المدن الفاضلة عند المسلمين والأوروبيين في الأزمنة الوسيطة

محمد الشيخ

أتى حين من الدهر على "اليوطوبيات" - وعديلها العربي "المدن الفاضلة"ـ كانت فيه سوقها نافقة رائجة؛ واليوم كادت المدن الفاضلة -بمختلف لويناتها، أن تستحيل، منذ أمد غير يسير، إلى موضوع يثير الشبهة فلا يحظى بالثقة؛ وذلك سواء على المستوى الفلسفي أو على المستوى السياسي. ولقد حدث أن استعمل المعاصرون، ضد يوطوبيات الماضي ومدنه الفاضلة، السخرية سلاحا؛ فأنشأوا لليوطوبيات الكثير من التقليدات الساخرة والمسوخ المستهزئة، وتحدثوا عن "مضادات اليوطوبيات" على النحو نفسه الذي كان قد تحدث به القدماء عن "مضادات المدينة الفاضلة". ذلك كله في زمننا هذا الذي هو زمن الثقافة المضادة وما بعد النزعة الإنسية وثقافة الشبكة العنكبوتية... وما زال أمر هذا البرم من اليوطوبيات في ازدياد، حتى كتب أحد الباحثين المختصين في الفكر اليوطوبي: "إذا ما نحن اعتبرنا أعمال الماضي العظيمة، بدا لنا أن جنس الكتابة اليوطوبي... ما بلغ إلينا - معشر أبناء اليوم - إلا وهو متعب مُجهَد ومشوَّه في القرن الواحد والعشرين"(1).

 

كيف لا يكون على هذا النحو الذي وصفنا، وقد أفرد الباحث الألماني ريتشارد ساج كتابا لهذا الأمر كان عنوانه عبارة عن تساؤل إنكاري: "[أهي] نهاية اليوطوبيا السياسية"؟ أَوَ لم يحدث لليوطوبيا ما كان قد حدث للميتافيزيقا، لما لاحظ الفيلسوف الألماني إمانويل كانط -في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه الشهير "نقد العقل الخالص"(1781م)- أنه «أتى على الميتافيزيقا حين من الدهر كانت تتسمى فيه ملكة العلوم»؛ لكنه سرعان ما أضاف: «واليوم، فإن الموضة الرائجة هي احتقار الميتافيزيقا والإزدراء بها. وهكذا ألفينا السيدة النبيلة - وقد هُجرت ونُبذت - ما تفتأ تشكو، ولسان حالها يردد مع هيكوبا: "بالأمس كنت العظمى بين الجميع، يشد أزري كثير من الأصهار والأبناء، ها أناذا اليوم منفية وعارية"»(2)؟ وبالمناسبة، ألم يتحدث بعضهم عن "نقد العقل اليوطوبي"؟

 

أكثر من هذا، صار موضوع فقد المعاصرين الثقة في اليوطوبيات والمدن الفاضلة نفسه موضوع بحوث، وما زال ذلك ساريا سيارا، حتى أشرفت الباحثة الإيطالية المختصة في الأدبيات الطوباوية كارملينا إمبروشيو على مصنف جماعي حمل من العناوين العنوان التالي ذا الدلالة بما نحن بشأنه: "[أهي يا ترى] صلاة جنائزية على اليوطوبيا؟"(1986م)؟

 

وبعد، ألم تتحول أحلام المدن الفاضلة وأخواتها إلى كوابيس؟ وألم تستحل رؤى اليوطوبيات النعيمية إلى أضغاث أحلام جحيمية؟ وما الذي انتهت إليه التجارب الزراعية الشيوعية، الكلخوزات والسفخوزات، والقرى البيئية وفضاءات النحل الدينية والطوائف المذهبية - والتي كانت في أصلها يوطوبيات جماعية متمردة على فردانية الليبرالية - غير أن أمست كوابيس مفزعة؟ ذاك هو ما حمل أحد كبار المختصين في الفكر اليوطوبي - ميكيل أبنسور - على أن يتساءل عما إذا كان -قياسا على كلام المفكر الألماني أدورنو الشهير عن استحالة كتابة قصيدة شعر بعد معسكرات الاعتقال والتعذيب النازية- يمكن القول بأنه أمست اليوم تستحيل كتابة يوطوبيا أو رسم معالم مدينة فاضلة بعد ما شهده القرن العشرون من كوارث شديدة الاحتمال؟

 

ومع ذلك، ألم يعد هذا الباحث نفسه إلى الحديث عن "استمرارية اليوطوبيا وبقائها"، بل وحتى إلى الكلام عن "صمودها" وعن "مقاومتها"؟ أَوَ ما قال: "يبدو عند أول النظر أن الكارثة - إقامة عالم جحيمي - قد قضت بلا رجعة على الآمال التي كانت تحملها اليوطوبيا... لكن أليس قد تبين كذلك أنه لا يمكن إيقاف الإنسان عن أن يستمر في تصور مجتمع آخر، ورباط اجتماعي آخر، بحيث يكون إنسانيا بحق، وبحيث يملك حظوظ إخراج الإنسان من جحيمه"(3)؟

 

وبالفعل، إذا ما نحن ألقينا بنظرة على العهود القديمة، بدا لنا أن مختلف الظروف الثقافية والتاريخية -مهما كان شأنها- ما فتئت تنبت الفكر اليوطوبي وتخصبه وتلهمه. فكيف يراد لعصرنا هذا أن يشكل الاستثناء بهذا الشأن؟ عديدة هي التعريفات التي عُرِّف بها الإنسان بما لا يكاد يحصر عدا؛ لكن أحد أغرب وألطف وأعجب هذه التعريفات القول: إن الإنسان كائن حي بَنَّاءٌ للمدن الفاضلة، أو قل بلغة الغرب: "حد الإنسان أنه حيوان طوباوي". بهذا عرفه أحد أبرز المختصين في الفكر الطوباوي: ميكيل أبنسور، صاحب رباعية في الفكر الطوباوي، أشهر عنوانينها: "اليوطوبيا من مور إلى والتر بنيامين"(2010) و"الإنسان حيوان طوباوي"(2013). فكيف يراد -مرة أخرى- لعصرنا هذا أن يشذ فيه الإنسان عن هذا التعريف؟

 

على أن محاكمة العقل اليوطوبي، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ما منعت قط بعض كبار مفكري هذا القرن من إيلاء العناية إلى الشأن اليوطوبي؛ وذلك نظير الفيلسوف الألماني إرنست بلوخ (1885-1977م) وكتابه "روح اليوطوبيا"(1918)، ومثيل بَلَدِيِّهِ عالم الاجتماع كارل مانهايم (1893-1947م) وكتابه الشهير "الإيديولوجيا واليوطوبيا"(1929)، وشبيه الفيلسوف الإيطالي كلاوديو ماغريس ومؤلفه "اليوطوبيا وانبطال سحر العالم"(1974-1998م)، وعديل الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005م) ومصنفه "الإيديولوجيا واليوطوبيا"(1997)... كما سار بعضهم إلى تأليف المعاجم والموسوعات في المدن الفاضلة واليوطوبيات؛ وذلك نظير "معجم الأدب اليوطوبي"(2000)، و"معجم اليوطوبيات"(2008)، و"دليل كامبردج للأدب اليوطوبي"(2010)... بل حتى أقيمت المعارض تلو المعارض بفرنسا وبكندا، حول اليوتوبيا؛ شأن معرض "اليوتوبيا: البحث عن المجتمع المثالي في الغرب"(2000)، ومعرض "رؤى المستقبل: تاريخ البشرية وآمالها"(2000)، ومعرض "قصص من لا مكان: اليوطوبيات المدينية"(2002)، ومعرض "اليوطوبيات وضديداتها"(كندا 2008)...

 

هذا، وقد قرئت المدن الفاضلة واليوطوبيات بقراءات كانت من التنوع بمكان: مِنْ واجدٍ فيها أماراتِ حثٍّ على التقدم وعلى معارضة الإيديولوجيا السائدة (كارل مانهايم)، إلى عاثر فيها على رمز الأمل وعلامة التغيير الجدلي (إرنست بلوخ)، ومن متبين فيها علائم الحث على التمرد (موتشييلي)، إلى ملتمس فيها البيان بالاحتجاج القوي والتشكيك الجذري في الواقع القائم (باكزكو)، بل وإضفاء الطابع الدنيوي على الأدلوجة المؤمنة بالألفية القيامية (سيرفيو)...

 

والحال أنه كثيرة هي "المدن الفاضلة" و"اليوطوبيات" التي تُصُورت عبر التاريخ: من جمهورية أفلاطون، إلى يوطوبيا المفكر الألماني اليهودي والتر بنيامين، مرورا بمدينة الفارابي الفاضلة، و"مملكة" دانتي، و"يوطوبيا" توماس مور، و"مدينة شمس" كامبانيلا، و"مدينة إقامة مبادئ المسيحية" التي قال بها إرازموس، ومدينة أركاديا لسونازارو، ومدينة جينا لغونزاليس مندوزا، ومدينة أستري لهونوري أورفي...

 

على أننا سوف نقف ههنا على نموذجين من العصر الوسيط: واحد إسلامي، والآخر مسيحي.

 

المدن الفاضلة في الفكر الإسلامي

 

(الفارابي أنموذجا)

 

إن إلقاء نظرة على الموضوعات التي خاض فيها أوائل فلاسفة الإسلام يظهر أنهم ما عنوا حق عناية - في أنظارهم الفلسفية السياسية - بمسألة "المدينة الفاضلة"؛ فنحن لا نعثر -فيما وصلنا من أعمالهم- لا عند الكندي ولا عند الرازي - وهما أولا فلاسفة الإسلام - على أفكار تخص "المدينة الفاضلة". ولقد كان علينا أن ننتظر حتى مقدم الفارابي حتى نعثر لديه على فكرة "المدينة الفاضلة"، تعبيرا وتصورا، وذلك حتى إن اسم "المدينة الفاضلة" ارتبط بالفارابي، مثلما ارتبط اسم "الفارابي" بالمدينة الفاضلة.

 

والحق أنه ما حاز الفارابي على الإعجاب من لدن فلاسفة الإسلام فحسب - كتقريظ ابن سينا له في العديد من المناسبات، ومن بينها مناسبة انفتاح فهم كتاب الميتافيزيقا لأرسطو له بعد أن كان قد انغلق عليه لأمد طويل ولمرات عدة، وتتلمذ ابن رشد في بداياته الأولى على تصانيف الفارابي... - وإنما نال الإعجاب من لدن فلاسفة اليهود - فقد عدّه ابن ميمون أزهر من زهرة وأعطر من أعطر زهرة، ومن لدن الفلاسفة النصارى؛ فقد أفاد ألبير الكبير من كتبه المنطقية، ونهل توما الأكويني من آرائه عن العقل الفعال، واستند إليه روجيه بيكون باعتباره حجة في أمور اللاهوت والدين، وفي بداية العصر الحديث (النهضة) أعجب بيكو الميرندولي بأسلوبه الأنيق التأملي(4)...

 

وقد أمسى كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة"(5) من كلاسيكيات الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط، وكان أن نُقل الكتاب إلى اللسان الألماني (دييتريسي 1900)، وإلى اللسان الفرنسي (1949 و1980)، وإلى اللسان الإسباني (ألونسو 1961-1962)، وإلى اللسان الإنجليزي (ريتشارد فالزر 1985)...

 

وشأن الأعمال الفلسفية العظمى، اختلف الباحثون في تأويل المبتغى من مدينة الفارابي الفاضلة؛ بل ذهبوا في تأويله مذاهب شتى؛ فقد وجد فيه الليبراليون كتابا معاديا للمجتمع المفتوح؛ بينما وجده المحافظون جذريا لا يطاق، وألفاه الماركسيون - الخلص والمشوبون، والحقيقيون والشبيهيون معا - كتابا "رجعيا"، واقتفى فيه بعضهم الآخر أثر تشيع اثنى عشري خفي، ووجدوا فيه كتاب "مناضل ملتزم" بقضية الإمامة... ورأى فيه آخرون "تطلعات الأمة العربية إلى الحرية والعدالة والديمقراطية"...

 

وعلى الرغم من محاولة المستشرق ريتشارد فالتزر تقطيع فقرات المدينة الفاضلة إربا إربا، وَرَدَّ كل إرب إلى مصدر مفترض أو متخيل، فإنه فشل في ذلك فشلا ذريعا. هذا بينما غالى بعض الباحثين العرب في إثبات أصالة الكتاب، إما بحجة خصوصية ظروف تأليفه وتقصدية اختياره للآراء الفلسفية الإغريقية التي اختارها (أركون)، أو بالنظر إلى أدلوجته "القومية" العربية "التحررية" و"الديمقراطية"(الجابري)...

 

في المدينة الفاضلة:

 

قد يستغرب القارئ غير المستأنس بكتابات الفلاسفة العرب القدامى لكتاب يعد من أشهر كتب الفلسفة السياسية الإسلامية -إن لم يكن أشهرها إطلاقا- وهو يطوح به قدر ثلثي الكتاب في متاوه الإلهيات كل التطويح. يكفي هذا القارئ أن يمد يده إلى الكتاب يفتحه ويبدأ في قراءة فصوله وموضوعاته، فيجدها على التوالي: القول في الموجود الأول (الله)، وفي نفي الشريك والضد والحد عنه، وفي كونه عالما حكيما وحقا وحيا وحياة، وفي عظمته وجلاله ومجده، ثم يشرع في الحديث -بعد هذا الحديث المستفيض عن الرب- عن العالم؛ وذلك بالحديث عن كيفية صدور الموجودات عنه، والحديث عن مراتب الموجودات، ثم يعرج على الحديث عن الفلسفة الطبيعية، بعد الإلهية؛ وذلك بالحديث عن الحركة والصورة والمادة والهيولى، فالحديث عن الإنسان وأجزاء نفسه وقواه الناطقة (العقل)، ثم الحديث عن الإرادة والاختيار والسعادة، فالحديث عن سبب المنامات وعن الوحي وعن رؤية الملك... وبعد أن يمضي من الكتاب قرابة ثلثه ها نحن أولاء مع التأسيس، لا اللاهوتي هذه المرة؛ وإنما الاجتماعي والسياسي للمدينة الفاضلة؛ وذلك في الفصل المعنون بعنوان: "القول في احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون". لكن واقع الاستغراب هذا قد يزول حين يمضي القارئ في الكتاب قراءة إلى الفصل المعنون بـ: "القول في الأشياء المشتركة لأهل المدينة الفاضلة"، ليكتشف آنها - فجأة - أن في الكتاب ضربا من الدور؛ وذلك لأن هذه الآراء المعنية هنا (اللاهوتية والطبيعية والنفسانية) هي بالذات ما استهل به الفارابي كتابه، ومنها استمد الكتاب عنوانه؛ إذ لا يتعلق الأمر بالمدينة الفاضلة، وإنما بآراء أهلها.

 

وهكذا، فإنه بعد معرفة: 1 - السبب الأول (الله) وجميع ما يوصف به، 2- الأشياء المفارقة للمادة (العقول العشرة) وأوصافها، 3- العقل الفعال، 4- الجواهر السماوية وأوصافها، 5- الأجسام الطبيعية وأحكامها، 6- الإنسان وقواه النفسية - وهو ما استغرق ثلثي الكتاب - سرعان ما يستأنف الفارابي الحديث عن "المدينة الفاضلة" تخصيصا؛ وذلك بالحديث عن: 7- معرفة الرئيس الأول وكيف يكون الوحي، 8- معرفة الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه، 9- معرفة المدينة الفاضلة وأهلها أو السعادة التي تصير إليها أنفسهم، 10- معرفة المدن المضادة ومآلات أنفس أهلها بعد الموت، 11- معرفة الأمم الفاضلة والأمم المضادة.

 

والذي عند الفارابي -على وجه الجملة- دور منطقي؛ فمن شأن الفلسفة الحقة أن تؤسس للمدينة الفاضلة، ومن شأن الفلسفة الفاسدة أن تؤسس للمدينة الضالة: "والتي ذكرناها من آراء القدماء فاسدة، تفرعت منها آراء انبثت منها ملل في كثير من المدن الضالة"(6). ولذلك وجب الابتدار إلى معرفة الفلسفة الحقة أولا، وهو ما استغرق ثلثي الكتاب، حتى تأسيس المدينة الفاضلة، فعودة من جديد إلى آراء أهلها باعتبارها آراء حقة...

 

والحال أن كل المدينة الفاضلة مبنية على مفهوم "الاجتماعات الإنسانية"، وهذه "الاجتماعات الإنسانية" عند الفارابي على ضربين: اجتماعات كاملة، واجتماعات غير كاملة. والاجتماعات غير الكاملة بدورها على أربعة أضرب مصنفة من الأكبر إلى الأصغر: القرية والمحلة والسكة والمنزل. ولا ترقى هي إلى تأسيس اجتماع بشري كامل. أما الاجتماعات الكاملة، فهي بدورها على ثلاثة أضرب: عظمى (اجتماع البشرية)، ووسطى (اجتماع الأمة)، وصغرى (اجتماع المدينة). لكن، لِم لم يختر الفارابي الاجتماع السائد في عصره (الاجتماع الأوسط، اجتماع الأمة) واختار -بدلاً من ذلك- الاجتماع الذي كان سائدا على العهد اليوناني (الاجتماع الأصغر، اجتماع المدينة)؟ هل يتعلق الأمر يا ترى بمجرد تقليد للنموذج الإغريقي حتى وإن كان لا واقع له؟ الحق أننا لا نجد من تسويغ فارابي لهذا الاختيار سوى أن أول ما يحدث كمال الاجتماع إنما يحدث في اجتماع الناس في المدينة، أما أدناه من الاجتماع فناقص.

 

ومهما تصرفت الأحوال، ما المدينة الفاضلة؟

 

تحدد المدينة الفاضلة -عند الفارابي- بالغاية المرجوة منها - وهي تحصيل السعادة: "المدينة [الفاضلة هي] التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تُنال بها السعادة في الحقيقة"، واجتماع أهلها هو "الاجتماع الفاضل"، والأمة التي تتعاون مدنها كلها على ما تُنال به السعادة هي "الأمة الفاضلة"، وقس على ذلك "المعمورة الفاضلة" إنما تكون "إذا كانت الأمم التي فيها تتعاون على بلوغ السعادة"(7).

 

ولتوصيف مختلف جوانب المدينة الفاضلة، يلجأ الفارابي إلى "آلية المماثلة"؛ أي إلى المماثلة بين "المدينة الفاضلة" و"البدن الصحيح"؛ فمثل المدينة الفاضلة كمثل البدن الصحيح التي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الكائن الحي وعلى الحفاظ عليها، وإذا كان لا بد للبدن من عضو رئيس -هو القلب- فكذلك بالمثل كان لا بد للمدينة من رئيس، هو الإمام. ومثلما أن أعضاء البدن كُلٌّ موكل لما يسر له، فكذلك للرئيس فريق يساعده في مهامه. وكما أن تحت كل عضو مساعد أعضاء تساعده بدورها، فكذلك ثمة أعضاء يخدمون مساعدي الإمام، وهكذا دواليك تمضي الأعضاء في تراتب وظائفها إلى أدناها منزلة، وهي منزلة أولئك الذين يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم، يخدمون ولا يُخدَمون، ويكونون في أدنى المراتب، وهم الأسفلون.

 

على أن للماثلة حدودا، وهي أن أعضاء البدن "طبيعية"(قسرية في عملها) وأجزاء المدينة "إرادية"(حرة في عملها). ومن ثمة، لا تكون أجزاء المدينة -على خلاف أعضاء خلية النحل مثلا- مشتغلة بوفق منطق (كل مسخر إلى ما خلق له)، وإنما بفضل ملكة الإرادة التي توجد لدى بني البشر، يتعلمون الصناعات ويحذقوها فيحل التطبع محل الطبع، وهو الأمر الذي ليس يقتدر عليه الحيوان.

 

والرئيس هو الأعلى في المدينة، هو ملك المدينة الفاضلة، وهو الإمام. ويضيف الفارابي على نحو غريب: "وهو رئيس الأمة الفاضلة، ورئيس المعمورة من الأرض كلها"، وكأنه يتحدث عن دولة عالمية أو كونية؛ لكن "رئيس المدينة ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق"(8)؛ إذ لا بد أن تتوفر فيه خصال اثنا عشر. وهي على الترتيب: تمام الأعضاء، وجودة الفهم، وجودة الحفظ، وجودة الفطنة، وحسن العبارة، ومحبة الاستفادة، وعدم الشراهة والتطرح إلى الملاذ والملاهي، ومحبة الصدق، وكبر النفس، والاستهانة بالمال، ومحبة العدل، وقوة العزيمة. وهي من بابٍ ما قَلّما يجتمع لإنسان، ولهذا قد يحتاج الأمر إلى رئاسة جماعية.

 

في مضادات المدينة الفاضلة:

 

يعقد الفارابي فصلا بتمامه وكماله من كتابه للحديث عن مدن مضادة للمدينة الفاضلة، ومثل المدينة المضادة للمدينة الفاضلة كمثل الكابوس بالقياس إلى الحلم السعيد. والحال أننا كما لم نعرف منه إن كانت المدينة الفاضلة قد وجدت في الماضي أو قد توجد فيما يستقبل من الزمان، فكذلك لم نعلم منه إن هي كانت المدن المضادات للمدينة الفاضلة قد وجدت أم لا. وهذه المدن عنده هي على الترتيب:

 

 1ـ "المدينة الجاهلية"، وقد سميت بذلك لجهل أهلها بمعنى السعادة، مع ملاحظة أن الفيلسوف هنا هو الذي يحدد للناس ما الذي ينبغي أن تكون عليه سعادتهم، فلا يتعلق الأمر بتقاطعات آراء بين مجموعات من البشر في تصورهم لمعنى السعادة، وإنما بسعادة تحدد من أعلى. ولا يعرف أهل المدينة الجاهلة معنى "الخير" الحق (السعادة) وإنما كل ما يعرفونه هو الخير الشبيهي (السعادة الدنيوية المتمثلة في سلامة الأبدان، وفي اليسار، وفي التمتع بالملاذ، وفي التطرح للهوى، وفي التكرم والتعظم). هذه هي -عند أهل المدينة الجاهلية- السعادات المطلوبة، وسعادة السعادات عندهم أن تجتمع ولا تتفرق. وأضداد هذه السعادات عندهم هي الشقاوات (آفات البدن، الفقر، عدم الاستمتاع، الحيلولة بين الفرد وهواه، انعدام التكريم وغياب التعظيم). على أن المدينة الجاهلية ما كانت على نمط واحد، وإنما هي على أنماط:

 

 1-أ "المدينة الضرورية"، وهي التي يقتصر أهلها على الضروريات، من مأكول ومشروب وملبوس ومسكون ومنكوح، فلا يتجاوزونها.

 

 1ـ ب "المدينة البدالة"، وهي التي غاية أهلها تحقيق اليسار واستجلاب الغنى. 1- ج "مدينة الخسة والشقة"، وهي التي ما قصد أهلها سوى التمتع بالملاذ (المأكول والمشروب والمنكوح) والتعاطي إلى الهزليات واللعبيات. 1- د "مدينة الكرامة"، وهي التي قصد أهلها أن يصيروا مكرّمين مذكورين مشهورين بين المدن وممجَّدين معظَّمين بالقول وبالفعل وبعضهم لدى بعض.

 

 1- هـ "مدينة التغلب"، وهي المدينة التي غاية إرادتها الاستقواء على غيرها وقهره طلبا للذة الغلبة. 1- و"المدينة الجماعية"(الديمقراطية) التي يسعى أفرادها إلى الحرية بالأولى.

 

 2- "المدينة الفاسقة"، وهي المدينة التي معتقدها معتقد أهل المدينة الفاضلة وفعلها فعل أهل المدينة الجاهلية.

 

3- "المدينة المبدَّلة"، وهي عنده غير المدينة البدالة، وقد سميت مبدلة لأن آراء أهلها تبدلت عن آراء المدينة الفاضلة وأفعالها بحيث استحالت هي إلى ما يناقضها.

 

4 - "المدينة الضارة"، هي مدينة الخروج عن المعتقد الأساس، ومدينة "المتنبي" لا مدينة "النبي".

 

وبالجملة، يرى الفارابي أن اجتماع المدينة الكامل ينبغي أن يتغيا السعادة كما يفهمها هو، وأن من يتغيا سعادة غير تلك التي ينشدها أهل المدينة الفاضلة، فأولئك "مرضى الأنفس" من أصحاب "الهيئات النفسانية الرديئة"(9)... أكثر من هذا، ثمة فئة من الناس لا تنال رضا الفارابي، وهي فئة المموهين على مثالات المدن الفاضلة إما بالعناد أو بالمغالطة والتمويه. لكن، قد يموه المموه لا على مثالات المدينة الفاضلة، وإنما على الأشياء نفسها؛ أي على الحق نفسه وذلك بتفضيل الكرامة أو اليسار أو لذة تحصيل المال على تحصيل الحق. وهذا قد ارتكب - في رأي الفارابي - التجديف في أقدس الأقداس، ومن ثمة ينبغي طرده شر طردة من المدينة الفاضلة: "وهؤلاء ليس ينبغي أن يجعلوا أجزاء المدينة الفاضلة"(10).

 

وبعد، فهل يمكن أن نحمل الرجل -فيما دونه عن مدينته الفاضلة- على محمل الجد، وقد أودع في مدينته ما أودعه فيها من أمور لربما إِنْ هي انطبقت على مجتمع للملائكة ما قدرت أن تنطبق على مجتمع للبشر؟

 

لسنا نشكك ههنا في اقتدار البشر على إنشاء مدينة، وقد فعلوا ذلك ولا زالوا يفعلونه، وإنما نحن نشكك في اقتدارهم على إنشاء مدينة تكون فاضلة. قديما قال كانط، حتى الشياطين يستطيعون تأسيس دولة، لكن المشكلة تكمن في أية دولة يمكن أن يؤسسوا؟ والأمر أولى بالانطباق على المدينة.

 

يذهب ريتشارد فالزر إلى أنه لم يكن في استيحاء الفارابي لمدينة أفلاطون الفاضلة - الجمهورية - مجرد "تمرين أكاديمي في النظرية السياسية" بالنسبة إلى الفارابي، وإنما فُهمت من لدنه على أنها "محاولة جادة لاقتراح إصلاح جذري للخلافة الإسلامية"(11). وأهم فكرة إصلاحية وردت في الكتاب - في نظر فالزر - هي إدخال فكرة أن المجتمع المحكم التنظيم ينبغي أن يحكمه حكام - حكماء أو ملوك - فلاسفة؛ لكن، لربما نسي فالزر أن بين مدينة الفارابي الفاضلة وبين جمهورية أفلاطون بَوْنٌ بَيِّنٌ؛ إذ الأمور الأشد إثارة للجدل في جمهورية أفلاطون -والتي ردها عليه تلميذه أرسطو متعللاً بقوله "أفلاطون حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا من أفلاطون"- إنما يصمت عنها الفارابي صمتا مطبقا؛ عنيت مشاعة النساء ومشاعة الملكية. هذا فضلا عن أنه -من الناحية المنهجية- مسألة العدالة هي المسألة التي يبني عليها أفلاطون جمهوريته، بينما لا ترد مناقشة هذه المسألة في "آراء أهل المدينة الفاضلة" إلا في آخر الكتاب؛ اللهم إلا إذا ملأنا هذا البون بفرضية عجيبة غريبة كتلك التي افترضها فالزر: ثمة مصدر مجهول المؤلف والتسمية (توليفة من النصوص) نهل منه الفارابي خفية، وهو مكون من تآليف يونانية منقولة إلى السريانية أو إلى العربية في القرن السادس الميلادي، وهي الفرضية التي سفهها محسن مهدي تسفيها.

 

على أن المشكلة المعتاصة التي تثيرها المدينة الفاضلة هنا إنما تتعلق بمشكلة المنهج. إذ لا يذكر الفارابي المنهج الذي اهتدى به إلى "إنشاء" مدينته الفاضلة: أهو منهج "استنباطي" أم منهج "بنائي"؟ أهو قد استنبطها استنباطا من نموذج عقلي سابق - مثال؟ أم أنه جردها تجريدا من توليفة من تجارب تاريخية ومعيشة؟

 

لكن الفارابي يذكر في فقرة وردت في فصل "القول في الأشياء المشتركة لأهل المدينة الفاضلة" -بمناسبة الحديث عن "الأمم الفاضلة والأمم المضادة لها"- أن "هذه الأشياء [أمور المدينة الفاضلة] التي ينبغي العلم بها" إنما "تُرسَم في نفوسهم [نفوس الحكماء من أهل الفضيلة] كما هي موجودة". لكن أين هي موجودة؟ أهي "مُثُل" على الطريقة الأفلاطونية موجودة في عالم مفارق؟ ثم سرعان ما يضيف أنه بالنسبة إلى غير الحكماء من الناس غير المرتاضين على الجدلين بنوعيه المترقي والمتدلي من العالم المفارق إلى العالم المباطن: "تُرسَم فيهم بالمناسبة والتمثيل"؛ وذلك "أن يحصل في نفوسهم مثالاتها التي تحاكيها"؛ أي أنهم لا يدركون أمور المدينة الفاضلة إدراكا مباشرا بواسطة من عقولهم، وإنما تضرب لهم الأمثلة حتى يتذكروا الأعيان. إذا صح هذا الفرض، صارت المدينة الفاضلة موجودة في نفوسنا نذكرها بفطرتنا إذا ما هي فاقت، ونغفل عنها بالنسيان إذا ما فطرتنا استنامت. إنما المعرفة بالمدينة الفاضلة تذكر، والجهل بها نسيان. ومعنى هذا أن كل واحد منا يحمل في ذاته تصور المدينة الفاضلة، والفارق في التنبه إلى ما يحمل في ذاته. والطريقة الأفضل لتصور المدينة الفاضلة هي طريقة معرفتها بأعيانها [بحقائقها وليس بأشباهها]، وهذا ما لا يقتدر عليه إلا الحكماء، والطريقة الثانية -كما ألمعنا إلى ذلك سابقا- تقوم على محاكاة طريقة الحكماء. إلا أن هذه الطريقة فيها درجات تراتبية: من أقرب المثالات إلى أعيان المدينة الفاضلة إلى أبعدها قليلا، فإلى أبعد الأبعد، وهكذا دواليك...

 

لكن، هل يمكن لكل البشر -على اختلافات ثقافتهم وبيئاتهم- أن يتصورا المدينة الفاضلة عينها؟ هنا يجيب الفارابي بالقول: "وتُحاكى هذه الأشياء [حقائق المدينة الفاضلة أو قل أعيانها] لكل أمة ولأهل كل مدينة بالمثالات التي عندهم الأعرف فالأعرف [لربما لهذا السبب سمى رئيس المدينة الفاضلة "إماما"، واشترط فيه اثنتي عشر خصلة، وهو العدد غير البريء، وجعل منه حاكم المعمورة بأسرها]، وربما اختلف عند الأمم إما أكثره وإما بعضه، فتُحاكى هذه لكل أمة بغير الأمور التي تحاكى بها لأمة أخرى. فلذلك يمكن أن يكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف ملتهم، فهم كلهم يؤمون سعادة واحدة بعينها، ومقاصد واحدة بأعيانها"(12). ههنا تنتصر كونية الفلسفة: المدينة الفاضلة واحدة، على خصوصية الملة: المدن الفاضلة واحدة بالفكرة متعددة بالملة.

 

وههنا أيضا تطرح مسألة الفارق بين "المبدأ" و"الواقع" التي دوخت الفلاسفة، لا سيما في مسألة البرهان الأنطولوجي على وجود الله، فذهبت طائفة منهم (وعلى رأسها ديفيد هيوم) إلى أن ثمة "هوة سحيقة" بين "المبدأ (الوجوب)" و"الواقع"؛ فلا يكفي "تصور" وجود الشيء حتى "يوجد" الشيء بالفعل تعينا؛ إذ ثمة فارق بين الشيء المتصور والشيء الموجود، وما الشيء المتصور إلا كائن ذهني يوجد في الأذهان ولا يتحقق بالضرورة في الأعيان، ولذلك ليس يمكن الانتقال من فكرة: "لا بد أن يوجد كائن أكمل" إلى فكرة "الكائن الأكمل موجود بالفعل". وذهبت طائفة أخرى (وعلى رأسها هيجل) إلى أن كل ما هو عقلي (متصور بالعقل) واقعي (متحقق)؛ ومن ثم ما دامت المدينة الفاضلة يتصورها العقل تصورا، فإنه لا بد أن تتحقق. على أن هيجل نفسه رأى في جمهورية أفلاطون لا جمهورية متخيلة، وإنما جمهورية متحققة في الواقع آيلة إلى الزوال فرسمها أفلاطون رسما، على اعتبار أن: "الفلسفة شأنها شأن بومة منيرفا تأتي دائما متأخرة لما يرخي الليل [ليل الواقع] سدوله". لكن هل يستقيم -بالمثل والقياس- أن نقرأ في المدينة الفاضلة أنموذج الخلافة الإسلامية الآيلة إلى أفولها على عهد الفارابي؟ يصعب تصور ذلك.

 

اليوطوبيات المسيحية في العصور الوسطى

 

(يوطوبيا كوكانيا أنموذجا)

 

إشكال الحديث عن "المدن الفاضلة" في العصر الوسيط المسيحي:

 

إذا ما انتقلنا إلى العالم المسيحي في العصر الوسيط، فإننا قد لا نعثر على شبيه للمدينة الفاضلة الفارابية عند أهل هذه العصور، حتى "مدينة الله" التي قال بها القديس أو غسطين (354 - 430م) ليست من المدينة الفاضلة في شيء. فهي - كما دل على ذلك اسمها - مدينة لله لا مدينة للبشر، مهما كان هؤلاء البشر أهل فضيلة.

 

والحال أنه عادة عندما تذكر اليوطوبيات في الفكر الغربي، يذهب الذهن إلى عصر النهضة وما بعده، وتقترن بأسامي توماس مور (1478-1535م) مبدع اصطلاح اليوطوبيا (1516م)، وتوماس كامبانيلا (1568- 1639م) صاحب "مدينة الشمس"(1623م)، ويتم القفز قفزا على العصر الوسيط، وكأن العصر الوسيط لا يوطوبيا له، وكأنه يكذب ما أجمع عليه العديد من مفكري اليوطوبيا من أن الإنسان كائن يوطوبي بامتياز. والحقيقة أن العصر الوسيط يظل مجهولا لنا جهلاً شبه تام، وتظل اليوطوبيات التي أنتجها - مثله في ذلك مثل سائر عصور البشرية - خفية علينا وظلية وهامشية.

 

مُشْكَلٌ هو الحديث عن "اليوطوبيا" في العصر الوسيط، ومؤشرات إشكاله أمران: إغفال القواميس والمعاجم والموسوعات التي أفردت إلى هذا العصر عن تخصيص مدخل خاص باليوطوبيا، والشاهد على ذلك المعجم الذي خص به هذا العصر أحد أبرز المختصين الفرنسيين في العصر الوسيط: جاك لوغوف، والذي خلا من أدنى حديث عن اليوطوبيا. والمؤشر الثاني إغفال أغلب المجموعات التي خصصت لتاريخ اليوطوبيات الحديث عن يوطوبيات العصر الوسيط، شأن مجموع ماريا لويزا برنيري - المدينة الفاضلة عبر التاريخ(13) - بحيث انتقلت الباحثة مباشرة من العصر القديم إلى عصر النهضة قافزة على العصر الوسيط قفزا.

 

والسبب في هذا الأمر لربما عائد إلى التباس الموقف المسيحي إزاء اليوطوبيا؛ ذلك أنه لأمد طويل ظلت المسيحية هي التي تلهم الفكر الأوربي في العصر الوسيط. ومعروف أن المسيحية لا تتصور إلا مجتمعا مثاليا أو كاملا واحدا هو مجتمع المصطفين الذي يسبقه مجمع الكهنة ويمهد له، إلا أنه لن يتحقق اللهم إلا عند نهاية الأزمنة، وخارج الزمن البشري، بل وخارج التاريخ. ولهذا السبب لربما كانت اليوطوبيا -من جهة النظر المسيحية- توجد في عالم آخر خفي مستتر - هو عالم النعيم. ولهذا يقول جاك لوغوف: "لئن كانت ثمة من مدينة فاضلة مسيحية، فإنما هي مدينة أخروية قيامية بالمعنى الاشتقاقي الذي يوجد في الوحي، وموجودة في العالم الآخر"(14).

 

بوفق هذا المعنى، نلفي القديس أوغسطين يحسم الأمر -في كتابه "مدينة الله"- بتمييزه بين ضربين من المدن: "مدينة السماء"، وهي عنده في منتهى الكمال. و"مدينة الأرض"، وهي عنده بالضرورة ناقصة. هذا، ولقد استحال هذا التصور التصور الأساسي والرسمي الذي اعتمدته الكنيسة، مستبعدة بذلك قيام يوطوبيا دنيوية أرضية.

 

فإذن، إذا ما نحن عددنا اليوطوبيا مجتمعا دنيويا متخيلا أو متصورا، فإن المسيحية منه براء. لكن، أمن الممكن استيحاء يوطوبيا من المسيحية دون أن يكون ذاك الاستيحاء استيحاء كليا؟ أم من الممكن تصور يوطوبيا في العصر الوسيط خارج نطاق المسيحية؟

 

الحال أنه يمكن تصور يوطوبيا استيحاء لقيامة يوحنا في العهد الجديد (إصحاح 20: 1- 6):

 

" 1 - ورأيت ملاكاً نازلاً من السماء معه مفتاح الهاوية، وسلسلة عظيمة على يده.

 

2 - فقبض على التنين -الحية القديمة- الذي هو إبليس والشيطان، وقيده ألف سنة.

 

3 - وطرحه في الهاوية وأغلق عليه، وختم عليه لكيلا يضل الأمم فيما بعد، حتى تتم الألف السنة. وبعد ذلك لابد أن يحل زمانا يسيرا.

 

4 - ورأيت عروشا فجلسوا عليها، وأعطوا حكما، ورأيت نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع ومن أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السمة على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة.

 

5 - وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة. هذه هي القيامة الأولى.

 

6 - مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة".

 

يعلن هذا النص عن التحقيق على الأرض -فيما بين القيامة الأولى والثانية- عن قيام مجتمع ليس ينقصه سوى الخلود حتى يكون كاملا.

 

على أن هذا التصور اليوطوبي - إن ساغ هذا القول، أو بالأحرى "التصور النبوئي" - قد تم استبعاده من لدن الكنيسة الأرثذوكسية على النحو نفسه الذي استبعدت به الهرطقة. بل إن مجمع إفسوس الأول دان التصور الحرفي لفكرة القيامة الألفية، وذلك لربما مخافة من أن يتحول هذا التصور إلى أداة نقدية للمجتمع القائم الذي كانت تباركه الكنيسة.

 

لكن مشكلة العقيدة الألفية تكمن في تصورها لزمن خارج الزمن، وفي عجزها عن تحديد الزمن في زمن أرضي دنيوي تاريخي مستقبلي: "ففي العصر الوسيط ما كانت من نبوءة بالأزمنة اللهم إلا أزمنة الآخرة"(15).

 

غير أن الدفعة الحاسمة نحو اليوطوبيا المحظورة في العصر الوسيط أتت من لدن تصور قد يكون استوحي -في بعض مضامينه الأساسية- من الأدلوجة الإمامية - فكرة الإمام المختفي والمنتظر الشيعية -بحيث منذ القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين- بدأنا نلحظ انتشار فكرة الملك الراقد أو العاهل النائم في انتظار عودته إلى الأرض؛ لكي يحكم الناس بحكم فاضل مثالي: أنموذج مروية الملك آرثور وانتظاره في الإتنا أو على جزيرة أفالون الوقت الذي سيأتي فيه تنصيب مملكة الفرسان المثالية والفاضلة والكاملة على الأرض، أو أنموذج حشد البشرية جمعاء في مملكة عدالة وسلام تحت إمرة ملك أو إمبراطور (فريدريك بارباروس، فريدريك الثاني، آخر ملوك فرسا...)... ملك ما مات هو حتى تُنتَظر بعثته؛ وإنما استتر أو اختفى أو توارى (في كهف، أو على جزيرة)، وهو يظل راقدا برقدة أهل الكهف ينتظر أن يحين موعد استيقاظه من غفوته حتى يصير عاهلا، وفي هذه المرويات ميلاد يوطوبيا جنينية.

 

هذا وقد ذهب فرانتيسك غراوس - في بحثه الموسوم بـ"اليوطوبيات الاجتماعية في العصر الوسيط" - إلى أن اليوطوبيا، كحالة "مثالية للبشرية" حلم بها بنو البشر منذ الأزمنة الغابرة، وقد اقتنعوا بأن هذا العالم فاسد ولكن يوجد عالم أفضل"، إنما وجدت لها نظائر عديدة في العصور الوسطى. إلا أن لوغوف يشكك في هذه الدعوى بحجة أن الأمر ما كان يتعلق بيوطوبيات على التحقيق؛ وإنما بحنينيات إلى ماض سحيق (عصر ذهبي، جنة دنيوية أرضية غابرة...) على ما بين هذين الأمرين من فارق وبون؛ ذلك أنه ليس يمكن الحديث عن يوطوبيا إلا إذا كان المرء يؤمن بأن هذا المجتمع المتخيل أمر ممكن التحقق في الحاضر أو في المستقبل، أما يوطوبيا الماضي فإن تلك بالأحرى والأولى والأجدر "أسطورة" على التدقيق، لا يوطوبيا على الزعم. والذي عنده أنه لئن أصاب فرانتسيك غراوس في القول: إن الأزمنة الحديثة إنما قلبت مكان وجود العصر الذهبي السعيد والمجتمع المثالي، بحيث أوطنتهما لا في الماضي السحيق وإنما في المستقبل، فإن وجه إصابته فيما حدث إنما يعود إلى أن الأزمنة الحديثة هي التي ابتدعت اليوطوبيا بوسمها متخيل الحاضر، أو بالأولى متخيل المستقبل. أما الحنين إلى الماضي فليس من اليوطوبيا في شيء، وإنما هو أشبه شيء يكون بالمروية الأسطورية. والشاهد على ذلك أن أهل العصور الوسطى عادة ما كانوا يتأسفون على فقد ملك، وسرعان ما يجعلون من عصره عصرا ذهبيا. كلا، ما كان أهل العصور الوسطى -حسب لوغوف- بالأولى طوباويين اللهم إلا لما كانوا ينتظرون مثلا انبعاث فريدريك بارباروس من قبره وانحشاره وعودته؛ لكي يصير هو "العاهل الكوني" لآخر أزمنة البشرية.

 

أنموذج فريد: يوطوبيا كوكانيا

 

يكاد يجمع أغلب الباحثين المهتمين بالشأن اليوطوبي على أنه لئن وجدت من يوطوبيا حقة وأصيلة في العهود الوسطى؛ فإنما هي يوطوبيا بلد كوكانيا. يقول جاك لوغوف: "الذي عندي أن بلد كوكانيا هو اليوطوبيا الوسيطة الوحيدة التي تملك خصائص [النظرة] الشمولية و[توصيف الحياة] اليومية التي رأى برانيسلاف باكزكو عن حق أنها تشكل كنه اليوطوبيا"(16). وهي اليوطوبيا التي نشأت حوالي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. وقد دُون نص هذه اليوطوبيا شعرا لا نثرا عام 1250 م، ونشر نشرا محققا عام 1947م. ويتعلق الأمر - في يوطوبيا بلد كوكانيا هذه - برحلة إلى هذا البلد المتخيل المبارك، وتصور مروية كوكانيا عالما مكتشفا يتسم بسمات أساسية ثلاث: 1- بلد "كسل، وخمول، ودعة، ويسر عيش". 2- "جنة طعام بامتياز". 3- "بلد متعة واحتفال وحب وسلام".

 

بداية، عالم كوكانيا هو عالم الدعة والخمول والحياة المخملية، بحيث كلما نام المرء فاز، ومن نام حتى الظهيرة فاز فوزا عظيما. وترتبط بحياة الخمول هذه موضوعات يوطوبية ثلاثة: أ - النوم: وذلك بما يناقض العالم الواقعي، عالم اليقظة والحياة النشيطة، فعالم كوكانيا عالم نيام لا عالم صحاة؛ لكنه النوم المثاب عليه، بدل العمل المؤدى عنه؛ تصور أنه يدفع لك لكي لا تقوم بأي شيء.

 

 بـ-المال: المال وفير مبذول حد الابتذال بحيث يعثر عليه في الحقول، وهو من العملات الأقوى، بما فيها عملة المسلمين الدنانير المرابطية، بحيث هو من الوفرة بما لا مزيد عنه، كلٌّ يمكن أن يحصل عليه بالمجان، ولا تبادل يستدعي المال، ولا بيع ولا شراء ثمة. إنما البلاد ما كانت من السوق في شيء، ولا ينبغي أن تكون كذلك (الأبيات 103-108). ج- صورة العالم المقلوب. وذلك بما يشي أنه: "منذ بُدُوِّها الأول، قدمت اليوطوبيا الوسيطة - فالحديثة فيما بعد - نفسها بحسبانها ثورة شاملة وقلبا للمجتمع الواقعي رأسا على عقب"(17).

 

تثنية: بلاد كوكانيا جنة طعام، والحال أن الصور التي ترسمها المروية لبلاد كوكانيا اليوطوبية إنما هي مأخوذة -لا شك في ذلك- من بعض أوصاف الجنة الواردة في كتب الترغيب والترهيب: إذا ما اشتهى المرء فراخا هَوَتْ إلى فمه مشوية، والطعام بلا شيء (البيت 56). أكثر من هذا، ما من شيء إلا وشأنه أن يستحيل إلى طعام: سياجات البيوتات مصنوعة من أسماك نادرة (البيتان31-32)، والعوارض الخشبية مصنوعة من أسماك الحفش الثمينة، وحقول القمح مسيجة بما تشتهيه النفس من المشاوي، وطيور الإوز لا تكف عن أن تنشوي طيلة الطرقات وقد ضمخت بصلصة الثوم... وعلى كل الطرقات والأزقة بسطت الموائد بكل ما لذ وطاب، وبذلت بذلا للقاصي وللداني بلا حساب (الأبيات 7-45).

 

أكثر من هذا، لا منع في بلاد كوكانيا ولا تحريم ولا حظر ولا تجريم؛ ففي مجتمع هَدَّته الممنوعات وأتعبته المحرمات وما فتئت تبث فيه عيون القوم، ويستطلع فيه أمر كل خافية أعين، يستحيل مجتمع كوكانيا إلى مجتمع الإباحة بامتياز وبلا مدافعة. كل امرئ بمكنته أن يشتهي وأن يأكل ويشرب من غير أن يخاف في مباهج حياة بلا موانع، ما شاء، وكيف شاء، وأنى شاء. الكل طازج لا نيئ، بما يشي أن يوطوبيا كوكانيا ما كانت يوطوبيا طبيعية بل ثقافية، حتى إن لوغوف يعلق ساخرا: "لا يتعلق الأمر بكلود ليفي شتراوس في جنة عدن" ! على أن أغرب ما في كوكانيا أننا لا نعثر فيها على حديث عن أشجار عجائبية، ولا عن ورود غرائبية، ولا عن حيوانات غريبة...

 

تثليثا: الوقت في يوطوبيا كوكانيا عجيب غريب. يتمدد ويتمطى ويتثاءب في أوقات الفرحة، ويسرع الخطى ويهرول ويطفر في أزمن الشقوة. كل الأيام فيه أيام آحاد، كل الأيام أيام أعياد، ولا وجود فيه لأيام صيام، إنما الصيام عندهم أكل المرء ما تشتهي نفسه. والسماء تمطر المن والسلوى، فيقعان على الرؤوس يأخذ منهما كل ما يشتهي. ولا وجود لتقسيم أزمان، زمن للفرح وزمن للترح، وزمن للغذاء وزمن للصيام، ليس ثمة من زمن اللهم إلا زمن واحد، هو زمن الملاذ... والمعاشرات الجنسية في حل من كل قيد اجتماعي أو ديني (الأبيات 112-122) نكاية في محرمات الكنيسة الصارمة. وثمة نافورة التشبيب، متى أحس المرء بدنو شيخوخته ترع منها فعاد شابا ذا حداثة ونظارة بمثل ما كان عليه أول أمره.

 

أما بعد؛ فما الرسالة التي أرادت هذه اليوطوبيا أن تبلغها إيانا؟ إنها نداء إلى التحرر من محرمات المجتمع المسيحي الوسيط، نداء للحرية وللاستمتاع، نداء لحرية البحث عن سعادة آنية دنيوية عاجلة في هذه الأرض هنا والآن. ومن ثمة، كانت هذه اليوطوبيا تعبيرا عن نقد بنيوي وظرفي في آن واحد للمجتمع المسيحي الوسيط ولقيمه المتزمتة. هو نقد بنيوي؛ لأنه عارض التوبة والنسك والزهادة والقشافة باللذة والمتعة والقصف والطرب، كما واجه المنع والحظر بالإباحة والسماحة والحرية والعفوية. وهو نقد ظرفي؛ لأنه متعلق بوضع المجتمع الوسيط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، وتلك كلمة هذه اليوطوبيا الأخيرة.

 

أخيرا، من الغريب حقا أن يترافق ظهور كتابين مؤسسين للفكر السياسي الحديث في صدورهما: ذلك أن كتاب "الأمير" لمكيافلي وكتاب "اليوطوبيا" لمور صدرا معا في العشرية الثانية نفسها من القرن السادس عشر الميلادي التي أعلن فيها القطع النهائي مع فكر العصر الوسيط. فأما الكتاب الأول، فقد صدر حوالي عام 1513 م، وأما الكتاب الثاني، فقد صدر حوالي عام 1516 م. وكلاهما نظر في الإنسان السياسي، لكن ليس بالنظر نفسة: ذاك بالنظر الواقعي، وهذا بالنظر اليوطوبي. وكأننا بالإنسان -من حيث هو كائن سياسي- ليس يمكنه أن يسير إلا على رجلين: الواقع والأمل، وكأنه إن فقد رجلا واحدة صار يميل! كثير من الواقعية السياسية قد يبعث في الإنسان الملل، وكثير من الحلم السياسي قد يحمل إليه الكوابيس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

 

1)                       Jacques Berchtold, « Regards sur l’utopie », in Europe, Numéro spécial: Regards sur l’utopie, 89° année, N°985/ Mai 2011, p. 12.

 

2)                       Emmanuel Kant, critique de la raison pure, Traduit par A. Tremesaygues, B. Picaud, Quadrige, PUF, 1984, p. 5.

 

3)                       Miguel Abensour, « L’utopie au risque de l’incandescence: Entretien Avec Miquel Abensour » in Europe, Numéro spécial: Regards sur l’utopie, op. cit., p.322.

 

4)                       Muhsin Mahdi, « Al-Farabi’s Imperfect State », Journal of American Oriental Society, vol 110, n°4 (October-December, 1990), p. 691.

 

5)        أبو نصر الفارابي: كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، سلسلة نصوص ودروس، المجموعة الفلسفية، تحقيق: ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثامنة، 2002.

 

6)        المصدر نفسه. ص. 170.

 

7)        المصدر نفسه، ص118.

 

8)        المصدر نفسه، ص122.

 

9)        المصدر نفسه، ص140-141.

 

10)       المصدر نفسه، ص149.

 

11) Richard Walzer, Al-Farabi on the Perfect State, Clarendon Press, 1985, p. 242.

 

12)       المصدر نفسه، ص147-148.

 

13)       ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ. ترجمة: عطيات أبو السعود، سلسلة عالم المعرفة، العدد 225، الكويت، 1997.

 

14)       Jacques Le Goff, « L’utopie médiévale: Le pays de Cocagne » in Revue européenne des sciences sociales, Tome XXVII- 1989 - N° 85, p. 272.

 

15)       Jacques Le Goff, « L’utopie médiévale: Le pays de Cocagne » op. cit., p. 274.

 

16)       Jacques Le Goff, « L’utopie médiévale: Le pays de Cocagne » op. cit., p. 286.

 

17)            Jacques Le Goff, « L’utopie médiévale: Le pays de Cocagne » op. cit., p. p. 278
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك