المجتمع السعودي الأصول الثقافية لنظرية المعرفة

بقلم: علي الشدوي

لو أننا فتّشنا في الدراسات التي صدرت عن المجتمع السعودي لما وجدنا دراسة تحلّل تصوراته من زاوية نظرية المعرفة أستعين بها في هذه الأفكار التمهيدية؛ لذلك سأبدأ وأنا أدرك ما في البدايات من تعثر؛ لذلك سأكتفي بأن أوجّه المشكلة إلى قسم من الفلسفة يُسمى نظرية المعرفة.
وحتى توجيه كهذا سيبقى مجرد فرضية أولية. ربما تكون فرضيتي قاصرة وغير مقبولة، لكن الفرضيات القاصرة وغير المقبولة – كما يقول شتراوس - تستثير بناء على قصورها همم النقد والبحث التي تكفل ذات يوم بتجاوزها وتخطيها، وهو ما آمله من مدخلتكم على هذه الأفكار.
تتكون الورقة من ثلاثة أجزاء. يبدأ الجزء الأول بالإشارة إلى نظرية المعرفة التي قادت العصر الحديث في أوربا، لكن اهتمامي بها سيكون مجملا؛ ذلك أنني سأشير إلى المشروع ( مشروع بيكون) الذي تبنى نظرية المعرفة في تلك في المجتمعات الغربية. ولا أهدف من هذه الإشارة المجملة إلا من أجل أن أقارنه بالمشروع ( المشروع الوهابي ) الذي قاد المجتمع السعودي ونظريته في المعرفة.
يبدأ الجزء الثاني بسبب محتمل لنشوء كل من الفلسفة والدين واقتراح كل منهما نظرية في المعرفة تختلف عن الأخرى إن لم أقل تناقض الأخرى. ويبقى الهدف من هذا الجزء هو المقارنة غير المباشرة بين تصورين للطبيعة والكون والحياة. ثم يأتي الجزء الثالث ليعرّف بنظرية المعرفة التي جاء بها الدين، ويمثله الإسلام وتجليات نظريته المتعلقة بالمعرفة في المجتمع السعودي.




وعلى أي حال يمكن أن يكون كل جزء من هذه الأجزاء ورقة كاملة لا تحتاج إلى الأخرى، لكنّ هناك رابطا بينها وإني لأرجو أن يتحلى القارئ بالصبر لأن الرابط لن يتضح إلا بعد الانتهاء من القراءة . وقد نبّهت على هذا هنا لكي أرسم للقارئ إطارا عاما لسير أفكار هذه الورقة واتجاهها.
1
رأى ساغاستي - أحد رؤساء التخطيط الاستراتيجي في البنك العالمي، ولجنة المستشارين في العلم والتكنولوجيا من أجل التنمية في الأمم المتحدة - أن برنامج فرنسيس بيكون الذي قاد الغرب على مدى أربعمائة عام قد انتهى، وأن الحاجة ملحة إلى برنامج آخر.
تتمثل الخصائص الرئيسة لبرنامج بيكون - الذي سطره في كتابه المعروف جيدا الأورجانون (القانون) الجديد – في إرشادات في تفسير الطبيعة في الطريقة والغاية والوسائل، أُضيف إليها فيما بعد خاصيتان أخريان هما: التقدم البشري غير المحدود، ومكانة الإنسان المركزية.
شرح ساغاستي في مقالته طريقة بيكون العلمية الناجعة لإنتاج المعرفة؛ فالغاية من المعلومات التي تُجمع - بطريقة بيكون – تُستخدم في تحسين ظروف الكائن الإنساني وحياته. أما الوسائل اللازمة لتنفيذ برنامج بيكون فهي المؤسسات العلمية المدعومة من طرف الدولة.
لكي ينجح البرنامج دعا بيكون إلى تدمير الأوهام التي تحدق بالعقل البشري، وتقيم العقبات في طريق المعرفة الحقيقية. وأيا كان ترجمتها في العربية ( أوهام أو أوثان أو أصنام ) فإن المقصود منها هو الأخطاء التي يجب محاربتها بطريقة بيكون التي تتصدى لإمكانية الوقوع في الخطأ.




عدد بيكون أربعة أوهام : الوهم الأول هو أوهام القبيلة؛ أي الأوهام التي تأتي من انتماء الإنسان إلى الجنس البشري وما يترتب عليه من استحسان ما ورثه من عقائد نتجت عن عدم تفتحه الذهني. وأوهام الكهف؛ أي المنظور الشخصي والتجربة الشخصية، والبلاهة الفردية التي تفضي إلى التحيز بدلا من أن ترتفع عنه. وأوهام السوق؛ أي ضحايا الكلمات، أو ما سمي حديثا بالشعارات التي تربط الكلمات بالأشياء وما يترتب على هذا من تضليل. وأوهام المسرح؛ أي خطأ المذاهب؛ ذلك أن مؤسسوها بنوا بناء ضخما من لا شيء، وأغلقوا أتباعهم داخل هذا البناء الخرافي.
لقد ترتب على هذا المشروع أن تخلى الإنسان عن التفسير التاريخي المرتبط بالآلهة المقدسة، وأحل محلها الإنسان يستطيع أن يعبر عن فكرته في التاريخ بما فيها السعادة في الحياة الدنيا، والتاريخ من حيث هو عملية مستمرة ومتواصلة لبلوغ السعادة الأرضية؛ فالتاريخ أولا وأخيرا هو بشري.
نجح برنامج بيكون إلى حد لا يماثله برنامج آخر، لكن نجاحه من وجهة نظر ساغاستي هو الذي سبب انهياره؛ ذلك أن كل خاصية من خصائصه الخمس طُعنت من قبل التقدم العلمي والتكنولوجي كفيزياء الجسيمات، والتكنولوجيا الإحيائية، والعقل الاصطناعي التي أعادت النظر في كل خصائص برنامج بيكون مبدّدة أفكاره عن وجود واقع يتفاعل معه الإنسان، وعدم توقف التقدم البشري، والطابع الفريد لفكر البشر إلى حد أنه لم يعد برنامجا وظيفيا.
إن قواعد بيكون بسيطة. اختبر أفكارك بالتجربة والملاحظة، ثم ابن على الأفكار التي نجحت في الاختبار وتخلّ عن تلك التي فشلت.اتبع الدليل أينما قادك. شكك في كل شيء. أنت طريقة الكون لكي يعرف نفسه. احذر. لست وحدك أنت مَن تملك الحقيقة. عليك أن تعلم أن مشروع العلم تعاوني يمتد عبر الأجيال. اقبل هذه الشروط البسيطة وتملك الكون.
***
احتك العرب بمشروع بيكون أول مرة عام ( 1798 ) وهو عام الحملة الفرنسية على مصر. وهو الاحتكاك الذي نعرف أثره في نشوء الثقافة العربية الحديثة ؛ حيث أجرى العرب على أنفسهم تحولا عُرف بمرحلة النهضة، ثاروا فيه على الكيفية التي كانوا عليها في القرون الوسطى .
آنذاك كان المثَل المثير لإعجاب العرب هو الغرب ومشروعه البيكوني، ولهذا أرادوا أن يشكلوا ذواتهم حسب كيفية وجود الأوروبيين. وما اعتبروه أساسيا هو مشروعهم العلمي الذي توقعوا أن يحررهم من عاداتهم وتقاليدهم وخرافاتهم مثلما حرر الأوربيين فوصلوا إلى ما وصلوا إليه آنذاك.
استنادا إلى ما نعرفه الآن من أثر تلك الحملة في ثقافة العالم العربي، وإلى ما نعرفه من أن تلك الحملة ثمرة من ثمرات مشروع بيكون العلمي، أستطيع أن أقول: وُلد سؤال النهضة العربية من مشروع بيكون العلمي . وهو المشروع الذي كان وراء انبعاث الفكر العربي الحديث. ومن غير أن أتوقف عند بدايات اليقظة العربية، وتبلور أهدافها الوطنية والقومية والاقتصادية والثقافية كما نعرفها الآن، سأنتقل إلى تجربة عربية مميزة نتجت عن الاحتكاك بمشروع بيكون العلمي.
يمكن أن أسمي هذه التجربة التاريخية بمرحلة العباقرة في الدين والعلم والشعر والقصة والرواية والمسرح والموسيقى والغناء والسياسة والاقتصاد. سأمثّل هنا باسم واحد لكي أشير إلى المجالات الفكرية والعلمية والجمالية كالإمام محمد عبده في تجديد الدين، و الشاعر أحمد شوقي، والقاص محمود تيمور، والأديب طه حسين والمفكر أحمد لطفي السيد، والاقتصادي طلعت حرب، والممثل نجيب الريحاني، والملحن سيد درويش، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والمغنية أم كلثوم .
عاش العرب مع هؤلاء العباقرة وبهم تجربة تحديثية رائدة تكمن في القدرة على إسعاد الإنسان العربي في أي مكان . كان السؤال الذي طُرح آنذاك ومسّ العالم العربي كلّه هو: أين تتجلى سعادة الإنسان العربي بما أن لا معنى لها إلا على مستوى الحياة البشرية ؟ في شعور الناس بالرضا الذي يحسون به نحو الحياة الدنيا ، في تمنياتهم ورغباتهم ومشاريعهم التي يخططون لها .
إن من بين التغييرات التي حدثت آنذاك في المجتمع العربي بهدف السعادة لا شيء يكتسي أهمية كبرى مثل الدعوة إلى تحديث المجتمع العربي في كل بناه السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية ، وفي مشاريع جزئية أو شاملة ، جذرية أو إصلاحية طبعت تلك المرحلة البديعة ؛ حيث التجديد أساسا لترسيخ قيم علمية أو فكرية جمالية. وما زلنا إلى الآن نستمتع بفرح تلك المرحلة التاريخية الفريدة وسعادتها ونحن نقرأ شعرها ونثرها، ونشاهد أفلامها، ونستمع إلى ألحانها وغنائها، ونعود إلى أفكارها لنحاول أن نتغلب على وضع ناقص في زمننا الحاضر.
***
قبل سبع سنوات من الحملة الفرنسية على مصر توفي الشيخ محمد بن عبدالوهاب ( (1791 مؤسس المشروع الديني الأكثر تأثيرا في عصر العرب الحديث؛ لأن كل مشروع في العالم العربي جاء لاحقا له - سواء أكان مشروعا علميا أو مشروعا دينيا - جاء إما تأثرا به أو ردا عليه .
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعاش ومات بين عامي (1703 -1791 ) و ازدهرت أفكاره التي تبلورت في مشروع ديني وسياسي بعد أن تحالف مع أمير الدرعية( 1744 ) وهو التحالف الذي تشكل بعده ما عرف بالدولة السعودية الأولى. وقد عُرف هذا المشروع الديني الذي نشأ في مجتمع نجد وانتشر خارجه بالسلفية التي أصبحت فيما بعد عنوانا على المجتمع السعودي.
حوّل هذا التحالف بين التنظيم وبين الأيديولوجيا المجتمع السعودي إلى مجتمع ديني مقابل إخراجه من دخول محتمل في مشروع بيكون العلمي؛ إذ كان من الممكن أن يحافظ المجتمع السعودي على مشروع بيكون العلمي في المجتمع الحجازي المتأثر بمصر، وأن يعتنق المجتمع النجدي هذا المشروع بعد الحملات المصرية على نجد، وانهيار الدولة السعودية الأولى. 
وإذا كان علي أن أنحي هذا الاحتمال تاريخيا إلا أنني ذكرته لأنه ينبّه إلى الجدار الذي انبنى فعليا بين مشروعين؛ ذلك أن المجتمع السعودي تمثّل عصر الإسلام الأول ( الرسول والخلفاء ) ونظر إليه على أنه عصر لا يبلى ولا يفني؛ بحيث لا يبدو التاريخ إلا من حيث هو طريق للعودة إلى الوراء. ومن طرائف هذا المشروع الديني أن المشايخ النجديين السلفيين المتطرفين دعوا الناس إلى الهجرة من نجد إذا ما نجحت الحملة المصرية، وقد حدث حيث هاجر نجديون إلى العراق الشام.
قاد هذا البرنامج المجتمع السعودي. وتتمثل خصائصه الرئيسة في: تحدّد الحياة بالدين ، والدين في جوهره هو العقيدة ، والعقيدة يلزم أن تصفى وتنقى . التحكم في نشاطات الناس واختزالها في محاكاة الماضي، وبما أن الماضي لا يحضر إلا في النصوص، فالحقيقة ليست موجودة في الواقع ؛ إنما هي موجودة في النصوص. وعلى العكس من برنامج بيكون العلمي لا تتأتى المعرفة في المشروع الوهابي بملاحظة الواقع وتحليله وتصنيفه واكتشافه، إنما تتأتى من قراءة النصوص. ويلزم أن تخضع ثقافة المجتمع السعودي لمبدأ هيبة النصوص، والبرهان يستند إلى النصوص.
***
نجح هذا المشروع الديني في المساعدة على تكوين دولة؛ دُشن الطورالأول لأن التنظيم يحتاج إلى إيديولوجيا. ثم اُستعيد التدشين في الطور الثاني إلى أن امتلأ في في الطور الثالث . وفي كل هذه الأطوار لم يكن الدين في هذا المشروع مسألة شخصية ولا خصوصية فردية ؛ إنما جزء لا يتجزأ من الفضاء العام والخاص. أصبح نفوذ دولة، وطقوسا ممارسة، وعنصرا أساسيا من في السياسة.
فيما كان ذلك كذلك كشفت الوهابية حقيقتها وأخطارها حين طبقت فهمها للإسلام في ظروف مختلفة عن الظروف التي نشأت فيها. تبعا لذلك فإن عواقب الوهابية لم تتضح بشكل أفضل مما هو الآن، إلى حد أننا أصبحنا قادرين على دراستها بعد أن تضخمت صورتها.
من هذا المنظور لا أحتاج كثيرا من الجهد لأبرز معقولية السبب الذي يدفعني إلى أن أتصرّف في عبارة ماركس، وأن أعيد تحديد ملامحها لتشخّص مشكلة تختلف من حيث الإطار والجوهر والبعد التاريخي . إنه استشهاد مغاير تبعا لمشروع جديد يساهم الاستشهاد في تفسيره. وهو تعلّم يشير إلى الكيفية التي يمكن أن تخبرنا عبارة معيّنة عن تاريخ مجتمعنا السعودي أو تصفه.
يتعلق الأمر بالأيديولوجيا. فقد اصطنع البشر في المجتمع السعودي حتى الوقت الحاضر تصورات خاطئة عن أنفسهم، وعن ماهيتهم، وعما يجب أن يكونوه. ولقد نظموا أفكارهم وفقا لأفكارهم عن الله، والإنسان العادي إلخ.. ولقد كبرت منتوجات عقولهم هذه حتى هيمنت عليهم، فإذ هم الخالقون ينحون أمام مخلوقاتهم. ألا فلنحررْهم من الأوهام والأفكار والعقائد والكائنات الخيالية التي يرزحون تحت نيرها. ألا فلنتمردْ على حكم هذه الأفكار. ألا فلنعلمْ البشر أن يستبدلوا هذه الأوهام بأفكار تقابل ماهية الإنسان كما يقول أحدهم، وأن يتخذوا منها موقفا نقديا كما يقول آخر، وأن ينزعوها من رؤوسهم كما يقول ثالث، و-أن الواقع القائم سوف ينهار. لقد شكلت هذه الأوهام البريئة لب تفكير الفرد في المجتمع السعودي، وهي أوهام يستقبلها بهلع وخوف، ويقدمها له الدعاة والوعاظ والمذكرون بقناعة مخيفة ومهيبة معا.
على إثر مشروع الشيخ محمد بن عبدالوهاب الديني اعتقد المجتمع السعودي أن المعرفة أداة جاهزة يستخدمها في أي زمان ومكان من دون الحاجة إلى أن يفحص طبيعتها؛ لذلك لم يتخذ أي احتياط تجاه الوهم في المعرفة كأن يعرف المعرفة من حيث هي “سلاح في مواجهة الأخطار الوقوع في الخطأ والوهم اللذين لا يتوقفان عن التشويش على العقل الإنساني ( موران، ص 16 ).
والآن تبدو ضرورة أن يعرف المجتمع السعودي المعرفة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى لثلاثة أسباب رئيسة ترتبت على مشروع الوهابية الديني. الأول كون المجتمع السعودي يحرّم الفلسفة، والسبب الثاني كون المجتمع السعودي مجتمعا مؤدلجا، وما جعل منه كذلك هو أنه : يشدد على جانب واحد ( وجهة نظر أو وجهات )، ويثبّت الوضع المعطى للأشياء ويُمثْلن نفسه ( من المثال )، ويؤبْلس من يعارضه ( الخصم ). وأخيرا فإن نظرية المعرفة ليست من ثقافة الإنسان السعودي العامة فإذا ما كان من واجبه أن يقرأ في الدين وعلومه والتاريخ إلا أنه غير مهتم بالقراءة في نظرية المعرفة، وإني لأذهب أنه من المهم جدا أن يقرأ – إن لم أقل يدرس- ولو النزر اليسير من المصادر الأساسية لنظرية المعرفة.
2
كيف حدث هذا؟ ما الآفاق التي تشكل من خلالها؟ إن البشر لا يثيرون المسائل إلا بالقدر الذي يستطيعون حلها. يشرح تيري إيجلتون عبارة ماركس هذه قائلا” ربما إذا كان لدينا العتاد المفاهيمي اللازم لطرح السؤال يكون لدينا مبدئيا الوسيلة لتحديد الإجابة.
إذا بدأت النقاش بالمرحلة التاريخية التي تسبق البعثة المحمدية فإن أفضل ما يعبر عن حالة الإنسان فيها أبيات لشاعر هو دُويْد بن زيد الحمْيري. سأكتفي هنا بالموجز الذي جمعه أدونيس عن هذا الشاعر الغريب. فدُويْد بن زيد الحميري شاعر قديم لا يعرف تاريخ موته. وهو من المعمّرين. ويروَى أنه قال لأبنائه وهو على فراش الموت “أوصيكم بالناس شرا”.
غير أن الأبيات التي قالها حين موته عمّرت أكثر بكثير مما عمّر هو:
اليوم يُبْنى لدويْد بيتُــــــــــــهُ
يا رب نَهْب صالح حويـــــتُـــــه ُ
ورب قِرْن بطل أرديــــــــتــــــــــــه
ومِعْصم مخضب ثنيتـــــــــــــــه
لو كان للدّهر بِلى أبليتـــــه
أو كان قِرْني واحدا كفيْته
البيت القبر. والنهْب الغارة وربما الطعن أو المرض. والقرْن الشبيه في الشدة والشجاعة والقتال. والمعصم موضع السوار من اليد، وربما اليد. والدهر مدة الحياة الدنيا كلها. أمام هذه يمكن لدويد أن يفعل ( يحوي، يردي، يثني، يبلي، يكفي ) إلا أن أفعالا كهذه لا تنفع مع الموت. 
تبدو الأبيات خطابية أكثر مما هي أبيات شعرية، ولابد من أن سببا غير الشعرية دفع العرب الأوائل إلى أن يحفظوها ويتناقلوها. وأقرب الأسباب عندي هو أنها تتعلق بوضعهم الوجودي الذي يعيده أدونيس إلى “حس الدهر” الذي يأخذ كل شيء ويغير كل شيء .
لكنني لو نوعت زاوية النظر فستُظهر الأبيات انهيار طموح البشر إلى الخلود . في هذا السياق لا ينبغي أن نهمل ما يمكن أن ينبئنا به الاسم ( دُويد ) من حيث هو تصغير كلمة (دود) ودورة حياة الدود القصيرة جدا، وكون القبر هو أيضا بيت الدود في التراث العربي الإسلامي.
بدأت فكرة الخلود مع آدم. ورد في القرآن “ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ، وقد رغبهما ابليس في أن يأكلا من الشجرة:” ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ( ... ) و“يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (...) ولم يخف حبه لهما حين قال” إني لكما لمن الناصحين ( ... ).
ومن غير أن أتوقف عند مراحل نمو هذه القصة المعروفة في كل الأديان سأتوقف عند هذه الشجرة التي قيل أنها شجرة المعرفة؛ فحين أكلا منها أصبحا على معرفة بكل الأشياء؛ ولأن المعرفة بكل شيء هي التي تميز الإلهي عن البشري فقد حُكم عليهما بالموت. الخلاصة هي: “مع المعرفة جاء الموت وضرورة أن يعملا في شؤون حياتهما. فهما لم يعودا يستطيعان أن يعيشا في حاضر خالد لا تفكير فيه ولا قلق أمام ما يخفيه المستقبل من أشياء غير مؤكدة. وعندما طردهما من الجنة فقد دفع بهما إلى قلب الزمن. وبدلا من أن يجعلهما بلا موت فقد جعلهما تاريخيين أصحاب معرفة. ولا بد أن يظلا دائما في حالة تجول تشدهما إلى الأمام رؤية لمستقبل لا يستطيعان أن يختتماه، ولا أن يجعلاه حاضرا بينما يتبعهما بتغير معناه تغيرا دائما. لقد عاشا في الجنة في خلود ولكن في لا وعي، أما خارج الجنة فعليهما أن يعيشا بين التذكر والأمل.
الآلهة خالدة لأن معرفتها كاملة وما عداها يموت لأن معرفته ناقصة. يملك الموت وجوها يمكن الإحساس بها في الحياة التي تعج بالحيوية. يطلق فيري على هذا” مفارقة “؛ لأن عذاب الإنسان وتعاسته تكمن في أنه يدرك أن حياته قصيرة، وما يمضي منها لا يعود. ويستشهد بقصيدة لإدغار بو جسّد فيها عدم عودة الزمن بغراب يجثم على حافة نافذة يردد” أبدا لن يعود “.
***
أمام تهديد الموت والقلق مما يترتب عليه، هناك طريقان لكي يعيش البشر سعيدين. الطريق الأول هو طريق الفلسفة. ورد عن سقراط قوله قبل أن يتجرّع السم” إن أولئك الذين يوجهون أنفسهم في الطريق الصحيح إلى الفلسفة يعدّون ذلك مباشرة وبمحض إرادتهم؛ يعدّون أنفسهم لأن يموتوا وللموت. وإذا كان هذا صحيحا فهم إذن في الواقع يتطلعون إلى الموت طول حياتهم. ومن غير المعقول إذن أن يضطربوا عندما يقدم الشيء الذي كانوا لأمد طويل يعدون أنفسهم له ويتوقعونه (...) الفلاسفة الحقيقيون يجعلون الموت مهنة لهم .
يعلق جيمس. ب. كارس قائلا “نلاحظ أن الكلمة الأساسية في هذا القول السقراطي عن طبيعة الفلسفة هي كلمة” إعداد . يعدون “. والكلمة الإغريقية لها نفس معنى الإعداد والتدريب لحدث رياضي، أو التدريب والإعداد لعرض مسرحي. فهي إذن تعني الإعداد لحدث أخير ونهائي. ولا شك أن المرء إذا أحسن الإعداد والتدريب فإن الحديث الأخير لن يكون مخيفا. 
وقد ورد مثل هذا أو ما يشير إليه عند فلاسفة آخرين؛ فالتّفلسف هو تعلم الموت ( مونتاني ) والعاقل يموت أقل من المجنون ( سبينوزا ) والفلسفة طبابة النفس ( أبيقور ). وأشهر نصائح أبيكتات الرواقي هي : درّب نفسك على مقاومته ( الموت )، ولْتنزع كل كلماتك وكل دراساتك وكل قراءاتك إلى ذلك، وستدرك بأن هذا هو السبيل الوحيد لأبناء البشر لكي يصبحوا أحرارا.
أما برنامج لوكراس الفلسفي في قصيدته الذائعة” في طبيعة الأشياء “فيركز على الكيفية التي يتخلص بها البشر من خوفهم من نار جهنم. ويجب ألا يخشى البشر الموت أو يقلقوا منه” يجب علينا، قبل كل شيء، طرد وتدمير خوفنا من الآشيرون ( نهر في جهنم ) والذي بتغلغله في أعماق ذاتنا يسمم الحياة البشرية، ويلون كل شيء بسواد الموت حائلا دون بقاء أي لذة صافية رقراقة “.
***
الطريق الآخر إلى عدم الخوف من الموت هو طريق الإيمان. وهو طريق من الشهرة بحيث لا يحتاج إلى شرح . وسأكتفي هنا بأن أذكّر بنصائح الدين. أؤمنْ بالله يجعلك مطمئنا في الدنيا؛ ذلك أن الإيمان بالله هو وحده ما يجعلك مطمئنا تجاه الموت. وكما نقلنا أعلاه عن التدريب بالفلسفة على الموت كذلك يدرب الإسلام على الموت فـ” الحياة الدنيا ( في الإسلام ) للإنسان تعمل كوسيلة للتدريب يستعد فيها الإنسان إلى الانتقال النهائي من خلال الموت إلى مستقره في الدار الآخرة. ويأتي هذا الإعداد والتدريب من خلال الامتحان والاختبار في الحياة الدنيا، حيث يختبر الله العباد حتى يمحص معرفته بوظيفته كخليفة في الأرض.
إذا عمل الإنسان عملا يرضي الله فقد أعد الله “جنة عرضها كعرض السماء والأرض. تبدو الجنة في هذه الآية شكلا هندسيا ضخما يدفع الإنسان إلى أن يسأل عن القوانين التي يخضع لها. لا أحد من البشر يعرف؛ لأنه شكل مرتبط بما لا يوجد في عالمهم مما يستلزم منهم قفزة في التفكير. ما يعرفه البشر هو عالمهم ( عرض الأرض والسماء ).
صُعّد ما يعرفه البشر إلى ما يجب أن يفكروا فيه (الطول و العرض). وإذا كان عرض الجنة كعرض عالم البشر الذي يعرفونه فما بالك بطولها! بهذا يقفز تفكير البشر ليصلوا إلى حقيقة الجنة. لابد من أن يطول تفكير البشر لكي يستعيدوا وعيهم بوجود الجنة. وهكذا فإن إحدى وظائف الآية هي أن تزحزح الواقع الدنيوي لكي يستعد البشر للجنة حيث هي المقر الدائم.
زمن الجنة ليس كزمن الدنيا ولا مكانها كالدنيا. لذلك فحين ينطق البشر بكلمة الجنة فهم لا ينطقون سوى كلمة لا تمثل شيئا ولا تحيل إليه؛ فلا يقابلها زمان ( الآن ) ولا مكان ( هنا ) ولا جسم ( هذا ). ليست واقعية، وهناك ما هو أكثر لكي نغرق في لا واقعيتها. لنقرأ” والله إني لأتخايل دخول الجنة ودوام الإقامة فيها من غير مرض ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ؛ بل صحة دائمة، وأغراض متصلة لا يعتورها مغص. في نعيم متجدد في كل لحظة إلى زيادة لا تتناهى فأطيش، ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه.
إذا أراد الإنسان أن يدخل الجنة فعليه تخيل أنه دخل الجنة. هناك حيث لا وجود لتفصيل من تفاصيل حياة البشر الصغيرة كالبصاق. تفصيل صغير، لكنه يجعل البشر يشكون في أن يكونوا في مكان لا يبصقون فيه لولا أن هناك دليلا على هو الشرع، وضمان هو الوحي.
لا تُعرف هذه الجنة بالعقل؛ ذلك أن ليس من المعقول أن يكون هناك مكان لا يبصق فيه البشر. لأن البشر لا يبصقون في الجنة فهي تنتمي إلى ما فوق العقل. يهون كل ما يكون هناك؛ ألا تنام، ألا تمرض. أن تخْلد. لكن ألا تبصق فذلك هو ما يجعلك “تطيش”. والخلاصة هي “إذا وُصفت الأديان بأنها” عقائد الخلاص “بواسطة الآخر وبعون الله، فإننا قد نستطيع وصف كبريات الفلسفات بأنها”عقائد الخلاص" بواسطة الذات ودون عون من الله.
ماذا يعني هذا لموضوع يتعلق بنظرية المعرفة ؟ أن الفلسفة والدين نشآ أول مرة ليساعدا البشر على أن يقهروا مخاوفهم من الموت( الرغبة في الخلود ) وقد ترتب على الفلسفة والدين فهم ما هو موجود في الكون وطرائق معرفته، لاسيما طبيعة الكون، وأدوات المعرفة المتوفرة للإنسان.
هناك أسئلة تتعلق بالمعرفة ( ما المعرفة ؟ ) وأصل المعرفة ومصدرها ( بم أحصّل المعرفة ؟) وصحة المعرفة وحدودها ( هل يمكن تحصيل المعرفة ؟ ) ولأنني هنا غير معني بهذه الأسئلة من جهة الفلسفة إنما من جهة الدين فسأتوقف عند الإسلام في إجابته عن هذه الأسئلة. 
إن أول فكرة وأهمها في الإسلام هي فكرة التوحيد؛ أي إلها واحدا ( الله ) مكتفيا بذاته وغير محتاج إلى شيء من خارجه. ثم فكرة الخلق؛ فقد خلق الله الموجودات كلها من العدم. وإذا كان الله قد خلق الموجودات كلها فلابد من أن يكون لفعل الخلق غاية. والغاية من خلق الإنسان هي أن يعبد الله. وإذا عبد الإنسان الله حق عبادته فالدنيا ليست نهاية المطاف فهناك الجنة في الآخرة.

المصدر: http://www.alawan.org/article13999.html

 

سأكتفي بهذا الوصف التقريبي للأفكار الأساسية من وجهة نظر موضوعي، وما يثير الانتباه هو أن فكرة خلود الآلهة ( الله ) ما زالت سارية. ورد في القرآن الكريم ـ “كل نفس ذائقة الموت ( آل عمران، 185 ) و”كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ( الرحمن، 26،27 ) و “وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ( الأنبياء، 34) و” إنك ميت وإنهم لميتون“( الزمر، 30 ).

غير أن الموت المُشْكلة سيفضي إلى الخلود السعيد ( الجنة ) إذا ما استسلم الإنسان لله وأفرده بالطاعة والعبادة. وكما نلاحظ فقد تحول الخلود في الجنة إلى إغراء ؛ هناك حيث سيموت الموت. سأكتفي هنا بالحديث الذي يروى عن أبي سعيد قال: قال رسول الله” يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح- زاد أبو كريب فيوقف بين الجنة والنار، واتفقا في باقي الحديث- فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. قال: ثم قرأ رسول الله ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ) وأشار بيده إلى الدنيا.




لابد من أن يقترح هذا التصور الديني نظرية للمعرفة التي تتضمن وجهين: البنية الأساسية للعالم وأدوات المعرفة . وفي نظرية المعرفة التي اقترحها الإسلام خسرت العقلانية والتجريبية لصالح الإيمان. وما يهم موضوعي هو أن مصدر المعرفة الأساسي هو الوحي وليس العقل أو الحس. وما اُعتيد على قوله من أن المعجم اللغوي في القرآن يتضمن التعقّل والتفكّر والتأمّل في الطبيعة لا يحيل إلى العقلانية إنما يحيل إلى العقل الذي يخدم الإيمان.
نعت محمد عابد الجابري هذا النوع من العقل بالعقل الميتافيزيقي؛ ذلك أن الطبيعة من وجهة نظر هذا العقل يجب أن تعين العقل على أن يكتشف الله ويبيّن حقيقته، وهو ما ينطبق على العقل في الثقافة العربية الإسلامية الذي يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها.
حين يتأمل العقل الطبيعة ليصل إلى خالقها فاحتمالات الوقوع في الخطأ والوهم كبيرة مما يعني أن العقلانية تحولت إلى تبرير عقلي. وفي الواقع فإن “التبرير العقلاني يدعي العقلانية عندما يتصور أنه يبني نظاما منطقيا كاملا قائما على الاستنباط والاستقراء. والحال أن التبرير العقلاني يقوم على أسس مشوهة أو خاطئة ترفض الاختبار التجريبي.
العقلانية منفتحة بقدر ما هو التبرير العقلاني منغلق. وعلى الضد من التبرير العقلاني فالعقلانية أحسن حماية من الخطأ والوهم” ومع أن التبرير العقلاني يمتح نفس ما تمتح منه العقلانية، إلا أنه يشكل أحد أقوى منابع الخطأ والوهم. إن مذهبا يوظف نموذجا آليا وحتميا في قراءة العالم هو ليس مذهبا عقلانيا ولكنه يلجأ فقط إلى التبرير العقلي.
يعني العقل في العربية الحبس والمنع. تبعا لذلك سمي عقل الإنسان الذي فارق به الحيوان عقلا لأنه يعقله، أي يمنعه من التورط في الهلكة كما يقال العقال البعير عن ركوب رأسه: يعني هذا أن يستعمل الإنسان عقله في حدود؛ فـ “من العبث أن يستطلع العقل أصل الحياة أو نهايتها، ومن العبث ذلك لأن الله قد عيّن الأصل والنهاية على النحو الذي أراد، ثم إنه أوحى إلى رسله ما شاء لنا أن نعرف، ومن العبث أيضا بل من العصيان أن يحاول العقل معرفة غاية الحياة، فالله وحده هو الذي يعرفها، وعمل العقل الإنساني أن يبين للناس العلم الصادق الذي أطلعهم عليه الوحي، وأن يوفق بين الأحداث والوقائع المتنوعة المتنافرة المعلومة لهم بالخبرة العملية وبين النسق العقلي للعالم المسلم به من بالإيمان.
لا تظهر نظرية المعرفة في الإسلام بالدرجة الأولى في سؤال الشروط التي تجعل من الممكن قيام علم ديني فحسب؛ إنما في شكل أعمق من هذا هو أن على الفكر الإنساني كي يبلغ الحقيقة أن يستند إلى الوحي ، وعلى ذلك فإن نظرية المعرفة هذه تعني استبعاد العقل والحس معا.
***
حسب مفسّري هذه الآية” ألست بربكم؟ قالوا بلى“( الأعراف، 172 ). ليس مجازا حين استخرج الله من ظهر آدم ذريته كالذر، إنما هي حقيقة؛ حيث أشهدهم الله البشر على أنفسهم. وقد دلل البعض بهذه الآية على بطلان الفلاسفة الذين قالوا: إن أول ما يجب على الإنسان هو: النظر، أو القصد إلى النظر، أو الشك، أو ما أشبه ذلك .
غير أن الإنسان ينسى. وهنا لا ينبغي أن نستهين بما يمكن أن تنبئنا به كلمة النسيان ؛ لأن اللغة إنجاز سابق من الفكر. يورد ابن منظور أن النسيان ضد التذكّر. وأن آدم أُخذ بنسْيانه فهبط من الجنّة. وأن النَّسْي ما يغفل من الأشياء الحقيرة . 
رُتب على معنى النسيان اللغوي تعريف الإنسان؛ فقد سُمّي الإنسان إنسانا لأنه عُهِد إليه فنسي، (الطبري ) وذهبوا إلى أن النسيان هو أول بلاء ابتُلي به الإنسان على مستوى الفرد. وأكثر من ذلك جعلوا من النسيان شرطا بشريا، وعدم النسيان شرطا إلهيا وعلى هذه الخلفية فُهمت الآيتان الكريمتان”لا يضل ربي ولا ينسى ( طه، 52 ) و “وما كان ربك نسيا ( مريم، 64 ). 
لقد نقّب طه عبد الرحمن في كتابه”روح الدين“عن أصل التذكّر والنسيان فوجده في النور والظلمة ورتب على هذا الأصل أن حضور الذكر أفضل من ذهول النسيان، لا لشيء إلا لأن”نور الوجود خير من ظلمة العدم، والذكر وجود والنسيان عدم ؛ وأن وجود الإنسان العمودي (تذكّر ما يراه تبصّره لا بصره ) أوسع وجودا من جوده الأفقي ( تذكّر ما يراه بصره ) .
هناك درجات للنسيان يصوغ درجته الأعلى ( النسيان الأكبر ) بلغة الدين حيث أصاب هذا النسيان العالم والذي أرخ لحداثته نسيان مزدوج جعل الإنسان الأفقي لا يقدر خالقه حق قدره؛ إذ نسي كيف كان “التدبير” و“العبادة” يأتلفان في حياة الإنسان ائتلافا حيا.
كتب في كتابه آنف الذكر “فلا عجب أن يأخذ النسيان يتداعى(... ) فلا يعود ( الإنسان ) يذكُر أنه مخلوق، فضلا على أنه لم يُخلق عبثا، ولا حتى أنه إلى زوال محتوم إلى حين يأتي أجله على حين غرة. ويا ليته نسي ووقف عند حد نسيانه! بل إنه يمكر ليلا نهارا من أجل أن يرى غيره ينسى مثلما نسي، متوسلا بكل أدوات النسيان، ترغيبا وترهيبا، حتى أنه أضحى يُعلن، بغير حق ولا حياء، أنه لا يطيق أن يُذكر اسم الله ولا إجلاله ولا تكبيره في غير مجلسه، وإذا أحد سواه لم يبق في قلبه التفات إلى غير الله في سراء أو ضراء، فصدح بالتهليل والتكبير، متفانيا في حب ربه، ضج هذا الإنسان الناسي بالشكوى من تهديدات التطرف الديني، مناديا على الإنسانية بالويل والثبور وعظائم الأمور ما لم تحزم أمرها وتعلنها حربا لا هوادة فيها على هذا التطرف، كأن نسيانه حق لا باطل معه وخير لا ضرر فيه، وذكرُ غيره باطل لا حق فيه وشرّ لا نفع معه.
يوجد إنسان ينسى، ومن نسي فلا يجلّ اسم الله ولا يهلّل ولا يكبّر. وأكثر من هذا لا يريد الناسي أن يفعل أحد ذلك. في مقابل هذا الناسي يوجد الإنسان الذي يتذكر، يفعل هذا العكس يجل اسم الله ويهلل ويكبّر. وحين يفعل هذا فإن الناسي يدعو إلى حربه لأنه إنسان متطرّف.
***
على هذه الخلفية أعلاه فالنسيان قدر الإنسان الذي يألفه من غير أن يعرفه؛ ذلك أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي وقع ضحية نسيانه. تعريف الإنسان بالنسيان خطير؛ لأنه رؤية محدّدة قد لا يملك الإنسان التصرف حيالها؛ فالإنسان قد ينسى بسبب ظروف خارجية لا يقوى عليها كالصدمة النفسية وإصابات الدماغ والتهابه، واحتباس الدم ومرض الزهايمر. 
ما يجعله خطيرا هو أن الصراع البشري من وجهة تعريف الإنسان بالنسيان لا ينفصل عن تصوّر أن أحدا ينسى بينما يتذكر آخر. ومن يظن أنه تذكّر فقد امتلك الحقيقة وإن لم يشاركه الآخر في الحقيقة نفسها فيجب أن تفرَض عليه. لذلك من المهم أن نميز هنا بين الناسي الذي يتحول إلى وعاء، وبين الذي يتذكر معتقدا أنه امتلك الحقيقة ويجب أن ينقلها إلى الناسي.




الذين لا ينسون هم أهل الذكر. ورد في القرآن الكريم” وما أرسلنا من قلبك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( النحل، 43 ) وكُررت مع تعديل طفيف “وما أرسلنا قبلك .. ( الأنبياء، 7 ). وقيل في تفسيرها : أنها مديح لأهل العلم، وأن فيها دليلا على أن أعلى أنواع العلم هو العلم بكتاب الله، وهي نهْي عن سؤال الجاهل، ودليل على أن الاجتهاد ليس في كل الناس، لأن الأمر بسؤال العلماء دليل على أن هناك أقواماً فرضهم السؤال لا الاجتهاد، وهذا كما هو دلالة الشرع، فهو منطق العقل ـ أيضاً ـ إذ لا يتصور أحدٌ أن يكون جميع الناس مجتهدين.
لا يستخدم هؤلاء العقل إلا في ما يمكن أن يكون وراء ظاهر القرآن الكريم، وهكذا أمكن لهؤلاء أن يفسروه ويشرحوه. هؤلاء من الرجال ( نظرية معرفة ذكورية ) ؛ ذلك أن” علم القرآن ذكر لا يعلمه إلا الذكور من الرجال. كل علم منتزع من القرآن، ففيه علم الأولين والآخرين ومن أراد العلم “فلثوّر القرآن” بلفظ ابن مسعود.
يحتوي القرآن على ما نسيه الإنسان؛ لذلك يوصف القرآن بالذكر “إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ( ... ) ويسمى بالذكر” قد أنزل الله إليكم ذكرا ( .... ) . وقد قيل في معنى الذكر أنه ذكر من الله جل ذكرُه، ذكّر به عباده، فعرّفهم فيه حدوده وفرائضه، وسائر ما أودعه من حكمه.
إذا اتقى الإنسان الله علمه الله؛ ذلك أن التقوى هي “مفتاح الباب المقفل، لفهم القرآن المنزل” عنوان كتاب الحرالي الذي نقل عنه الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن “ولله تعالى مواهب، جعلها أصولا للمكاسب، فمن وهبه عقلا يسر عليه السبيل، ومن ركب فيه خُرْقا نقص ضبطه من التحصيل، ومن أيده تقوى الاستناد إليه في جميع أموره علّمه وفهّمه.
تشرح هذه العبارة قول الله تعالى” واتقوا الله يعلمكم الله ( البقرة، 282 ) وهي الآية التي فُسرت بأن تحقيق التقوى سبب الحصول على العلم النافع. وهي وعد من الله بأن من اتقاه علّمه؛ أي جعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه.
إن المعرفة هي الحفظ، والحفظ يرتبط بالإيمان
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال بأن العلـــــــــــم نـــــــــــــــــــــــــــور ونور الله لا يؤتى لعاصـــــــي
3
اتخذ تحليلي إلى الآن طابع التجريد، ولعل من المفيد أن أجعل التحليل ذا طابع مشخص أكثر والسبيل إلى هذا هو أن ألخص التحليل أعلاه في الأفكار التالية . الفكرة الأولى هي : أن هناك عالمين هما عالم الشهادة ( عالم الطبيعة ) وعالم الغيب ( عالم الميتافيزقيا ). الثانية هي أن معرفة هذين العالمين ( الشهادة والغيب ) تتبع المعرفة الإلهية . ورد في القرآن الكريم “سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ( البقرة، 32 ) و المعرفة من الله” علمك ما لم تكن تعلم ( النساء، 113 ). تتعلق الفكرة الثالثة بأن الوحي هو مصدر المعرفة بعالمي الشهادة والغيب. يترتب على هذه فكرة رابعة هي وجوب نقل مضمون الوحي إلى الآخرين، ووجوب أن ينقل هؤلاء ما وصل إليهم بصدق وأمانة .
انطلاقا من هذا الفهم فإن أول مصدر من مصادر المعرفة في الثقافة الإسلامية هو العيان. وفي ضوء هذا يمكن أن نفهم معجم القرآن اللغوي الذي يحيل إلى “العيان”و “الرؤية” البصرية وسأكتفي بالآية “لو اطّلعت عليهم لمُلئت منهم رعبا ( الكهف، آية 18 ) . يقول نخبة من العلماء في تفسير هذه الآية: لو أنك أيها الناظر رأيت أصحاب الكهف لأدبرت عنهم هاربا، ولمُلئت نفسك منهم فزعا، فليس من رأى كمن سمع. وهكذا يمثل العيان المصدر الأول للمعرفة في الثقافة.
إذا تعذر مصدر المعرفة الأول ( العيان ) حل الخبر مصدرا ثانيا من مصادر المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية. وما يهم في هذا المصدر هو الثقة التي تُعْطى للناقل. وفي مقدمة الثقات الله الجدير بالثقة فـ” من أصدق من الله حديثا ( النساء، 87 ) و “من أصدق من الله قيلا ( آل عمران، 122 ). القيل والقول واحد والمعنى لا أحد أصدق من الله في حديثه وخبره ووعده ووعيده.
ثم محمد الذي يقول عنه الله” ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ( النجم، 3-4) وقد قيل في تفسير هذه الآية: ليس كل كلام ينطق به النبي يكون وحيًا من عند الله، وإنما معناها أن النبي معصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله، بخلاف غيره من الكلام الذي يحتمل الاجتهاد.
جُمع العيان ( المشاهدة ) والخبر في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن الرسول أن الله قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ( البخاري ) وهو الحديث الذي يورد في سياق وصف الجنة؛ حيث يوجد فيها ما لم تره أعين ٌ من قبل ( العيان ) ولم تسمع به آذان من قبل ( الخبر ) ولم يخطر على قلوب البشر؛ أي ما لم ياتخيلوه.
***
كيف يكون الخيال مصدرا من مصادر المعرفة؟ في أن البشر لا يمكن أن يتخيلوا شيئا من دون أن يكون لهذا الشيء خلفية من واقع عاينوه أو سمعوا به؛ فالخيال لا يعني الابتكار ولا الخلق إنما يعني تحويل الأشكال الحسية إلى أشكال حسية أخرى. وهل يستطيع الخيال أن يضفي شكلا معينا على ما ليس له شكل في الواقع ( ديسويفسكي، 1984، جـ2/168 ).
إذا تعذّر العيان وتعذّر الخبر تأتي الكتابة. وسأدرج هنا نتيجة - تهم موضوعي - من النتائج التي توصل إليها الدكتور محمد سعيد ربيع الغامدي في تحليله حكايات الكتابة في تاريخ الثقافة العربية. فقد “تشَكّلَ في التراث العربي منظومة من المفاهيم وبعض العبارات والجمل الثقافية التي أمكن للدراسين تسويغ القول فيها بأنها وما يشبهها تنبثق من تصورات قارة للإنسان والكون، وأسهم في تشكلها أساس ثقافي ما. 
بالفعل هناك منظومة ثقافية عربية إسلامية يمكن تحديدها من خلال تعيينها وانتقائها المفاهيم؛ ومن حيث فرضها ومنعها، ومن حيث مراقبة العمليات المعرفية. يقع في قلب هذه المنظومة مفهوم جوهري هو النظام وهو بالمناسبة مفهوم يوافق التصورات الحتْمية كتصورالإسلام.
في هذا السياق يجب أن أشير إلى أن المنظومة المعرفية الكبرى في الإسلام كما صيغت في عصر التدوين قامت على الفرق بين العلوم الدنيوية والعلوم الدينية؛ حيث تحظى العلوم الدينية بالمرتبة العليا لأنها نتجت عن الوحي، وعينت هذه المنظومة مفاهيمها في النقل وليس في العقل.
لقد أُجيب في معرض تأسيس العلوم الدينية عن سؤال : ما المعرفة بأن وُجهت توجيها دينيا فالمعرفة هي معرفة الله وما يصدر عنه، وعن سؤال: بم أحصل المعرفة بأن حصرت أصل المعرفة في الوحي والنقل وفي سؤال: هل يمكن تحصيل المعرفة بأن شدّدت على أن صحة المعرفة تنبع من صدق قائلها وعدالته ودينه وأمانته وقد” وضع “علم لهذا هو علم الجرح والتعديل أو علم الرجال .




إن أهم ما ترتب على تأسيس العلوم الدينية هو عدم اهتمام العلماء العرب القدامى بوضع نظرية معرفة تتعلق بالعلوم الطبيعية إنما كرسوا جهودهم في وضع نظرية معرفة تتعلق بالعلوم الدينية. تتعلق هذه النظرية ببحثهم في إمكان المعرفة، والشروط التي تصير بها الأحكام ممكنة، وتحقق معرفتها من المصادر. بدؤوا في ذلك بعلوم الدين الإسلامي تحت عناوين مختلفة أكتفي هنا بذكر المشهور منها كتعارض العقل والنقل ( ابن تيمية ) و كتاب العلم ( الغزالي ).
***
هناك علامات كثيرة تكشف نظرية المعرفة المتعلقة بالعلوم الدينية في المجتمع السعودي . تتجلى هذه النظرية في أن المعرفة تتمحور حول النصوص وحفظها؛ أي استظهار المعرفة بشكلها الأصلي الذي وجدت عليه. يتبع هذا بطبيعة الحال نشوء جماعة ( طبقة ) تحترف حفظ النصوص (المعرفة ) وتضطلع بمهمة توضيحها للناس . تحتكر هذه الجماعة ( طبقة ) المعنى، وقد نتج عن هذا اللّبس الذي نعرفه لكلمتي عالم وعلم، وحلول البيئة الدينية بدلا من البيئة العلمية.
تحتاج هذه العلامات أن يعاد تحديدها في نتائجها المباشرة في الواقع؛ فالحقيقة ليست موجودة في الواقع إنما هي موجودة في النصوص، والمعرفة لا تتأتى بملاحظة الواقع وتصنيفه واكتشافه؛ إنما تتأتّى بقراءة النصوص، الانشغال بالمعاش زمن ضائع بالنسبة للمعرفة بالنصوص، وخضوع الواقع للنصوص وهيبتها، والبرهان الأقوى الذي يمكن أن يعرض هو الاستشهاد بالنصوص.
تحتاج هذه العلامات إلى أن تُكتشف في الواقع؛ فبدلا من أن يتبع المجتمع سياسة علمية بإنشاء مؤسسات علمية وتعليمية تدرب على العلوم الطبيعية يتبع سياسة دينية تجعل من الدين هو الهدف الأول للسياسات التربوية والتعليمية والثقافية حيث ينشئ مؤسسات تدرب على الدين.
أشاعت هذه المؤسسات التلقين ( الحفظ ). صحيح أن المحفوظ له دور في تحصيل المعرفة الجديدة ، لكن في غالب الأحيان يندمج بشكل تعسفي في البنية المعرفية للشخص من غير أن يتفاعل مع ما هو موجود لديه فعلا؛ لذلك فهو لا يؤدي إلى معرفة حقيقية ، إنما يظل معلومة سطحية.
من الممكن أن يعيد الإنسان ما يحفظه ، لكن في الوقت نفسه ربما لم يفهمه؛ ذلك أن الحفظ لا يجعل الإنسان يعرف بالمضمون الأكثر تعقيدا لكلمة ( يعرف ). وهو لا يناسب عملية بناء المعرفة الجديدة، لكنه مفيد في حالة الرغبة في تعلم ما يعتقد بأنه حقيقة في نظر شخص ما .
سهلت نظرية كهذه فكرة تقديس الدين ؛ أعني تقديس زمانِه، ومكانِه، ومدنِه، ورجالِه، ومؤسساته من توظيف الدين في إعطاء رجال الدين أفرادا ومؤسسات شرعية وقداسة تخولهم أن يتدخلوا في حياة الناس الاجتماعية بذريعة تمثيل الدين، وقد ترتب على ذلك أن برزت مفاهيم العصيان والعقاب والجزاء، والتمرد، والتكفير، مما يجعل من فكرة تقديس الدين ورموزه موضع سؤال .
بسبب نظرية كهذه يقبل المجتمع السعودي ما لا يُعقل كحدوث الكوارث الطبيعية، وشح المطر بسبب أعمال الناس. وأكثر من ذلك تساعد على أن يتقبل المجتمع السعودي مفهومي الاستبداد والعبودية المضادين لمفهوم الحرية؛ ذلك أن النصوص الدينية تفهم الحرية على أنها الضد للطاعة وبالتالي فالحرية على أنها عصيان وتمرّد، وهو المعنى الذي لا يفهم من كون الحرية مضادة للعبودية مما جعلها محركا من أكبر محركات التاريخ البشري .
لقد حللت في مكان آخر أن الدين كما يُفهم ويُطبق في المجتمع السعودية هو سبب الأزمة، والواقع أن جزءا كبيرا من هذه الأزمة يعود إلى نظرية المعرفة التي يقترحها الدين كما يًفهم؛ فالمعنى يُعطى، ولا يُبنى. وهو كامل ونهائي، ولا يُعترف بأن المعنى مؤقت ولا يعدو أن يكون تأويلا ، ونتاج عقل تعامل مع ما يقرأ في ضوء معارفه وتجاربه. وأن هناك قيما للمعرفة كالشك الذي يعارض قبول التفسيرات التقليدية ، ويقود الفرد إلى أن ينفر من قبول الأشياء كما هي مقررة من قبل. وأكثر من هذا تتحفظ هذه النظرية في المعرفة على حب الاستطلاع ( الفضول ) وتصنفه في إطار أخلاقي وديني يترتب عليه عقوبة، وتقترح أن يكون عمل المثقف اليومي يتركز على القراءة والتحدث، وليس الاستماع إلى الموسيقى، أو مشاهدة مسرحية، أو فيلم أو ممارسة الرقص ؛ و بهذه الكيفية تنشغل العقول بما يعتبره” نافعا " لا يضيع الوقت ؛ ولا يضعف روح الأمة وتذبل الهوية.
ما الحل إذن ؟ من وجهة النظر التي نتبناها في هذه الورقة فإن تعليم وتعلّم الفلسفة ضرورة ملحة لمعرفة المعرفة من حيث هي سلاح في مواجهة الأخطار الدائمة للوقوع في الخطأ والوهم اللذين لا يتوقفان عن بلبلة الذهن الإنساني وتشويشه.

المصدر: http://www.alawan.org/article14000.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك