صورة الآخر في فلسفة التربية الإسلامية
تحريم ابتدائهم بالسلام أو كراهته قول اجتهادي السلام تحية لأمتنا وأمان لأهل ذمتنا
د.أحمد علي الدغشي
وللإجابة عن السؤال في هذه الدراسة المتعلق بطبيعة النظرة إلى الآخر في فلسفة التربية الإسلامية، يرى الباحث أن ذلك يقتضي تحرير النزاع في هذا حول ثلاثة مباحث فرعية على النحو التالي:
المبحث الأول: حقوق الآخر.
المبحث الثاني: واجبات الآخر.
المبحث الثالث: صور من نمط التعايش الاجتماعي مع الآخر.
وهذا يقتضي بدوره تفصيل هذه المحاور على النحو التالي:
المبحث الأول: حقوق الآخر:
تأصيل نظري لحقوق الآخر:
لعل أبرز ما يوضح حقوق الآخر في الإسلام أو في ظل هيمنة الدولة الإسلامية على اعتبار أن من رعاياها (مواطنيها) المسلمين وغير المسلمين دستور دولة المدينة الذي نص في جانب الحقوق على ما حاصله:
إن اليهود في المدينة (وذكر أسماءهم وقبائلهم) أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يُوتغ (لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيته. وإن لهم جميعًا البر دون الإثم، وإن بينهم النصح والنصيحة، ولا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، ومن خرج آمن، ومن قعد آمن، إلا من ظلم وأثم. وإن الله جار لمن اتقى ومحمد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ(1).
لقد مثلت هذه الوثيقة: الأساس المتين لحقوق أهل الذمة ـ تحديدًاـ في الفكر السياسي الإسلامي والحقوق الطبيعية لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي، عبر مراحل التاريخ الإسلامي، أيًا ما شاب بعض حقبه من ملابسات وإشكالات، لا تشغب على المسار العام له.
ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أكد على ذلك المعنى الوارد في دستور دولة المدينة بوصيته الخلق من بعده وولاتهم بأهل الذمة خيرًا. ومن هذا ما ثبت عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا...»(2).
ومن منطلق هذه الرواية جاءت وصايا بعض الخلفاء الراشدين بأهل الذمة والوفاء لهم بعهدهم. فقد روى عمرو بن ميمون ـ رضي الله عنه ـ أن من آخر ما أوصى به عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوم وفاته الخليفة من بعده: «وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يُوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يُكلفوا إلا طاقتهم»(3)
وعن جويرية بن قدامة التميمي ـ رضي الله عنه ـ قال: «سمعت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: قلنا: أوصنا يا أمير المؤمنين، قال: أوصيكم بذمة الله، فإنه ذمة نبيكم ورزق عيالكم»(4).
وللمرء أن يتخيل موقفًا عصيبًا كموقف الاحتضار والوفاة لم يُنس رجلاً يحمل هموم الأمة كلها أن يتذكر غير المسلمين ـ وهم أقلية على غير دينه ـ من الاختصاص بوصية مميزة تبرز عظمة القائد المسؤول عن رعاياه أجمعين أيًا ما اختلفت أديانهم ومللهم. وعلى هذا بوب الإمام البخاري في صحيحه: «باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقُون»(5).
قال شارحه ابن حجر: «أي ولو نقضوا العهد»(6) وعده ابن حزم إجماعًا(7).
ويضرب الإمام الأوزاعي المثل الرائع في دفاع الفقهاء المسلمين عن الآخر الذمي مع اختلافهم معه في الدين، فيطالبون من الخلفاء والولاة التزام وصية رسول الله وخلفائه الراشدين فيهم. ومن ذلك أن الوالي العباسي صالح بن علي بن عبدالله كان أقدم على إجلاء قوم من أهل الذمة من جبل لبنان، فكتب إليه الإمام الأوزاعي منكرًا عليه فعله قائلاً: «وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئًا لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت. فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يُخرجوا من ديارهم وأموالهم وحكم الله تعالى: {أّلاَّ تّزٌرٍ $ّازٌرّةِ $ٌزًرّ أٍخًرّى"} (النجم: 38). وهو أحق ما وُقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ :«فإنه من ظلم معاهدًا وكلفه فوق طاقته، فأنا حجيجه» ثم ذكر كلامًا(8).
ولا غرو في ذلك فقد بلغ من اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالآخر الذمي أو المستأمن أن حرم على المسلم المتجاوز في حقوقهما ـ ولا سيما في الأنفس ـ حد تحريم اشتمام رائحة الجنة، فقال كما في رواية عبدالله بن عمرو: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا»(9).
وقد قال ابن حجر في معنى قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ:«من قتل نفسًا معاهدًا»:«والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية، أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم»(10).
وفي هذا تأكيد لتعدد وجوه أصحاب هذه الحقوق وإن اختلفت صور أوضاعهم القانونية أو مراكزهم الدينية ما داموا في حمى الدولة الإسلامية ورعايتها.
ومما يندرج في إطار حقوق أهل الذمة ـ بوصفهم أبرز من يمثل الآخر في فلسفة التربية الإسلامية ـ حفظ كنائسهم ومعابدهم القائمة لتبقى على حالها، بل يجب على الدولة الإسلامية حمايتها من أي يد معتدية.
ويؤكد جمهور الفقهاء على أن ما تهدم من كنائس الذميين يعاد بناؤه، وترميمه، وإن كانوا يفرقون بين بناء معابد أو كنائس جديدة في قرى أو أمصار المسلمين أو خارجها. فقد منعوها في الحالة الأولى، وأجازوها في الحالة الثانية، والعلة المنطقية واضحة لمن دقق النظر في الأمر، حيث إن عدم وجود كنائس إضافية في مكان المسلمين دليل على عدم الحاجة إليها، ولذلك فليس من مبرر لإحداثها، إذ إن مقياس الحاجة وعدمها هو أعدل المقاييس وأقومها لبيان حالات المنع والجواز. ويفسر هذا المعنى تقرير هؤلاء الفقهاء أنفسهم أن حربيين لو اعتدوا على منطقة من مناطق أهل الذمة فهدموا بعض كنائسهم فإن على ولي أمر المسلمين أن يصد هؤلاء الحربيين ويقاتلهم، وبعد الانتصار وتحرير المنطقة فإنه يجب على ولي الأمر إعادة كل ما تهدم من المعابد والكنائس وتشييدها من جديد.
إذًا، فليس المانع من إنشاء معابد أو كنائس جديدة في أمصار المسلمين وقراهم دينيًا، بمعنى أن ذلك المنع يحمل معاداة لدينهم، أو تضييقًا على حرياتهم ولكن لاعتبار الحاجة من عدمها ليس أكثر(11).
ومن حقوق الآخر الذمي كذلك عدم التعرض لطقوسهم وممارساتهم المخالفة لشرعتنا، ولكن دون مجاهرة منهم أو استعلان يستفز الأغلبية المسلمة. وفي هذا يقول ابن قدامة المقدسي «(ت: 630هـ)» وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه، فلأن كل ما اعتقدوا حله في دينهم مما لا أذى للمسلمين فيه من الكفر وشرب الخمر واتخاذه، ونكاح ذوات المحارم لا يجوز لنا التعرض لهم فيما التزمنا تركه، وما أظهروه من ذلك تعين إنكاره عليهم......»(12).
وذهب الإمامان أبو حنيفة ومالك إلى وجوب ضمان ما أتلف على الذمي من خمر وخنزير، قال أبو حنيفة: «إن كان مسلمًا بالقيمة، وإن كان ذميًا بالمثل لأن عقد الذمة إذا عصم عينًا قومها كنفس الآدمي، وقد عصم خمر الذمي بدليل أن المسلم يمنع من إتلافها، فيجب أن يقومها، ولأنها مال لهم يتمولونها بدليل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن عامله كتب إليه: «إن أهل الذمة يمرون بالعاشر ومعهم الخمور فكتب إليه عمر: ولُوهم بيعها، وخذوا منهم عشر ثمنها. وإذا كانت مالاً وجب ضمانها كسائر أموالهم»(13).
ولولا خشية الخروج بهذه الدراسة من هدفها الرئيس لأورد الباحث تفصيلات فقهية دقيقة ورائعة في حقوق الآخر متعددة الوجوه والمجالات.
وحاصل القول: إن للآخر الذمي ـ على وجه الخصوص ـ حقوقًا عديدة تتمثل في الحرية الشخصية، وما تتضمنه هذه الحرية من حق الانتقال والسفر، والإقامة في دار الإسلام، وحرمة مساكنهم، وحرية الرأي والاجتماع والتعلم، والعمل، وحماية الشخصية من الاعتداء عليها، وعدم القبض بغير حق، وحق التمتع بمرافق الدولة، وكفالة بيت المال، وقبل ذلك وبعده حرية الاعتقاد والعبادة(14).
المبحث الثاني: واجبات الآخر:
وإذا كانت القاعدة المنطقية المعروفة تقتضي بأن أية حقوق لفرد أو جماعة يقابلها منظومة واجبات، فإن حقوق الآخر الذمي ونحوه تعني قيام جملة من الواجبات عليهم وفقًا لتلك القاعدة.
ولقد نظمت وثيقة المدينة أو دستورها الواجبات الأساسية على غير المسلمين في المدينة في مقابل الحقوق الممنوحة لهم، ومما نصت عليه من واجبات(15).
إن اليهود ينفقون على المدينة مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن على اليهود نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ. ويوجز أحد أبرز الفقهاء المعاصرين واجبات أهل الذمة ـ مثلاً ـ على النحو التالي:(16).
ü أداء الواجبات المالية المقررة عليهم كالجزية والخراج والضريبة التجارية.
* التزام أحكام القانون الإسلامي في المعاملات المدنية وغيرها. أي التقيد بالتعاليم الإسلامية المطبقة على المسلمين فيما لا يمس عقائدهم وحريتهم المدنية.
*احترام شعائر المسلمين ومشاعرهم.
إن فلسفة التربية الإسلامية إذ تُقرر ما سبق فإنها تنطلق من منطلقين اثنين هما(17): المنطلق الاعتقادي وهو خاص بالمسلمين وحدهم، والمنطلق السياسي والقضائي وهما يشملان المسلمين وكل من دان لسلطان دولتهم، وتقدم لها بالولاء والبيعة، أيًا كان اعتقاده أو دينه.
وفي ضوء المنطلق الثاني فإن البيعة السياسية ـ لا الاعتقادية ـ لكل من يستظل بحماية الدولة الإسلامية دفعت الفقهاء إلى تقسيم الموقف من أهل الذمة في التزامهم بأحكام الشريعة الإسلامية من عدمه إلى حالتين بحسب القضايا والمواقف التي يقضي بشأنها، وذلك على النحو التالي(18):
الحالة الأولى: ويُلزم فيها أهل الذمة بالخضوع لبعض أحكام الشريعة الإسلامية دون بعضها الآخر على المستوى القضائي فقط. وذلك لاشتراكها مع المسلمين في الاعتراف بأن ذلك هو حكم الله في دينهم، أو لما لا يثبتون له حكمًا عندهم كحرمة القتل والسرقة والزنا والقذف وكثير من الأحكام المتعلقة بالأموال، وذلك منطلق عقد الذمة الذي يقضي بالتزامهم بما لا يتنافى وعقائدهم.
الحالة الثانية: وتشمل مسائل لا يُلزم أهل الذمة ومن في حكمهم فيها بشيء، وهم بالخيار فيها، فيمكن أن يحتكموا إلى القضاء الإسلامي، والقاضي بالخيار إن شاء حكم بينهم بحكم الإسلام، وإن شاء أعرض عنهم، وهم مخيرون بعد ذلك في إنفاذ الحكم أو عدم إنفاذه... وهذا قول جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية، غير أن هناك من الفقهاء من ذهب إلى تخيير الحاكم بين الحكم بينهم بشرع الله أو تركهم لما يتحاكمون إليه. وقد يستندون في ذلك إلى قول الحق ـ تعالى ـ {فّإن جّاءٍوكّ فّاحًكٍم بّيًنّهٍمً أّوً أّعًرٌضً عّنًهٍمً $ّإن تٍعًرٌضً عّنًهٍمً فّلّن يّضٍرٍَوكّ شّيًئْا $ّإنً حّكّمًتّ فّاحًكٍم بّيًنّهٍم بٌالًقٌسًطٌ إنَّ پلَّهّ يٍحٌبٍَ پًمٍقًسٌطٌينّ}( المائدة: 42).
كما أن من الفقهاء من ذهب إلى وجوب إنفاذهم الشريعة الإسلامية حال تحاكمهم إليها ابتداء، ولا يسعهم ساعتئذٍ سوى الخضوع والتنفيذ ما داموا قبلوا التحاكم من غير إكراه ابتداء.
المبحث الثالث: صور من نمط التعايش الاجتماعي مع الآخر:
إن الحديث عن نمط التعايش الاجتماعي مع الآخر في فلسفة التربية الإسلامية يمثل امتدادًا طبيعيًا لمحوري الحقوق والواجبات، حيث إن بعض صور هذا التعايش يندرج في إطار الحقوق، وبعضه يندرج في إطار الواجبات وإن غلب الأول عادة.
ويلاحظ أن نمط التعايش المقصود يسود الحياة الاجتماعية العامة التي يختلط فيها المسلمون بالآخر الذي يعيش ضمن مجتمعهم، أو أن المسلم يعيش في مجتمع الآخر. وهنا ثمة جملة من معالم التعايش الاجتماعي من أبرزها:
أولاً: إلقاء السلام على الآخر ورده: لما في ذلك من معاني المودة والإحسان وخلق السلام الاجتماعي بعد ذلك، وهو ما يمثل شرطًا أساسيًا لنيل الهدف الأسمى وهو دخول الجنة، مصداقًا لحديث النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما يرويه عنه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال:«لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم»(19).
وفي رواية أخرى «والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة......»(20).
ورغم ثبوت أقوال متشددة لبعض الفقهاء في كراهة أو تحريم ابتداء غير المسلم بالسلام وقد يستندون إلى حديث أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال:«لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه»(21). غير أن بعض الملابسات التاريخية تقف من وراء صدور أحكام كهذه، حيث غلب على اليهود ـ خصوصًا ـ طابع الكيد والتآمر واللؤم ضد المسلمين وقياداتهم، مع أنهم يعيشون في كنف دولتهم وسماحة دينهم. دليل هذا المعنى هو ما أفاده حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ إذ روت أن رهطًا من اليهود استأذن على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقالوا: السام عليكم، فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ «يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله»، قالت: «ألم تسمع ما قالوا؟» قال: قد قلت: «وعليكم »(22).
والحق أن بعض هذه الأحاديث تنزع من سياقها أحيانًا ويُستل منها حكم عام بعيدًا عن سبب ورودها والملابسات التاريخية التي رافقتها، فحديث «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام......» السابق ذو سبب خاص أشار إليه ابن قيم الجوزية (ت:751هـ) بعد أن أورده، حيث نقل عن بعضهم أن «هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريضة قال: «لا تبدؤوهم بالسلام» فهل هذا حكم عام لأهل الذمة؟ أم يختص بمن كانت حاله بمثل حال أولئك؟ هذا موضع نظر(23). ويؤيد ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن الجهني عن أبى بصرة أن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إني راكب غدًا إلى يهود، فمن انطلق منكم معي فلا تبدؤوهم بالسلام، فإن سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم»(24).
ويعتقد الباحث أن مثل هذا النص كافٍ لدفع النزاع وتحريره في هذه المسألة التي يمثل ظاهرها إشكالاً سببه الأخذ بظاهر بعض النصوص بمنأى عن جملة النصوص الأخرى في هذا الباب. ثم إن هذا الحديث الذي أوضح سبب الورود ينسجم مع بقية النصوص والآثار الداعية إلى البر بأهل الكتاب غير المحاربين والقسط معهم، وعدم جواز إيذائهم على أي نحو والتشديد في ذلك ـ كما سبق تقرير بعضه ـ، والحض على إفشاء السلام على عموم من يلقى المسلم، وإيجاب الرد على كل من سلم عليه. ولا يُلتفت إلى مفهوم أي نص جزئي ظاهري يشغب على هذه الأحكام المقررة اتفاقًا، المنسجمة مع مقاصد الدين وكلياته، بل ينبغي حمله على المعاني المقررة المتفق عليها في الجملة واعتباره خاصًا بأوضاع محددة ومناسبات بعينها.
وقد يقال إن الحديث «فاضطروهم إلى أضيق الطرق» محمول على إذا ما كان الطريق ضيقًا، وأراد اليهودي أو النصراني في ديار الإسلام اضطرار المسلم إلى أضيق الطريق، فلا يجوز السماح له، بذلك، بل يجب أن يضطره المسلم إلى أضيقه، إذ لا يعقل أن يقابل الضيف إكرام المضيف بقلب المائدة وتسفيه صاحبها، فكان الطبيعي أن يكون الجزاء من جنس العمل. وهو تأويل حسن لكن أحسن منه وأقوى دلالة ما أشار إليه الحديث السالف عن بني قريظة.
ثم إن القول بتحريم ابتدائهم بالسلام أو كراهيته مجرد قول اجتهادي لبعض الفقهاء وليس بأولى من الرأي الفقهي الآخر الذي يجد مستنداته فيما سبق، وقد قال به صحابة أجلاء وأئمة وفقهاء ليسوا أقل شأنًا من غيرهم، ومنهم ابن مسعود، وأبو أمامة، وأبو الدرداء، وابن عباس، وكان ابن مسعود يقول: «إنه حق الصحبة(25). أما أبو أمامة فأجاب من سأله عن ذلك قائلاً: «إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانًا لأهل ذمتنا». وروى في ذلك حديثًا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان يسلم على كل من لقيه(26).
وحمل أبو جعفر الطبري النهي الوارد في حديث مسلم السابق عن النهي في ابتداء أهل الكتاب بالسلام على إذا ما كان الابتداء لغير سبب ولا حاجة من حق صحبة، أو مجاورة، أو مكافأة ونحو ذلك(27)، أما ابن عيينة فأجاز ابتداء غير المسلم بالسلام استنادًا إلى قول الله تعالى:{ لا يّنًهّاكٍمٍ پلَّهٍ عّنٌ پَّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي پدٌٌَينٌ} (الممتحنة8)، وقول إبراهيم لأبيه:«سلام عليك»(28). وهذا رأي عمر بن عبد العزيز كذلك(29). كما هو قول علقمة والنخعي وإن قيداه بالحاجة والضرورة، كما حكى ذلك عنهما القاضي عياض(30).
وحمل القرطبي معنى قوله ـ عليه السلام ـ:«وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه» على معنى: «لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكرامًا لهم واحترامًا، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم، لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب»(31). أما ابن وهب فقال: «يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافرًا، واحتج بقوله تعالى ـ: {$ّقٍولٍوا لٌلنَّاسٌ حٍسًنْا}(32). ولخص الأوزاعي المسألة بقوله: «إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد تركوا»(33).
هذا في حق ابتدائهم بالسلام أما في الرد عليهم فالأمر غير متفق عليه كذلك بين الفقهاء، وبحسب الباحث الدوران مع جملة النصوص المحققة لمقاصد الشريعة من حيث البر بهم، والإقساط معهم، وعدم إيذائهم بأي صورة ما داموا مسالمين غير محاربين. ولعل في حديث عائشة المتقدم عن كيفية الرد عليهم ونهيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لها عن الزيادة على ما قالوا، حيث ورد في بعض الروايات: «لا تكوني فاحشة»(34)، ما يوضح أن السبب في ذلك إنما كانت طريقتهم الملتوية في إلقاء السلام. وعلى هذا قال ابن القيم في تعليقه على حديث عائشة هذا: «هذا كله إذا تحقق أنه قال: السام عليكم، أو شك فيما قال، فلو تحقق السامع أن الذمي قال له: سلام عليكم، فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له:«وعليك السلام»، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال تعالى: {$إذّا حٍيٌَيتٍم بٌتّحٌيَّةُ فّحّيٍَوا بٌأّحًسّنّ مٌنًهّا أّوً رٍدٍَوهّا} (النساء 86)، فندب إلى الفضل، وأوجب العدل. ولا ينافي هذا شيئًا من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إنما أمر بالاقتصار على قول «الراد: وعليكم» بناء على السبب المذكور، الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، وأشار إليه في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقال: «ألا ترينني قلت وعليكم» لما قالوا:«السام عليكم». ثم قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: «وعليكم» والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور، لا فيما يخالفه، قال تعالى: {أّلّمً تّرّ إلّى پَّذٌينّ نٍهٍوا عّنٌ پنَّجًوّى" ثٍمَّ يّعٍودٍونّ لٌمّا نٍهٍوا عّنًهٍ $ّيّتّنّاجّوًنّ بٌالإثًمٌ $ّالًعٍدًوّانٌ $ّمّعًصٌيّتٌ پرَّسٍولٌ $ّإذّا جّاءٍوكّ حّيَّوًكّ بٌمّا لّمً يٍحّيٌَكّ بٌهٌ پلَّهٍ $ّيّقٍولٍونّ فٌي أّنفٍسٌهٌمً لّوًلا يٍعّذٌَبٍنّا پلَّهٍ بٌمّا نّقٍولٍ حّسًبٍهٍمً جّهّنَّمٍ يّصًلّوًنّهّا فّبٌئًسّ پًمّصٌيرٍ} (المجادلة: 8). فإذا زال السبب وقال الكتابي سلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه(35).
وقد بوب البخاري في صحيحه: «باب كيف الرد على أهل الذمة بالسلام؟» قبل أن يورد حديث عائشة فقال الشارح ابن حجر العسقلاني: «في هذه الترجمة إشارة إلى أنه لا مانع من رد السلام على أهل الذمة، فلذلك ترجم بالكيفية، ويؤيده قوله ـ تعالى ـ: {فّحّيٍَوا بٌأّحًسّنّ مٌنًهّا أّوً رٍدٍَوهّا} فإنه يدل على أن الرد يكون وفق الابتداء إن لم يكن أحسن منه كما تقدم تقريره. ثم قال ابن حجر:ودل الحديث على التفرقة في الرد على المسلم والكافر. قال ابن بطال، قال قوم رد السلام على أهل الذمة فرض لعموم الآية، وثبت عن ابن عباس انه قال: «من سلم عليك فرُد عليه ولو كان مجوسيًا، وبه قال الشعبي وقتادة»(36). وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قال: «السلام تطوع والرد فريضة». قال ابن كثير عقب قول سفيان هذا: «وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة أن الرد واجب على من سلم عليه فيأثم إن لم يفعله لأنه خالف أمر الله في قوله: فحيّوا بأحسن منها أو ردوها» ثم أورد حديث أبي هريرة: المذكور في صدر هذه المسألة(37).
ثانيًا: العلاقات الاجتماعية:
لعل من أبلغ أنماط العلاقات الاجتماعية علاقة النسب والمصاهرة فقد قيل بحق المصاهرة أحد الرابطين. وقد قال تعالى:{$ّهٍوّ پَّذٌي خّلّقّ مٌنّ پًمّاءٌ بّشّرْا فّجّعّلّهٍ نّسّبْا $ّصٌهًرْا} (الفرقان: 54)، وهذا ما أباحه القرآن صراحة بين المسلم والكتابي، حيث أباح زواجه بالكتابية: {$ّالًمٍحًصّنّاتٍ مٌنّ پًمٍؤًمٌنّاتٌ $ّالًمٍحًصّنّاتٍ مٌنّ پَّذٌينّ أٍوتٍوا پًكٌتّابّ مٌن قّبًلٌكٍمً إذّا آتّيًتٍمٍوهٍنَّ أٍجٍورّهٍنَّ مٍحًصٌنٌينّ غّيًرّ مٍسّافٌحٌينّ $ّلا مٍتَّخٌذٌي أّخًدّانُ} (المائدة: 5).
إن مسألة المصاهرة والنسب هنا تحقيق لمعنى المودة والسكن والرحمة الوارد في قول الله ـ تعالى ـ: {$ّمٌنً آيّاتٌهٌ أّنً خّلّقّ لّكٍم مٌَنً أّنفٍسٌكٍمً أّزًوّاجْا لٌَتّسًكٍنٍوا إلّيًهّا $ّجّعّلّ بّيًنّكٍم مَّوّدَّةْ $ّرّحًمّةْ إنَّ فٌي ذّلٌكّ لآيّاتُ لٌَقّوًمُ يّتّفّكَّرٍونّ}(الروم: 21)، وهو أمر تنبني عليه شبكة من العلاقات الاجتماعية المتجذرة بين المسلم والآخر الكتابي، ولهذه العلاقات مستلزماتها الأخلاقية، سواء كان ذلك في ديار المسلمين أم خارجها. ولذلك فبعد المصاهرة يُصبح أبو الزوجة الكتابية وأمها جدين لأولاد الزوج المسلم، وإخوانها أخوالهم، وأخواتها خالاتهم،ولهؤلاء جميعًا حقوق الرحم وذوي القربى(38).
ورب متسائل يقول: لماذا أباح الإسلام للمسلم الزواج من كتابية دون العكس؟ والجواب على ذلك راجع إلى أصل نظرة المسلم إلى الكتابي فهو يعدهم أصحاب كتاب سماوي مماثل في الأصل للمسلمين، ولذلك فخطاب القرآن لهم غالبًا مصدر بـ «أهل الكتاب» أو «الذين أوتوا الكتاب» ويعد الإيمان بكتبهم وأنبيائهم ومُرسليهم أساسًا من الإيمان الواجب على المسلم: { آمّّنّ پرَّسٍولٍ بٌمّا أٍنزٌلّ إلّيًهٌ مٌن رَّبٌَهٌ $ّالًمٍؤًمٌنٍونّ كٍلَِ آمّنّ بٌاللَّهٌ $ّمّلائٌكّتٌهٌ $ّكٍتٍبٌهٌ $ّرٍسٍلٌهٌ لا نٍفّرٌَقٍ بّيًنّ أّحّدُ مٌَن رٍَسٍلٌهٌ $ّقّالٍوا سّمٌعًنّا $ّأّطّعًنّا غٍفًرّانّكّ رّبَّنّا $ّإلّيًكّ پًمّصٌيرٍ} (البقرة: 285). ولذلك فإن المسلم لن يضطهد زوجته الكتابية لأنه يعلم ابتداء أنها تخالفه في دينه مع جواز أن يقترن بها، ولذلك فإنه سيتيح لها ممارسة حقها الديني العقدي والعبادي من منطلق إيمانه بحُرمة التدخل القسري للحيلولة دون ممارستها، فهل كان سيتأتى ذلك لو أن الكتابي تزوج من مسلمة؟
وكما أباح القرآن مصاهرة الكتابيين فقد أباح مؤاكلتهم:
{پًيّوًمّ أٍحٌلَّ لّكٍمٍ پطَّيٌَبّاتٍ $ّطّعّامٍ پَّذٌينّ أٍوتٍوا پًكٌتّابّ حٌلَِ لَّكٍمً $ّطّعّامٍكٍمً حٌلَِ لَّهٍمً} (المائدة: 5). وهو ما يعني إزالة الكثير من الحواجز النفسية التي تطبع العلاقة مع الآخر ولاسيما في بعض الحقب التاريخية وبعض البيئات والمجتمعات.
ولقد كانت العلاقة المدنية المتعلقة بالبيع والشراء والرهن والوكالة والقرض ونحو ذلك قائمة، وقد جسد بعضها النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عمليًا حتى إن عائشة ـ رضي الله عنها ـ تروي أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين ـ يعني صاعًا ـ من شعير»(39). كما كانت الخدمة والزيارات قائمة بين المسلمين وغيرهم، فيروي أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن غلامًا ليهود كان يخدم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يعوده، فقال: أسلم فأسلم(40).
وصلة القربى قائمة مع المشركين ـ ناهيك من الكتابيين ـ فهذه أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنها ـ تروي سبب نزول قول الله تعالى: {لا يّنًهّاكٍمٍ پلَّهٍ عّنٌ پَّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي پدٌٌَينٌ $ّلّمً يٍخًرٌجٍوكٍم مٌَن دٌيّارٌكٍمً أّن تّبّرٍَوهٍمً $ّتٍقًسٌطٍوا إلّيًهٌمً إنَّ پلَّهّ يٍحٌبٍَ پًمٍقًسٌطٌينّ}(الممتحنة: 8)، حيث قالت: «أتتني أمي راغبة في عهد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فسألت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أصلها؟ قال: نعم، قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى ـ فيها {لا يّنًهّاكٍمٍ پلَّهٍ عّنٌ پَّذٌينّ لّمً يٍقّاتٌلٍوكٍمً فٌي پدٌٌَينٌ}(41).
وليست الصلة للآباء فقط بل للإخوة وغيرهم، حيث بلغت حد الهدية، ومعلوم أن مقصد الهدية الأساسي تعزيز معاني المحبة والمودة مصداقًا لقول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيما يروي أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «تهادوا تحابُوا»(42). وقد روى عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن عمر رأى حُلة سيراء تباع، فقال يا رسول الله: ابتع هذه والبسها يوم الجمعة، وإذا جاءك الوفود، قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له. فأتى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منها بحُلل فأرسل إلى عمر بحُلة، فقال: كيف ألبسُها، وقد قلت فيها ما قُلت؟ قال: إني لم أعطها لتلبسها، ولكن تبيعها أو تكسوها. فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يُسلم(43).
وجملة القول: إن ثمة آثارًا عدة تؤكد على صور مشرقة من التعايش الاجتماعي والحضاري مع الآخر غير المسلم، وقد جسدها الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ عمليًا في تعاملهم اليومي والمناسبات مع أهل الكتاب وغيرهم، وما يمكن الإشارة إليه ـ عدا ما سبق ـ تشييع جنائز أهل الذمة ، وعيادة مرضاهم، وإغاثتهم عند النوازل كالقحط ونحوه، ومنحهم من أموال الصدقة، والدفاع عن أعراضهم وحُرماتهم، وإباحة أداء عباداتهم في أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين والعكس، والسماح لهم بعدم العمل في أيام عطلهم كالسبت والأحد، وعدم إلزامهم بما يعتقده المسلم حلالاً أو حرامًا في دينه انطلاقًا من المبدأ الإسلامي القائل «اتركوهم وما يدينون» وفق التفصيل المتقدم الإشارة إليه(44).
كما تؤكد شهادة التاريخ الغربي ـ قبل الإسلامي ـ أن أحكام الإسلام وتعاليمه إزاء الآخر فضلاً عن عظمتها وسموها قد وجدت مجالاً فعليًا للتطبيق دون أن تظل أحكامًا نظرية رائعة فحسب، غير أنها حبيسة الأوراق والقوانين المطوية. ومن أبرز من شهد بهذه الحقائق من المؤرخين الغربيين: ول ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»(45). أما آدم ميتز فقد خص بالذكر ظاهرة توافر محاكم خاصة بالمسيحيين في ظل الحكم الإسلامي للبت في خصوماتهم بأنفسهم(46).
لا تعارض:
لا يتعارض ما سبق تقريره مع ما ثبت عن الشعبي أنه كان يُحدث فقال: «سمعت أبا جحيفة قال: سألت عليًا ـ رضي الله عنه ـ هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ ـ وقال ابن عيينة مرة: ما ليس عند الناس ـ فقال: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه، وما في الصحيفة، قلت وما في الصحيفة، قال: العقل: وفكاك الأسير، وألا يُقتل مسلم بكافر»(47).
ومع أن جمهور العلماء على ظاهر الحديث فإن ما ورد من نصوص قرآنية ونبوية صحيحة تحث على التعامل معهم بالبر والقسط حتى سرت قاعدة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»(48) حكمًا عامًا ملزمًا للمسلمين تدفع ذلك الفهم الظاهري للحديث وتحمله على معنى الكافر الحربي. بل ويجد الباحث في هذا المجال حديث: «ألا لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده»(49) مسندًا لهذا المعنى الذي يحمل الحديث على الكافر الحربي دون الذمي أو المعاهد إذ التقدير ولا يُقتل ذو عهد في عهده بكافر. هو يدل بمفهومه على أن المسلم يُقتل بالكافر الذمي(50). وهذا رأي الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه(51). كما أنه المذهب الذي اعتمدته الدولة العثمانية في أقاليمها المختلفة لقرون عديدة. وقد رجحه القرضاوي(52) وزيدان(53) من المعاصرين. أما ابن حزم فذهب إلى القول: «واتفقوا أن دم الذمي الذي لم ينقض شيئًا من ذمته حرام... واتفقوا أن الكافر الحر يُقتل بالمسلم الحُر»(54)، ودعوى الاتفاق غير مسلم بها مع ما سلف من رأي الجمهور.
جميع ما تقدم يدفع الباحث إلى ترجيح القول الذي لا يفرق بين المسلم وغيره في الدم، وهو الأكثر انسجامًا مع فلسفة التربية الإسلامية المعاصرة لاتفاقه مع جملة النصوص الأخرى العامة والخاصة المحققة لقاعدة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».
ومن هذا يتضح أن الذميين كقاعدة عامة كالمسلمين في الحقوق والواجبات، لكن هذه القاعدة يرد عليها استثناء وهو أن الدولة الإسلامية تشترط للتمتع ببعض الحقوق توافر العقيدة الإسلامية في الشخص ولا تكتفي بتبعيته لها(55).
المصدر موقع مجلة المعرفة التابعة لوزارة التربية والتعليم
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/82482