الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والسلطة السياسية: إطلالة تاريخية موجزة
أضافه الحوار اليوم في
كونستانتينوس باباستاذيس
مدخل:
الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية هي إحدى العقائد الإيمانية المسيحية الأربع، فضلا عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الرومانية الكاثوليكية والكنيسة البروتستانية. من الناحية التاريخية، كانت هذه الكنيسة هي العقيدة الإيمانية التي سادت في شبه جزيرة البلقان وروسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا، كما أنها كانت العقيدة الإيمانية المسيحية المهيمنة في بعض الأطراف الإسلامية، شأن تركيا وسوريا وفلسطين. ومذهبها حددته قرارات المجمع الكنسي السابع للكنيسة المسيحية الموحدة. هذا مع العلم أن الكنيسة الأرثوذكسية مُشَكَّلة من كيانات كنيسة ذات استقلالية تامة. وتحظى بالمرتبة الشرفية الأولى فيها المراكز الدينية البيزنطية القديمة التي قامت بالقسطنطينية (إسطنبول) والإسكندرية وأنطاكية والقدس. ويعتبر بطريرك القسطنطينية كبير أهل الكنسية والأول بين نظرائه(1).
وإن إحدى السمات السياسة المعروفة معرفة واسعة بالبلدان الأرثوذكسية الممتدة الأرجاء لتكمن في الدور البارز الذي ينسب فيها إلى الدين. وعلى مستوى المنظور العام، فإن واقع الأمر هذا لم يبزغ من فراغ، وإنما هو انعكاس للتماهي العميق الجذور القائم بين رجال الدين والمؤسسة السياسية. ذلكأن وظيفة البيروقراطية الكنيسة بوسمها "جهازا إيديولوجيا للدولة"(2)، وتسييس الدين من أجل عملية بناء الأمة، أو الوضع القانوني التفضلي للمؤسسات الأرثوذكسية في العديد من الدول المذكورة آنفا، إنما يعكس التفاعل القوي بين الدولة والكنيسة والوضع الاعتباري المتميز لرجال الدين داخل الفضاء الاجتماعي. ومن المثير هنا أنه داخل السياق الدنيوي الحالي، لا زال لهذا الوضع في بعض البلدان، شأن اليونان، طابع "مهيمن"؛ وذلك لأنه، بالنسبة إلى قطاع عريض يشكل معظم الساكنة، ينظر إلى الموقع الاجتماعي للكنيسة باعتبارها "أمرا طبيعيا"، وإلى تعاليمها بحسبانها جزءا لا يتجزأ من "الحس المشترك"؛ ومن ثمة تعد غير قابلة للمساءلة أو للاستشكال(3).
أما بعد؛ فإن الغرض من هذه الورقة تقديم لمحة تاريخية عن التفاعل بين المجالين الديني والسياسي داخل اتحاد الدول اليونانية الأرثوذكسية، مع إيلاء عناية خاصة إلى وجهة النظر الكنسية. وبالنظر إلى اتساع آماد الورقة، فإنني أعرض ببساطة الأطروحة الأساسية كما هي موجودة لدى مختلف المتخصصين في الكنيسة الأرثوذكسية. وبناء عليه، لست أدعي بأن هذه الورقة مساهمة أصلية مني، وإنما ينبغي النظر إليها على أنها خلاصة موجزة عن المعرفة المتحصلة في هذا الحقل؛ وبالتالي، فإن البيبلوغرافيا الواردة في متم هذه الدراسة أنموذج مؤشر على الدراسات ذات الصلة بهذا الموضوع، شريطة أن تستعمل دليلا وهاديا يقود إلى قراءات أكثر تعمقا.
وعلى وجه الخصوص، سوف يتم التطرق في هذه الورقة إلى المواضيع التالية:
أ- اللاهوت السياسي للكنيسة الأرثوذكسية. ب - وظيفتها الاجتماعية والسياسية. ج - الصلة بين الدولة والكنيسة.
وتبعا للأطروحة المصاغة بهذا الخصوص، فإنني أرى أن الوضع العام للكنيسة الأرثوذكسية عبر كل المراحل التاريخية لوجودها بقي إلى هذا الحد أو ذاك كما هو لم يتغير؛ أقصد أن التوازن بين المجالين هو توازن التعاون الوثيق في أداء المهمة. على أن هذا التدخل المشترك ما قام على أساس تعالق بين شريكين متكافئين، وإنما تشكل على أساس مبدأ أولوية الحقل السياسي. بعبارة أخرى، تم تحديد الكنيسة الأرثوذكسية بما هي مجال تابع للدولة، في صلة بين المهيمن (الدولة) والمهمين عليه (الكنيسة).
والحال أن واقع الحال هذا، على الرغم من ذلك، لم يبق هو هو من دون أي تغيير، وإنما تغير عبر المكان والزمان، وقد خضع بذلك إلى إعادات هيكلة وصياغة، كانت تقل أو تكبر، بالتناسب مع التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. هذا من دون أن ننسى الإشارة إلى أهمية العامل الديمغرافي الديني؛ أي أن سلوك الكنيسة السياسي إنما تعلق هو بما إذا كانت الأرثوذكسية هي الديانة المهيمنة في الدول المذكورة أم لا. نذكر هذا لأنه داخل إطار الأرثوذكسية القائمة المهيمنة، كما في بلاد اليونان أو في صربيا مثلا، تبين أن الوضع المؤسسي للتنظيم الكنسي كان يشهد على حظوة أكثر مما كان يحدث في حال ما إذا كان المحيط الاجتماعي دنيويا علمانيا أو مسلما. وقد تم تبني منهج نقدي في التحليل، وهو منهج قائم على الإبانة السياقية لإيديولوجيا المؤسسة الدينية وخطابها وممارساتها. بناء عليه، تم تقسيم هذه الورقة إلى أقسام ثلاثة تبعا للتحقيب المعروف على نطاق واسع: الأزمنة الوسيطة والأزمنة الحديثة والأزمنة المعاصرة.
الأزمنة الوسيطة:
إن إحدى لحظات الانعطاف في التاريخ العالمي كانت هي القرار الذي اتخذه الإمبراطور قسطنطين العظيم لاستدماج العقيدة الإيمانية المسيحية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الإيديولوجيا المهيمنة، كما كان كذلك استعمال المؤسسة الكنسية آلية رمزية بامتياز لبناء التوافق الاجتماعي وسيلة إلى إعادة إنتاج السلطة الإمبراطوية. ذلك أنه إلى حدود ذلك الحين، والذي خلاله قطعت الكنيسة روابطها باليهودية وإعادت هيكلة أسسها المذهبية والتنظيمية، كانت ثمة نظرتان أساسيتان تم تبنيهما من لدن الهيئة المسيحية اتجاه السلطة السياسية(4):
أ- نظرة سلبية: وكانت بمثابة ردة فعل ضد أنحاء الاضطهاد، اتسعت أم ضاقت، التي كان قد تعرض لها المسيحيون بتعلة أن المؤمنين رفضوا المشاركة في طقس تقريب القرابين إلى آلهة روما والقسم باسم عبقرية الأباطرة.
ب- نظرة محايدة: قامت على أساس التفسير الحرفي لرؤية يوحنا القيامية (36: 18)، والتي تبعا لها تم اعتبار الحياة الدنيوية مرحلة انتقالية قبل الحياة "الحقة" بعد عودة المسيح والعودة إلى الفردوس المفقود. ووفق هذا المنظور، فإن على المسيحيين أن يطيعوا السلطة الزمنية الحاكمة، وذلك من غير ما أن يتصرفوا بما يحرمه إيمانهم. والحال أن بعض آيات العهد الجديد، مثل ‘‘ دعوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله"(5)و“أكرموا الجميع أحبوا الإخوة خافوا الله أكرموا الملك"(6)، أو “لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَة"(7)، كانت ذات دلالة ومغزى بهذا الصدد.
هذا، وإن الإقامة التدريجية للمسيحية بوصفها دينا رسميا للإمبراطورية خلال القرن الرابع [الميلادي] لكانت تعني تغييرا واسعا في سلم الإدراك الكنسي لأمر "الشأن السياسي". ذلك أن الكنيسة بادرت إلى تكييف خطابها مع الغايات الرومانية، والتي تمثلت في ترسيخ البنية الإمبراطورية بوصفها البنية الشرعية للحكم، بعبارة أخرى، كان مذهب الكنيسة السياسي قد تماهى كل التماهي مع السلطة الإمبراطورية- وقد تم التعبير عن هذا الوضع أساسا في حقلين:
أ- حقل القانون الكنسي: أي مجمل القواعد التي تحكم النظام الداخلي للكنيسة وبنيتها التنظيمية، وتحدد المبادئ الأولى لمذهبها وإيديولوجيتها، كما لأخلاقها وأخلاقيتها. وقد تم اعتبار التشريع الإمبراطوري قسما من القانون الكنسي؛ أي أن المراسيم التي كان يصدرها الإمبراطور صار يمكنها أن تكتسي سلطة قانون ديني.
ب- في الموقف المهيمن للسلطة السياسية داخل الكنيسة الأرثوذكسية، والذي لعب دورا جوهريا ليس فحسب في تسيير الشؤون الدينية، وإنما أيضا في صياغة المبادئ المعيارية الأيديولوجية وفي حل مختلف المناظرات اللاهوتية(8).
والحال أنه كان مروج الأيديولوجيا السياسية التي قالت بها "الإمبراطورية الكونية" البيزنطية هو أوزيبيوس أسقف قيصرية(9). إذ بالنسبة إليه، فإن حكم قسطنطين العظيم، الذي حول وحدة البلدان التابعة إلى الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية المسيحية، إنما كان نقطة محورية في تاريخ العالم؛ وذلك بما أنه شكل غاية خطة الرب الخلاصية لانتصار الإيمان الحق. وطيقا لهذا النموذج الخلاصي للتاريخ، الذي يرى أن سير شؤون البشر إنما تحكمه مشيئة ربانية، فإن وجود الإمبراطورية إنما كان من أجل إقامة الدين المسيحي وانتشاره واستتباب أمره الاستتباب النهائي. وإذ استلهم مبادئ الفلسفة الأفلاطونية المحدثة المناصرة للحكم الملكي، فقد وصف أدسيبيوس الملك المسيحي على أنه ظل الله في أرضه؛ وذلك بحيث إن حكمه يجد النموذج الأول في الانسجام الحادث في الجنة. بناء عليه، تم تصور الدولة البيزنطية كما لو كانت هي صورة مصغرة تعكس نظام الأشياء كما هو في العالم الإلهي. وبما أن لا رب إلا واحد (وهو مفهوم الوحدانية)، فإنه ينبغي بالمثل ألا يوجد إلا ملك واحد، ومن ثمة، كانت منازعته في سلطته وقراراته أمرا يدينه الرب. وبالتالي، فإن على الكنيسة أن تخضع إلى سلطته، وذلك بما أنها السلطة المختارة للتصرف باسمه. وبالجملة، تم تصور الإمبراطور بوسمه خليفة الرب، وتم تصور الإمبراطورية بوصفها مملكة الرب في الأرض(10).
تأسيسا على الخطاطة النظرية السابقة، فإن نظام الصلات بين الدولة والكنيسة كان نظام البابوية القيصرية، والذي تبعا له كانت السلطة الزمنية (الإمبراطور) هي الرأس، وهي كذلك أعلى وظيفة في الكنيسة. وكان يعتبر الملك، فيما يتمتع به من حق إلهي، السلطة الدينية البابوية الأعلى Pontifex Maximus، وكان يدير الشؤون الدينية من وراء حجاب، يستدعي المجالس الكنسية ويحضر فيها، ويمضي على قراراتها، ويعين البطاركة والأساقفة، مع امتلاكه حق إقالتهم من مهامهم، ويقرر بشأن البنية الإدارية للكنيسة، وله كلمته التي يقولها في صياغة التعاليم المذهبية(11). وكان تمثيل السلطات الدنيوية، بما هي أداة الرب في تحقيق مشيئته، يحدد الزعيم السياسي بوسمه جزءا لا يتجزأ من النظام الرباني الذي تنتظم وفقه الأشياء. وبناء عليه، فإن لا أحد أفراد الرعية بصفته الفردية ولا الرعية بصفتها الجماعية تُسائل أو تعارض السلطة الإمبراطورية إلا وكان ينبغي إدانتها، وذلك لأن عصيان السلطة السياسية إنما معناه في جوهره إعاقة خطة الرب الخلاصية. تأسيسا عليه، فإن التمرد ضد الحكم الإمبراطوري كان يتم اعتباره معاداة الرب. ومن ثمة، فإنه، بالنسبة إلى الكنيسة، كان يعتبر الإمبراطور الفاعل الوحيد المشروع المخول له بممارسة السلطة القسرية(12).
على أنه ما كان ينبغي النظر إلى البابوبة القيصرية على أنها نظام صلات وكنيسة خُلق من عدم أو على أنه مجرد بناء نظري أنشأه أوزيبيوس، وإنما ينبغي النظر إليه بوصفه أرسومة أو أخطوطة تعكس الثقافة السياسية والتراتبيات الاجتماعية ومعايير الإمبراطورية، حيث كانت إحدى أهم سماتها البيروقراطية الممركزة. وهو ما كان وصفه ماكس فيبر على أنه نظام تحكمي أشبه شيء يكون بالنظام الأبوي Patrimonialismus؛ أي أن العملية الاجتماعية والسياسية، فضلا عن عملية اتخاد القرار، لم تكن تستند إلى تقديرات غير شخصية وإجراءات عقلانية، وإنما كانت تنهض على إدارة الحاكم. بعبارة أخرى، ما كانت شؤون الدولة تدار على أساس جملة قواعد مؤسسية قانونية، وإنما كان القانون مجسدا في الملك العاهل نفسه(13).
ولقد كان من نتائج التماهي بين المسيحية والسلطة الزمنية توفير وضع شرعي ومالي امتيازي للكنيسة. وفضلا عن هذا، تسييسها، اللهم باستثناء تقديس السلطة الإمبراطورية، إنما صَيَّرَ الكنيسة أداة لتحقيق غايات الحكم في ما يخص السياسة الداخلية وفي ما يتعلق بانتشار الأطراف الدولية للإمبراطورية. إذ تم توسيع الهيئة الدينية توسيعا، مما كان من أثره أن جعل مؤسسة الكنيسة عنصرا تلاحميا في المجتمع البيزنطي، مفككا بذلك مختلف الكيانات الأثنية والثقافية الواقعة على ثغور الإمبراطورية، لاعبا بذلك دورا أساسيا في الحفاظ على وحدة الدولة وفي السلم الاجتماعي. وفي غضون ذلك، مولت الدولة بعثات إلى البلدان الأخرى، شأن بلاد الروس وغيرها، لاسيما الجماعات الإثنية السلافية، وعملت على توسيع تحكم الكنيسة في هذه المناطق؛ وبالتالي قوت هي من مقدرات تأثير الإمبراطور على سكانها(14). وفي الجملة، استقت السلطة الدنيوية وضعها الرمزي وشرعيتها الاجتماعية من المجال الديني، وهي الحماية التي كانت وسيلة إلى تهدئة التوترات الاجتماعية، كما كانت أداة للدعاية إلى غايتها الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية. وكما أشار إلى ذلك ديفيد مارتن، فإن الكنيسة الأرثوذكسية "المؤسسة" قد تمت دنوتها من بداية وجودها؛ إذ صارت لها بنية بيروقراطية، وشكلت عاملا أساسيا للعمل السياسي(15).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن النظرة التي تذهب إلى أن العلاقات بين الكنيسة والدولة، على النحو الذي كانت مقامة به أيام بيزنطة، لم تكن من نمط البابوية القيصرية، وإنما قامت على قدم المساواة في التعايش، إنما تم تصورها تصورا أيضا وعرضها عرضا. وإن العناصر الكبرى لهذه الأرسومة لكانت هي:
أ- التعاون الوثيق بين السلطتين الدنيوية والدينية؛ وذلك بما أن الاثنين أقرا بأن يسوع المسيح هو سلطتهما العليا.
ب- المساندة المتبادلة في ما يخص تحقيق أهداف مشتركة.
ج - حماية خصوصية كل مجال من المجالين وحريته في الفعل داخل حدود كفاءته.
وبعبارة أخرى، تم تصور الدولة والكنيسة باعتبارهما سلطتين متكافئتين؛ أي بحسبانهما سلطتين تتعاونان في إطار منسجم باسم الرب. والحال أن هذه النظرية هي بالفعل أسطورة تاريخية مشيدة، و"تقليد مبتدع"، أدخله البطريرك فوتيوس، الذي أعرب عن طموح للسلطات الكنسية في أن تكون لها كلمة تقولها في ما يخص الشؤون الدنيوية - وهو الوضع الذي، بالرغم من كل ما قيل، ما تم تحقيقه في الواقع أبدًا التحقيق(16).
و من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى الفارق بين الكنيسة "المؤسسة" والحركة النسكية. وهو فارق بين الطابع الدنيوي للمؤسسة المقامة الأولى، من جهة، والسمو الروحي وقداسة النساك من جهة أخرى. وبالنسبة إلى المخيال الجماعي للمؤمنين، فإن الحياة النسكية شكلت طراز الأرثوذكسية، محددة بذلك ناموس التعاليم اللاهوتية ومعيار الأخلاق المسيحية. إذ تم تصور النساك بوصفهم ممثلي العيش المسيحي "الحق"(الحياة التأملية)، وذلك لأنهم ما كانوا متأثرين بالأمور الدنيوية ولا ساعين إليها. وبالضد من ذلك، سعَوْا إلى التعالي على الشؤون المادية الدنيوية والصيرورة جزءاً من الزمن والمكان الإلهيين غير الفاسدين ولا الفانيين، صائرين بذلك التجسيد الفعلي لضمير المسيحية المتعفف. ولهذا السبب، ما كانت بؤرة قولهم هي "الخيرات" و"الممتلكات" بالمعنى السياسي، وإنما صفاء المذهب الذي كانوا يعتبرون حمايته بمثابة القضية الوجودية التي ندبوا لها حياتهم(17).
وما كان بالظاهرة النادرة الحدوث نزاعهم مع الكنيسة الرسمية (ومن ثمة مع رئيسها الإمبراطور) في إطار سعيهم إلى التجديد المذهبي أو التحول عن التقليد الكنسي. وإن الدور الأعظم المنسوب إلى الجماعة النسكية في مناظرة تحريم الصور (726-787 و814-842) أو في الانقسام داخل الكنيسة بين مناصري ومناهضي الوحدة مع الكنيسة الرومانية مع انعقاد مجلس فيرارة - فلورانس (1437-1439) لذو دلالة قوية ومغزى بَيِّن بهذا الصدد.
وبالجملة، كان العهد البيزنطي حقبة صياغة وتخليص الأيديولوجية السياسية للكنيسة، وذلك على أساس المبدأ الأكبر الذي هو استتباعها إلى الدولة. ومع الأخذ بعين النظر السياق التاريخي المختلف الناشئ بعد الغزو العثماني للقسطنطينية، فإن خط التفكير إياه وبعينه قد تم اتباعه، بالأكثر أو بالأقل، من لدن البيروقراطية الكنسية، وذلك بحسبانه وسيلة لحماية الاستمرار التاريخي للأرثوذكسية داخل الدولة المسلمة.
السياسة الأرثوذكسية تحت الحكم العثماني
عملت البنية الترابية للحكم الديني بمثابة الخلفية العميقة التي أولاها العثمانيون اهتماما خاصا بغاية الحصول على توافق الساكنة المسيحية. على أن توسيل الأرثوذكسية لخدمة غايات العثمانيين ما كانت ظاهرة مبتدعة، وإنما كانت مستندة إلى اللاهوت السياسي للكنيسة في حد ذاته. وفي ما يتعلق بوضع الرعايا المسيحيين، فإن الباب العالي كان ينهج - على الأقل من حيث المبدأ - سياسة تسامح. لكن هذا ليس يعني، مع ذلك، أنه على مستوى التطبيق ما كان المسيحيون مضطهدين من طرف الدولة، بسبب من عقيدتهم الإيمانية، أو أنه كانت لهم منزلة مكافئة، أمام القانون وفي الحياة اليومية، لمنزلة بلدييهم من المسلمين. والحال أن سياسة التسامح هذه كانت تجد جذورها الراسخة في التقليد الإسلامي. إذ حسب القرآن، فإن ديانات أهل الكتاب؛ أي تعيينا الجماعات الدينية المعتنقة للتوحيد (اليهودية والمسيحية فضلا عن الإسلام) ينبغي أن تتم حمايتها، وأن يُصان أداء شعائرها وطقوسها، وأن تضمن حرية تدين أتباعها، وأن تُحترم من لدن السلطات السياسة(18).
وإلى حدود العقود المتأخرة من القرن الثامن عشر والتبني التدريجي لنظام الطوائف المِلَّي (نظام المِلل)، فإن العنصر غير المسلم كانت قد حددته الإدارة العثمانية بما هو "طوائف الكفار" أو"أهل الشرك". وكل طائفة، وكان هذا الاصطلاح يعني جملة مشتركة من القيم الدينية التي تتقاسمها جماعة من الساكن، تعيش تحت رعاية زعامتها الدينية. على أن هذا الحال ليس يعني صوغ جماعة موحدة متلاحمة (ملة) معترف بها بوصفها كذلك من لدن الباب العالي، لا ولا يدل على كونها تتمتع بوضع كيان رسمي شرعي يحكمها قانون عام أو خاص(19). إذ ما كانت هوية الرعايا العثمانيين الثقافية محددة وفق اصطلاحات انتمائهم الشخصي، وإنما كانت متعلقة بما إذا كانوا ينتمون إلى جماعة المسلمين أم لا ("الكفار"، غير المسلمين، غير المؤمنين). وما كان يتم اعتبار بطريرك القسطنطينية الأرثدوكسي السلطة العليا للساكنة الأرثوذكسية للإمبراطورية في جملتها، وإنما كان يعد السلطة العليا لجماعة من غير المؤمنين القاطنين داخل حدود منطقة تحد قضاءه الديني(20). هذا دون أن نذكر أن تعيين الزعماء الدينيين كان يتطلب قبلا موافقة السلطات السياسية التي يمكنها أن تفرض أية عقوبة، بل حتى إعفاء الأساقفة من مهامهم، في الحالة التي يعتبرون أنها تستدعي ذلك. لم تكن مختلف الحقوق والامتيازات، مثلها في ذلك مثل واجبات أسقف نحو المؤمنين الذين يقعون تحت قضائه، تحتكم إلى الكنيسة معتبرة في جملتها، لا ولا إلى تابعي حاملي الوظيفة الكنسية، وإنما إلى الأسقف معتبرا في فرديته. وبالجملة، فإن الوثيقة الشرعية (برات) التي تصدرها السلطات للموافقة على تعيين زعيم ديني كانت شخصية، وكان للمهام الموكولة إليه طابع مناسب له وحده (يخصه وحده على مقاسه). ولهذا السبب، كانت ثمة فوارق كبرى بين الصلاحيات الممنوحة للأساقفة الذي ينتمون إلى نفس الأبرشية نفسها(21).
وبدءا من الحقبة المتأخرة من القرن الثامن عشر فما بعد، سعت البطريركية الكنسية إلى أن توسع اختصاصاتها ومهامها بجعل الكنيسة الأرثوذكسية برمتها في مجمل الإمبراطورية، عبر الاستتباع الفعلي للمراكز الأرثوذكسية الأخرى (بطرياركات الإسكندرية وأنطاكية والقدس)، تحت إمرتها. وقد صار هذا التطور أمرا لا مرد له؛ وذلك بسبب وضعها الاستراتيجي في عاصمة الإمبراطورية، والهيمنة المالية للنخب الأرثوذكسية بالقسطنطينية (الذين كانوا يدعون "الفناريوتيون")، كما بسبب اللامبالاة المقصودة من طرف الباب العالي، وكان من نتائج ذلك أن كل البطرياركات الأخرى المستقلة نظريا أمست تابعة لآلية كنيسة القسطنطينية، وذلك بغاية أن تسهر على شؤونها. وبالتالي، احتلت بطريركية القسطنطينية عمليا وضع الزعامة المعترف بها من لدن الباب العالي بما هي السلطة العليا للجماعة الأرثوذكسية الموحدة(22).
وكان النظام الملي ينظم شؤون الجماعات غير المسلمة من أهل الكتاب. وكان شغلها الأول الإدارة المستقلة للشؤون الداخلية لكل فرقة دينية عن طريق زعيمها الروحي؛ وفي حالتنا هذه التي نحن بصددها البطريرك الكنسي. وكانت للبطريرك دائرة موسعة من المسؤوليات؛ شأن العمل التربوي والخيري، والبت في الأمور القضائية لرجال الدين ولغير رجال الدين من الطائفة، والتي كانت مقصورة رسميا على قضايا الأحوال الشخصية وقضايا الإرث. وبهذه الطريقة، كانت البيروقراطية الأرثوذكسية تملك إلى حد كبير زمام سلطة التحكم في الساكنة المسيحية المسماة ملة الروم(23). وقد نتج في هذا الأمر أن كانت تحدد الهوية السياسية للرعايا العثمانيين في تناسب مع انتمائهم الديني.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الوضع المفضل للزعامة الكنسية، بوصفها الممثل السياسي للجماعة الأرثوذكسية، لم يكن ليعني تحكما مطلقا في الساكنة المسيحية. وذلك لأنه كان قد نتج عن التنظيمات(24) ما سمي التشريعات المقننة العامة أو القومية لملة الروم (1862) التي كانت آنَها قد صدرت. وحسب ما تنص عليه، صارت للعنصر الدنيوي ‘مؤسسيا‘ كلمته الفعالة في عملية اتخاذ القرار. وبغاية صياغتها وتحريريها، نصب ما سمي المجلس الجماعي المؤقت، والمكون من سبعة أساقفة واثنين وعشرين مشرعا. وبحسب هذه التنظيمات، صار يلزم أن تعود إدارة الشؤون الجماعية إلى هيئتين: أ - الـسينودس المقدس للبطريركية الكنسية. ب - المجلس المختلط ذي الأغلبية من غير رجال الدين [من المدنيين]. وكان يلزم تعيين البطريرك من لدن الكيانين الجماعيين معا، بينما كان على المجلس المختلط أن يكون مسؤولا عن أنشطة الجماعة التربوية والثقافية والقضائية(25). وقد ترتب عن هذا، أنه فيما يتعلق بالكنيسة الأرثوذكسية، فإن تم تثبيت النزوع التطوري التنظيمات العثمانية نحو إعادة توزيع الأدوار الاجتماعية داخل الجماعة. وقد أدى ذلك إلى إنتاج ضربين من المشروعية السياسية(26).
وتبعا للأنموذج القديم، خلقت هذه الحالة من الأمور صلة تفاعلية بين الهوية الدينية والفكرة القومية الناشئة. وبالجملة، فإن النظرية القائلة بأن الأرثوذكسية اشتغلت كأنها اللبنة الأساس لبناء الجماعة القومية - وفي حالتنا هذه الجماعة اليونانية - قد تم إثباتها(27). ومن جهة أخرى، فإن هذا المنظور أثار نقاشا كبيرا. والأمر كان على هذا النحو لأن اصطلاح "ملة الروم" لا يعني الجماعة اليونانية القومية للإمبراطورية العثمانية، وإنما كان يطلق على العنصر الأرثدوكسي المسيحي في جملته، وذلك بصرف النظر عن أصوله الإثنية. ذلك أنه بالنسبة إلى السلطات العثمانية، كان يعد الفرد اليوناني شأنه شأن الروماني أو العربي باعتباره عضوا في نفس الملة على قدم المساواة ما داموا أرثدوكسيين مسيحيين. وعلى وجه الجملة، فإن الرباط الديني لم يكن لتتم تسويته بالهوية القومية، وإنما كان الانتماءان الاثنان يشكلان بالفعل جماعتين دينيتين متخيلتين متمايزتين(28).
وخلال الحقبة العثمانية المتأخرة، وضعت الكنيسة المؤسسة في صلب مناظراتها المبادئ الممهدة للحداثة. وكانت الحجة المهيمنة للبيروقراطية الدينية تقول: "ما دعي كل واحد فيه أيها الاخوة فليلبث في ذلك مع الله"(29). وتبعا للأنموذج البيزنطي، فإن سلطة السلطان قد مثلت على أنها مرحلة تاريخية في إطار خطة الخلاص، وفعل رباني لمنع استتباع الأرثوذكسية للغرب الديني الهرطقي. وهكذا، فإن الرعايا الأرثودوكس أجبروا على القبول بالسلطة العثمانية وألا يسعوا إلى تغيير التوازن السياسي. ونتيجة ذلك، فإن أي جهد يسعى إلى زعزعة التراتبيات الاجتماعية القائمة، حسب مبادئ التنوير، كانت تتم إدانته بجلاء وبحزم. غير أن هذا لا يعني أن الخطاب الديني كان فقط محافظا وإنما كان قمعيا أيضا. وذلك أن طابعه التوجيهي، وبالتالي السلطوي الخالص، إنما منع استقوى على الجانب الروحي وغلب عليه، مانعا بذلك الترويج الحر لأفكار الحداثة؛ وبالتالي كان عائقا أمام التجنيد السياسي الذي كانت تقوده الحركات القومية الناشئة(30).
سياسة الكنيسة والدولة القومية
بدءا من القرن الثامن عشر فصعدا، هيمن على الفضاء الاجتماعي بناء وتبلور الهوية الجماعية الجديدة، الأمة، داخل الإمبراطورية العثمانية. وقد أسفر ذلك عن تدمير روابط الولاء لعنصر التلاحم الجماعي الذي كان مهيمنا في ما سبق؛ أي للانتماء الديني، والذي كان قد تم "تسييسه" بوصفه أداة تسرب اجتماعية من أجل بلوغ الأهداف القومية. ونتيجة ذلك، فإنه بينما كانت البنية الاجتماعية - السياسية العثمانية قد تأسست على "الديني"، إلى عهد عشية الحداثة، فإن ما كان ينظر إليه سابقا على أنه كل صلب ومنسجم (أي الجماعة الأرثوذكسية، الملة) قد انقسم بعدها إلى كيانات سياسية وثقافية مختلفة: الكيان اليوناني والبلغاري والغربي، إلخ. وبدل أن تعمل التنظيمات على تشجيع استدماج الرعايا الإثنيين المتمايزين في الهوية العثمانية السياسة الجماعية الجديدة بحيث تمنع حدوث نزوعات انشقاقية داخل الإمبراطورية، فقد أثارت على النقيض من ذلك عملية تحديد مصير الساكنة غير المسلمة(31).
ولقد اكتست عملية "تعميم" و"تسييس" المجال الديني طابعا معياريا و"تطبيعيا"، دالة بذلك على التحول التدريجي للبنيات التنظيمية للكنيسة الأرثوذكسية من "تمثيل" ديني غير إثني إلى انتماء ديني مبني على ما هو قومي. وقد حدثت هذه العملية تقريبا في كل التنظيمات الأرثوذكسية، وكانت بكل السبل نتاجا للتحول من الدولة الإمبراطورية إلى الدولة القومية. وقد دام الأمر إلى نهاية الحرب العامية الثانية، وكان أن انتهى إلى تشتيت الاتحاد الأرثودوكسي الكنسي المتلاحم السابق، والذي كان منظما في كيانات كنيسة موسعة ومحكوما من لدنها وفقا لنظام إداري مركزي، إلى نخب حاكمة دينية ذات أساس عرقي مركونة في أراضي الكنيسة منكفئة عليها. وإن إنشاء كنيسة اليونان (1833) والبلغار (1872-1915) أو انتفاضة الأرثوذكسية العربية ضد التراتبية اليونانية في كنيستي أنطاكيا والقدس (نهاية القرن 19) لذات دلالة بهذا الصدد(32).
ولقد كان من نتائج قيام حركات قومية متمايزة داخل الهيئة الأرثوذكسية للإمبراطورية الرومانية وتنشيطها للانتشار وللتوسع حدوث تنافس شرس بينها. وقد شكل الفريق الإثني اليوناني قسما مهما من هذا التصور، والذي هيمن فعليا داخل ملة الروم، متحكما بذلك في المجلس المختلط والبطريركية الكنيسة كما في بطريركيات الشرق الأخرى (الإسكندرية وأنطاكية والقدس). وكان على الفرق الآثنية الأخرى أن تنشئ الظروف المناسبة لتحررها القومي والديني من النخب اليونانية. على أنه ينبغي أن نوضح بتمام التوضيح أن الحركات القومية المتعددة تملكت العنصر الديني بغاية تشييد هوية قومية، وما كان الأمر بالعكس(33). فلم تكن الأرثوذكسية هي القالب، وإنما كانت هي الوسيط في تغلغلها الاجتماعي وتثبيتها النهائي(34). وقد أظهر هذا التفاعل في الوقت نفسه التغيير الذي حدث في توجه الكنيسة الإيديولوجي، كما أظهر أيضا عملية الدنونة التدريجية للجسد الاجتماعي(35).
والحال أن العائق الإيديولوجي الذي وضع من لدن القومية اليونانية لمجابهة المرويات القومية الأخرى المنازعة إنما كان هو ما سمي "الأرثوذكسية الهلينية". والحق أنه ما كانت الأرثوذكسية الهلينية إلا بدعة نظرية ليس إلا، بدعة تدعي أن ثمة علاقة مؤسسة وتماه تام بين الهوية اليونانية والأرثوذكسية؛ بحيث استحال الفرد الأرثدوكسي ينتمي بالقوة إلى الجسد القومي اليوناني؛ وذلك بسبب من عقيدته الدينية، وبغض النظر عن المعايير الأخرى الثقافية أو الدينية، شأن اللغة والأعراف الخ. إنما اليوناني يعني الأرثدوكسي، والضد بالضد(36). وبما أن الأرثوذكسية هي الإيمان الحق، وبما أنها هي الإيمان الذي يترجم عن كلمة الرب، فإن الشعب اليوناني هو شعب الله المختار. وكل المؤسسات الأرثوذكسية، من ثمة، ينبغي أن تكون، بحق إلهي مسطور، بين يدي اليونانيين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الوعي الجمعي للفرق القومية الأخرى كان يذهب إلى الاعتقاد بأن اليونانيين إنما يمثلون "الغير" الذي استولى على تراثهم الثقافي واستغله. ذلك أنه ليس يمكن أن تكون الامبريالية الدينية الواقعة الملحوظة بهذا الشأن مقبولة؛ ومن ثمة ينبغي إجلاء العنصر اليوناني إجلاء، كما ينبغي على الإدارة الدينية للأراضي القومية أن تمسك من لدن رجال دين بلدانها. وهذه المسألة سوف تساعد على فهم لماذا كانت عملية تحديد مصير الأرثوذكسية البلغارية والعربية جميعا إلى حد ما قد تجلت في الصلة بالعنصر اليوناني المهيمن (البلغار ضد اليونانيين، العرب ضد اليونانيين) ...وهو السبب الذي يكمن في أنه ليس يمكن أن يكون ثمة كيان مستقل يعترف بأن على رأسه تنتصب سلطة كنيسة أجنبية. ولسوف تعد مثل هذه الحالة ضربة موجعة للكبرياء القومي بما أنها سوف تتضمن البرهنة فعلا على أن الفرقة الجماعية لا تقدر على أن تستقل بنفسها وأنها تقبل بدونيتها الثقافية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التحكم في آلية قوية التغلغل إيديولوجيا من لدن أجنبي إنما يفترض أن يخدم أغراضا أجنبية لمن شأنه أن يضع الوحدة القومية موضع خطر.
كانت نتيجة هذا التصور إقامة كنائس أرثوذكسية قومية مختلفة تتناسب مع الدول القومية الجديدة الناشئة(37). وإن استنبات مبدأ الكنيسة القومية بالنسبة إلى كل دولة قومية أرثوذكسية قاد إلى إنشاء الكنائس البلغارية واليونانية وكنائس أخرى مستقلة، أو نجمت عنه انقسامات داخلية على حسان البنيات الدينية العتيقة. وقد أحدث هذا المبدأ دفعة جديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال بعض البلدان التي يعد فيها العنصر الأرثدوكسي ذا أهمية(38). وإن مشاكل الاختصاص القضائي التي سرعان ما برزت، على نحو ما حدث في إستونيا وجورجيا أو أوكرانيا، لترتبط ارتباطا مباشرا بالبعد الإثني لأفق وظيفة الدين(39) في تعارض مع الأفق الكنسي.
هذا ولقد كان نظام الصلات الشائع بين الدولة والكنيسة الذي جرى به العمل في البلدان التي كانت تشكل فيها الديانة الأرثوذكسية الأغلب ضربا من البابوية القيصرية، قصيرية "حكم قانون الدولة"(40). وتبعا لهذا النظام، فإن السلطة الزمنية كانت تضع يدها العليا على الإدارة الدينية وكانت الحكم والفيصل النهائي والأخير - الذي يعود إليه حل مختلف المشاكل الكنسية. ولقد كان معترفا بالديانة الأرثوذكسية بوصفها الدين "الأول"، وكانت تتمتع بمعاملة خاصة من لدن الدولة. طبقا لذلك، كانت للكنيسة، بوصفها مؤسسة، شخصية قانونية تقع تحت سلطة القانون العام، وكانت التنظيمات الخاصة بها، التي تحدد بنيتها الداخلية وتنظيمها الإداري، محكومة ببعض المراسيم القانونية(41). وكان من نتائج تسييس مؤسسة الكنيسة إضفاء شرعية رمزية على السلطة السياسية؛ وذلك بإحداث أنسة بين الجسم الاجتماعي وإيديولوجية الدولة التي تقوم الدعاية إليها، وعبر التأثير الممارس على السلوك السياسي. وباختصار، كانت عملية التسييس للأرثوذكسية، التي حدثت داخل الحداثة، أولا وقبل كل شيء عبارة عن تطور دنيوي؛ وذلك بما أنها تضمنت استتباعا مؤسسيا للمجال السياسي إلى الفكرة القومية(42). وبعبارة أخرى، حدث أن تم "امتصاص الشأن الديني من لدن الهوية القومية"(43). والحال أن الأمر الذي جعل بالفعل من الكنيسة مؤسسة قومية، إنما تأدى في الوقت نفسه إلى تحول تدريجي للأرثدوكسية نحو إيديولوجيا بلا حضور رمزي قوي. وإن ربط الكنائس المحلية بالسلطات السياسية للدول المتكونة حديثا، وما أدى إليه من تكريس وتقديس للإيديولوجيات القومية لكل بلد بلد، لساهم في التصوير غير المناسب للأرثدوكسية كما لو كانت هي العنصر اللاحم بامتياز للفرقة القومية المؤمنة بها. والحال أن هذه المغالطة تبقى هي المروية المهيمنة لمعظم الكنائس المستقلة للدول القومية الأرثوذكسية، شأن اليونان، حتى أيامنا هذه.
هذا وقد أدخلت البيروقراطية الدينية بعض طرازات جديدة من الاستراتيجية السياسية، بغاية إعادة إنتاج سيطرتها الخاصة، وذلك في زمن كان يشهد فيه العالم المسيحي، على نطاق واسع، على عملية الدنونة التي أمست تحدد الخطاب المعاصر وتحدد دور الكنيسة. وبعبارة أخرى، حدثت ثمة ردات فعل من لدن الزعماء الدينيين بالنظر إلى الفقدان التدريجي لوضعها المركزي الاجتماعي والسياسي، على نحو ما شهد على ذلك انخفاض منسوب التدين وتدني نسبة التردد على الكنائس، والمطلب المتزايد للفصل بين الدولة والكنيسة أو النقد الشرس الذي تم التعبير عنه ضد التعامل المالي التفضلي الذي تُخص به المؤسسات الأرثوذكسية من لدن السلطات الحاكمة(44). وعلى وجه الخصوص، فإن المسؤولين الرسميين على الكنائس واجهوا تحديين في العقود القليلة الماضية:
أ - تحد أول إيديولوجي الطبيعة. وقد تمثل في الحد من رد الفعل العمومي السلبي اتجاه التنظيم الكنسي، وذلك عن طريق إعادة المصداقية الدينية، وكل ذلك أملا في تأكيد الدور الأساسي للكنيسة في المجال الاجتماعي والثقافي.
ب - تحد من نمط سياسي. وقد تجلى في الحفاظ على وضع الكنيسة الامتيازي داخل بنية السلطة. والحال أن هاتين المشكلتين متعالقان، وذلك بحكم أن الوضع الامتيازي الذي تتمتع به الكنيسة يتعلق، على الأقل إلى حد ما، بمساهمتها في صياغة الخطاب المهيمن، وبقدرتها على التأثير والتعبير عن الوعي الجمعي. ذلك أنه في السياق الاجتماعي السائد، فإن الخيارات الاستراتيجية، التي هي في متناول الزعامة الكنسية للحفاظ على سلطتها، تكون محدودة بالحدين التاليين: أ - الحد الأصولي، وب- حد التكيف.
تتمثل استراتيجية التجنيد الأصولي في دعوة الجماهير الدينية إلى التحرك ضد أي شكل يعتبر على أنه من طبيعة دنيوية علمانية، وذلك عبر إثارة العناصر الخطابية، شأن "الأمة" أو "الشعب"، والتي تحمل بكل الوسائل دلالة رمزية عالية في ما يتعلق بالمخيال الجماعي. وعلى الرغم من ذلك، فإن الأزمة التي لا يمكن تفاديها والحادثة بين المجالين الدنيوي والديني يمكن أن تقود إلى نتيجة عكسية؛ أي نحو تأكيد ديناميات أجندة الدنونة، وهذا سوف يؤدي إلى تغير تام في الوضع القائم اليوم. ولربما يكون هذا الأمر هو ما يفسر لماذا تم تهميش المدافعين على المقاربة الأصولية، على وجه العموم، داخل البيروقراطية الدينية أو على الأقل لم يمارسوا القدر العظيم من التأثير في عملية اتخاذ القرار.
أما التكييف أو استراتيجية الوفاق المتحكم فيه، فمبنية هي على رفض الرؤى المتشددة داخل مؤسسة الكنيسة وتدبير المشاكل التي اعتبرت لأمد طويل "أبقارا مقدسة". والحال أن هذا القبول الانتقائي لبعض الإصلاحات الدنيوية الصغرى قد أقام، على نحو فوري، الحدود التي لا يمكن للكنيسة أن تتعداها. كما أنه أسفر أيضا عن التحول التدريجي لصورة الزعامة الأرثوذكسية في بعض البلدان، شأن ما حدث مع هييرونيموس زعيم الأبرشية اليونانية(45). وقد تمت صياغة استراتيجية الوفاق المتحكم فيه في المبادئ المتقاطعة التالية: أ- إعادة ترميم رأسمال الكنيسة الرمزي وإعادة استرداد الأصالة الدينية للتراتبية الكنسية. ب- إقامة أواصر وصلات وعلاقات مع فرق من كل الطيف السياسي. وقد كان هذا الأمر شرطا حاسما لتفادي تحويل وضعيتي الكنيسة الشرعية والاقتصادية نحو الأسوأ.
ومن المنظور الديني، فإن هذه الاستراتيجية إنما شيدت على فكرة أن السلطتين الدينية والدنيوية مجالان منفصلان، لا تتقاطع أبدا ولا تتداخل مجالات اختصاصهما. والحال أن هذه النظرة مبنية على فكرة أن الرعايا الذين تمارس عليهم الدولة والكنيسة معا المراقبة والتحكم إنما هما الشيء نفسه؛ أي مجمل المجتمع. وهذا التماهي الملاحظ بين الجسم السياسي والجسم الديني في الفضاء الاجتماعي، يجعل من الضرورة قيام روح التعاون بين المجالين، وتوافقهما معا على اعتبار المسائل ذات الاهتمام المشترك. وفي السيناريو المضاد؛ أي في حالة القطيعة بين المجالين، فإنه سوف تحدث انقسامات اجتماعية بحيث تكون ذات أثر سلبي على الجانبين معا. إن تحقيق تعاون منسجم بين الكنيسة وجهاز الدولة سوف يثني، مقابل ذلك، نوايا إصلاح ديني أصولي ينهض ضد مصالح الكنيسة. وداخل هذا السياق، فإن استراتيجية التوافق المتحكم فيه لن تشكل تغيرا جوهريا في الأهداف الهيمنية للكنيسة، وإنما سوف تحدث فحسب تحولا في الوسائل المتخذة من أجل تحقيقها؛ لا ولن ينتج عنها فقدان الكنيسة لوضعها الاجتماعي والسياسي، وإنما سوف تشكل بالفعل واسطة لاسترداده.
تحصيلات:
تواجه الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، ولا سيما فصيلها اليوناني، داخل السياق التاريخي القائم، عددا من التحديات مرتبطة ارتباطا مباشرا بالمجال السياسي. ذلك أن الأزمة المالية، وتدبير المشاكل الاجتماعية الناشئة، شأن الفقر والانهيار التدريجي لنظام دولة الرفاهية، أو أزمات الشرق الأوسط، إنما هي نموذج لبعض المشاكل العصبية التي تحتاج إلى أن تعالج معالجة مناسبة من لدن المسؤولين الدينيين، ليس فحسب على المستوى النظري وإنما أيضا على المستوى العملي. وفضلا عن هذا، فإن الوضع المؤسسي للكنيسة، داخل سياق مجال اجتماعي يتدنون على نحو مستمر، صار أكثر مدعاة للجدل. وفي نفس الوقت، ثمة بعض المشاكل داخل مجموعة الدول الأرثوذكسية الشرقية قائمة بين مختلف المراكز الكنيسية، وذلك بالنظر إلى اختصاصات كل واحدة منها على بعض الأراضي. والحال أن الانشقاقات الناشئة بين المؤسسات الأرثوذكسية من شأنه أن يمنع الأرثوذكسية من صياغة خطاب منسجم متلائم، ومن التصرف كجسد موحد، وذلك في وقت عصيب بالنسبة إلى منخرطيها. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن العديد من هذه الانقسامات ليست لها خلفية دينية وإنما تعكس الاستراتيجية الحكومية للدول التي تتبع لها هذه الكنائس، فإن فصل الكنيسة عن الدولة، فضلا عن نزع الطابع القومي عن الإدارة الدينية، يعدان شرطين لا بد منهما من أجل حلها. ولهذه الغاية، ليس للكنيسة أن تنتهي إلى إحداث قطيعة بنيوية مع المبادئ القديمة التي قامت عليها، وإنما عليها أن تكيف استراتيجياتها السياسية تكييفا جزئيا مع بيئة متغيرة. وهذا لربما يشكل الرهان التاريخي الحقيقي الذي سوف يحدد إلى حد كبير وضع الكنيسة في المستقبل.
*************************
الهوامش:
*) أستاذ في شعبة العلوم السياسية، جامعة أرسطو بتسالونيكا.
1) يعد ج. مييندورف وج. فلوروفسكي وف. لوسكي الزعماء الروحيين والمذهبيين والأخلاقيين للكنيسة الأرثوذكسية. للاطلاع على أعمالهم انظر الببليوغرافيا.
2) Althusser, ‘Ideology and Ideological State Apparatuses (Notes towards an Investigation)’, pp. 127-186.
3) انظر عن مفهوم غرامشي عن الهيمنة: L. Phillips and M. W. Jørgensen, p. 32.
4) J. Canning, pp. 3-4.
5) إنجيل متى: 22: 21.
6) إنجيل بطرس 2: 17.
7) رسالة إلى أهل رومية 13: 1-2.
8) J. Canning (pp. 3-15); D. M. Nicol, ‘Byzantine Political Thought’, in J. H. Burns (ed.), pp. 51-79.
9) للمزيد عن يوسيبيوس يرجى النظر في: T. D. Barnes, S. Inowlocki and C. Zamagniأما H.A. Drake, G. F. Chesnut, and R.M. Grant فقد نظروا في حال الفن. للمزيد من التفاصيل ترجى العودة إلى الببليوغرافيا المرفقة.
10) S. Runciman, pp. 5-50.
11) F. Dvornik, pp. 1-23; D. J. Geanoakopoulos, pp. 381-403.
12) G. Ostrogorsky, pp. 4-6.
13) R. Sweldberg, pp. 195-196.
14) D. Obolenski, pp. 23-78; A. Poppe, pp. 195-244.
15) D. Martin, The Religious and the Secular, p. 23.
16) S. Troyanos, 489-504.
17) للمزيد من التفاصيل عن الحركة النسكية، انظر ببليوغرافيا أعمال كل من:
18) Α. De Vogüé, C. Burton, S. Elm, and P. Rousseau.
19) C.E. Bosworth, ‘The Concept of Dhimma in Early Islam’, in B. Braude and B. Lewis (eds.), pp. 37-51.
20) Β. Braude, ‘Foundation Myths in the Millet System’, in B. Braude and B. Lewis (eds.), pp. 69-74; P. Konortas, p. 299.
21) ‘Berat of Souleiman the Magnificent of October 17th 1525’, in E. A. Zachariadou, pp. 176-177.
22) Ibid., pp. 49-50 and 71-72; B. Braude, p. 79.
23) D. Stamatopoulos, pp. 370-372.
24) N. Edelby, pp. 784-800; J. Fattal, pp. 85-119.
25) S. N. Fisher, pp. 315-320.
26) G. Young, pp. 21-34.
27) Y. S. Petrou, pp. 89-90.
28) W. J. Cahnman, p. 527; G. Arnakis, ‘The Role of Religion in the Development of Balkan Nationalism’, in C. Jelavich and B. Jelavich (eds), pp. 115-144.
29) M. Todorova, ‘The Ottoman Legacy in the Balkans’, in L. C. Brown (ed.), p. 67; V. Roudometof, p. 33.
30) رسالة إلى أهل كورنث 7: 24.
31) Ph. Iliou, ‘Dogmatismos kai authentia stis diadromes tou neoellinikou stochasmou’ [‘الدوغمائية والسلطة في الفكر الهليني الجديد"], in P. Mpitsaxis et. al. (eds.), pp. 43- 46.
32) D. Stamatopoulos, pp. 20-21.
33) للمزيد بهذا الصدد تُراجع أعمال: D. Hopwood, P. Matalas, and T. A. Meininger.
34) N. Demertzis, ‘Politiki kai epikoinonia: opseis ekkosmikeusis tis Orthodoxias’ [‘السياسة والتواصل: الجوانب الدنيوية للأرثدوكسية], in Th. Lipovats et al. (eds.), p. 151.
35) . Kitromilides, ‘ “Noeres koinotites” kai oi aparches tou ethnikou zitimatos sta Valkania [‘ "الجماعات المتخيلة" وأصول المسألة القومية بالبلقان], in Th. Veremis (ed.), pp. 116-117.
36) P. E. Lekkas, I ethnikistiki ideologia, p. 182.
37) P. E. Lekkas, To paixnidi me to chrono, pp. 78-79; S. Anagnostopoulou, pp. 481-488; P. Matalas, ‘To Patriarcheio Ierosolimon kai i ellino-orthodoxia,’ [بطريركية القدس والأرثوذكسية اليونانية]in Moraiti School (ed.), p. 116.
38) Ph. Walters, pp. 357-364; L. N. Leustean, pp. 421-432.
39) D. P. Payne, pp. 831-852.
40) K. Matsuzato, pp. 239-262; Keleher, pp. 125-137.
41) بحثا عن مزيد من التوضيح، أحيل هنا على الحقبة السابقة عن الحرب العالمية الثانية وسيطرة الاتحاد السوفياتي على بعض الدلول التي كانت بها الأرثوذكسية تاريخيا الدين الرسمي.
42) Ch. K. Papastathis, pp. 27-28.
43) P. Kitromilidis, p. 179.
44) N. Demertzis, p. 152.
45) من أجل ببليوغرافيا مفيدة بصدد النقاش الذي دار حول عملية الدنونة أو العلمنة، انظر أعمال:
P. Berger, S. Bruce, O. Tschannen, D. Yamane, F. G. Lechner, D, Martin, R. Stark and L. Iannaccone.
K. Papastathis, ‘From Mobilization to a Controlled Compromise: the Innovative Strategy of Archbishop Hieronymus’, in T. S. Willert and L. Molokotos-Liederman (eds.), pp. 208-213.
أنواع أخرى: