوة الحركة الإسلامية في تركيا، في كون الأحزاب السياسية في تركيا تعتمد اعتمادًا كبيرًا في الانتخابات على الجماعات الإسلامية إلى درجة نرى أن أحزابًا كبيرة، برامجها كانت علمانية، ولكن مواقفها اختلفت عن هذه البرامج.

من هذه الأحزاب على سبيل المثال حزب الشعب الجمهوري، الحزب الذي أسسه مصطفى كمال في عام 1922م حيث أرسى هذا الحزب معالم العلمانية في تركيا حتى وفاة مؤسس الحزب في عام 1938م، وقد قام هذا الحزب بسلسلة من الإجراءات القانونية فرضت بالقوة على المسلمين في تركيا, كان الغرض منها جعل الدستور علمانيًا، وفُرضت المبادئ الستة التي نادى بها مصطفى كمال على الشعب التركي, وجعلت من مبادئ الدستور التركي. وهذه المبادئ الستة منها أن تركيا دولة جمهورية وعلمانية، وشعبية، ودولية، وإصلاحية.

إلا أن حزب الشعب الجمهوري، بدأ يغير في اتجاهاته العلمانية منذ الانتقال إلى ظاهرة التعدد الحزبي، ريثما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حيث وافق الحزب على إنشاء كليات الإلهيات، ومعهد العلوم الإسلامية في أنقرة.

واعتمد الحزب الديمقراطي على الجماعات الإسلامية في انتخابات 14أيار 1950م، وكان سببًا رئيسًا في فوزه على حزب الشعب الجمهوري، وفضلاً عن ذلك، اعتمدت أحزاب أخرى على الجماعات السالفة الذكر، مثل حزب العدالة في المدة الواقعة بين 1961- 1980م.

وأما حزب الطريق المستقيم، والذي يعد امتدادًا لحزب العدالة، فإنه استمد قوته في الثمانينيات من الرأي العام الإسلامي.

وركب حزب العمل القومي بزعامة ألب أرسلان توركش الموجة الإسلامية وغير مفهومه عن العلمانية، وبدأ بالتقرب من الرأي العام الإسلامي, وكان شعار هذا الحزب في انتخابات عام 1987م: «دليلنا القرآن، وهدفنا الطوران» ([145]).

إلا أن العمل الإسلامي المنظم بدأ يظهر جليًا مع ظهور حزب السلامة الوطني.

كانت الحركة الإسلامية في تركيا قبل ظهور حزب السلامة الوطني تتكون من:

- المتصوفة المناوئة للحركة الكمالية، وهؤلاء حافظوا على التراث الإسلامي بمفهومهم الخاص بهم، وواصلوا تحفيظ القرآن سرًا، وكان هدف هذه الحركة هو الحفاظ على العبادات الإسلامية في نفوس الرأي العام التركي، وفي هذا المجال قاموا بتكوين جمعيات للإنفاق على طلاب مدارس الأئمة والخطباء للإكثار منهم، وتعويض النقص الذي نتج عن اختفاء الدعاة الإسلاميين عندما اصطدم بهم الحزب الكمالي.

حركة الإمام المصلح الكبير سعيد النورسى والتي تعرف بحركة النور, والتي تركزت جهودها على الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ومحاربة المادية الملحدة والاهتمام بتربية الأجيال وابتعد الكثير من أتباعها عن السياسة ([146]).

عندما تحصلت تركيا على نوع من الحريات تقدم الإسلاميون المؤمنون بضرورة خوض المعترك السياسي بتأسيس حزب النظام الوطني في كانون الثاني عام 1970م، حيث قام على تأسيسه يونس عارف، وقد جاء دعم هذا الحزب بصورة رئيسة من التجار الصغار والحرفيين والرجال المتدينين في الأناضول. توسع الحزب في مدة قصيرة جدًا, وبدأ يشكل تهديدًا خطيرًا للأحزاب العلمانية، وقد جاء في بيان التأسيس ما يلي: (أما اليوم: فإن أمتنا العظيمة التي هي امتداد لأولئك الفاتحين الذين قهروا الجيوش الصليبية قبل آلف سنة، والذين فتحوا إستانبول قبل 500سنة- أولئك الذين قرعوا أبواب فينا قبل 400سنة، وخاضوا حرب الاستقلال قبل خمسين سنة، هذه الأمة العريقة 
تحاول اليوم أن تنهض من كبوتها وتجدد عهدها وقوتها مع حزبها الأصيل «حزب 
النظام الوطني».

إن حزب النظام الوطني سيعيد لأمتنا مجدها التليد، الأمة التي تملك رصيدًا هائلاً من الأخلاق والفضائل يضاف إلى رصيدها التاريخي، وإلى رصيدها الذي يمثل الحاضر المتمثل في الشباب الواعي المؤمن بقضيته وقضية وطنه) ([147]).

وقدم حزب النظام برنامج عمله في منظومة من الأفكار يمكن إيجازها في الآتي:

1- جميع المؤسسات الهامة في تركيا في أيد غريبة غير وطنية، والأمر الطبيعي والواجب القومي يقضي بأن تعود هذه المؤسسات إلى أصحابها.

2- عاش الناس أربعين سنة والقوى الخارجية المؤثرة تحاول إبعادهم عن محورهم الحقيقي إلى محور غريب، فوقع الناس في ضيق وعنت شديدين، ولا بد من إرجاع الناس إلى طبيعتهم ومحورهم الأصيل (فطرة الله) حتى يستقيم أمرهم ويتخلصوا من عقدهم.

3- إن التسميات المعاصرة مثل اليمين واليسار والوسط هي من اختراع الماسونية والصهيونية، وكلها مؤسسات تابعة لغرض واحد وهو أن تنحرف تركيا عن خطها الحضاري الذي عمره ألف سنة، وأنه لا بد من التخلص من هذه الأسماء الغريبة والعودة إلى الخط الأصيل الذي يصل الماضي التليد بالغد المشرق.

4- إن حزب النظام الوطني لا يشبه الأحزاب الأخرى، فجميع الأحزاب تقوم على أساس التسلط وشهوة الحكم، ونحن نقوم على أساس جديد يبتغي مرضاة الله والعمل في سبيل الوطن.

5- إن نظام التعليم في تركيا فاسد وضعته شرذمة من الحاقدين من الصليبيين واليهود بشكل لا يناسب الأمة، فهو يسقط من حسابه كل قيمة معنوية أو أخلاقية أو دينية غايته فصل تركيا عن ماضيها الإسلامي وسلخها عن دينها وقيمتها، وبهذه الطريقة فقط يستطيعون أن يقتلوا الجيل ويدمروا البلاد، لقد مرت خمسون سنة ونحن نسمع أن تركيا جزء من أوروبا، وأن النهضة لا بد أن تقوم على أنقاض الدين كما حصل في الغرب، متناسين أن الإسلام يختلف عن الكنيسة ودولة القسس.

6- في الوقت الذي تمنع الدولة فيه توزيع الكتب على المعاهد الإسلامية العالية وتحاول إغلاق معاهد الأئمة والخطابة ومدارس تعليم القرآن، تنفق الملايين على المسارح والممثلين وثمنًا للمشروبات التي توزع في السفارات، وفي الوقت الذي تعترض الدولة على الطالبات اللواتي يلبسن الحجاب على رءوسهن، تدرس كتب اللاهوت في 
كل مكان دونما رقابة أو ضجة, وهذا يعنى أن حزب النظام الوطني أكد العودة إلى الإسلام الحقيقي ([148]).

إن اليهود والعلمانيين في تركيا لم يتحملوا هذا الصوت الفتى الذي يتدفق بالحيوية والنشاط, ويحركه في قضاياه الإيمان العميق بالإسلام وبضرورة رجوع الشعب التركي إليه، لذلك تحرك الجيش التركي في آذار 1971م بسبب نشاط حزب العمال وأحال قضية حزب النظام الوطني إلى المحكمة الدستورية التي أصدرت قرارًا جائرًا بحل الحزب في 21مارس 1971م ([149]).

وقد جاء في قرار محكمة أمن الدولة العليا ما يلي:

1- إن المبادئ التي قام عليها الحزب وتصرفاته تخالف الدستور التركي.

2- العمل على إلغاء العلمانية في البلاد، وإقامة حكومة إسلامية.

3- قلب جميع الأسس الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية التي تقوم عليها البلاد.

4- العمل ضد مبادئ أتاتورك.

5- القيام ببعض التظاهرات الدينية.

وجاء في حكم المحكمة أيضًا أنه لا يحق لأي من شخصيات الحزب أن تعمل من خلال أي حزب سياسي آخر، ولا أن يؤسسوا أي حزب جديد، ولا أن يرشحوا أنفسهم لأي انتخابات قادمة ولو بشكل مستقلين لمدة خمس سنوات. وهذا يعنى أن المدة بين نشوء الحزب وإغلاقه كانت ستة عشر شهرًا فقط ([150]).

وفي تلك الأحداث الساخنة والمشادة العنيفة بين الإسلام والعلمانية في تركيا ظهر المجاهد الكبير نجم الدين أربكان يخوض المعارك الكلامية مع العلمانيين؛ ففي 2آب 1972م وقبل تأسيس حزب السلامة الوطني تحدث أربكان في المجلس الوطني فقال: «في رأينا أن التوضيح المهم الأكثر ملاءمة لجعل الدستور دستورًا ديمقراطيًا، لا بد أن تكون هناك مواد دستورية مناسبة قبل تحديد الحركات وحقوق الفكر والمعتقد، وهكذا من الممكن إيجاد مناخ للتطبيقات الحالية والتي تتعارض مع المبادئ الأساسية للدستور، وفي مثل هذه الحالة، على المرء أن يتكلم عن وجود فكر الحرية والمعتقد، وأن دولتنا لتسعى وتنمو، ومن ثم لتأخذ مكانتها بين الأقطار الحضارية في العالم» ([151]).

كان أربكان يرى أن النظام الديمقراطي لا يعد ديمقراطيًا بدون الحقوق وحرية الفكر والمعتقد، وكان يقصد من وراء ذلك الحرية التامة لاستخدام نشر الأفكار الإسلامية، وقد فسرت كل من صحيفتي «جمهوريت» و «ملليت» العلمانيتين تصريحات وأقوال أربكان بأنها ذريعة لاستخدام الدين لأغراض سياسية ([152]).

لقد هاجم أربكان العلمانية واستفاد من الثغرات الموجودة في الدستور التركي, ورد على الحملة الإعلامية العلمانية الموجهة ضد أطروحاته فقال: (إن مصطلحات القومية والديمقراطية والعلمانية والاجتماعية، والتي تقوم عليها شخصية الدولة، واستنادًا إلى المادة الثانية من الدستور، إن هذا من الممكن توضيحه بأن هذه المادة لا تسمح باستخدام وتفسير المعارضة في الممارسة، وفي هذا المجال وبصورة خاصة مصطلح القومية بحاجة إلى توضيح، وهذا يعنى أنها بحاجة إلى تحديدها بطريقة تقوم على احترام جميع القيم الروحية لقوميتنا من حيث التاريخ والتقاليد) ([153]).

وأضاف أربكان قائلاً: «الدين هو معتقد أساسي ونظام فكري للأفراد، وهذا يعنى الاعتراف بحق الحرية والوجود والاعتراف بحقوق المعتقد للفرد، إن تحريم الشخص من هذه الأسس هو ضد الروح والمبادئ الأساسية للدستور وخاصة الفقرة (1) من المادة 19والمادة 20من الدستور» ([154]).

2- حزب السلامة الوطني:

بعد هدوء جو العنف والقلق السياسي في السياسة الداخلية التركية من جراء الأحكام العرفية قام أربكان بلم شعث حزب النظام الوطني وأسس حزبًا جديدًا أطلق عليه حزب السلامة الوطني، استطاع حزب السلامة الوطني خلال مدة قصيرة لا تتجاوز ثمانية أشهر من تنظيم قواعد في 67محافظة، وأعلن أربكان بأن نجاح حزبه خلال هذه المادة يعود إلى تعاطف الرأي العام المحلي مع الحزب الذي ينادى بأهمية الأخلاق الدينية والمواقف المعنوية، وعلى هذا الأساس فقد أكد حزب السلامة في برنامجه على ما يأتي: (قيام تجمع يعتمد الفضيلة والأخلاق ويعطى القيمة المعنوية للإنسان مثلما نصت عليه المادتان العاشرة والرابعة عشرة من الدستور والتي تؤكدان على القيمة المعنوية للإنسان على أساس من الأخلاق والفضيلة) ([155]).

أهم أعمال حزب السلامة:

عندما شعر حزب السلامة بقوته، وصار جزءًا من الحياة السياسية في تركيا شرع منظرو الحزب بشن حملة إعلامية منظمة على أسس العلمانية في تركيا, وبينوا للناس أن الإطار السياسي لتركيا الجديدة يناقض المبادئ السياسية للإسلام، ويقضي الإسلام بتوحيد السلطات السياسية والدينية تحت سيطرة الدين، وفي هذا المعنى، فإن العلمانية، والنظام العلماني ضد الإسلام، الشريعة والدين, وخاصة تطبيقاتها في تركيا فإنها صممت لضمان الزندقة ([156]),  ويردف قائلاً: «إن الخونة والكذابين هم وحدهم الذين يقولون بأن الدين والسياسة شيئان منفصلان، لأن المسلمين لا يفصلون شئون الدنيا عن شئون السماء، لقد أصبح واضحًا بأن التشريع ليس من حق الإنسان، أما إذا وضع القوانين أو ادعى بأنه يفعل ذلك، فإن علمه هذا يعد خطيئة. إن خالق القوانين الإسلامية هو نفسه خالق الإنسان، لقد خلق الله الإنسان وفق هذه القوانين، إن القوانين الإنسانية لا تتناسب وطبيعة الإنسان، إن الإسلام نظام يصلح لكل الأزمان, إنه يمثل كلاً من الدين والدولة، إن القرآن لم ينزل ليقرأ في القبور أو يغلق عليه في أماكن العبادة، لقد أنزل 
القرآن (ليحكم) ([157]).

إن المجاهد الكبير أربكان شق طريقه بصعوبة في محاربته للعلمانية بالحجة والبرهان، ولقد عبر عن آرائه بصراحة خلال مباحثاته مع ضياء الحق، مؤكدًا أن دخول الإسلام في كل جوانب الحياة هو الشرط الوحيد لقيام دولة إسلامية، وفي هذا المجال قال أربكان: «قبل كل شيء يجب أن تكون الدولة إسلامية، إذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الدين الإسلامي في خطر»([158]).

إن حزب السلامة الوطني لم يحاول أن يتخذ موقف الهجوم المباشر على الديمقراطية في انتخابات عام 1973، إلا أنهم عبروا عن مشاعرهم الحقيقية عن ذلك في عام 1980م، حيث بدأوا ينتقدون الديمقراطية مؤكدين أنها تتعارض مع مبادئ الإسلام ([159]).

وفي هذا المجال أكد حزب السلامة أن «الديمقراطية مؤامرة غربية لقيادة الجهلة بموجب الأساليب الغربية والمسيحية، إنه انتصار للمسيحية ضد الإسلام، لذلك يجب تطبيق القوانين الإلهية إذ لا يمكن للإنسان تشريع قوانين يمكن تطبيقها» ([160].

وبالإمكان تلخيص وجهة نظر حزب السلامة الوطني عن الرأسمالية والاشتراكية، في مقالة لنجيب فاضل جاء فيها:

«نحن نقسم طريق الخلاص إلى مجموعتين: الأولى هي طريقة الإسلام في الخلاص، والثانية يمكن تصنيفها كنظم وراثية والتي لا توصل إلى الخلاص، إن المجموعة الثانية لا تعتمد على التعاليم الإلهية وتناقض نفسها باعتمادها على قوانين من صنع الإنسان مثل الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، لقد تم التأكيد أيضًا على أن الله قد أمرنا أن نحكم طبقًا لتعليم القرآن الكريم، وليس حسب آرائنا  الخاصة، إذا حكَّم الناس حسب نظام التصويت، فإنهم لن يكونوا بحاجة إلى كلام الله, في المجتمعات التي تحل فيها كل القضايا وفقًا لنظام التصويت، لا ينتشر الإسلام» ([161].

أما فيما يتعلق بموقف الحزب من الولايات المتحدة، فقد عارض الحزب الوجود الأمريكي في الأراضي التركية، كما عارض استخدام الولايات المتحدة الأراضي التركية، في استخدامها ضد دول منطقة الشرق الأوسط، ونتيجة لهذا فقد انتقد الحزب حكومة ديمريل في أواخر عام 1979م بسبب زيادة النشاط العسكري الأمريكي في تركيا، حيث قدم استجوابًا إلى مجلس النواب التركي مطالبًا فيه محاسبة حكومة ديمريل بسبب هذا النشاط الأمريكي، وقد دلل هذا على قيام طائرتين بالهبوط في مطار مالقا وهما تحملان 180عسكريًا أمريكيًا مع أحدث المعدات الحربية، مؤكدًا أن هذا يشكل تهديدًا لأمن المنطقة.

وفي الحقيقة استطاع الحزب أن يشكل رأيًا عامًا مناهضًا للغرب والولايات المتحدة، عن طريق المشكلة القبرصية والتي قام فيها أربكان بدور رئيس في إقناع القيادات العسكرية بإنزال قواتها في الجزيرة، فقد تولى القيادة مدة غياب أجويد في زيارة لدول أوروبا الشمالية.

ولقد عمل الحزب بقيادة أربكان على إفشال جميع الخطط والمشاريع اليونانية في بحر إيجة، وفي هذا المجال يقول أربكان: (سنتحرك وفق أسس العدل والحق لأوفق الأسس التي تحددها الأقطار الأوروبية الكبيرة) ([162]).

وفيما يتعلق بالسوق الأوروبية يقول أربكان: «إن تركيا يجب أن لا تكون في السوق الأوروبية المشتركة للدول الغربية، وإنما في السوق المشتركة للدول الشرقية، إن تركيا متخلفة بالنسبة للغربيين، ولكنها متقدمة بالنسبة للشرقيين، إذا دخلت تركيا السوق المشتركة في الأوضاع السائدة اليوم، فإنها مستعمرة» ([163]).

لقد كان لحزب السلامة تأثير كبير في الشارع التركي وعمل إعادة الهوية الإسلامية ونازل بحجج الإسلام وبراهينه الأنظمة الاشتراكية والرأسمالية, وكان زعيمه نجم الدين أربكان يتحدث بعزة الإسلام ويوضح للشعب التركي خطورة الانحراف عن منهج الله ويوجه صواريخه إلى أعداء الإسلام، وفي هذا المجال، يقوَّم لنا نجم الدين أربكان النظامين الاشتراكي والرأسمالي, وفيما يتعلق بالأول يقول أربكان: « إنه فكر يهدد الحريات، ويضر بالكيان القومي، ويركز على مصادر أجنبية» ([164])، أما فيما يتعلق بالثاني، يقول أربكان: «الفكر الرأسمالي هو فكر يقوم على الربا، ومصدره أجنبي أيضًا، أما حزب السلامة فيمضى في طريقة رافعًا راية الأخلاق والأصالة، إن النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي لا يقتصران على ميدان الاقتصاد، وإنما يمتد تأثيرهما إلى الميدانين الاجتماعي والمعنوي، ورغم اختلاف النظامين في الظاهر، فكلاهما مادي، وكلاهما يعمل على النهوض بالجانب المادي في مقابل انحطاط الأخلاق والمعنويات، وكلاهما يزداد ارتفاعًا ماديًا مع هبوط الثقافة والأخلاق» ([165]).

إن غاية حزب السلامة هو الوصول إلى فهم «تركيا الكبرى» وحرص على التمسك بالماضي العثماني المجيد وبيَّن للناس أهمية الالتزام بالإسلام واتبع سياسة تؤدي في مداها البعيد إلى القضاء على مبادئ أتاتورك العلماني، وهو في نفس الوقت يدعو إلى عدم التعاون مع العناصر غير الإسلامية في تركيا، وهو في نفس الوقت يعارض الشيوعية بعنف، ويؤكد على أن أفضل طريق لانتشار المبادئ الإسلامية هو توفير الحياة الحرة للمواطن التركي.

ودعا أربكان إلى ضرورة تطوير علاقات تركيا مع العالم الإسلامي في المجالات كافة، حيث قال: (وأن لا تظل هذه العلاقات صورية، وإنما يجب أن تكون علاقات فعلية متطورة، حيث إن في العالم ما يقرب من خمسين دولة إسلامية يبلغ سكانها مليارًا، وهذه الدول الإسلامية سوق طبيعية قوية لإنتاجنا) ([166]).

وعلى هذا الأساس، فقد انتقد أربكان كلاً من الصهيونية والماسونية ([167]حيث قال في هذا المجال: «إن الصهيونية والماسونية حاولا عزل تركيا عن العالم الإسلامي، ومؤامراتهم مستمرة، ذلك أن المعركة بين الإسلام في تركيا والصهيونية قد اتخذت أشكالاً عدة وهي حرب طويلة المدى، ومستمرة منذ خمسة قرون، منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية وعمل على فتح رومية، ولكن هذا الصراع في المائة سنة الأخيرة، أخذ شكل مخطط أعد له سلفًا، فاستطاعت بعض القوى عام 1839م أن تؤثر في جسم الدولة الفكري، وتدخل القوانين الوضعية البعيدة عن الإسلام بوساطة المنظمات اليهودية الماسونية، وقسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلاث مراحل مدتها ثلاثون سنة، وهي عبارة عن تنفيذ فكرة ليتويود وهرتزل بإسقاط الدولة الإسلامية في تركيا، أما المرحلة الثانية، فقد استمرت عشرين سنة، وكانت لإبعاد تركيا عن الإسلام، ثم نشأ حزب الاتحاد والترقي، وكانت له علاقة باليهود والماسونية، ومن ثم استطاع إسقاط السلطان عبد الحميد، وبدأ في إبعاد تركيا عن النمط الإسلامي وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي كانت تعنى في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين» ([168]).

وقد خاض حزب السلامة الوطني الانتخابات العامة لعام 1973م حيث حصل على 9 و 11% من الأصوات، أي بواقع 24.1 مليونًا من أصوات الناخبين ونتيجة لذلك فقد مثل نفسه في المجلس الوطني التركي بواقع 45مقعدًا ([169]).

وقد أعلن أربكان عشية انتخابات 1973م: «أننا سنعيد عهد الرسول ×، كما أعلن أربكان بعد الانتخابات أن شعار حزبه هو (المفتاح), وهذا ما سيؤهل للحزب فتح الطريق المغلقة أمامه، ويكون مفتاح كل الحكومات الائتلافية» ([170]).

ونتيجة لذلك فقد تكونت أول حكومة ائتلافية، ضمت حزب الشعب الجمهوري، وحزب السلامة الوطني، وذلك في 25كانون الثاني 1974م، حيث ضمت الوزارة ثمانية عشر وزيرًا من أعضاء حزب الشعب الجمهوري، وسبعة أعضاء من حزب السلامة.

ويفضل الله تعالى ثم جهود حزب السلامة الوطني بقيادة أربكان، مثلث تركيا ولأول مرة في آذار 1974م في مؤتمر القمة الإسلامي، وقد اختير وزير الداخلية التركي وهو من حزب السلامة الوطني في هذا المؤتمر.

إن نشاط حزب السلامة الوطني خلال السبعينيات أدى إلى خرق المظاهر العلمانية في تركيا، حيث انتشرت بعض المظاهر الإسلامية في تركيا وخاصة في شهر رمضان، كما تم التوسع في المدارس الإسلامية، حيث سمح لها بتدريب الأئمة والوعاظ، وأصبحت هذه المدارس تعلم حوالي 10% من الطلاب في المدارس الثانوية بمن فيهم  50.000 من العنصر النسائي في تركيا، وفي الحقيقة وصل التصويت الإسلامي بين 10%-15%، وقد اعتبر العلمانيون هذه النسبة بمثابة خطر على المدنية التركية ([171]).

وبتأثير من حزب السلامة الوطني، وطلاب النور في تركيا خرجت إلى حيز الوجود سلسلة «ألف كتاب» التي دعمتها وزارة التربية، وتناولت هذه السلسلة الثقافة التركية بمعيار إسلامي, وأخذ حزب السلامة يعمق المفاهيم الإسلامية في المجلس الوطني التركي الكبير وهاجمت الصحف الإسلامية في تركيا كمال أتاتورك وأطلقت عليه اسم «الدجال». وضغط حزب السلامة الوطني على رئاسة الشئون الدينية حتى أصدرت بيانًا في حزيران 1973م أكدت فيه على دعوة المرأة التركية إلى الحجاب.

وحينما سافر أربكان إلى السعودية عام 1974م- وكان وقتئذ نائبًا لرئيس الوزراء - بدأ زيارته للكعبة، وفي الرسالة التي كتبها للملك، ذكر ما يلي: «إن معرفة الشعب والحجاج للمشاريع التي ستقام في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية بالقروض التي ستمنحونها لتركيا تعد من الأمور الهامة، إن دعمكم لموقفي في تركيا سيفتح لتركيا مرحلة جديدة في العالم الإسلامي، ومساعدتكم لنا في هذا المجال سوف تدعم هذه المرحلة» ([172]).

واستطاع أربكان أن يمرر قانونًا في البرلمان يسمح بموجبه للأتراك السفر برًا إلى الحج، وكان ذلك ممنوعًا ([173]).

لقد كانت خطوات حزب السلامة الوطني جريئة في المجتمع التركي, ولذلك لم يتحمل الجيش التركي خادم العلمانية في تركيا هذه الأعمال الحميدة, ولذلك تدخل الجيش بانقلابه الذي قضى على التعددية والحرية السياسية في 12أيلول 1980م، وقد سبق هذا الانقلاب مظاهرات كبيرة في مدينة قونيا يوم 6 أيلول، ونادى المتظاهرون بتأسيس دولة إسلامية، وقام أنصار حزب السلامة بالاستهزاء بكل ما يؤمن به أتاتورك والمؤسسة العسكرية، وقد هتف هؤلاء الذين جاءوا من جميع أنحاء البلاد بالشعارات الدينية، وطالبوا باستخدام الشريعة الإسلامية في التعامل السياسي الداخلي، ومنعوا عزف النشيد الوطني([174]).

واحتج المتظاهرون على ضم القدس، ونادوا بقطع العلاقات مع إسرائيل، ودعوة إسرائيل المناداة بالقدس حرة، كما دعا أربكان في هذه المظاهرة إلى بدء الصراع لأنها العقلية الغربية الزائفة والتي تحكم تركيا، وقد كتب المتظاهرون الشعارات باللغة العربية، وقام هؤلاء بحرق العلم الصهيوني والأمريكي والسوفيتي, ونادى المتظاهرون بشعار «الموت لليهود» ولا سيما أن مدينة قونيا تضم أعدادًا من طائفة اليهود والتي يبلغ عددها 20.000 يهودي ونادى المتظاهرون أيضًا: «جاء دور القانون الديني وانتهت الهمجية، الشريعة أو الموت، إن الدولة الملحدة يجب أن تدمر، وإن القرآن هو دستورنا، نريد دولة إسلامية بدون الحدود والطبقات» ([175]).

كانت شعبية حزب السلامة الوطني ترتقي، لأنه التزم القضايا الإسلامية علنًا خصوصًا في العامين 1979م، 1980م واضطر الحزب الجمهوري وحزب العدالة بإرضاء حزب السلامة الوطني، وقدما تنازلات للاتجاه الإسلامي، طمعًا في المساعدات الاقتصادية من الأقطار الإسلامية والحاجة الملحة إلى بترولها.

لم يستح قادة الجيش التركي بعد انقلابهم العسكري أن يقولوا بأن سبب تدخلهم من أجل وقف المد الإسلامي.

اتخذ الانقلابيون قرارًا بحظر جميع الأحزاب السياسية وحجز قادتها وتقديمهم للمحاكمة، وكان من الطبيعي أن يحاكم حزب السلامة الوطني وأن توجه التهم لزعيمه أربكان وزملائه المجاهدين. وكانت كل التهم تدور حول حرص حزب السلامة على إعادة دولة الإسلام لتركيا والتخلص من الأفكار العلمانية والمبادئ الكمالية، إن الغطرسة التركية العلمانية أعلنت بكل وقاحة على لسان الجنرال إيفرن رئيس أركان الجيش التركي بأن لها من القوة بحيث تستطيع أن تقطع لسان كل من يتهجم على أتاتورك([176]).

لقد استطاع حزب السلامة الوطني أن يدخل بعض التغييرات في السلوك السياسي الداخلي التركي، من بين ذلك: تحقيق الأذان في الجوامع وباللغة العربية، وفرض قراءة القرآن الكريم في محطات الإذاعة والتليفزيون، وكان ذلك محرمًا منذ مجيء المفسد الكبير مصطفى كمال إلى الحكم.

لقد أصبح أربكان مع حزبه المجاهد معلمًا من معالم الحركة الإسلامية المعاصرة في تركيا، ولقد أثرت حركة السلامة في الأوساط الإسلامية والطرق الصوفية والزوايا التقليدية, ووجدت من التيار الإسلامي التقليدي من يناصرها ويقف بجانبها ويدعمها, وحكمت المحكمة العسكرية الظالمة في عام 1983على المجاهد أربكان لمدة أربعة أعوام وعلى 22عضوًا من أعضاء حزب السلامة الوطني بالسجن لمدد تصل إلى ثلاثة أعوام ونصف ([177]).

وقام الجيش التركي بتسريح كل من اشتم منه رائحة إسلامية وأعلن إيفرن في حملته التي استهدفت الإسلاميين داخل القوات المسلحة بأن هؤلاء المسلمين «كان هدفهم الوصول إلى المراتب العليا في القوات المسلحة، ماذا سيحدث لو أنهم أمسكوا بزمام الجيش؟»([178])، وأضاف قائلاً: «قد يحولون البلاد إلى أي نوع من الأنظمة التي يريدون، 
هل هذا نشاط ديني أم خيانة؟» ([179]).

وبدأت القيادة العسكرية في تركيا تبحث عن حل لمشاكلها السياسية وإرضاء الضغوط الأوروبية التي اتهمت تركيا بخرق حقوق الإنسان ويجب عليها إعادة الديمقراطية من جديد، فشكلت لجانًا جديدة لصنع دستور للبلاد بحيث يعطى الرئيس التركي الحق في فرض حالة الطوارئ، وحل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات جديدة، وبذلك يكون باستطاعة العلمانيين قطع محاولات الإسلاميين المستمرة للقضاء على الدستور العلماني، وعدلت القوانين بحيث تكون للقيادة العسكرية حق الاحتفاظ ببعض السيطرة على الحياة السياسية في تركيا.

وبعد إعلان الدستور الجديد في عام 1982تكونت أحزاب سياسية إسلامية, وظهر حزب الرفاة وهو امتداد طبيعي لفكر السلامة الوطني وبدأت العناصر الإسلامية تتوافد على هذا الحزب الجديد والذي تعرض لمعارضة الجيش والضغط عليه لمنعه من دخول انتخابات عام 1983م، إلا أنه خاض الانتخابات وحصل على نسبة 5% من الأصوات([180]).

إضافة إلى ذلك، اشترك حزب الرفاة في انتخابات تشرين أول 1987م، حيث حصل على 7.06% من الأصوات ([181]).

وبدأت الجماعات الإسلامية تتمحور حول حزب الرفاة, وشرع حزب الرفاة في قيادة الحركة الإسلامية في كل المدن التركية، وحتى المحافظات الكبرى والقرى المتباعدة الأطراف، وانتعشت الحركة الإسلامية مع تسلم أوزال السلطة وهو المتعاطف مع الإسلام في تركيا خاصة أن أعدادًا كبيرة من قيادة جزبه - حزب الوطن الأم- من الوجوه الإسلامية المعروفة في تركيا, ودخلت كوادر قيادية هامة من حزب السلامة المنحل إلى حزب الوطن الأم الذي نجح في انتخابات 1983م بأغلبية كبيرة، وشجعت حكومة أوزال نشاط المساجد والمدارس الدينية, واهتم وزير الدولة المشرف على الشئون الدينية (كاظم أكصوى) بدورات تعليم القرآن الكريم والتي كانت في بداية الثمانينيات 200دورة رسمية ووصلت إلى 3000 دورة في عام 1987م, ونشطت الطرق الدينية، وقام كاظم أكصوى بجعل بعض المؤسسات الدينية والبنوك مثل بنك الأوقاف من أهم المراكز التي تغذي الحركة الإسلامية في تركيا ([182]).

واستمر حزب الرفاة في جهاده السلمي والتوغل المتزن في أعماق الشعب المسلم التركي الذي لا تزال أعمال حزب السلامة في ذاكرته ووجدانه والتي أعادت للمجتمع التركي وجوده وحضوره الإسلامي, واستطاع حزب الرفاة الذي هو امتداد لحزب السلامة في مارس 1994م أن يتحصل على أهم وأكبر البلديات في تركيا، وعلى فوزه بانتخابات ديسمبر 1995م كأكبر حزب في البلاد، تسلم على إثرها السلطة في ائتلاف حكومي مع حزب الطريق القويم في يونيو 1996م ([183]), وأصبح المجاهد الكبير نجم الدين أربكان رئيس الوزراء وقام بإصلاحات اقتصادية رائعة وارتفعت الرواتب في فترة وجيزة، وتقدم مندفعًا كالسهم نحو الدعوة لإقامة سوق إسلامية مشتركة ورفض دخول تركيا السوق الأوروبية المشتركة، فكانت دعوة إلى قيام أمم إسلامية متحدة، ومجلس إسلامي مشترك، وضرب ممثلو حزب الرفاة في البلديات وعلى مستوى الدولة أروع الأمثلة في النزاهة والعفة وطهارة البلد والقدرة على التخطيط, واهتمت مؤسسات الحزب بتقديم وتحسين أداء الخدمات للمواطنين وتعاطف الشعب التركي مع حزب الرفاة حتى كثير من المومسات أعطين الخدمات أصواتهن لحزب الرفاة الذي عمل 
على إيجاد فرص للعمل الشريف بعد ترك بيوت الدعارة والفساد والرجوع إلى الله بالتوبة والمغفرة.

ولقد عالج ممثل الرفاة والذي تولى بلدية استانبول مشاكل العاصمة بكل جدارة, وتضاعفت ميزانية البلدية بعد أن كانت دائمًا تشتكي من العجز المالي بس

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك