توجيهات تربوية مستقبلية لبناء الإنسان الصالح في الوطن العربي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على المصطفى للهداية والإرشاد وإخراج خير أمة أخرجت للناس: نبينا محمد المعلم، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد،،
فإنني كنت قد ألقيت هذه المحاضرة في المؤتمر التربوي الثامن عشر الذين تقيمه جمعية المعلمين أمام جمع من المعلمين والمربين من كل البلاد العربية تقريباً، وقد كانت مفاجأة لي أن وجدت شبه اتفاق من الحاضرين على موضوع هذه المحاضرة، بالرغم مما فيها من نقد صريح ومن محاولة لوضع اليد على مكمن الألم وموضع الداء في تربيتنا المعاصرة.
وكان مما شد أزري، وقوى من عزيمتي أن كثيراً من الإخوة الأساتذة والمربين الذين حضروا إلقاء هذه الورقة تحمسوا لنقلها إلى دولهم، ومحاولة نشر أفكارها، وتطبيق مقترحاتها بكل سبيل وقد كنت أظن قبل أن ألقيها أنها لن تجد إلا تجاوباً محدوداً، وعاصفة من الرد والاستهجان ومحاولة للدفاع عن الأوضاع التربوية الخاطئة التي نعيشها، والتي أفرزت كل هذا الضياع الذي نعانيه،.. ولكنني وجدت غير ذلك تماماً. اللهم إلا بعض من يرى أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن الآن على الأرض العربية الإسلامية.
وقد رأى الإخوة القائمون على أمر جمعية المعلمين وفقهم الله وبارك فيهم. إعادة طبع هذه الورقة ونشرها تعميماً لفائدتها المرجوة إن شاء الله وقد كنت أرجو أن أتوسع في شرح بعض ما أجملته في هذه الورقة، وإضافة مجموعة جديدة من الأفكار، ولكنني لم أجد متسعاً من الوقت لذلك، وأرجو أن أتمكن من ذلك في طبعة أخرى.
والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل عملي له خالصاً، وأن يوفقنا إلى الأخذ بأسباب الفوز في الدنيا والآخرة هو السميع العليم.
عبدالرحمن عبدالخالق
الكويت: 18 محرم 1409هـ
الموافق 3 أغسطس 1988م
مدخل:
لا شك أن أعظم أهداف التربية قديماً وحديثاً، هو إيجاد الفرد الصالح أو المواطن الصالح، أو الإنسان الصالح النافع لنفسه وأمته، على الإختلاف الهائل جداً حول مفهوم الصلاح والفساد تبعاً للاختلاف في العقائد والقيم، وفلسفة الحياة، والهدف من الوجود.
وأجدني مضطراً وأنا أقدم هذه الورقة حول (النموذج المقترح للتربية المستقبلية في وطننا العربي الإسلامي). أن أقدم مجموعة من المقدمات الضرورية، التي لا أرى غنى عن الاتفاق عليها قبل تقديم هذا النموذج. وذلك أنه بالرغم من أننا ننتمي إلى عصر واحد نعيشه الآن، وأمة واحدة، ولغة واحدة، ألا إن الصورة المثلى للإنسان الصالح تختلف في تصورنا وتصور كل من يهتم بشأن التربية في وطننا العربي - اختلافاً بيناً جداً. وذلك أننا نتاج مناهج تربوية مختلفة، ومؤثرات تربوية متباينة، بل وتيارات فكرية مختلفة، وعقائدية متضادة. وبالتالي فموروثنا الفكري والعقائدي، والثقافي الذي يؤثر في تفكيرنا وسلوكنا موروث مختلف. وأنا أعتقد جازماً أنه لو أعطي لكل مهتم بالتربية والتعليم ومستقبل الأمة العربية ورقاً وقلماً، وقيل له اكتب لنا تصورك عن (نموذج الإنسان العربي) لخرجنا بصور ونماذج مختلفة متباينة جداً.
ومن أجل ذلك فإنني أرى أنه لا بد من الاتفاق أولاً على هذه المقدمات الضرورية حتى نستطيع الاتفاق، أو الاقتناع بالنتيجة النهائية أو (النموذج المقترح للتربية المستقبلية في وطننا العربي).
1- التربية عملية فطرية وليست اكتشافاً عصرياً:
أحب أولاً أن أقرر هذه البديهية، وهي أن التربية عملية فطرية صاحبت الإنسان منذ وجد على هذه الأرض، وليست هي نتاج وثمرة للعلم الحديث: فالإنسان منذ وجد على سطح هذه الأرض، وهو يسعى للتغلب على ما يعترضه من مشكلات، ويستفيد بما يمر عليه من تجارب، ويربي صغاره من أجل الحياة، وينقل تراث آبائه وأجداده، إلى أبنائه وأحفاده، ويحتفظ بما يراه قيمة عليا..
فهذا نوح عليه السلام يشكوه إلى ربه الفساد التربوي الذي ينشأ عليه الأجيال في قومه: {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} ولا شك أن نوحاً لا يعني أن أولاد قومه يولدون كافرين فجاراً، وإنما يعني أنه ينشئون -من آبائهم- على الكفر والفجور. كما قال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم: [كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] وهذا الشاعر العربي يقول:
ويشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان علمه أبوه
ويقول آخر معتزاً بمنهج قومه في التربية والتعليم، وكرم الأصل:
وهل ينبت الخطى إلا وشيجه وتغرس إلا منابتها النخل
نعم قد ساهم العلم الحديث في تطور الوسيلة، والأسلوب، فبعد أن كان العلم بالمؤدب الخاص، ووصايا الوالدين، والخطبة، والدرس المحدود.. أصبح بالمناهج الموحدة، والجامعات التي تضم عشرات الآلاف، والوسائل الهائلة من صحافة وتلفزيون، وتقنيات متقدمة.. الخ. ولكن الأهداف من التربية بقيت كما هي: في العز والسيادة والرفاهية، والتغلب على مشكلات الحياة، والتنمية، والمواطنة الصالحة، وتحقيق الذات.. الخ. على اختلاف البشر كما أسلفنا في نظرتهم للحياة والكون بالتالي اختلافهم في الخير والشر والصلاح والفساد، والهدى والضلال والاستقامة والانحراف.
2- لا تربية بغير سياسة عليا وتحديد للأهداف:
أحب أن أقرر ثانياً أنه لا تربية في أمة من الأمم بغير سياسة عليا وتحديد واضح للأهداف.. لقد كان وما زال من أعظم المعوقات لأمتنا عن بلوغ أهدافها، من التربية سواء في تنمية مجتمعاتنا أو ما يقال ويوصف (باللحاق بركب الحضارة). أو نقل تراثنا عبر الأجيال، أو التمسك بوحدة الأمة وشعور أبنائها بالعزة والإباء أو إيجاد الفرد الصالح والمجتمع الصالح أو التخلص من المشكلات المستعصية التي تعرضنا. أقول لا شك أن مجتمعنا العربي الإسلامي لم يبلغ شيئاً من هذه الأهداف كما ينبغي لعدم وجود سياسة عليا، وتحديد واضح للأهداف.
فما زالت النظم التربوية في بلادنا العربية -في مجملها- تقوم على الفصل بين عقيدة الأمة، وواقعها.. أو بعبارة أخرى بين الدين والدنيا، فهناك تعليم ديني يخرج أناساً يختلفون شكلاً وموضوعاً وأحياناً عقيدة وسلوكاً عن خريجي التعليم الدنيوي، ولا يوجد لليوم ربط صحيح بين الفرد والخريج وبين وظيفته في المجتمع، وبذلك أصبح -في الأعم والأغلب- العلم هدفاً من أجل العلم أو الشهادة، وليس من أجل هدف آخر، وبذلك لم نستفد من ثمرات التعليم وبركاته، بل أصبحت كثرة الخريجين عبئاً إضافياً على الأمة لما لم تستفد الأمة من علومهم وتحصيلهم وإنما أضافتهم إلى قطاع الموظفين الحكوميين الذي يتقاضون رواتب من مال الأمة ولا تسترد الأمة منهم مردوداً يوازي هذه الرواتب.
فما الفائدة إذا أنفقت الملايين في تعليم وتربية وتسليح جيش لا يحمي حياض الأمة، ولا يسهم في عزتها، ورد الأذى والعدوان عنها؟ وما الفائدة من إنفاق الملايين على تعليم آلاف المهندسين، وملايين الصناع، ولا توجد سياسة عليا للإنتاج؟ ولا قنوات صالحة لاستثمار هذا العدد الضخم من الفنيين والمهندسين؟! وما الفائدة من تعليم آلاف الفتيات علوماً لا تنفعهن في دينهن ولا دنياهن ثم رصهن في المكاتب والدوائر يتقاضين رواتب من مال الأمة ولا يسهمن إسهاماً حقيقياً في نفع الأمة وإعلاء شأنها؟ وما الفائدة في تخريج المئات من العلماء والخطباء إذا لم يكن لهم وظيفة حقيقية في المجتمع من أجل التزكية والتعليم والتوجيه.
إن مجرد إحصاء المتعلمين والمتعلمات ليس دليلاً مطلقاً على أن المجتمع قد استفاد من التربية والتعليم وأصبح مجتمعاً صالحاً.
وأنا هنا لا ألوم مناهج التعليم بقدر ما ألوم السياسات العليا للأمة العربية.. وذلك أن الفرد يتكيف -في الأعم والأغلب- بما يسود مجتمعه.. فما الذي يحمل الطالب على أن يصبح صانعاً ماهراً، أو معلماً قديراً، أو طبيباً بارعاً، أو مخترعاً عبقرياً.. ما دام أنه سيخرج إلى مجتمع لا يجد النابهون المخلصون فرصتهم للعطاء والبذل، ولا مكانهم الملائم للعلم. وما دام أنه سيجد الوظيفة المريحة بالشهادة الجامعية التي يمكن أن يحصل عليها بوسائل كثيرة مريحة أيضاً دون عناء الكد والمذاكرة، والبحث والاستقصاء؟
والخلاصة أن الفلسفة العليا، والعقيدة السائدة، والمثل المحترمة المطبقة في المجتمع هي التي تخلق الأفراد، وتوجه سياسة التربية والتعليم وليس العكس..
فالأمة اليابانية مثلاً لو لم يكن النظام فيها قائماً على تقديس التراث واحترام الأمة بل وتقديسها، واعتقاد أن أرض اليابان هي أرض الشمس المقدسة، وأن كل عامل يجب أن يعمل للأمة تقديساً وحقاً، ثم لنفسه وأن يستفيد من ثمرات كده وجهده، في إطار نظام اقتصادي حر يقوم على المنافسة والكسب بغير حدود.. لو لم تكن هذه السياسة العليا والعقيدة التي يحترمها الجميع موجودة لما كان لليابان هذا الدور الاقتصادي القائم حالياً.
وللأسف أقول إن عامة الأمم في الأرض تملك سياسات عليا محددة، وبالتالي أهدافاً تربوية واضحة، ومن ثم مناهج تعليمية وتربوية تنسجم مع السياسة العليا والأهداف. ولذلك يكون النتاج والثمرة شعوباً تحمل قدراً كبيراً من الانسجام والترابط والوحدة، وأما في أمتنا العربية الإسلامية:
فإما أننا نملك أهدافاً سليمة ولكنها تبقى في إطار النظرية والبعد عن التطبيق، وإما أنه توجد أهداف تضاد عقيدة الأمة، وروحها وتراثها ويراد تطبيقها قسراً وقهراً، وبذلك يصبح التعليم والتربية عملية إرهابية إجبارية لا تفرز إلا المقت والكراهية، وإما أنه لا توجد سياسات عليا أصلاً والأمر متروك للاجتهادات والتيارات المختلفة والمدارس الفكرية المتباينة؛ لأجل ذلك كله فإن النتاج العام للتربية والتعليم في وطننا العربي الإسلامي ناتج مشوه، مختلف.
ولست هنا ألوم التعددية الفكرية والثقافية، بل إن هذا أحد عوامل النهوض والإبداع. وإنما اللوم منصب على أن القاسم المشترك، والخطوط العريضة العليا للتعليم هي كما أسلفت القول فيها: إما إنه غير موجودة، أو أنها موجودة بصورة مغايرة لروح الأمة وعقيدتها وتوجهاتها، أو موجودة بصورة سليمة ولكنها بعيدة عن التطبيق الواقع.
3- ما الأهداف التي نتوخاها من التربية والتعليم؟
وهذا سؤال معروف لماذا نتعلم؟ وما الذي نريده بعملية التربية والتعليم على مستوى الفرد أو الجماعة؟
والجواب أننا نتعلم لمجموعة من الأهداف والمقاصد. منها: أن التعلم هو وسيلتنا لفهم الكون والحياة والخلق. فلا بد للإنسان أن يعلم لماذا هو موجود على هذا الكون وإلى أين يسير؟ وما الغاية من وجوده؟ لأنه بغير ذلك تبقى الحياة تافهة لا معنى لها، أو عبثية لا غاية منها. ونتعلم كذلك لنحيا حياة طيبة؟ ونتعلم لنتغلب على المشكلات والكوارث والأخطار التي تعترضنا، وكل ذلك لا يتم بصورة صحيحة إلا بالعلم والتربية، واختراع الوسيلة المناسبة. ويتعلم الناس كذلك للحفاظ على تراث أممهم ولغتهم ووحدتهم الفكرية والثقافية، ولغتهم القومية.. الخ.
وبالتالي فالتربية والتعليم هي الطريق إلى الإيمان والمعتقد، وكذلك الرقي المادي بل إن التعليم والتربية هي السبيل للبقاء فلا بقاء لأمة في زحمة الحياة وطوفان البشر ومزاحمة الأمم بعضها بعضاً إلا بعلم وتربية يحفظ عليها كيانها بل بقاءها ووجودها.
ثانياً: السياسات التربوية العليا
للأمة العربية الإسلامية لا بد من إقرارها وفق الحقائق الآتية:
1- لا بديل للعرب عن الإسلام:
ارتبط العرب بالإسلام ارتباطاً عضوياً وتشربت روحهم عقيدة الإسلام، وتاريخ العرب الحق هو تاريخ الإسلام فلا بطولات عربية إلا البطولات الإسلامية، ولا تاريخ يذكر للعرب إلا يوم كانوا مسلمين.. وكل المحاولات التي أرادت الفصل بين العرب والإسلام قديماً وحديثاً باءت بالفشل. وكل محاولات الغزو الفكري والثقافي التي أرادت سلخ هذه الأمة العربية عن دينها وعقيدتها وقرآنها وتاريخها وتراثها باءت بالفشل الذريع رغم ما أنفق فيها وعليها ورغم أنه كانت وراءها أحياناً ميزانيات دول، وأساطيل جيوش ومخططات خارجية، ومناهج تربوية وتعليمية ومع ذلك فإن الأمة العربية ظلت متمسكة به..
وليس أدل على ذلك من هذا البعث الإسلامي في كل مكان من أرض العرب الأساسية ومن كل الأراضي التي عربها العرب الفاتحون وحولوا شعوبها إلى العربية والإسلام فهذا الشعب الفلسطيني يخرج بالقرآن وهتاف الله أكبر، ويجد في الدين والانتماء إلى أمة الإسلام دافعه وقوته للتصدي للغزو اليهودي. ومن قبل ذلك كله لم تحرر الأرض العربية الإسلامية في مصر والجزائر وليبيا وبلاد الشام من الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي إلا بالجهاد الإسلامي، وإذا رجعنا إلى ما قبل ذلك لعلمنا أن الأمة العربية لم تنج من الغزو المغولي الذي كاد أن يمحو وجودها وبقاءها.. إلى جانب عقيدتها وتراثها... لم تنج الأمة من هذه الكوارث إلا بالإسلام.
وفي هذا كله الذي أسلفناه دليل لكل ذي عينين أن هذه الأمة العربية لا بقاء لها ولا حياة إلا بالإسلام الذي امتزجت به امتزاج الروح بالجسد. وأن محاولة فصل هذه الأمة على الإسلام لا يعني إلا قتلها.. ولكن ما دام في الأمة عرق ينبض فإن هذا العرق لن ينبض إلا بالإسلام. الذي هو روحها وحشاشتها.
2- لا بديل للعرب عن الوحدة:
الحقيقة الثانية التي يجب في ضوئها أن نقرر مناهج التربية والتعليم في وطننا العربي أنه لا بديل للعرب عن الوحدة، إن أرادوا البقاء كأمة لها تراث وتاريخ وموقع بين الأمم، وذلك أن العالم العربي بدوله الاثنتين والعشرين القائمة حالياً لا تستطيع واحدة منها أن تصمد للعواصف والأطماع العالمية إلا إذا احتمت في أخواتها، وتقوت بشقيقاتها بل ولا تستطيع دولة واحدة من دول أن تحقق مستوى لائقاً من العيش إلا بالوحدة فالدول العربية: إما دولة كثيرة السكان فقيرة الإمكانيات تعيش عالة على المساعدات الخارجية والهبات من الشرق والغرب، وإما دولة عظيمة الموارد والإمكانيات قليلة السكان تعيش طفرة اقتصادية مؤقتة، وإما دولة قد تملك هذا وهذا ولكنها في أتون حرب مستمرة تأكل الأخضر واليابس.
وفي مثل هذا المناخ والواقع السياسي والاقتصادي. حيث يحيط بنا الأعداء من كل جانب، بل وتقوم إسرائيل كدولة غريبة عقيدة وشعباً وفكراً وتوجهاً وتعلم أنه لا بقاء لها إلا بتفكيك أوصال هذه الأمة العربية، والحيلولة دون حيازتها لأي نوع من أنواع القوة.. أقول في مثل هذا الواقع والمناخ يستحيل بقاء أي دولة عربية إذا انفردت عن شقيقاتها. اللهم إلا أن تعيش مجرد تابع ذليل، أو شعب حقير بلا عقيدة ولا تراث ولا هدف، وإلا أن يكون هذا الشعب عاملاً في مستعمرات اليهود ومصانعهم أو مستجدياً مستهلكاً لهبات الأمريكيين وبضائعهم، أو مقتاتاً مستجدياً لتسلط الروس وخرافاتهم.
تقول أحدث دراسة عن الواقع العربي المعاصر:
(والوطن العربي بانوراما للتناقضات، لا يوجد قطر عربي واحد بقادر على حل مشكلاته لوحده عبر عقود ثلاثة مقبلة -دون الاستفادة بإمكانات أقطار عربية أخرى. وحتى لو تحققت فهي غير كافية لحل مشكلتين أساسيتين: الغذاء والأمن القومي، بكل ما لذلك من تداعيات على الاستقرار الاجتماعي، ولا توجد استراتيجية شاملة للوطن العربي أو لأي أقطاره. وليس كل شيء يمكن شراؤه من السوق العالمي. وهناك خوف على الهوية والخصوصية) (من بحث المؤتمر العربي الأول للحاسبات الصغيرة (القبس 13-1-1988م)).
3- لا بديل للعرب عن الرقي المادي والاستفادة بتجارب الأمم:
الحقيقة الثالثة التي يجب أن توضع نصب أعيننا ونحن نخط الأهداف العليا للتربية في وطننا العربي، أنه لا بديل لنا عن الرقي المادي، والعلم الدنيوي الذي نحقق بواسطته مستوى لائقاً من العيش، وتيسيراً لسبل الحياة، ونحافظ بواسطته على كياننا ووجودنا، ونستثمر بواسطته ثرواتنا، وإمكانياتنا، ولا نعيش عالة على غيرنا كما هو الحال الآن الذي بلغنا فيه من الانحطاط أن نعتمد على غيرنا ليس فقط في طعامنا وشرابنا ولباسنا ومسكننا ومركبنا وتعليمنا وتخطيط مدننا بل وكذلك في تنظيف مطاراتنا ودوائرنا الرسمية، وتدريب فرقنا الرياضية، وفي أصغر شئوننا..
ونحمد الله سبحانه أنه لا يوجد في ديننا وعقيدتنا ما يحول بيننا وبين هذا الرقي المادي بل العكس تماماً فالدين الإسلامي قرآناً وسنة، واجتهاداً لعلماء الأمة كله يدعو إلى الأخذ بالقوة والحكمة، ومغالبة الأعداء، والانتصار على الشدائد، ومصارعة الأمراض والآفات، وليس أدل على ذلك من أن علماء أصول الفقه في مقام فروض الكفايات قرروا أنه يجب على الأمة إذا حاز العدو سلاحاً أن يحوزوا مثله، وإذا دهمهم خطر أو مرض أن يتعلموا كيف يصرفوه عنهم، وإلا كانوا آثمين قاعدين عن الفرض والواجب..
ولكننا للأسف ابتلينا بمن يتخذ الدعوة للرقي المادي وتحصيل العلم الدنيوي ذريعة لفصل الأمة عن دينها وعقيدتها قائلاً: كيف يمكن التمسك بالإسلام في عصر الصاروخ والذرة.. وكأن الإسلام عدو أو مضاد للصاروخ والذرة.
والحال أنه ليس في الإسلام، لا في عقائده ولا في شرائعه ولا في أخلاقه ما يحول بين المسلم وبين الأخذ بأي سبب من أسباب القوة المادية، ولكن الذين يكرهون الإسلام ويعادون الأمة وجدوا في حيازة الغرب الكافر القوة المادية والرقي الحضاري ذريعتهم في صرف الأمة عن دينها زعماً أنه لا قوة ولا رقي إلا بالإنسلاخ من الدين والعقيدة.. وقد فاتهم بل أحرجهم أن أمماً كثيرة وشعوباً كثيرة قد أخذت بالرقي المادي مع تناقضاتها الفكرية والعقائدية بل مع إيمانها بالخرافات والخزعبلات كعبادة بوذا، والميكادو، وتقديس الصليب، وإنكار الصانع..
والخلاصة أنه يجب على الأمة العربية أن تخطط مناهجها التربوية على أساس من حيازة أسباب القوة جميعها حيث تعتمد على نفسها في سلاحها وطعامها وشرابها ومسكنها، وفي كل شئون حياتها مستفيدة بتجارب الآخرين وعلوم الأمم.
4- وجوب الابتعاد عن مفاسد الحضارة المادية:
الحقيقة الرابعة التي يجب أن نعيها جيداً أن الحضارة المادية المعاصرة تحمل بين طياتها جراثيم دمارها ونهايتها وإننا إن لم نحتط أشد الحيطة لهذه الجراثيم فإن طوفان الدمار سيأخذنا معه.
فالحرية بغير حدود وقيود، والنفعية المادية التي قامت عليها فلسفة الحضارة المادية الغربية شجعت ألوان الفساد كله، ودمرت نفسية الإنسان الغربي وحياته، وجعلته يعيش عيشة الحيوان بل أحط فالشذوذ الجنسي قد بلغ معدلات وبائية، وما هو أحط من ذلك وهو اغتصاب الأطفال من ذويهم، وتعاطي المخدرات الذي بلغ إلى الأطفال في سن التاسعة، وملايين المدمنين والذين دمرتهم الخمر، وارتباط الإنسان بعجلة الإنتاج ودوامة الربا والدين، وعبودية الإنسان للمادة والآلة وامتلاكها له. وليس بالعكس، والركض اللاهث خلف سراب السعادة والمنفعة واللذة دون إحساس بهدف الحياة وغاية الخلق، ونهاية المطاف; كل ذلك خلف الانهيار النفسي والعاطفي، وخلق هروباً جماعياً إلى الأديان الخرافية، والإيمان بالخزعبلات والترهات. وكل هذا وغيره سيسرع بانهيار هذه الحضارة الزائفة. وأحب أن أذكر بالحادثة الشهيرة التي حدثت في نيويورك عام 1970 يوم أطفئت الكهرباء عن المدينة ليلة واحدة فقط فكان حصيلة ذلك أن خرج من في المدينة للسلب والنهب، حتى إنه نهبت مخازن تجارية إلى آخر شيء فيها. والعجب أنه تبين أن جميع الأعمار رجالاً ونساءاً قد اشتركوا في ذلك. وأن خمساً وعشرين ألف شرطي كانوا مكلفين بحراسة المدينة لم يداوم منهم أحد واشتركوا في النهب..
إن هذه الحادثة تفيدنا أن إنسان هذه الحضارة إنسان متوحش مهزوم من داخله وأن الذي يقيمه هو قوة القانون لا قوة الأخلاق. ومثل هذا المجتمع الذي يفترس فيه الأب صغاره عندما يكون في أمان من القانون واستناد إلى حاجة الابن الصغير والبنت الصغيرة إلى المأوى والطعام والشراب.. مثل هذا المجتمع لا شك أنه سينهار ويدمر نفسه عند انقطاع أول خط من الخيوط التي تربط بين عناصره.
والخلاصة أن هذه الحضارة الغربية المادية النفعية العمياء حضارة غارقة، ولا يجوز أن نربط سفينتنا بها والواجب علينا أن يكون أخذنا من هذه الحضارة انتقائياً حكيماً، وأن نستقل بأنفسنا في سفينتنا الخاصة وإلا فإننا سنغرق حتماً إن ركبنا في سفينة الغرب الهاوية.
5- لا بديل عن منهج الإسلام الحق في التربية:
الحقيقة الخامسة التي يجب أن نعيها جيداً، ونحن نسعى إلى إرساء أسس جديدة للتربية في الوطن العربي أنه لا بديل لنا عن منهج الإسلام في التربية وذلك أن قادة العمل التربوي في الوطن العربي قد ربوا وفق النموذج الغربي، ودرسوا واقتنعوا بالنظريات الغربية في التربية بل إن مادة التربية التي تدرس في عامة جامعاتنا العربية لا تعرف من التربية إلا علماء الغرب ومفكريهم قديماً وحديثاً ووثنيات الشرق وفلاسفته، فمن سقراط وأرسطو (الذي يسمونه المعلم الأول) وأفلاطون، إلى لوثر، وفرنسيس بيكون وجون لوك، إلى جان جاك روسو، وبستالوزي إلى هاربرت سبنسر ثم جون ديوي الذي يجعلونه أباً للمدرسة الحديثة، إلى برتراند راسل وفي الشرق من كونفوشيوس إلى بوذا، وزرادشت.
هؤلاء هم قادة التربية في العالم شرقية وغربية وهذه هي المثل التي تدرس لأبنائنا على أنهم قمم التربية ومؤسسو الحضارة، ومعلمو البشرية ومربو الشعوب.
ومن العجيب حقاً أن قادة التربية في الوطن العربي والذين نقلوا إلينا فقط ما درسوه في جامعات الغرب وأمريكا، إذا قيل لهم ألا يوجد في التاريخ الإسلامي مثال واحد أو معلم أو فيلسوف يمكن أن يستفاد منه، ونفخر بأن العرب أو المسلمين من يماثل مفكري الغرب؟ كان رد الحاذق منهم والذي له بعض إلمام بحضارة الإسلام أن يذكر نعم يوجد في الإسلام الفارابي وابن رشد وابن سينا والغزالي!! وقد فات هؤلاء المتغربين أن الفارابي وابن رشد وابن سينا كانوا فلاسفة ينكرون الوحي والنبوات، ويفضلون الفيلسوف على النبي، وعامة ما عندهم منقول من فلاسفة الإغريق ولذلك قالوا عن الفارابي أنه عقل أرسطو، وقلبه.. وكان ابن رشد ممن يقول بقدم العالم وأنه مقارن لوجود الخالق، وأما الغزالي فهو –رحمه الله- ولو أنه بدأ حياته فيلسوفاً إلا أنه عاد وأكفرهم وبين تهافتهم، ثم عاد عن الفلسفة إلى التصوف وكانت آخر حياته أن هجر الحاضرة وسكن البادية هائماً على وجهه، عليه مرقعة، وفي كتفه ركوة، وقد خلَّى للناس دنياهم وهجر حياتهم.. والغزالي رحمه الله وإن كان نموذجاً للزهد والانصراف عن الدنيا إلا أنه مع ذلك ليس نموذجاً للإسلام الصحيح، ولا للإنسان الصالح الذي نريد أن نعمر به الدنيا، ونبني الأجيال على غراره..
والخلاصة أن علم التربية الذي يدرس الآن في معاهدنا وجامعاتنا كثير منه علم فاسد، مثله ما قدمناه من أهل الضلالة الذين لا يتسع المقام لبيان فساد عقائدهم ومناهجهم ونظرياتهم.. وقد غاب عن حملة هذا العلم في بلادنا العربية النماذج الحقة للتربية. غاب عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مصلح ومرب عرفته البشرية، غاب عنهم المدرسة الفكرية والتربوية لابن عباس وابن مسعود الذي علم أمة كاملة في العراق، غاب عنهم المدرسة الفقهية العلمية التربوية للإمام أبي حنيفة والمثال العظيم في الزهد. غاب عنهم مدرسة الإمام مالك التي كان يأتيها طلاب العلم شهراً راجلين من بلاد المغرب والأندلس.. غاب عنهم مدرسة الإمام الشافعي العالم المتنقل الذي أسس علم أصول الفقه وتصدى للانحراف الفكري والعقائدي الذي نشأ في وقته، وقوم أجيالاً كاملة وخلف بعده رجالاً وتراثاً وعلم ما زال يسطع نوره في الخافقين حتى قال عنه صنوه وتلميذه أحمد بن حنبل (كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للناس).
غاب عنهم مدرسة الإمام أحمد بن حنبل الذي كان يلتف حول درسه مئات الألوف. ولما سجنه المهدي ليقول أن القرآن مخلوق التف حول سجنه أكثر من مائة ألف طالب وبأيديهم الأوراق والأقلام ينتظرون ماذا يتكلم به حتى يكتبون..
غاب عن هؤلاء ولم يدرسوا المدرسة الكبرى للإمام ابن تيمية والتي أخرجت عشرات العلماء في كل علم؛ كابن كثير وابن القيم والإمام الذهبي والحافظ المزي، وكل واحد من هؤلاء كان قمة في العلم، غاب عنهم أن ابن تيمية هذا ترك وحده في علم المنطق والإلهيات والأخلاق والديانات والشرائع، ما لو جمعت كل حكمة فلاسفة الشرق والغرب ما بلغت ورقة منه، وأنه لا وجه للمقارنة بين ما تركه ابن تيمية وما تركه هؤلاء إلا كوجه المقارنة بين التبر والتراب.
ومن أجل ذلك فإن أمامنا طريق طويل ليتخرج عندنا علماء تربية يؤمنون بالإسلام ويعرفون تاريخه، لأنه لا يمكن لمن نشأ على غير الإسلام أن يُنشئ الأجيال عليه.
ثالثاً: النموذج المقترح للتربية المستقبلية في الوطن العربي:
الأهداف:
ينبغي أن تكون الأهداف العليا للتربية والتعليم ما يأتي:
على مستوى الأمة:
إيجاد الأمة الصالحة القائمة بأمر الله سبحانه وتعالى والمستخلفة لهداية الناس وقيادة الدنيا عملاً بقوله سبحانه وتعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
ولا تكون هذه الأمة المقصودة خير أمة إلا إذا تحقق لها ما يأتي:
1- الإيمان بالله، وصدق الانتماء إلى الإسلام والأخذ بتعاليمه في كل شئون الحياة.
2- الموالاة في الله والتآخي والتعاطف والتراحم حتى تكون الأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
3- وحدة الصف النابع عن وحدة المعتقد، ووحدة المشاعر ووحدة المصير والاتفاق في طريقة التفكير، ومناهج الاجتهاد والاستنباط.
4- التخلص من العصبيات الجاهلية، والطائفية والمذهبية وكل ما من شأنه أن يمزق الأمة ويضعف بناءها.
5- حيازة الأمة لكل أسباب القوة والمنعة المادية ولكل ما يغنيها عن أعدائها ويجعلها عفيفة مرهوبة الجانب.
على مستوى الفرد:
6- إيجاد الفرد الصالح الذي هو لبنة هذه الأمة وثمرة التعلم والتربية ولا يكون هذا الفرد صالحاً إلا إذا اتصف بما يأتي:
أ- صدق الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبرسالاته وتكريس النفس لعبادته وتوحيده عملاً بقوله سبحانه وتعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. وقوله جل وعلا: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ب- صدق الانتماء إلى أمة الإسلام الذي يحمل الفرد على الاعتزاز بهذه التسمية والجهر بها، والعمل والجهاد لتكون أمته أعز الأمم، وأقواها، عملاً بقوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
ج- صدق الموالاة في الله والمعاداة فيه بأن يكون المسلم أخاً للمسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، ولا يسلمه.
8- بناء الفرد الكامل -حسب الاستطاعة والقدرة والاستعداد- في دينه وخلقه وجسمه، وعاطفته، ومهاراته، وإحسانه لعمله كله.
على مستوى المجتمع:
9- بناء الأسرة الكريمة المترابطة والحفاظ عليها بما يكفل استمرارها وبقاءها وقدسيتها على النحو الذي أراده الله، وجاء به التشريع الإسلامي وتهيئتها لتكون المدرسة الأولى، والمحضن الأفضل للتربية والتعليم، وتنشئة الجيل الصالح.
10- الحفاظ على الولاء القبلي في ظل الإسلام، والبعد عن العصبية.
11- الحفاظ على المواطنة الصالحة، البعيدة عن العصبيات الجاهلية.
الخلاصة أننا نهدف من وراء العمل التربوي كله في جميع مجالاته أن نبني الأمة الصالحة، والفرد الصالح، والمجتمع الصالح كما جاء إجمالاً في هذه الورقة، وتفصيلاً في كتاب الله وسنة رسوله. لنكون بحق مستخلفين في الأرض تحقيقاً لقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}. وقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
رابعاً: السياسات التربوية
التي يجب اتباعها وصولاً إلى الأهداف السابقة:
1- التعليم المستمر:
لا غنى لأمة تريد أن تحقق تلك الأهداف العظيمة في واقع الحياة إلا أن تتبع سياسة التعليم المستمر: التعليم مدى الحياة، وذلك أن العمر الإنساني بوجه عام قصير والإبداع العلمي والمعرفي لأي فرع من فروع العلم والمعرفة لا يمكن أن يتحقق في سن الدراسة بالمراحل الثلاث (الابتدائية، والثانوية، والجامعة) فخريج الجامعة لا يتخرج في أحسن أحواله إلا وقد حاز مفاتح العلم الذي تخصص فيه، وما لم يبدأ بعد ذلك بالدراسة الجادة، والخبرة العملية، والتعليم المستمر، فإنه لا يغدو إلا موظفاً محدود الإدراك ضحل المعلومات التي يمكن أن يتجاوزها الزمن بسرعته الهائلة واكتشافاته المذهلة، وتغيره الدائم.
فالمعلم الذي تتوقف معرفته بنهاية دراسته الجامعية معلم بائس فاشل، وكذلك العالم الذي لم يحز من علم الدين والشريعة إلا ما حازه في الجامعة لا يكفيه هذا ليحل مشكلات نفسه ويحسن عقيدته وعبادته، فضلاً عن أن يفيد غيره، وكذلك الشأن في الطبيب والمهندس والعامل الذي تنقطع دراسته وتحصيله ومعرفته بتخرجه.
وحياة المسلمين الزاهرة في صدر الإسلام شاهدة على المدى العظيم الذي بلغته الأمة الإسلامية باتباعها لسياسة التعليم المستمر.
ولكن التعليم المستمر لن يكون سياسة متبعة إلا إذا اقترن بالثواب والعقاب. أعني أن تكون هناك ثمرات مادية للاستمرار في التعليم، وذلك حتى لا يصبح التعليم واجباً إضافياً دون المردود المادي أو المعنوي.
2- التعليم للكافة: (ديمقراطية التعليم).
سبق الإسلام كل النظم التربوية التعليمية بأن جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم وأوجب على الأمة تعلم كل ما يفيدها، ويصرف الأخطار عنها، وجعل هذا من فروض الكفايات الذي إذا قام بها بعض الأمة سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به البعض كان الجميع آثمين.
وبهذا فليس هناك في الإسلام طبقية في التعليم، ولا علوماً تعلم لبعض الناس وتحجب عن الآخرين.. وفتح مجال التنافس والتسابق على أشده بلوغاً إلى خيري الدنيا والآخرة.
ولا شك أنه من أجل نهضة الأمة، وتحقيقاً للأهداف السابقة فلا بد من مشاعية التعليم وإلزامية بعضه للذكور والإناث، والأغنياء والفقراء. والبعض الذي يجب أن يكون إلزامياً هو القدر من العلم الذي لا غنى للمسلم عنه في دينه ودنياه، ليكون مسلماً صالحاً وهو ما يعرف بفروض العلم.. وليس هنا مجال تفصيله وإنما القصد هو أنه يجب تحديد (كمية العلم) التي يجب تعليمها لكل فرد في الأمة، ثم فتح المجال للاستزادة لكل أحد بحسب طاقته وقدرته واستعداده، وإزالة كل عقبة يمكن أن تعترض هذا السبيل. وبالرغم من أن التعليم وخاصة الجامعي مكلف إلا أنه أعظم استثمار للمال في الدنيا والآخرة وهو يعطي أعظم مردود لأن الإنسان مكرم لذاته، ولا يكرم إلا بالعلم النافع.. وكذلك لأن الإنسان هو أداة الاستثمار الأولي ووسيلة التنمية العظمى إذا أحسن تعليمه وتربيته..
ومن أجل ذلك فإنه لا يجوز البخل بتاتاً، ولا تحديد الإنفاق الحكومي على التعليم. بل يجب أن تكون وزارات التربية هي الوزارات التي تنفق بلا حساب والتي لا يجوز أن يكون لها حد إلا حد الكفاية والاستعداد والاستطاعة للدولة..
وإنها لجريمة كبرى أن نحرم أبناء الأمة من التعليم الجامعي وما فوق الجامعي بحجة تقليل النفقات.. ثم نذهب لتبذير المال ونهدره في التفاهات والحقارات والشئون الثانوية الهامشية.
3- التخصص والتكامل:
الأمر الثالث الذي يجب أن تسير عليه سياستنا التعليمية هي التخصص والتكامل، والتخصص لازم لأنه لا يمكن الإجادة في أي فرع من فروع العلم والمعرفة إلا بالتخصص فيه فالمعرفة البشرية قد تراكمت بشأن هائل جداً، ومتابعة هذه المعرفة في عدد من التخصصات متعذر بل مستحيل.
وأما التكامل فلأن دراسة بعض التخصصات المتناثرة التي لا تشكل وحدة لأمر ما لا معنى لها، بل هو عمل عبثي يهدر الطاقات والجهود.. فما لم يكن التعلم متكاملاً يؤدي كل تخصص فيه إلى نتيجة واحدة مشتركة فإن علمنا وتعليمنا سيبقى بلا معنى ولا ثمرة.
وإن من ثمرات التخصص العظيمة أنه سيجعلنا نستفيد من كل فرد في الأمة مهما كان تحصيله ومستواه. وذلك أنه بالتخصص المبكر يمكن أن ينصرف كل فرد إلى ما يحسنه وما يستطيع أن يهضمه ويستوعبه، ولا يكون هذا الحشد الهائل من العلوم المختلفة والمعارف المتفرقة حائلاً دون مواصلة كثير من طلابنا لدراساتهم، وإحسانهم لتخصص يناسبهم. فقد رأيت كثيراً من الطلاب تركوا التعليم لأنهم لم يستوعبوا مادة واحدة من المواد الدراسية وبذلك أصابهم الاحباط وتوقفوا في أوائل السلم التعليمي وخرجوا للحياة العامة بلا شيء تقريباً.. وكان يمكن لهم أن يحسنوا شيئاً واحداً أحبوه وهضموه. بل إنني رأيت كثيراً من الطلاب الذين فشلوا في الدراسة النظامية التي تحشد المواد حشداً - نجحوا بعد ذلك أيما نجاح. عندما توجهوا إلى التعليم الذاتي فأجادوا وأفادوه فيما شقوه هم لأنفسهم في مجرى الحياة بعيداً عن التعليم الرسمي.
4- العلم بثمرته وليس بذاته:
لا قيمة لعلم ما إلا بمقدار النفع الحقيقي الذي يؤدي إليه. وكلمة النفع هنا كلمة واسعة أعني نفعاً في الدين أو الدنيا.
وهذه السياسة لو اتبعناها فإنها ستوفر علينا كثيراً من الجهود الشاقة والأموال الكثيرة التي نبذلها في سبيل تعليم بعض العلوم والمعارف ولكن المحصلة من ورائها تافهة أو معدومة، ومن أجل ذلك فإن السياسة العامة للتعليم يجب أن تكون في جعل العلم في خدمة الهدف والغاية، وإخضاع العلوم كلها للتجارب الميدانية، والدراسات التفصيلية لمعرفة أثرها على الفرد والمجتمع والأمة وثمارها الحقيقية.
5- إعطاء مفاتيح العلم لا تفصيلاته:
السياسة التعليمية الحكيمة يجب أن تعتمد على إعطاء مفاتيح العلم للمتعلم وتتركة بنفسه هو بعد ذلك ليكتشف ويبحث، ويحصل ويصل إلى النتائج بمفرده. وهذه السياسة ستوفر كثيراً من الجهود المهدورة في حشو الأذهان وستقلل من تضخم المناهج الدراسية، الذي يثقل كاهل الطالب، وتؤدي إلى كراهية الدراسة، وعدم الفهم والاستيعاب وتيه المتعلم وسط التفريعات والهوامش والحواشي والجزئيات. وستجعل المتعلم مدركاً لكنه العلم الذي تعلمه وحدوده وأبعاده، وستعلمه طرق البحث ومراجع الدراسة وتنمي موهبته وقدراته. وبذلك نخرج من مأزق الخريج الذي لا يعرف إلا ما عرف ولا يستطيع بنفسه أن يصل إلى شيء جديد لأنه درس بعض جزئيات العلم، ولم يعرف مراجعه، ولا مفاتحه، ولا كيفية البحث فيه، ولا طرق الاستنباط منه.
إننا نعاني من هذا الخريج العاجز المحدود وذلك في كل فروع المعرفة الدينية والدنيوية.
6- إيجاد التناسق والتفاهم، وإزالة التناقض بين الوسائل التربوية المختلفة:
من أعظم ما يعاني منه المجتمع العربي الإسلامي في مجال التربية اختلاف بل تناقض المؤثرات التربوية على الفرد. فما يسمعه ويتعلمه الفرد في الأسرة يختلف في كثير أو قليل مع ما يتلقاه في المدرسة، وكذلك ما يسمعه في المسجد، وما يراه في التلفاز، وما يقرأه في الصحيفة، وما يربى عليه في إطار المجموعات العقائدية والسياسية والتيارات المختلفة بل إن الطالب يتلقى في المدرسة الواحدة، وفي الصف الواحد معلومات متناقضة لا يفصل بينها أحياناً إلا أنه يخرج هذا المدرس ويدخل الآخر لينسخ أو يلغي ما قرره سابقه، بهذا يظل الطالب في بلبلة وتناقض.
وإنه لا سياسة تعليمية صحيحة إلا بوجود وحدة فكرية أساسية بين ما يتلقاه المتعلم ويسمعه ولا شك أن هذا يحتاج إلى وضع سياسة تعليمية وتربوية وإعلامية عليا على مستوى الأمة، وهو ما تهدف هذه الورقة إليه، وهو الأمل الذي يحدو كل مخلص في الأمة وكل منتم إليها انتماءً حقيقياً. وقد قدمنا أن من أهم أسباب الفشل العملية التربوية من الوطن العربي أنه لا توجد سياسة عليا للتربية، ولا شك أن العقبة الكبرى أمام وضع هذه السياسة أن عالمنا العربي ما زال يتجاذبه تياران أساسيان:
التيار الأول: التيار الإسلامي الديني الذي يعتقد ويؤمن أنه لا حياة للأمة العربية إلا بالإسلام عقيدة وشريعة، والتيار الثاني: (اللاديني) الالحادي الذي يريد أن يقطع صلة هذه الأمة بالدين فيرى أنه لا رقي لها ولا مدنية ولا حضارة إلا أن تعيش بعيدة عن دين الإسلام وأن تأخذ من حضارة الغرب والشرق ما تشتهي..
ولا شك أن كلاً من هذين التيارين موجود والصراع بينهما قائم.. وهذا هو أكبر معوق عن وضع سياسة عليا موحدة للتربية والتعليم والإعلام.
وعلى كل حال فإن هذه القضية ستحسم حتماً لصالح الفريق الأول أهل الإيمان والإسلام لما أسلفناه من مقدمات ولأن هذا هو وعد الله وموعوده، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد.
ومن عجيب أن الصراع بين الفريقين قائم على أشده في جامعات الوطن العربي كلها تقريباً، والتنافس قائم على قدم وساق بين الفريقين لاجتذاب واستقطاب أكبر عدد من الطلبة والطالبات، وما يقرر في قسم من الأقسام يقرر نقيضه في قسم آخر.
7- التصدي للمشكلات وعدم الهروب منها:
التربية لا تؤتي ثمارها إذا ارتبطت بالواقع المعاصر وأما إذا كانت التربية تعليماً فلسفياً كلامياً بعيداً عن الواقع، أو اجتراراً معاداً للأخبار والعظات الماضية فإنها أعني العملية التربوية لا يكون لها أثر يذكر، ولا تحقق الأهداف المنوطة بها. وبالتالي فلا بد للتربية الناجحة أن تتصدى للمشكلات والعقبات التي تعترض مسيرة الأمة والمجتمع والفرد، وتحاول علاجها والخروج منها بطريقة علمية ونظر صحيح.
وأمتنا اليوم تجابه مجموعة كبيرة من المشكلات منها على سبيل المثال لا الحصر التحدي اليهودي الغاشم في فلسطين والذي يستهدف إخضاع الأمة لهيلمانه وسلطانه، وسلخ الأمة عن تراثها وعقيدتها وإسلامها، ومنها الغزو الفكري والثقافي للأمة وهذا الغزو يستهدف صرف هذه الأمة عن رسالتها الربانية في أن تكون خير أمة أخرجت للناس ومنها الفرقة والاختلاف وظهور العصبيات ونبش الأحقاد، ومنها الحرب العراقية الإيرانية وخلفياتها الفكرية والعقائدية، ومنها التخلف المادي، والاستعمار الاقتصادي والهدر في طاقات الأمة وجهودها وإمكانياتها، ومنها ذل الأمة والعيش تحت رحمة المعونة الأمريكية، والمساعدات الأمنية.. سلسلة طويلة من المشكلات والتحديات.
وفي سبيل تنفيذ سياسة تربوية ناجحة لا بد وأن يكون من برنامج العمل، وخطة التعليم التصدي العملي لهذه المشكلات بالبحث والشرح والتحليل والمتابعة واقتراح الحلول ومعرفة أبعاد المشكلة، وأما السياسة الحالية المتبعة في أكثر دولنا العربية والتي تجعل الطالب في كل مراحل التعليم مغيباً بعيداً عن مشكلات أمته ووطنه، جاهلاً بمجريات الأمور حوله. فإنها لا تخرج إلا أفراداً عاجزين مشلولين جاهلين بالحياة من حولهم. وبالطبع مثل هذه الأجيال إذا خرجت إلى الحياة العملية فإنها لا تستطيع أن تصنع شيئاً وعليها أن تستقدم وتستعين بخبراء من الشرق والغرب لحل هذه المشكلات وبالتالي نعلق حل المشكلة في رقاب من خلقوها باختصار سياسة تربوية ناجحة تعني ربط المتعلم بمجريات الأمور.. وذلك بالطبع على قدر طاقته وجهده واستيعابه.
خامساً: المناهج:
في ضوء المقدمات والحقائق والأهداف والسياسات السابقة نستطيع توضيح الخطوط العريضة للمناهج الدراسية بما يلي:
العلوم الأساسية والقدر اللازم لكل فرد:
هناك قدر وكمية من التعليم لازمة لكل فرد في الأمة وذلك لإيجاد القاسم المشترك الواحد بين جميع أفرادها، ولتحقيق وحدة الأمة وتماسكها، وانسجام أفراداها وملاءمة كل فرد منهم للواقع وليحيا حياة طيبة وهذا القدر يجب أن يتضمن ما يلي:
1- في علم الدين:
القدر اللازم من علم الدين الذين يكون به الفرد مسلماً منتمياً انتماءً صحيحاً سليماً لأمة الإسلام، مؤدياً أداء صحيحاً لواجبات الدين وفرائضه، وممتنعاً عن بصيرة عما حرمه - ومستبصراً بصورة حسنة بالفروق الأساسية بين دين الإسلام وعقائد الشرك والوثنية والخرافة. وهذا القدر جيب أن يفرض في كل مراحل التعليم بما يناسب كل مرحلة وأن يقتصر على ما هو من باب الفرائض واللازم والذي لا يجوز أن يجهله المسلم من أمر الدين.
2- اللغة العربية:
اللغة العربية هي وسيلة الاتصال بين أفراد الأمة وهي أعظم رابط بين أفرادها بعد العقيدة، وهي أغلى تراث بعد القرآن والسنة، وهي جمال الأمة وزينتها، ورمز عزها وسيادتها، وهي الغنية بما تحمله من العلوم والآداب عبر تاريخها الناصع. والمحافظة عليها يجب أن يكون صنوع الإيمان والعقيدة، فلا بقاء للدين إذا زالت اللغة، ولا بقاء للأمة، دونها.
ولذلك فيجب الاعتناء بتعليمها طيلة مراحل التعليم نطقاً وكتابة وحديثاً. حتى تتحول إلى سليقة وممارسة ويقضي تدريجياً على اللحن واللهجات الشاذة. وبالتالي فيجب تيسير سبل تعلمها وإلزام المعلمين والموجهين والكتاب ألا ينطقوا ولا يكتبوا إلا بها. وترجمة كل العلوم التي ندرسها إليها، وتقدير الحد اللازم من تعليمها في كل مرحلة من مراحل التعليم. وجعل هذا القدر واجباً أساسياً لا نجاح ولا انتقال من مرحلة إلى أخرى إلا بإحسانه وإتقانه.
3- التربية والسلوك والأخلاق:
لا بد لكل فرد من الأمة أن يلم بقواعد التربية الأساسية لأنه ينتظر لكل من يعيش إلى مرحلة الشباب والكهولة أن يكون زوجاً وبالتالي لا بد وأن يطلب منه أن يكون مربياً ومعلماً.. وما لم يكن للأب والأم علم بقواعد التربية وأصول الأخلاق فإن تربيتنا تظل متعثرة، وسلوكنا ينحط وأخلاقنا تندثر.. خاصة والأسرة هي المحضن الأساسي الذي يتلقى فيه كل فرد مبادئ الخلق وآداب السلوك وأولويات المعاملة والآداب. وما دام الأمر كذلك فلا غنى لأحد في المجتمع عن تعلم الأصول الأساسية للتربية ويجب أن يكون هذا مقرراً إجبارياً بالقدر اللازم في كل مراحل التعليم.
4- تاريخ الأمة الإسلامية:
لن يتحقق الانتماء إلى الأمة الإسلامية إلا بدراسة تاريخ هذه الأمة دراسة تربي العاطفة، وتحقق الارتباط والمحبة، وتجعل الفرد يعيش آلام أمته وآمالها، والفرد الذي يجهل تاريخ أمته يعيش مبتوتاً مقطوعاً عنها.
ومن أجل ذلك فلا بد من قدر لازم ومقرر مشترك يشمل أهم أحداث التاريخ الإسلامي مع الاهتمام بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بوجه خاص ثم سيرة الخلفاء الراشدين ثم الأحداث العظمى والكبرى فيما عدا ذلك في دولة بني أمية وبني العباس ودول الطوائف وبني عثمان والغزو القديم والجديد والذي تعرض له العالم الإسلامي، بدءاً بالحملات المغولية والصليبية ونهاية بالاستعمار الأوروبي والشيوعي الحديث. إن الإلمام بتاريخ الأمة لو على وجه الإجمال سيعطي كل فرد في الأمة تصوراً عاماً لأيام الأمة: حلوها ومرها وسيربط الفرد عاطفياً، وعقلياً، وعلمياً، وانتماءً بأمته الإسلامية العظيمة العريقة.
هذه هي المواد الإجبارية التي يجب تدريسها لكل فرد في الأمة مهما كان نوع العمل والتخصص الذي يسير فيه بعد ذلك: الدين، واللغة العربية، وأصول التربية والأخلاق ومجمل تاريخ الأمة الإسلامية..
لو وضعت المناهج السليمة المناسبة لكل الأعمار في المواد السابقة فإننا سنضمن في النهاية جيلاً موحد الفكر والعاطفة، متفقاً على الهدف والغاية، مترابطاً منتمياً بعيش بآمال أمته وآلامها.
الثابت والمتحرك:
لا يوجد علم من العلوم دينياً أو دنيوياً إلا وفيه قضايا ثابتة لا تتغير، ويوجد فيه كذلك قضايا متجددة..
فالثابت في الدين مثلاً مسائل الإيمان، وأصول الأخلاق وقواعد التشريع، وأصول الفقه، وأما المتجدد فهو كل ما يدخل في باب الاجتهاد، كالنوازل، والمعاملات المتجددة، وقضايا العصر.
وكذلك الحال في كل العلوم المادية الدنيوية فيها حقائق ثابتة، وفيها كذلك مكتشفات جديدة، ونظريات معاصرة، وتبدل في النظرة والوسيلة.
وما لم يكن المنهج الدراسي يحمل بين الأصيل الثابت، والجديد المتغير فإنه سيبقى منهجاً جامداً متخلفاً لا يؤدي الدور المطلوب منه.
فتدريس ثوابت الدين فقط بعيداً عن الواقع المتجدد وحاجات الناس سيخلق الهوة بين المثال والواقع وسيوجد الحيرة في كيفية العيش بالدين في الوقت الراهن. وتدريس اللغة العربية آدابها القديمة فقط دون النتاج الأدبي المعاصر سيقطع الفرد عن ملاحقة التطور الجمالي، والفكري أيضاً. ودراسة العلوم، نظرياتها الذي عفى عليها الزمان وتجاوزتها الأحداث والمكتشفات سيكرس التخلف والتبعية.
وكذلك العكس. دراسة الجديد في كل علم دون معرفة أصوله ومنطلقاته، وثوابته سيجعل الدارس مبتوتاً حائراً لا يرتكز على أساس.. وبالتالي فالمنهج الدراسي لا بد أن يقوم على الأصالة والتجديد المستمر، والمتابعة الدائمة لما يجد في الساحة من معطيات.
سادساً- المعلم:
العملية التربوية الناجحة يجب أن تكون سلسلة متكاملة الحلقات بدءاً بالأهداف العليا، ثم السياسات العامة، ثم المناهج، ثم المعلم، ثم الإدارة التربوية، ثم ما يتبع ذلك من الكتاب، والمقر.. والأمور المساعدة الأخرى. ويقولون: إن السلسلة تقدر قوتها بأضعف حلقاتها فلو كانت كل حلقات السلسلة قوية متين، ولكن كانت حلقة واحدة من حلقاتها ضعيفة فالسلسلة ولا شك تغدو ضعيفة هشة.
فما الفائدة أن تنفق الأموال الطائلة والجهود العظيمة في وضع المناهج الجيدة والأهداف الممتازة، والأبنية الفارهة، المريحة المناسبة المزودة بكل المعدات والآلات ولكن الإدارة التربوية تكون فاسدة، تثيب المنافق المشايع لها، وتعرقل المدرس الجاد وتهدر الإمكانيات فيما لا يفيد، وتنشغل بالتافه من الأمور، وتهمل الأساسيات والضروريات. لا شك أن كل الجهود السابقة تصبح هدراً قليلة أو عديمة الفائدة..
ويقولون: إن المدرس هو حجر الزاوية في العملية التربوية وهذا قول حق فالمدرس هو الحلقة الأساسية في العملية التربوية لأنه أداة التنفيذ، للعملية بأسرها.
وللأسف فالمدرس في بلادنا العربية بوجه عام هو أضعف الحلقات التربوية، وهذا الضعف له أسبابه الكثيرة:
لقد أصبح الشرف في مجتمعاتنا منوطاً بالمركز المالي للشخص وأعني بالشرف المكانة في المجتمع؛ ولأن السياسات العليا للتربية في وطننا العربي تنظر إلى التعليم على أنه عملية ثانوية، أو إلهائية، أو شكلية فإنه وضعت المدرس في مقام دوني في السلم الاجتماعي.. فقدمت عليه الطبيب والمهندس، والصانع، والموظف الإداري.
فالتربية والتعليم عمل غير منظور، وجهد جبار ولكنه يؤثر تأثيراً بطيئاً جداً لا تراه العين وهو معنوي أكثر منه حسي مشاهد، فشتان بين الطبيب الذي تذهب إليه بطفلك المريض وقد اشتدت درجة حرارته، وعلا صراخه وأنت مشفق عليه من الموت فيلمسه الطبيب بيديه، ويصرف له الدواء المناسب. ويعطيه ما يخفف آلامه.. فلا تفتأ أن يعود إلى الطفل ابتسامته وعافيته فلو أنك أخرجت كل ما في جيبك وأعطيته للطبيب لما كنت حزيناً على ذلك ولا آسفاً عليه..
وأما المدرس فإنك تدفع إليه بابنك ليغرس فيه الأخلاق الطيبة، ويقوم عوجه النفسي والعقلي ويزرع فيه العلوم النافعة وهذا التقويم والتربية والتعليم لا يظهر على ابنك في يوم ولا يومين ولا شهر ولا شهرين.. إنها عملية بطيئة معنوية غير مرئية..
وبالرغم من أن العملية التربوية كذلك عملية خطيرة جداً؛ فالمعلم قد يزرع الطهر والعفاف والشجاعة وقد يزرع الخسة والدناءة والشر والانحراف.. إلا أنه لا يدرك هذا إلا القليل من الناس ممن لهم خبرة بمعنى التربية والتعليم و الفضيلة والرذيلة والاستقامة والانحراف.
والخلاصة أن العملية التربوية عملية خطيرة جداً لأنها تتعلق بالنفوس والعقول. ومعرفة النفس والعقل وأمراضهما، وعللهما أكبر بكثير من معرفة الجسم وأصعب لأنك في الحقيقة تتعامل مع المجهول، ومع المعاني وليس مع المحسوس المعلوم. ولكن يبقى أمام الناس أن عمل الطبيب ظاهر واضح وعمل المهندس والصانع ظاهر واضح لأنه يتعامل مع المحسوس الظاهر، وأما عمل المدرس فلأنه يتعامل مع المعاني والمدركات فإن عمله خفي بطيء ولما كان الأمر كذلك فإن المدرس وضع في مرتبة دونية في المجتمع من حيث الأجر والراتب أولاً ثم بالضرورة من حيث نظرة عموم الناس إليه، ثم انعكس هذا وللأسف على القائمين بالتربية أنفسهم فأصبحت نظرة المدرس لعمله منطلقة من هذه النظرة السائدة في المجتمع فأصبح يحتقر مهنته ويزري بوضعه ووظيفته. وقلما نجد مدرساً يدرك خطورة ما يصنع، وأهمية ما يقوم به..
بل لقد استتبع هذا كله بالضرورة أن يتحول إلى مهنة التعليم من فشلوا في إيجاد عمل آخر ومهنة أخرى فيدخل إلى التعليم كراهية واضطراراً. وساعد في ذلك أيضاً الترتيب الجاهل للدخول إلى الجامعات. فوضعت النسب العليا للعلوم المادية، الطب والهندسة وخصت النسب الدنيا بالكليات التي تعلم العلوم الإنسانية وأهمها التربية.. فاستتبع هذا بالضرورة وجود المستويات الثقافية المتدنية في الجهاز التربوي والتعليمي..
وللأسف ليس لهذه الحال مثيل قط في كل نظم التعليم في العالم. فالدول العقائدية التي تقدر مهمة المعلم في غرس المعتقد كروسيا جعلت المعلم في قمة السلم الوظيفي والاجتماعي، والدول المادية التي تقدر الإنتاج كأمريكا جعلت المعلم كذلك في قمة السلم الوظيفي والاجتماعي لما تعلم من الدور العظيم للمعلم في التنمية والحفاظ على كيان الأمة.
وأما في دولنا العربية المبتلاة والتي لا تقدر دنيا ولا ديناً، لا تعرف خطورة التربية وأهميتها فإنها جعلت المدرس أضحوكة المجتمع ومثال تنذره، وجعلته البائس الفقير.. الذي يستحق من المجتمع في أحسن الأحوال الرثاء لا العزة والإكبار.
ومستحيل أن تنهض العملية التربوية مستقبلاً في الوطن العربي إلا بتغيير جذري لوضع المعلم. حيث تقصر هذه المهنة على أهلها الأكفاء حقاً، وتبدأ أولاً بجعل النسب العليا لكليات التربية والعلوم الإنسانية التي تخرج المعلمين، وأن يوضع المدرس في أعلى درجات السلم الوظيفي، ويبعد عن المهنة كل من ليس من أهلها، وتجعل الإدارة التربوية خادمة للمدرس وليس العكس، وعند ذلك فقط تكون قد أصلحنا أهم حلقة من حلقات السلسلة التربوية.
وأعود فأقول: إن لا تربية ناجحة إلا بإتقان حلقات السلسلة جميعها، والمدرس هو الحلقة الأساسية، فلا بد من التوجه لإصلاحه أولاً.
خلاصة البحث والآن نأتي إلى خاتمة البحث وخلاصته:
لا شك أن التربية في عالمنا العربي الإسلامي تعاني تخلفاً وفشلاً كبيراً فعالمنا العربي يعاني من التفرق والاختلاف، والاستعمار والصهيونية، والتخلف والتبعية والعيش عالة على المعونات الأجنبية والثقافة والفكر الغربي المادي..
وكل ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى فشل التربية لأن التربية هي الوسيلة التي يستطيع بها مجتمع ما أن يتجاوز مشكلاته، وبالتالي فنحن أحوج ما نكون اليوم إلى خطة تربوية شمولية تستطيع الأمة بواسطتها أن تحقق أهدافها في أن تكون بحق كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله وتعلي كلمته في الأرض، وتنقذ البشرية من التيه والضياع إلى صراط الله المستقيم.
ولن يتحقق هذا المنهج التربوي لبناء الإنسان العربي، والمجتمع العربي الصالح إلا باتباع ما يأتي:
(1) أن تكون مواصفات الإنسان العربي الصالح هي مواصفات الكتاب والسنة للمسلم: من الإيمان بالله وتقواه، والدعوة إلى دينه والالتزام بشريعته، والجهاد في سبيله بكل أنواع الجهاد نفساً وكلمة ومالاً وسيفاً، والذي يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، والذي يتخلق بكل الأخلاق الطيبة التي يحبها الله ويرضاها والذي هو بحق غاية الوجود والذي من أجله خلقت السماوات والأرض: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.. [لزوال السموات والأرض أهون عند الله من إراقة دم عبد مؤمن].
(2) أن تكون مواصفات المجتمع العربي المسلم الذي نسعى إلى تحقيقه في واقع الأمر هو المجتمع القائم على دعوة التوحيد ورسالة الإسلام متآخياً في الدين، متحاباً في الله ساعياً لنشر رسالة الإسلام في الأرض، وتحقيقه في الكون؛ يمتلك القوة بكل معانيها معتزاً بدينه وتاريخه وتراثه، لا يعيش على معونات أو هبات من أعدائه، مستقلاً استقلالاً حقيقياً مستغنياً بالهداية التي هداه الله بها، منفتحاً على العالم كله، مستبصراً في النقل عن الآخرين مجاهداً في سبيل الله. محققاً السعادة الحقيقية لكل من يعيش في ظلاله.
(3) ستبقى هذه الأهداف مجرد أمان وطموحات ما لم توضع موضع التنفيذ بدءاً بالسياسات العليا للدول العربية، ومروراً بكل الجهات التربوية والإعلامية والتنفيذية.
(4) كل الدعوات التي تدعو لفصل العرب عن الإسلام ستبوء بالفشل وبالتالي فكل الأموال والجهود التي تبذل في هذا السبيل ستذهب من مال الأمة هدراً، ولن يستفيد الساعون لذلك إلا مزيداً من هدر الجهود والأوقات وتعطيلاً مؤقتاً لمسيرة الأمة بهذا الدين.
فالدعوة إلى أن يكون التعليم والتربية عربياً غير إسلامي إنما هي محاولة إحياء جسد بلا روح، وحضارة بلا تقوى وأخلاق، وقد جرب هذا مراراً فكانت حصيلته مزيداً من الخسار والدمار. والدعوة إلى أن يكون التعليم والتربية في الوطن العربي الإسلامي إنسانياً دون انتماء عربي وإسلامي إنما هي دعوة إلى تغريب الأمة وتضيعها وتوهنها وبالتالي لتصبح الأمة وأبناؤها فريسة لكل أصحاب الأفكار والمبادئ الهدامة، ونهباً مشاعاً لكل من أراد تجنيد هذه الأمة في سبيل أهدافه الخبيثة ومآربه الشريرة، بل تجنيد أبناء الأمة أنفسهم لهدم أمتهم وعقيدتهم وتراثهم.. الذي به قوتهم ووحدتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة.
(5) لن يستقيم حال الأمة ما لم يوضع المعلم والمربي في منزلته الحقيقية على رأس السلم الوظيفي، وما لم يطهر الجهاز التربوي والتعليمي من الذين وضعتهم الظروف السيئة والترتيب السيء في هذه المهمة وما لم يكن اختيارنا للمدرس والمربي اختياراً سليماً وفق معايير الأهداف التي نرمي إلى تحقيقها.
هذا والحمد لله أولاً وأخيراً،،،
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/86300