موسكو والجامع: اختيارات المسلمين في روسيا بوتين
أضافه الحوار اليوم في
روبرت كروز
كان الروس يحبسون أنفاسهم- إن صحَّ التعبير- على مشارف الألعاب الأوليمبية الشتوية عام 2014 لأسبابٍ وجيهة؛ فمدينة سوشي - التي أُريد إقامة الألعاب فيها - كانت منتجعاً محبباً لكوادر وموظفي الكرملين، وهي تقع على جبهة روسيا الجنوبية، وتقع على بُعد 50 ميلاً إلى الغرب من منطقة القوقاز ذات الحكم الذاتي في روسيا الاتحادية، وهي المنطقة التي تغصُّ بالاضطراب الإثني، والانفصاليات القومية، والضغوط الأمنية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وفي السنتين الأخيرتين فقط؛ فإنّ العنف في هذه الناحية الجبلية- بما في ذلك تفجير السيارات المفخخة، والاغتيالات، والصدامات بين قوات الأمن والمقاتلين المسلمين- أوقع أكثر من 1500 قتيل، وكان الثائرون المسلمون في شمال القوقاز يناشدون المسلمين الروس الآخرين مآزرتهم والانضمام إليهم في كفاحهم الوطني. وفي الصيف الماضي دعا دوكو عمروف- أحد المقاتلين الذين يزعمون السيطرة على جمهوريةٍ خيالية - كلاً من منطقتي تتارستان وباشكو رتوستان أن يضيّعوا على الرئيس الروسي بوتين الفرصة لإقامة الألعاب الأوليمبية الشتوية في سوشي، على رفات وعظام الأجداد. بيد أنّ محاولات أوماروف لإثارة المسلمين الروس ضد بوتين ما كان لها أثر. ويبقى القوقاز أحد المناطق التي للمسلمين أكثرية فيها. وبعكس الظاهر فإنّ المدينة مستقرة، ومندمجة، وفيها بعض الازدهار. إنّ معظم المسلمين في جمهورية روسيا الاتحادية نادراً ما أبدوا تعاطفاً مع ثوران إخوتهم في شمال القوقاز وكما يدل التاريخ؛ فإنّ هؤلاء أظهروا دائماً الاستعداد للتلاؤم، وليس الميل إلى التمرد بخلاف بعض مسلمي شمال القوقاز.
إنّ السؤال الأهمّ اليوم: هل سيظل الكرملين يدبِّر أموره مع المسلمين المختلفين عرقياً ولغوياً؟ وهل سيتمكن من الاحتفاظ بولائهم في المدى الأطول؟. لقد عملت الحكومات الروسية أيام بوتين بقوة من أجل كسْب المسلمين تجاه أهدافها السياسية وفي القضايا الداخلية والخارجية؛ لكنّ إيجاد طريقة لإنهاء الحرب في شمال القوقاز ظلَّ جزءًا من تلك القضية.
أمّا في الأقاليم الإسلامية الأُخرى في روسيا فإنّ علائق المسلمين بالدولة الروسية ستتحدد تبعاً لإفهام هؤلاء في رعاية "تقاليدهم" الدينية، وما هو الحدّ المقبول للتلاؤم بين معتقداتهم وأعرافهم من جهة، ومصالح الدولة الروسية من جهةٍ ثانية. لقد تبنى المسلمون الروس خلال العقود الماضية اتجاهات دينية مختلفة، وتدخُّل المسؤولين الروس في الحيوات الدينية للجماعات الإسلامية المختلفة يُهدّد بتنفير أولئك الناس، وبخاصة الذين يمارسون عباداتهم وتقاليدهم بطرائق سلمية تماماً. إنّ فرض درعٍ معيَّنٍ على حركية هذه الجماعة أو تلك - وإنْ بالتوافق مع بعض السلطات الدينية الرسمية في مواجهة مجموعةٍ أُخرى - لن يُسهم في حلّ الإشكالات والتحديات التي تواجه السلطات الروسية في أقاليم روسيا الإسلامية.
تحديات الإحصاء:
ليس من السهل وضع المسلمين الروس ضمن نظرةٍ أو قاعدةٍ واحدة. فحتّى أعداد المسلمين الروس وديموغرافيتهم تظلُّ مثار جدالاتٍ عميقة؛ فاليوم تقدّر الحكومة الروسية، والصحفيون، وهيئات حقوق الإنسان أعداد المسلمين الروس في حدود الـ20 مليوناً؛ أي حوالي الـ14% من مجموع السكان البالغ عددهم 143 مليوناً، وهذا التقدير لا يجعل من المسلمين الروس الديانة الثانية في البلاد فقط؛ بل وأوسع المجموعات الإسلامية في أوروبا كلّها؛ بيد أنّ أحدث الإحصائيات العامة التي جرت عام 2010 - والتي ما سألت عن الديانة بل عن "الإثنية" - قدّرت عدد المسلمين بـ13 مليوناً، أو ما يزيد قليلا عن الـ9% من مجموع الشعب الروسي. وهذه الأعداد المتضائلة ناجمة عن حساب الدين في سياق الإثنية بمعنى أنّ البشكيريين والآزريين والكازاخ والتتار والشيشان اعتُبروا جميعاً مسلمين، وقد رأى بعض قادة المسلمين أنّ هذا التعداد التقديري المنخفض يهدف إلى التقليل من شأن المسلمين، ذاهباً إلى أنّ كلَّ من يذكر أنه روسي أو سلافي الإثنية لن يُعد مسلماً. إنما على الرغم من هذا الخلاف فإنه حتى الدوائر القريبة من بوتين ما تزال تقدّر أعداد المسلمين بحوالي العشرين مليوناً. وهم يفعلون ذلك لكسب الاحترام في أوساط الدول الإسلامية، ولكي يكسبوا أصوات المسلمين في الانتخابات، وهذا الميل لزيادة الأعداد موروثٌ من الزمن السوفياتي الذي كان يشجّع الإثنيات على ذلك، ولنأخذ مَثَل تتارستان؛ ففي العهد السوفياتي الأول أيام لينين وستالين (وهو من الإثنية الجيورجية) جرى خلق جمهورية تتارستان وجمهوريات لإثنيات أُخرى للإسهام في إظهار زيادة الأعداد في وجه الكثرة الروسية.
واليوم؛ فإنّ النُخَب هنا وهناك تتمسك بتلك الأساليب السابقة بسبب ادّعاء التمثيل لمصلحة تلك الإثنيات أو القوميات. إنما حتى في تتارستان والجمهوريات المشابهة، وفي العهد السوفياتي؛ قد كان صعباً دائماً الاحتفاظ بالأكثرية لهذه الإثنية أو تلك في جمهوريتها. وذلك بسبب كثرة الروس في كل مكان، وبسبب الهجرة. فالتتار اليوم لا يشكلون أكثر من نسبة 53% من مجموع مواطني الجمهورية البالغ عددهم 8.3 مليون نسمة. ويتهم كثيرون الناشطين المسلمين والنُخَب المحلية بزيادة الضغط على القائمين بالإحصاء لزيادة الأعداد وصَون المصالح.
إنّ حالة صعبةً مثلما ذكرنا وأكثر حدثت في موسكو؛ فقد قيل في الإحصائيات الرسمية: إنّ المسلمين هناك عددهم 300 ألف من 12 إلى 17 مليوناً هم عدد المقيمين بالعاصمة. إنما هناك من يقول بوجود مليونين أو أكثر من المسلمين غير المسجَّلين والهاربين بسبب الظروف الاقتصادية من أذربيجان وطاجكستان وأوزبكستان؛ بيد أن وجودهم المؤقت وغير الشرعي يجعلهم معرَّضين لاضطهاد البوليس والاستغلال والعنف العنصري، وهذه الأمور كلّها تحبط جهود الحكومة لإظهار نوعٍ من التسامح. ومن جهةٍ أُخرى فإنّ الإحصائيات غير الصحيحة، وعنف الشرطة، والاستعلاء العنصري؛ كلُّ ذلك يحيل المسلمين إلى مجموعةٍ واحدة، رغم اختلافاتهم الإثنية والمذهبية وتناثُرهم على اتّساع البلاد الشاسعة المساحة. في مناطق مثل تتارستان يشكّل المسلمون النخبة، إنما في المناطق ذات الكثرة الروسية فهم القوة العاملة ويقعون في أسفل درجات السُلَّم. إنّ النظام الفيدرالي الروسي يعطي الأقليات والمجموعات الإثنية درجةً معتبرةً من التأثير والنفوذ؛ بيد أنّ السياسات الحكومية، وقسوة البوليس المشهودة والموثَّقة، والملاحقات في الشوارع والأحياء وأماكن العمل- كل ذلك يضع المسلمين على الهوامش، ويجعلهم غير مرئيين للقائمين على الإحصاء، في الوقت الذي يظلون فيه ظاهرين كثيراً في عيون الروس القلقين من الهجرة الإسلامية إلى مُدُنهم وبلداتهم.
ما وراء الشيشان:
إنّ هذا القلق من المسلمين أثارته لدى الروس المواجهاتُ الطويلة مع الشيشان الانفصاليين. وهذا النزاع - الذي امتدّ على مدى شمال القوقاز - صعّد من الراديكالية الإسلامية، وقوّى في أذهان الروس المخاوف من العنف الإسلامي. وعندما حدثت التفجيرات والهجمات في فولغوغراد في ديسمبر الماضي، على أيدي مسلَّحين من شمال القوقاز تبين للسلطات أنّ القوقازيين تجاوزت حملاتهم حدود الإقليم إلى الأراضي الروسية؛ لكنّ الحكومة أيضاً أفادت من هذه المخاوف؛ فقد دأبت الحكومات الروسية على اصطناع إرهابٍ حيث لا إرهاب هناك، وكثيراً ما اتهمت عناصر محليةً بالعنف والإرهاب دون أدلةٍ غير شكل الهيئة أو اللباس. وغالباً ما دعم رجال دينٍ محليون موالون للحكومة تلك الدعاوى بنسبة العنف إلى "الوهّابيين" الذين تأثروا بالتوجه الديني السعودي المعروف في هذا الشأن؛ فالحكومة تستخدم هذا المصطلح بشكلٍ واعٍ، ورجال الدين التقليديون يسارعون لذلك حفظاً لنفوذهم لدى الحكومة من جهة، ولأنهم لا يحبون ظواهر التدين الجديدة والغريبة عن تقاليد المسلمين الروس! ومن ضمن الجماعات الراديكالية الجديدة:جماعة التبليغ، وهي أوسع الجماعات الدعوية الإسلامية في العالم، وحزب التحرير الذي يعمل على استعادة الخلافة!
لقد كانت هناك ظروفٌ وأوقاتٌ استخدمت فيها السلطات هذا التخوف من الإسلام لجمع الناس حولها، ولتبرير انتهاج إجراءات أمنية قاسية، وهو الأمر الذي حدث في رئاسة بوتين الأولى، ورئاسة سلفه يلتسين. ومن ذلك ما يذهب إليه المراقبون من شكوك بشأن دور أو أدوار أجهزة الاستخبارات في بعض الهجمات الإرهابية، من مثل تفجيرات المباني في عام 1999، وتفجير مسرح دوبروفكا عام 2002 الذي ذهب ضحيته المهاجمون الشيشان الأربعون، و130 من الرهائن. وتميل موسكو على الدوام على ربط الاضطرابات في شمال القوقاز بالتمردات خارج الأراضي الروسية. وعندما بدأت الهجمة الروسية الثانية على الشيشان عام 1999؛ فإنّ بعض المقاتلين هناك شنوا حملةً لإقامة إمارةٍ إسلاميةٍ على الأراضي الروسية؛ بيد أنّ هذه التصرفات الخيالية مسؤولةٌ جزئياً فقط عن النزاعات التي انتشرت في كل مكانٍ على الأرض الروسية وغيرها، أما في أغلب الحالات فإنّ المقاتلين كانوا يسعون لتحقيق أهداف محلية متعلقة بالسلطة أو بالغنائم، والانتقام من قوات الأمن، وقليلاً ما استخدموا الدوافع الدينية من أجل ذلك.
الواقع أنّ الغالبية العظمى من المسلمين الروس يظلُّون متشبثين بالاستقرار، وبالولاء للسلطات القائمة ومؤسساتها، وهناك بالطبع جاذبية متزايدة لدى الشباب لنداء العالمية الإسلامية؛ لكنّ المسلمين الروس الذين يتمسكون ببعض التقاليد في اللباس، وفي أكل اللحم الحلال، لم تزعزع ميولهم للاستقرار، ولا طمحوا لإقامة سلطاتٍ من نوعٍ جديد. وتظل هذه الغالبية غير معنية بما يحدث خارج روسيا، أو بالدعاة الآتين من مواطن وبلدانٍ أُخرى، وهم مثل المجموعات الدينية الأُخرى أفادوا من الحريات الجديدة بعد سقوط الشيوعية، وراحوا يحاولون استكشاف دينهم وتقاليدهم العريقة، ومع ذلك فإنّ معظمهم ما استجاب للدعاة الأتراك أو السعوديين أو المتحمسين الآخرين، والذين حاولوا جميعاً الحلول محلَّ الحزب الشيوعي السابق، ومنظماته الجماهيرية. وقد كانت للسلفية الروسية وما تزال تأثيرات باقية؛ لكنها تتعلق بشكلٍ من أشكال الإسلام يستلهم عهد الراشدين من خلفاء النبي محمد-صلَّى الله عليه وسلَّم- في اللباس والتصرف، ولا يتخذ في العادة أشكالاً عنيفة. لقد ظهر التأثير السلفي على وجه الخصوص في داغستان. أمّا بقية نواحي شمال القوقاز فالغالب عليها التركيز على إعادة بناء مدارسها الدينية التقليدية. وفي هذا المسعى فإنّ المسلمين الروس حظوا بدعم الدولة الروسية التي رأت ذاك الإسلام التقليدي هو إسلامها الخاص. وروسيا تقول رسمياً: إنها دولة أرثوذكسية؛ لكنها تبقى حريصةً على حماية الإسلام التقليدي والبوذية واليهودية باعتبارها ديانات تقليدية روسية المنحى والطابع. وهذا يعني العمل على حماية المؤسسات الدينية التقليدية البعيدة عن الآثار الواردة من الخارج باعتبارها جزءًا من الوطنية الروسية.
نموذج كاترين العظمى:
وجد هذا المنحى من الإسلام تعبيره الخاص في الاحتفال الذي أقيم بمدينة أوفا بجمهورية باشكوركوستان في أكتوبر الماضي؛ احتفاءً بالإدارة الإسلامية المركزية التي أُقيمت بأوفا قبل مائتين وخمسةٍ وعشرين عاماً أيام كاترين (1762-1796) حين أعلن اعتبار الإسلام إحدى الديانات الروسية التي تتمتع بحماية الحكومة. ووقتَها ما حظيت المؤسسات الدينية الإسلامية باعتراف الحكومة القيصرية فقط؛ بل وجرى الاعتراف بقوانين الأحوال الشخصية الإسلامية في شؤون الأسرة والأخلاق العامة. وكثيراً ما استعان رجال الإدارة الدينية الإسلامية بالبوليس القيصري لضرب جرائم الشرف، أو معاقبة الذين لا يقيمون الصلاة. وبذلك صار الإسلام المحافظ جزءًا من الإدارة الإمبراطورية الروسية، وكان المنتظر في المقابل أن يعلّم المسلمون أولادهم أنه لكي تكون مسلماً جيداً، فينبغي أن تكون موالياً للدولة القيصرية. والمسلمون اليوم - كما بالأمس - يعظون من على منابرهم ضد الكحول والمخدّرات والأمراض الاجتماعية، كما كانوا يفعلون قبل مئات الأعوام، والسلطات تسلك في تناسُقٍ معهم المسلك نفسه الذي كان يقوم به البوليس القيصري، ومن بين رجال الدين هؤلاء من يدعو لدعم التوجهات الروسية في مواجهة الإمبريالية الأميركية. في احتفالية أوفا عد بوتين الإسلام جزءًا أساسياً في الهوية الروسية، وفي التاريخ الروسي، وامتدح الشيوخ الذين يدعمون الوطنية الروسية الصاعدة، وحذر من بعض العناصر الراديكالية المعاصرة التي تريد وضع الإسلام في مواجهةٍ مع الوطنية الروسية، ونبّه إلى أنّ المسلمين كانوا دائماً عنصراً مهماً في الوطنية وفي الاستقرار والاستعصاء على الواردات من الخارج. وأجابه بحماس المفتي طلعت تاج الدين مشيداً بعمل إدارته المركزية على الدعوة للإسلام التقليدي في مواجهة الراديكاليين، وفي التأكيد على الوطنية الروسية الباقية والمتجذّرة في صفوف المسلمين.
لعبة بوتين:
إنّ هذا الحوار - الذي ما انقطع بين الإدارة الحكومية الروسية ورجال الدين التقليديين - يعني الشيء الكثير؛ لكنّ بوتين يواجه تحدياتٍ في هذا الشأن؛ فالمسلمون - حتى من الناحية الإدارية - غير موحَّدين؛ طلعت تاج الدين يريد التعاون؛ لكنّ منافسه رافيل عين الدين - رئيس مجلس شورى المفتين القديم - لا يملك الأفكار ذاتها. وما غاب عين الدين عن الاحتفال؛ لكنه ما مكث طويلاً في احتفال أوفا. لقد تصارع الرجلان لسنواتٍ ضمن المؤسسات الدينية والإدارية الروسية على النفوذ والموارد والقُرب من الحكومة؛ أراد تاج الدين وضع حوالي الثمانين منظمة تحت سلطته؛ لكنّ عين الدين منزعج من حكم محكمةٍ محليةٍ بمنع نشر وتوزيع ترجمة جديدة للقرآن الكريم. وهكذا فالرجلان يتنافسان على إرضاء الحكومة الروسية؛ لكنّ بوتين لا يستطيع الانتصار لأحدهما حتى لا يغضب الآخَر، وهذا الصراع الذي ذكرناه يتمدد في سائر أنحاء روسيا، ورجالُ الدين الشباب منهمكون فيه، وكلٌّ منهم ينادي الدولة للتدخل لصلاحه، وهو يهاجم البدَع، ويريد من الدولة أن تدعم وجهة نظره. وفي حادثةٍ قبل شهور قام الإمام سيد جعفر لطف الدين بمهاجمة اثنين من دُعاة حزب التحرير، ودعا الدولة للقبض عليهما، وهذا هو الذي تمَّ بالفعل. وهذا يعني أنّ هناك صراعاً خفياً على ماذا يعني أن تكون مسلماً في روسيا اليوم؛ فبعض أئمة التتار يعدون الإسلام جزءًا من هويتهم الإثنية، كما يعدون كلَّ مخالفة خروجاً على الدين. إنما هناك تتارٌ أيضاً أكثر ليبرالية، يدعون لإصلاح إسلامي، وإسلام عصري شبيه بما في أوروبا. ورغم اختلاف ذينك الاتجاهين فيما بينهما؛ فإنهما مُدانان من جانب السلفيين الجدد الذين ينتشرون في أوساط شباب المسلمين الروس. والسلفيون هؤلاء غير مسيَّسين ويتميزون بلحاهم وملابسهم، ولا يريدون الخضوع للتيار السائد في الإسلام الروسي. لكن رغم هذا الانتشار السلفي فمن غير الصحيح عد هؤلاء مستقبلَ الإسلام؛ ففي باشكورتوستان وتتارستان وموسكو وبطرسبرغ كل التيارات حاضرة، وتتنوع الاتجاهات بالهجرات الجديدة من الجمهوريات الإسلامية السابقة. ويُدين السلفيون مزارات الأولياء وزوارها كما يدينون الصوفية؛ لكنّ المزارات في زيادة. والاتجاهات كلها تصلي معاً، وتتحاور وتختلف لكنها لا تنقسم.
هناك إحياءٌ دينيٌّ في روسيا إذن. إنما لا ينبغي أن نبالغ في حدوده، كما لا ينبغي أن نبالغ في درجات راديكاليته؛ ففي استطلاعٍ قامت به مؤسسةٌ محترمةٌ للرأي والتوجه الديني، تبين أنّ نسبة المسلمين المتحمسين للدين والعبادات أقلّ من نسبة المتدينين من الأرثوذكس. وفي استطلاع بتتارستان عام 2012 تبين أنّ نسبة 6% فقط تعد نفسها ملتزمةً دينياً بعمق، وأنّ 17% يملكون شكوكاً قويةً بشأن الدين. وقد مارست نساء مسلمات عادة التحجب منذ مطلع التسعينات؛ لكن 7% منهنّ فقط يضعن ما يُعرف بالحجاب الشرعي. وإذا كانت الراديكاليات تظهر في ظروف الحرب والبؤس؛ فإنّ تتارستان لا خوف عليها من ذلك، فهي غنيةٌ بالبترول، ولديها زراعةٌ مزدهرة وصناعة معتبرة. وهي تأتي رابعةً بين الأقاليم الروسية في مسائل التنمية ونوعية الحياة بعد بطرسبرغ وموسكو، وموسكو الكبرى. والذين أظهروا حماساً دينياً في الاستطلاعات ما كانوا من الشبان الغاضبين؛ بل معظمهم من الشيوخ المتقاعدين في النواحي الريفية. وبالطبع يختلف الوضع في جمهوريات أُخرى مثل الشيشان وأنغوشيا حيث الحروب والاضطرابات المختلفة الأنواع والأسباب. وهناك بالفعل ثلث القادرين على العمل عاطلون، ويسود في أوساطهم البؤس واليأس.
تناقضات الكرملين:
تبدو مقاربة الكرملين للإسلام حافلةً بالمتناقضات؛ فهناك من جهة الحرص على كسب المسلمين إلى جانب الحكومة، وهناك من جهة أُخرى نشر انطباعات سلبية عن الإسلام العنيف، وتتعامل الحكومة مع سائر الديانات على قدم المساواة، وكذلك مع الفِرَق الإسلامية والمسيحية واليهودية؛ لكنْ بنصرتها للإسلام التقليدي تجازف بإغضاب المجموعات والجماعات الأُخرى المتكاثرة، سواء أكانت عنيفةً أم غير عنيفة. لقد أكد بوتين في احتفالات أوفا على أن الإسلام ديانة تاريخية في روسيا، وكذلك فعل ميدفيديف في القاهرة عام 2009؛ بل وأضاف أنّ روسيا جزءٌ وعضوٌ من العالم الإسلامي! وهي بذلك تريد أن تعود ذاتَ حضور في آسيا والشرق الأوسط.
تملك موسكو والشيوخ التقليديون إذن أفكاراً محدَّدةً عن الإسلام الذي تريده الدولة الروسية؛ لكنّ المسلمين بأوساطهم ونخبهم المتكاثرة سيكونون هم الذين يحددون في الأجيال القادمة أشكال هويتهم وإدارة دينهم، وهي هويةٌ إشكاليةٌ تاريخياً وحاضراً؛ لكنّ الراديكاليات لن تكون اتجاهاً سائداً في أوساط المسلمين الروس لا في الحاضر، ولا في المستقبل.
الحوار الداخلي:
أنواع أخرى: