الإنجيليات الجديدة واهتماماتها السياسية والاستراتيجية
سباستيان فات
يرتبط الإنجيليون بالبروتستانتية الحديثة(1)، حيث يشكلون الفصيل الغازي بين مجمل فصائل هذا الخط الديني. وضمن التقليد البروتستانتي، يرفضون فكرة الكنيسة-المؤسسة ذات الطابع القداسي، وينحون باتجاه تجميع المهتدين في حشد تبشيري حازم. ولكونهم يذهبون مذهبا بروتستانتيا في اعتقاداتهم، نجدهم يرفعون شعار الكتاب المقدس وحده هادياً ودليلاً -Sola Scriptura- باعتبار العهدين -القديم والجديد- "كلام الله" الحق وفق منظورهم العقدي. ومما يميز الإنجيليين تعويلهم الكبير على الفعل التبشيري(2)، وكمسيحيين يرنون إلى كسب أجنحة أكثر منه إلى مدّ جذور. وجراء الطموح التنصيري القوي بينهم والهم التبشيري الطاغي عليهم باتت الحركة الإنجيلية اليوم تضم أكثر من ثلثي البروتستانت المتواجدين في الساحة العالمية، ويُقدَّر بلوغ أعدادهم مع مطلع عام 2014 565 مليونا. لكن ما هوية هؤلاء المتحولين إلى هذه الحركة الإنجيلية؟ وما مدى الثقل الذي تمثله شبكاتهم العابرة للقارات في المسرح السياسي اليوم؟
كان منشأ الكنائس الإنجيلية في الفضاء الأوروبي، حيث تمثل حركة الإصلاح -إبان القرن السادس عشر- الرحم الرئيس الذي تولدت منه هذه الكنائس، كان ذلك مع حركة "الأناباتيزم" في القارة (وهم جماعات من المهتدين ينادون بالتعميد في سن الرشد)، وحركة "اللاامتثاليين" الإنجليز (وهم راديكاليون بروتستانت يقعون على هامش الكنيسة الأنجليكانية). وبشكل عام تطغى سمات التشظي وملامح اللامركزية على الإنجيليات الجديدة، مع مناداتها بمسيحية متمحورة حول "العلاقة الشخصية بالمسيح" أساسها الصفح، والإيمان، والتطلع "للبناء الجماعي"(3). يتعلق الأمر بعرض ديني فردي، متأسس على اختيارات ذاتية؛ لكنه حمّال لآثار اجتماعية جراء الدينامية النضالية والتبشيرية، وما تُرسّخه من أخوة انتقائية إنجيلية. مع ذلك يبقى الهدفُ المشتركُ التطلعَ إلى توسيع حيز مملكة الرب. لقد بقي الإنجيليون الأوائل هامشيين، وأحيانا عرضة للاضطهاد طيلة العصور الحديثة (القرن السادس عشر- القرن الثامن عشر)، وشيئاً فشيئاً اشتدّ عود هذه الإنجيلية مع موجات النهوض التي هزت التاريخ البروتستانتي، انطلاقاً من حركات الاهتداء، التقوية والحماسية، مثل حركتي المعمدانيين والتقويين (القرن السابع عشر)، وكذلك حركة الميتوديين -الصراطيين- (خلال القرن الثامن عشر)، والدربية (مذهب الإنجيلي جون نلسون دربي الرافض للإكليروس)، والإخوان لارج، وجيش الخلاص (خلال القرن التاسع عشر)، وأخيرا حركتا البنتكوتية (الخمسينية) والكاريزمية (خلال القرن العشرين).
تبدو الإنجيلية عبر تاريخها أقلّ ارتباطا بالمشاريع الاستعمارية للقوى الكبرى، مقارنة بدين الدولة، فقد عملت على حِدة، وسَعت جادة في تنشيط أشكال جمعوية طوعية. فعلى مدى تاريخ طويل مارست الإنجيلية تأثيرا سياسيا خافيا، عبر تكثيف الأنشطة في المجتمع المدني ومن خلال التستر على هويتها. اليوم تغيّرَ هذا المعطى، فخلال التاريخ الراهن برز الإنجيليون فاعلين ومؤثرين على الخارطة السياسية الدينية "بعد أن اقتحموا العالم"(4). وفي الأثناء تطورت هويتهم وفق خطين متوازيين.
فهناك حساسيتان تتقاسمان مغانم جماعة "الولادة مجددا"(born again). من ناحية نجد توجهاً بنتكوتياً (خمسينيا) وكاريزمياً، غالبا ما يلح على التدخلات الخارقة للروح القدس؛ ومن ناحية أخرى، نجد توجها تقوياً أورثوذكسيا، يثمن "المذهب الصائب"، وينادي بالاستقامة الفعلية (orthopraxie). الشكل الأول البنتكوتي والكاريزمي يلقى نجاحاً معتبراً اليوم بما يفوق غيره. وليست أمريكا الشمالية وحدها الأكثر بروزاً في هذا المجال،؛ بل إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا أيضا، فهذه الأصقاع تشهد احتداماً للتجربة الإنجيلية المتمحورة بالأساس على "تجليات الروح القدس". وحتى وإن بقي الكتاب المقدس مقروءا ومحور الرسالة التبشيرية -باعتباره الكلمة الهادية- فإن ذلك المقول البروتستانتي "وحده الكتاب المقدس هادٍ ودليلٌ" يمرّ بشكل عفوي إلى مستوى ثانوي أمام الفاعلية الواقعية أو المفترضة لكاريزما الراعي-النبي المفعمة بالإشفاء! والأنبيائية! والخلاص!
الثقل التاريخي للشبكات الأنجلوفونية:
وأيا كانت حركات بنتكوتية وكاريزمية، أو حركات متمحورة حول التقوية المستلهَمة من الكتاب المقدس، فغالباً ما تميزت الحركات الإنجيلية بغلبة الطابع الأنجلوسكسوني عليها. وبالفعل تتوارث الخارطة الإنجيلية اليوم ذلك الإرث التاريخي (انظر جدول الإحصاءات). لم ينته العم سام مع هذه الإنجيلية الدائمة الحضور في الحوارات، حتى إن باراك أوباما (مرشح الحزب الديمقراطي) ومِيت رومني (مرشح الحزب الجمهوري) لم يجدا محيصا من مواعدة الإنجيليين وإن كانوا أقلية، وذلك خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية سنة 2012. وتشكلُ المساندة القوية والوفية لإسرائيل من جانب الأمريكان صورة أخرى. حيث يغذي ثقل الحركة الإنجيلية في الولايات المتحدة حركةَ الصهيونية المسيحية التي تضم جمعا من الأنصار يناهز الأربعين مليونا، "فالمسيح يغدو يهوديا في أمريكا!"(5).
يبقى خط المحافظة هو الطابع المميز للإنجيلية، لكن في أمريكا تضم هذه الحركة جناحاً أصولياً يمثله بات روبرستون، المعروف بمزاجه الحاد ونزوعه المثير على الساحة الدولية (نادى باغتيال هوغو شافيز في أغسطس من عام 2005)، وإن بدت علامات الشيخوخة على هذا الزعيم فهو ما فتئ يحرص على الظهور في المنابر الإعلامية. فمنذ عام 1980 لاحظ الباحث ديني لاكورن أن "الحركة الإنجيلية غدت الشكل الأكثر تداولاً والأكثر رواجاً للبروتستانتية الأمريكية"(6). وعلى هذا النحو فهي حاملة لطابع مقاولاتي قادر على إغراء الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء. ومما لا ينبغي أن يكون مثاراً للدهشة أن عقب التقارب المشهود لجورج بوش الابن مع الإنجيليين، طلب باراك أوباما أيضا أثناء دورته الرئاسية الأولى من الراعي الإنجيلي ريك وارن -المشرف على كنيسة سادلباك العملاقة (megachurch)- إقامة قدّاس الافتتاح (20 سبتمبر 2009). ولم يتردد في دعوة مسؤولي الجمعية الوطنية للإنجيليين -National Association of Evangelicals (NAE)- إلى البيت الأبيض في الثاني عشر من أكتوبر 2012 لمناقشة مواضيع متعلقة بالمسائل الأخلاقية والهجرة والحرية الدينية، فهو يدرك قوة هذه الشبكات النضالية على المستوى العالمي، وما يمكن أن توفره من سند "للقوة الناعمة" الأمريكية في مجال تصدير الديمقراطية أو في مجال دعم الشركات الحرة، المعتمدة على جمعيات محلية فاعلة.
يلوح تأثير الإنجيلية البريطانية في الكنيسة الأنغليكانية قوياً ولافتاً (حيث يتجمع مجمل أفراد الطبقة الدنيا من الإكليروس)، كما تبقى فاعلة في أوروبا وفي دول الكومنويلث. نراها في إفريقيا الأنجلوفونية أيضا، لاسيما في جنوب السودان، الدولة الإفريقية الفتية، الناشئة في التاسع من يوليو 2011، حيث تلعب الكنيسة الأسقفية في السودان- التي لها ميولات إنجيلية- دوراً رئيساً في مسار بناء الدولة. على خلاف ذلك، يستند الإنجيليون في الأوقيانوس أيضا (سبعة ملايين من الأتباع) إلى ثقافة تبشير وإلى تراث لاهوتي وثقافي متوارث عن الصراطيين (الميتوديين) و"الطهريين الجدد" الأنغلوسكسونيين الذين يعودون إلى القرن التاسع عشر. أعمال "موسيقى مديح الرب" في كنيسة هيلسون العملاقة الأسترالية - megachurch- تشكل اليوم مادة للتصدير تسرّ السامعين، وتغري نقاط بيع الموسيقى في العديد من الأصقاع، فالإنجيلي النموذجي يظهر في صورة الرجل الأبيض المنتمي إلى الطبقة الوسطى، والناطق بلغة إنجليزية، والغيور على شهادته الإيمانية، فضلا عن روحه المفعمة بالقيم المحافظة التي يمكن أن تقوده -في بعض الحالات- إلى الالتزام السياسي النشيط.
الشبكات الإنجيلية الجديدة: جنوب-شمال وجنوب-جنوب
لكن هذه الصورة الثابتة لهذه الإنجيلية الأنجلوفونية هي صورة مختزلة، فالتوسع العالمي الذي يميز هذه الحراك المسيحي المعقَّد يتنزل منذ وقت داخل دينامية متعددة المراكز، أين يهيمن ثقل الولايات المتحدة، السائر بنيويا باتجاه الانحدار، وقد بات لا يفسر كل شيء. مع ذلك يبقى التأثير الأمريكي قوياً، فهذا المدّ يحفل بالأنبياء والنبيات أيضا، والحواريين، والمبشرين، والمرتلين الدينيين والدعاة، يشحذون بحماس أرواح سكان ضواحي كبريات المدن الأوروبية، وإن كان ذلك التأثير الأمريكي يشهد منذ أربعين سنة انحدارا مرتبطا بصعود الحركات الإنجيلية في الجنوب. واليوم لا يتأتى السواد الأعظم من المبشرين الإنجيليين الموزعين في العالم من الولايات المتحدة. فعلى خلاف ما حصل في السبعينيات، غدت لغات مثل اللنغالا (الكونغو) والفرنسية والبرتغالية تُستدعَى في مناشير الأنجلة وفي اجتماعات الإيقاظ الروحي، أين تحاذي طبلة الجامبي آلة السِنثسَيزر الموسيقية.
نشهد اليوم بلدانا صاعدة تغذي قسطا وافرا من أنشطة التبشير العالمي، مثل البرازيل (45 مليونا من الإنجيليين)، نيجيريا (45 مليونا)، كينيا (20 مليونا)، جمهورية الكونغو الديمقراطية (15 مليونا)، أثيوبيا (14 مليونا)، كوريا الجنوبية (10 ملايين). ينطبق الأمر نفسه على الصين حيث يرصد كثير من الخبراء تناميا إنجيليا، قد يتجاوز الستين مليونا من الأتباع، بما يساوي مجمل سكان فرنسا؟ فهذه التكتلات الجديدة للإنجيليين والمدفوعة بديناميات هجينة التكوين محلية، متأتية جراء تجمعات المهتدين وبفعل "المبشرّين الحفاة". حيث تجلب التكتلات الإنجيلية معها طقوسا، وأنماطا من التبشير، وتراتيل دينية، تشهد على إعادة تشكيل داخلي. حدث من السادس عشر إلى الخامس والعشرين من أكتوبر 2010 أن انعقد المؤتمر العالمي الأخير لأنجلة كيب تاون (جنوب إفريقيا)، المسمى "لوزان الثالث"، وقد أثيرت في ذلك المؤتمر المطالب الكبرى للحركات الإنجيلية في جنوب العالم، بدءا بما يشغل الكنائس الإفريقية. برز اللون الغالب للحركة الإنجيلية الجنوبية في التجمعات العامة، التي حضرها أكثر من أربعة آلاف ممثل قدموا من مختلف القارات.
واليوم لمتابعة هذا الصعود المتقدم من الجنوب لم تبق حاجة لعبور المتوسط، أو بلوغ مشارف المحيط الهندي. نرى ذلك في قلب القارة الأوروبية، عبر مئات الكنائس الكونغولية والغانية والكنائس الإثنية التي تسائل الضواحي السمراء لميلان وباريس وبروكسيل أو همبورغ(7). هذه الموجة الإنجيلية الجديدة لا تترسخ في غياب ما يمكن أن تثيره من توترات، أو تمييز طائفي، أو دون مظاهر التنافس، لا سيما مع الإسلام.
التنافس بين الإسلام والحركات الإنجيلية:
تشهد ثلاثة فضاءات هذا التنافس: جنوب شرق آسيا، وأوروبا، وإفريقيا. حيث تجوب التيارات السلفية، وجماعات الدعوة والتبليغ، وجحافل البنتكوتيين والإنجيليين، التجمعات السكنية بحثاً عن مهتدين جدد وعن متحمسين للدين. أوليست تلك مكونات نائمة "لصدام حضارات" منتظر؟ يمكن أن يحدث ذلك، لكن ليس بمنتهى اليقين. هناك خطوط توتر -كما هو الشأن في أندونيسيا أو في نيجيريا- ترسم مشهدا من الصراعات العنيفة، في حين في المغرب، أو في الجزائر، أو في إيران، هناك ريبة من التسرب الإنجيلي، رغم أنه لا يزال هامشيا، جراء ما يمكن أن يثيره من تهديد للوئام الديني الذي يخيم على المكان. فبين صنّاع حملات التبشير الإنجيلي، ثمة تركيز هائل مشوب بقلق ومدفوع بطموح قوي على النافذة المشهورة 10/40، هذا المفهوم الذي جرى نحته خلال عام 1990 لتحديد موقع المناطق ذات الأولوية في مشروع التبشير الإنجيلي، وهي المناطق الواقعة بين خطي العرض10° و40° شمال خط الاستواء. وعلى الساحة الإعلامية الدولية، بعض الوجوه المعزولة، لكنها خانقة، مثل الراعي تيري جونس في فلوريدا (الولايات المتحدة)، تلهب الأرواح بأنواع من التحريض السافر (حرق نسخ القرآن الكريم، دعم الأفلام التي تحرّض على كراهية المسلمين)، في الوقت الذي يدعو فيه بعض الأئمة -وبشكل علني- إلى قتل الناكصين نحو الحركات الإنجيلية. في نيجيريا لا نقدر عدد الكنائس التي أضرمت فيها النيران... الدراسة الميدانية للباحثة باربرا كوبر لفائدة مؤسسة إرسالية السودان الداخلية -Sudan Interior Mission- في منطقة الساحل (النيجر)، تصور بوضوح أوضاع التعايش الديني الهش، وما يشهده من تنافس محموم بهدف التحكم بمقدرات المجتمع المدني المحلي (المدارس والمؤسسات الصحية وشبكات الجمعيات الأهلية)(8).
الفوران الإنجيلي -لا سيما في الولايات المتحدة- لا يذكي فحسب منطق الصراع؛ بل يغذي -في جزء منه- أشكالا من العداء السافر ضد الإسلام، بما يبلغ في بعض الحالات مستويات جلية من الإسلاموفوبيا. الباحثة الأكاديمية فتيحة قواس -ضمن رسالة دكتوراه مميزة بعنوان: "النشاط التبشيري الإنجيلي في الشرق الأوسط"، أعدتها في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس(9) - تصف على سبيل الذكر عملية كانر، مؤجّج كره الإسلام. فقد لاقى الكاتب والأستاذ المحاضر أرغون ميكائيل كانر (من مواليد 1966) ترحيبا في الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما في أوساط الإنجيليين، عقب نشر مؤلفه المثير "كشْف حقيقة الإسلام"(10)، الذي بيع منه أكثر من مائتي ألف نسخة. يروي الكاتب عن مولده في تركيا وعن تحدره من عائلة مسلمة، فوالده كان مؤذنا شديد التزمت. تربى كانر في وسط يعادي الغرب، ثم تنصر بعد أن كان مجاهدا. كما يصرح كانر أن دين الإسلام يتضمن سوءا في جوهره، ما يمثل تهديدا مفتوحا لكافة أشكال الحرية. وقد لاقت هذه الأطروحة رواجا ولا تزال.
أثبت تحقيق مدقّق أن كانر قد زوّر مجمل ما أورده في سيرته الذاتية، واستخفّ بسامعيه وقرائه(11)، بعد أن وجد في الأوساط الإنجيلية آذانا مصغية وحظوة حالت دون اختبار ما سرد من وقائع، الأمر الذي منح صدى لأقواله، وبما أسهم في زيادة حدة العداء للإسلام، بعد أن عرضه كدين عدائي. في الوقت الذي وُلِد فيه كانر في ستوكهولم، وليس في تركيا، ولم ينشأ في وسط مشحون بالأجواء الجهادية، كما كان يجهل الإسلام تقريبا ولا يعرف اللغة العربية، واستطاع أن يغالط الأوساط التي يخاطبها، الأمر الذي دفع "جامعة الحرية" -Liberty University-، وهي من كبريات المؤسسات الأصولية في الولايات المتحدة، إلى تنحيته من منصب العمادة، بعد أن كلفته بذلك في مرحلة سابقة(12). وبالتعرض إلى هذه الحادثة المتعلقة بأرغون كانر، تعلّق فتيحة قواس على الحادثة بقولها: "من خلال تغذية الأوهام عبر التحاليل المنحازة والوقائع المختلَقة، أسهم هؤلاء الأشخاص في تأجيج المخاوف في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد زادت هذه الافتراءات من زعزعة السلم الاجتماعي، كما خلّفت لدى المسلمين إحساسا بالإهانة"(13).
يبرز هذا المثال الحي عمق الفوبيا التي تلف الإسلام، وهو دون شك ما يميز شقا واسعا من الحركة الإنجيلية في أمريكا الشمالية. فهي تتغذى في جانب منها من تعقدات مذهب التدبيرية الأمريكية وما يوليه من عناية لمقولات نهاية الأزمنة، وبالتالي بما يلتقي مع تأويلات التحدي الإسلامي. مع ذلك ينبغي التذكير أن واقع التنافس بين الحركة الإنجيلية والإسلام يبقى في مجمل الحالات سلميا. فالصراع ليس بواسطة الحروب، والتنافس لا يستدعي بالضرورة الكره المتبادل، والخصم ليس دائما عدوا لدودا. فالإنجيلي -على غرار المسلم- يموقع نفسه ضمن رؤية علوية توحيدية للعالم، وضمن توتر مشترك مع اللاإيمان، بدءا من الإنسان الأوروبي المستهلِك الذي يطغى عليه الطابع العلماني، ويُنظَر إليه بمثابة الغافل عن الله. ففي أندونيسيا، وفي إفريقيا في بلدان ما وراء الصحراء، وفي آسيا الوسطى، يحضر في هذا الفضاء الرحب شكلان من المعروضات الدينية، الإسلامية والإنجيلية، يلتقي المتنافسان كل يوم ويتعايشان بشكل سلمي في مجمل الحالات. لا يتقاسم الطرفان الاعتقادات نفسها، لكن كليهما يعرّف نفسه أنه مؤمن. ففي أوروبا -في أحضان القارة المعلمَنَة- يتموقع الإسلام والمسيحية كفاعلين ناشطين، ضمن أوضاع الأقلية، والأمثلة التي تبرز التنافس الذي يطغى عليه طابع الاحترام كثيرة. فمثلا في سويسرا، تثمل شبكة سويسرا الإنجيلية -Réseau Evangélique Suisse (RSE)- الهيئةَ التمثيليةَ الرئيسة للإنجيليين، كانت هذه الهيئة قد عبرت رسميا عن رفضها التصويت لصالح قانون يمنع تشييد الصوامع، وأعربت في بيان صادر باسم شبكة سويسرا الإنجيلية "رفضها الصريح التعبير عن هذه الانشغالات من خلال صياغة قاعدة خاصة تتعلق بطائفة دينية بعينها". ففي منظور شبكة سويسرا الإنجيلية لا يحل التصويت الرافض للصوامع بالأغلبية "أيا من المشاكل الفعلية"(14). وفي فرنسا الراعي الإنجيلي سعيد أوجيبو -مغربي الأصل ومن أصول مسلمة- يعمل جاهدا لتخفيف حدة التنافس بين الإسلام والحركة الإنجيلية عبر عقد الندوات والملتقيات بين الأديان، كما يحرص على تجميع أئمة مسلمين ورعاة إنجيليين حول طاولة مشتركة(15).
ذلك أن الصدام الجيوسياسي المزعوم بين الإسلام والحركات الإنجيلية هو نسبي. ولكن في الواقع أوَلا يخفي ذلك الصدام صداما آخر بعيد الغور؟ نترك التساؤل مفتوحا. لكن أوليس من المشروع التساؤل أيضا إن كان الصدام الحقيقي ناتجا في نهاية المطاف عن رؤية دينية للعالم، في مواجهة رؤية معلمَنة، تحيل الإيمان وتدفع بالورع إلى المتحف.
سوق الموسيقى والمنظمات غير الحكومية والكنائس العملاقة: أشكال اجتماعية مستجدة:
لا يتحدّد العرض الإنجيلي -وإن كان ينبني على اختزال للتجربة في علامة الإيمان بيسوع المسيح- في مجرد آلة باحثة عن التبشير الديني، فهذا العرض الإنجيلي له آثار اجتماعية وأنثروبولوجية، كما له حمولات ثقافية بعيدة المدى، حيث "موسيقى الغوسبل"(موسيقى الإنجيل) تشكل حقلا للملاحظة. فمنذ أن تمت دمقرطة الغناء الكورالي من قبل "ابن الإصلاح"(16)، غدت الموسيقى عنصرا مهما في الفعل الاجتماعي البروتستانتي، داخل المعابد وخارجها. والحركة الإنجيلية تندرج ضمن هذا السياق، فقد طوّرت -عبر غناء الغوسبل- طرق إنشاد متنوعة تتلاءم مع مختلف الفضاءات الاجتماعية. حيث انضاف إلى غوسبل أمريكا الشمالية -شيئا فشيئا- غوسبل أوروبا، فرنكوفوني الطابع، وبملامح إفريقية وعائدة إلى جزر الأنتيل أيضا. هذا التعبير الموسيقي يتآلف اليوم مع فرنكوفونية بروتستانتية (ذات أغلبية إنجيلية) تتشكل من أربعين مليون نفر وتصور أشكالا جديدة من الرفاه والموسيقى تتجاوز حدود الدولة... لا تخلو من آثار جيوسياسية: حفلات موسيقى الغوسبل الكامرونية والغابونية أو الكنغولية توفر بالفعل فضاءات للاحتجاج الاجتماعي والسياسي؛ من جانب آخر فقد استند لوران غباغبو في ساحل العاج -وإلى حين سقوطه سنة 2011- على عدد من المنشدين من أتباع الحركة الإنجيلية لتعزيز شرعية السلطة التي طالها الانتقاد.
كما يشكل التنامي المطرد للمنظمات غير الحكومية ذات التوجه الإنجيلي محورا آخر في التأثير العالمي للحركة الإنجيلية المعاصرة. فهناك منظمات غير حكومية غربية تتخطى حدود الدول، مثل رؤية العالم -World Vision- وسماريتان بورس -Samaritan Purse-، مترسخة في الولايات المتحدة، تلقي بكل ثقلها في رهانات التنمية، وتكثّف من المبادرات في مجال الاستثمار والأعمال مع الكنائس أو مع المنظمات غير الحكومية المحلية... وعبر وكالة التنمية العالمية الأمريكية -USAID- تستطيع حيازة مساندة عمومية جوهرية. تلك حالة سماريتان بورس (التي تفوق ميزانيتها ثلاثمائة مليون دولار سنويا) والتي أثارت جدلا واسعا في الولايات المتحدة في أعقاب عمليات إعادة بناء هايتي، على إثر الزلزال الذي ضرب المنطقة في يناير من عام 2010. ومما لا شك فيه أنه يبقى تأثير شمال أمريكا في مجال المنظمات غير الحكومية ذات التوجه الإنجيلي واضحا.
نجد خاصية أخرى تميزُ الشبكات الإنجيلية الحديثة تتمثلُ في مستوى التطور الذي بلغته الكنائس العملاقة megachurches، فهي فضاءات رحبة كفيلة باستيعاب أكثر من ألفين من الأتباع كل أسبوع، داخل مركّبات دينية توفر عروضا اجتماعية متنوعة وتسندها ميزانيات هائلة، وأحيانا تضم نوادي لكرة القدم من القسم الأول. الظاهرة قديمة في الولايات المتحدة، وهي تضرب بجذورها في "ميادين اللقاء" لليقظة الأمريكية الكبرى الثانية. فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين بدا تصاعد ظاهرة الكنائس العملاقة في أمريكا الشمالية صاعقا. من ست عشرة كنيسة عملاقة سنة 1970، مررنا في غضون خمس وعشرين سنة إلى أربعمائة في أواسط التسعينيات، وتجاوزت اليوم أكثر من ألف وأربعمائة. تبدو الظاهرة بارزة للعيان في كافة القارات، من الصين إلى البرازيل مرورا بجنوب إفريقيا وأكرانيا. في كياف سفارة الرب التي يبلغ عدد أتباعها عشرين ألف إنجيلي بقيادة الراعي النيجيري الكاريزمي صانداي أديلاجا، لعبت دورا فاعلا في الثورة البرتقالية.
تتنزل محاور التأثير الجديدة للحركات الإنجيلية ضمن سياق واسع كوسموبوليتي متعدد الأقطاب، أين تترسخ المجتمعات الأهلية التي لا تتوانى عن توظيف المادة الدينية. حيث تبقى المرجعية الإنجيلية، ومصادر التحريك، مصبوغة بطابع "القوة الناعمة" الأمريكية، لكن على أساس عبور متطور للشهادة متراوح بين العم سام (الإنجيلية الأنجلوفونية ذات اللون الأمريكي الغالب) والعم طوم: المستعمَر (العبد) في العهد السالف. "العم طوم"، وقد تم ترويضه وتنصيره عن طريق مبشري الشمال البروتستانت، وقد حاز الإمكانيات النضالية للإنجيلية. وسيلة في منتهى الأهمية من أجل "ثأر الجنوب" أو ملجأ خادعا نحو جنات افتراضية؟
الإحصاءات الإنجيلية الشاملة خلال عام 2013
(التي تشمل البنتكوتيين أيضا)
قرابة 565 مليونا يتوزعون في شتى أرجاء العالم
(من جملة ما يفوق المليارين من المسيحيين، وبما يفوق واحدا من أربعة مسيحيين)
القارة الآسيوية: قرابة 183 مليونا
الصين 60 مليونا
الهند 25 مليونا
أندونيسيا 15 مليونا
الفلبين 13 مليونا
كوريا الجنوبية 10 ملايين
القارة الإفريقية: 154 مليونا
نيجيريا 45 مليونا
كينيا 20 مليونا
جمهورية الكونغو الديمقراطية 15 مليونا
أثيوبيا 14 مليونا
جنوب إفريقيا 11 مليونا
أمريكا الجنوبية (أمريكا اللاتينية + الكراييب): قرابة 107 ملايين
البرازيل 45 مليونا
المكسيك 10 ملايين
غواتيمالا 5 ملايين
الأرجنتين 5 ملايين
أمريكا الشمالية: قرابة 96 مليونا
الولايات المتحدة 92 مليونا
كندا 3 ملايين
القارة الأوروبية: قرابة 20 مليونا
المملكة المتحدة 5 ملايين
روسيا مليونان
أكرانيا مليونان
رومانيا مليونان
ألمانيا مليونان
الأوقيانوس: قرابة 7 ملايين
أستراليا 3 ملايين
بابوا غينيا الجديدة مليونان
زيلندة الجديدة مليون
تم ضبط الأعداد اعتمادا على جملة من المعطيات متوفرة من الدراسات الديمغرافية الحديثة، كما تم تصويبها بالمقارنة مع المعلومات الديمغرافية المتوفرة سنة 2012 (الإحصاءات العامة الأخيرة أو الإحصاءات الجزئية).
تم إقرار الإحصاءات الواردة من قبل سباستيان فات، المركز القومي للأبحاث العلمية، فرنسا، 2013.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) راجع بشأن ذلك:
aolo Ricca, Storia del protestantesimo moderno, in: Storia del cristianesimo, vol. IV, Laterza, Roma-Bari, 1997.
2) انظر في هذا السياق:
S. Fath (dir.), Le protestantisme évangélique, un christianisme de conversion, (dir), Paris, Brépols, 2004.
3) . Christophe Pons (dir.), Jésus, moi et les autres. La construction collective d'une relation personnelle à Jésus dans les Églises évangéliques, Paris, CNRS éditions, 2013.
4) . "Les évangéliques à l'assaut du monde", Hérodote, 4e trimestre 2005, n°119.
5) . Célia Belin, Jésus est juif en Amérique: Droite évangélique et lobbies chrétiens pro-Israël, Paris, Fayard, 2011.
6) . Célia Belin, Jésus est juif en Amérique: Droite évangélique et lobbies chrétiens pro-Israël, Paris, Fayard, 2011.
7) . Voir Sandra Fancello et André Mary (dir.), Chrétiens africains en Europe. Prophétismes, pentecôtismes et politique des nations, Khartala, 2010.
8) . Barbara M. Cooper, Evangelical Christians in the Muslim Sahel, Bloomington, Indiana University Press, 2006.
9) . Fatiha Kaoues, «L’activité missionnaire évangélique au Moyen-Orient, Liban-Egypte (et évolution des relations islamo-chrétiennes)» Paris, thèse de doctorat EPHE/EHESS, 2013, sous la direction de Jean-Paul Willaime (EPHE) et de Farhad Khorsrokhavar (EHESS).
10) . Ergun Caner, Unveiling islam, An Insider's Look at Muslim Life and Beliefs, Kregel Publi, 2009 (première édition).
11) . Walid Zafar, "Ergun Caner, Ex-Muslim Evangelical Leader, Exposed As Fake", Huffington Post, 19 mai 2010.
12) . John W. Kennedy, Ergun Caner Out as Seminary Dean, Christianity Today online, 7 février 2010.
13) . Fatiha Kaoues, op. cit., p. 243.
14) . "Réaction au vote sur les minarets", Communiqué du Réseau Évangélique Suisse, Genève, 1er décembre 2009, consultable sur le site internet http://www2.each.ch/aer/news/
15) . Exemple: la "Conférence Internationale pour une Cohabitation Pacifique entre Christianisme et Islam" organisée à Paris (7-8 novembre 2013).
16) . Cf. Sébastien Fath, Les fils de la Réforme. Idées reçues sur les protestants, Paris, Le Cavalier Bleu, 2012.