نظرية كانط في السلام الدائم: قراءة يورغن هابرماس

السيد ولد أباه

ما انفك الفيلسوف الألماني الكبير يورجن هابرماس في حوار متصل مع كانط في كتاباته المتتالية الغزيرة,بحيث يمكن القول: إنه يمكن تصنيفه بالنظر لفلسفته من حيث هي نمط من "الكانطية التواصلية".

 

لا يخفي هابرماس نفسه الدين الكانطي؛ بل انه يعدّه دليله المرجعي في مشروعه للصياغة الفلسفية للحداثة من حيث هي "مشروع غير مكتمل"؛ ذلك أن كانط "يعبر عن العالم الحديث في بناء فكري,بحيث إن الخصائص الكبرى للعصر "تنعكس " في مرآة فلسفة كانط(1).

 

منذ بداية مشروعه الفلسفي الذي دار حول مفهوم "المجال العمومي",يبين هابرماس أن هذا المفهوم المحوري قد استقاه من كانط الذي وضح في نصه الشهير حول "التنوير"(2) "مبدأ العمومية (publicite)"(3).

 

ولئن كان هابرماس يشترك مع كانط في طموحه النقدي وتجاوزه للميتافيزيقا؛ فإنه يختلف معه في مشروعه لنصب محكمة للعقل لتعيين "الاستخدام الشرعي للعقل", مركّزا اهتمامه حول نقد "الاستخدام التاريخي والاجتماعي للعقل" في مواجهة تجاوزات "العقل الأداتي", من خلال ائتلاف ثري بين النموذج الإبستمولوجي (الجانب التوضيحي النقدي في الفلسفة) والنظرية الاجتماعية النقدية.

 

ومن هنا يمكن القول: إن كانط يصاحب هابرماس في جبهتيه النقديتين: نظريا في مواجهة التقليد الميتافيزيقي، وعمليا في مواجهة أشكال التعصب الديني والسياسي، محافظا على جوهر مشروعه التنويري الذي يراه لا يزال صالحاً وناجعاً وقابلاً للتوجيه والتسديد ضد النزعات التفكيكية وما بعد الحداثية، التي تلغي في راديكاليتها كل إمكانات البرهنة والنقاش العمومي(4).

 

في هذا السياق تندرج قراءة هابرماس لرسالة كانط "حول السلام الأبدي"(5)، وهي من نصوصه الأخيرة (صدرت سنة 1795) التي ذهب فيها إلى استكمال مشروعه النقدي بإعطائه صيغة "إنتربولوجيا برغماتية"anthropologiepragmatique(6) موضوعها معرفة "ما يمكن ويجب على الإنسان أن يفعله بنفسه من حيث هو كائن يمارس نشاطه العملي بحرية"(7). إنها الإطار العام للأسئلة الثلاثة التي لخص فيها كانط فلسفته النقدية (ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب علي أن افعل؟ ما هو المسموح لي بأن ارجوه؟) من حيث كونها تتلخص في سؤال جوهري واحد هو "ما هو الإنسان؟"(8).

 

ليست الإنتربولوجيا معرفة طبيعية أو تجريبية للإنسان، وإنما هي القنطرة الواصلة بين الجانب النظري في العقل (قوانين الطبيعة) وجانبه العملي (قوانين الحرية)، بتحويل سؤال الخير والفضيلة من دائرة الكونية الأخلاقية إلى دائرة الواقع المعيش المشترك وفْق قابلية البشرية للتحسن والاكتمال، التي يقع التعبير التاريخي عنها في قوالب قانون كوسمبولوتي يؤسس لمفهوم المواطنة الكونية والسلم الأهلي الدائم.

 

القانون -حسب تعريف كانط- هو الفعل العادل "الذي يسمح بتعايش حرية كل فرد مع حرية الفرد الآخر حسب قانون كلي، بحيث تسمح قاعدته المعيارية بهذا التعايش"(9). ليس القانون بالمفهوم الكانطي صادرا عن الطبيعة أو الطبيعة الإنسانية (كما هو التصور الشائع في عصره لدى فلاسفة الحق الطبيعي)، كما أنه ليس مجرد قواعد تواضعية اعتباطية ما دامت قواعده قابلة للصياغة الكونية بحيث يعترف بصلاحيتها الكلية الأفراد الأحرار المتساوون كمعايير عقلية لضبط تعايشهم المشترك.القانون من هذا المنظور يؤدي دور الدعامة الاجتماعية الحية للقيم الأخلاقية,بإخراج سؤال الواجب من الضمير الأخلاقي الذاتي إلى الفعل المدني السياسي.ومن هنا تأتي العلاقة العضوية بين الحالة الأخلاقية (فكرة العدالة مقابل الخير) والحالة المدنية التي تعبر عنها الفكرة الجمهورية republicanism التي ليست شكلا من أشكال أنظمة الحكم؛ وإنما طريقة للحكم تقوم على شرعية القانون وتمايز السلطات.بيد أن هذا المثال القانوني يظل محدود الأثر والفاعلية إذا بقي في حدود الدولة، ومن هنا تظهر ضرورة تمديد حقوق الإنسان الجوهرية (التي تدور حول قيمتي الحرية والمساواة) إلى الدائرة الإنسانية الرحبة أي إلى عموم أفراد "العائلة الكبرى" بتصور قانون كوسمبولوتي يتجاوز مجرد النزعة الإنسانية الطوبائية.

 

وضح كانط مفهوم "القانون الكوسمبولوتي" في رسالته حول السلم الأبدي (1795) بعد أن تخلى عن المثال الطوبائي "لدولة الشعوب"، متبنيا فكرة ائتلاف الجمهوريات الديمقراطية والمجتمع المدني العالمي شرطا للخروج من حالة الحرب المدمرة، وتحقيقا للسلم الأبدي الشامل.

 

ولا شك أن رسالة كانط حول السلم الأبدي من أكثر كتاباته انتشارا وتأثيرا، فهي كتابه الوحيد الذي أعيد نشره 12مرة في حياته، كما أنه نوقش على قطاع واسع من لدن الفلاسفة المعاصرين له واللاحقين عليه (هيغل ونتشه على الأخص).ولئن كان هذا الكتاب يندرج في سياق "الأطروحة السلمية القانونية" التي اتضحت لدى مفكري الحق الطبيعي في القرن السابع عشر: "غروتيوس"(10) و"بوفندورف"(11) و"لابيه سان بيار"(12)؛ فإنه يختلف -من حيث منظوره النقدي- عن هذا التيار الذي عدّه مثاليا طوبائيا، وإن اعتمد المقاربة القانونية.

 

ومن هنا اهتمام هابرماس برسالة كانط حول السلم الأبدي في سياق أعماله الأخيرة، التي تناول فيها المواضيع القانونية منذ بداية الثمانينات في إطار النقاش الثري الذي ولدته أطروحة الفيلسوف الأمريكي "جون رولز" حول العدالة (13). وقد سلك هابرماس في هذا النقاش - الذي تم بين الليبراليين والمجموعاتيين، وتدار حول علاقة الخير بدلالته الجوهرية والعدل بمفهومه الإجرائي- مسلكا مختلفا عن الاتجاهين معا، ذهب فيه إلى خيار الجمع بين معيارية العدل ومعيارية الخير في إطار بلورته لمقولة "العقل الإجرائي" procedural reason الذي هو مجال الفعل التواصلي النقاشي الذي يتخلى عن الطموح الميتافيزيقي للوصول إلى ماهية الأخلاق والقانون عن طريق العقل الذاتي التأملي، بحيث تصبح القيمة المعيارية متوقفة على التوافق البرهاني الحر في عملية تداولية مفتوحة، أطلق عليها "إتيقا النقاش"(14).

 

في هذا الأفق يستعيد هابرماس الأطروحة الكانطية حول القانون من حيث هو نقطة التأليف بين الطبيعة والحرية,بين الفلسفة النظرية والعملية, أو -بلغة هابرماس- بين "الوقائع والمعايير",بين الاستقلالية الفردية والاستقلالية الجماعية، بين حقوق الإنسان والسيادة الشعبية,وبين الأخلاق العقلية والقانون الوضعي (15).

 

وكما اهتم هابرماس بفلسفة كانط في القانون، اهتم بنظريته في الدين التي ضمنها كتابه "الدين في حدود مجرد العقل"(16) من منظور كونها توفر له حسب إقراره "وجهة نظر تسمح بالتساؤل كيف يمكن امتلاك التراث الدلالي للتقاليد الدينية دون محو المسافة التي تفصل عالم الإيمان عن عالم المعرفة"(17).

 

في الاتجاه نفسه إذن نلمس اهتمام كانط برسالة "السلام العالمي" التي خصص لها كتاباً صغير الحجم بمناسبة مرور قرنين على هذه "الفكرة الكانطية"(18).

 

ينطلق هابرماس في عرضه لنظرية كانط من كون صاحب مشروع "السلم الأبدي" قد يضاف في هذه الرسالة بعدا ثالثا لنظرية القانون، هو قانون المواطنة العالمية الذي يضاف إلى قانون الدولة وقانون الشعوب. ويترتب على هذه الصياغة الجديدة للمنظور القانوني تأكيد الترابط العضوي بين دولة القانون الديمقراطية القائمة على حقوق الإنسان، وقيام نمط من الحالة القانونية الناظمة للعلاقات الدولية وصولاً لهدف بناء حالة قانونية شاملة توحد الشعوب وتحول دون الحروب(19).

 

وإذا كان هابرماس ينطلق من الفكرة ذاتها؛ أي تداخل النموذج الديمقراطي الداخلي وفكرة المواطنة الدستورية الكونية التي هي شكل التنظيم الديمقراطي للمجتمع داخل التشكيلة ما بعد القومية (20)؛ فإنه -في قراءته لرسالة السلم العالمي- يطرق الإشكالات الراهنة التي تطرحها فكرة كانط بسبر الفوارق الفكرية والزمنية الفاصلة بين اللحظة الكانطية والوضع الراهن للبشرية.ومن هنا السؤالان الأساسيان اللذان يشغلان هابرماس وهما: كيف يمكن النظر للفكرة الكانطية في ضوء التحولات التاريخية التي حدثت في القرنين الماضيين؟ وكيف يمكن إعادة صياغة المشروع الكانطي بحسب الوضع الحالي للعالم؟(21).

 

للإجابة على هذين السؤالين المحوريين يبسط هابرماس أطروحة كانط في محدداتها الثلاثة: غاية الفكرة التي هي السلام الأبدي، ووصف المشكل القائم الذي هو الصيغة القانونية لفيدرالية بين الشعوب، والحل التاريخي الفلسفي للمشكل الذي هو تحقيق فكرة الدولة الكوسمبولوتية.

 

يبين هابرماس -من خلال تناول مفهوم الحرب لدى كانط- أن هذا المفهوم ظل محدودا بالنسبة له بتجربة النزاعات المحدودة بين دول وأحلاف دون أن يفكر في أنماط راهنة من المواجهات مثل الحروب العالمية والحروب الأهلية وحروب الإرهاب الحالية، حروب التطهير والإبادة الجماعية. لم يكن كانط ليدرك كيف حولت التقنيات العسكرية الحرب إلى ساحة وَغَى كونية، وكيف قضت على معيار التمييز بين الجيوش المحاربة والمدنيين العزل.

 

في حالة الحروب المحدودة، تنحصر معايير القانون الدولي في ضبط طريقة فعل الحرب وفعل السلم.الحرب من هذا المنظور ليست في ذاتها ممنوعة أو موضوع تجريم قانوني، فالمعيار القانوني يتعلق بالممارسات المتبعة خلال الحرب لا بحق الشروع في الحرب. وما يجدر التنبيه إليه هنا هو أن المقاربة المعاصرة في تحريم الحرب العدوانية ومعاقبتها مرتبطة بطبيعة النزاعات المعاصرة بما واكبها من تدمير واسع وتجاوزات مرعبة، كما هي نتيجة منطقية للتوسع الذي طرأ في مفهوم السلم، فبالنسبة لكانط لا توجد "حرب إجرامية في ذاتها"(22).

 

وكما أن الفارق بين نموذجي الحرب المحدودة والحروب الجديدة يفضي إلى تبين خطوط الفصل بين الأطر القانونية للحرب (ما بين أطروحة كانط والعصر الراهن)، فإن مفهوم السلم الدائم يطرح إشكالات مماثلة في علاقته بفكرة الدولة الكوسمبولتية.أن ما يبينه هابرماس هنا هو تحديد الإطار الكسمبولوتي من حيث تميزه عن القانون الدولي الكلاسيكي الذي ينظم العلاقات بين كيانات سيادية وفق محض مبدأ الإلزام دون أن تترتب عليه آثار قانونية بالمفهوم العقلاني المدني، ولذلك فإن القانون الدولي يظل محكوما باعتبارات "حالة الطبيعة".

 

القانون الكوسمبولوتي يختلف عن القانون الدولي الكلاسيكي بكونه يضع حدا لحالة الطبيعة (على غرار الحالة المدنية المتولدة عن العقد الاجتماعي على مستوى الدولة)، مما ينتج عنه ضرورة التفكير في شكل "دولة الشعوب الكونية" التي عدل عنها كانط في رسالته باعتبارها طوبى مثالية، فلم يحسم الإشكال الذي يطرحه التوفيق بين واقعية الخيار الائتلافي بين الدول المستقلة الذي لا يخرج عن نطاق القانون الدولي (الحلف المانع سلبا للحرب) وخيار "ائتلاف الشعوب" الذي يأخذ شكل الرابطة التعاقدية الدائمة التي لا يمكن أن تتمتع بفاعلية عملية دونأن تأخذ سمة الدولة المتمتعة بالسلطة الإلزامية.

 

وكما يبين هابرماس فإن كانط كان واقعياً في تحفظه على مشروع "الرابطة الدستورية للشعوب",باعتبار أن الدولة الديمقراطية كانت استثناء في عصره، فالنموذج الكلاسيكي للدولة لا يعرف التمييز الواضح بين السياسة الداخلية والخارجية، ومن ثم فإن معيار سيادة الدولة يتحدد بحسب قدرتها على فرض الأمن والنظام في حدودها الداخلية في مواجهة الدول الأخرى، ولذا فإنه أمام هذا المأزق راهن على "الغايات الكوسمبولوتية" للتاريخ (النية الخفية للطبيعة) في ضمان التوفيق بين السياسة والأخلاق(23).

 

في هذا السياق يتوقف هابرماس عند أطروحة كانط الشهيرة حول النوازع الثلاثة لقيام ائتلاف الشعوب الضامن للسلم العالمي الدائم (الطابع المدني للجمهوريات، والقوة الدافعة اجتماعيا، التي تنجم عن حركية التجارة الدولية، ووظيفة المجال العمومي السياسي)، فقد رأى أن مجرى الأحداث في القرنين الماضيين قد فندها؛ نتيجة لعوامل عديدة من بينها الطابع التحشيدي للنزعات الوطنية الحديثة الذي قد يؤدي لأفظع أشكال العنف، وميل الأنظمة الديمقراطية لفرض نماذجها بالقوة، والصراعات الاجتماعية المصاحبة للتوسع الرأسمالي، وعولمة التجارة الدولية التي أخرجت العنف من نطاق تحكم الدولة,وهيمنة وسائل الاتصال والوقائع الافتراضية على المجال العمومي مما قضى على تلقائية وشفافية النقاش العمومي، وجعل التداول العقلاني الحر عاجزا عن سد منافذ العنف والإقصاء.

 

ينتج عن هذا النقد أن فكرة الحالة الكوسمبولوتية وإن كانت مشروعاً لا يزال قائما وضروريا فإنها "لا بد أن تراجع صياغتها" بمراعاة أطرها التصورية المستجدة(24). وكما هو معروف عادت الفكرة الكانطية بقوة بعد اشتعال الحربين العالميتين المدمرتين اللتين شهدهما النصف الأول من القرن العشرين، فكانت هي خلفية التنظيمات الدولية التي قامت في العصر الحاضر؛ مثل رابطة الأمم، وهيئة الأمم المتحدة..

 

يستأنف هابرماس مشروع كانط في السلم الأبدي بإعادة صياغته في تصوره ومفاهيمه الأساسية في محاور ثلاثة هي: السيادة الخارجية للدول وتحول العلاقات الدولية، والسيادة الداخلية للدول وما يتصل بها من آثار معيارية في مستوى سياسة القوة بدلالاتها الكلاسيكية، والهيكلة التراتبية الجديدة للمجتمع العالمي وما يرتبط بها من مخاطر كونية تتطلب مفهوما جديدا للسلم العالمي.

 

فبخصوص المحور الأول المتعلق بالسيادة الخارجية للدول,يرى هابرماس أن تصور كانط لتحالف الشعوب الدائم ضمن إطار سيادة الدول لا يستقيم تصوراً، ولذا لا بد من إعطائه البُعد المؤسسي الملزم على حساب سيادة الدول على الأقل في حد أدنى هو فرض احترام القانون. ما يعنيه هابرماس هنا هو الجمع بين الطابع الخارجي للعلاقات الدولية (الروابط التعاقدية بين الدول ككيانات تتمتع بالسيادة) والطابع الداخلي بين أعضاء الائتلاف الدولي القائم على ضوابط دستورية مشتركة تسوغ في بعض الظروف تجاوز مبدأ السيادة الخارجية في حالات العدوان والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وهو الاتجاه الذي لا يزال في مراحله الأولى (25).

 

وبخصوص المحور الثاني المتعلق بالسيادة الداخلية للدول,يبين هابرماس أن كانط تصور الاتحاد الكوسمبولوتي في شكل فيدرالية من الدول، وليس في صيغة فيدرالية كوسمبولوتية, في الوقت الذي أرجع كل حالة قانونية إلى الحقوق الأصلية للإنسان خارج أي تحديدات سيادية للدولة، مما أوقعه في تنافض واضح بين مبدأ الحرية الفردية وفكرة إخضاع الذاتية الفردية لسيادة الدولة. في هذا السياق يستشهد هابرماس بكارل شميت مبرزا أن مفتاح القانون الكوسمبولوتي هو كونه يخاطب الأفراد من حيث انتماؤهم لرابطة كونية مشتركة بين عناصر حرة ومتساوية فيما وراء تحديدات القانون الدولي (المواطنة المزدوجة بين العالم والدولة)، ويترتب على هذا البعد الكوسمبولوتي نتائج قانونية عينية؛ مثل المسؤولية الجنائية التي يعاقب عليها أفراد في جرائم انتهكوها لصالح الدولة(26). يقف هنا هابرماس على التحولات الأخيرة التي طرأت في مجال محاكم حقوق الإنسان الدولية والتشريعات الجديدة في هذا الباب.

 

أما بخصوص المحور الثالث المتعلق بالهيكلة الجديدة للمجتمع العالمي التي تراجع فيها مبدأ السيادة من حيث القوة المعيارية,بحيث يمكن القول: إن العالم يعيش "وضعا انتقاليا" بين القانون الدولي والقانون الكوسمبولوتي. فإذا كان كانط قد تخيل ائتلاف الدول الحرة في شكل تجمع عدد متزايد من الدول حول محور طلائعي من الدول المسالمة,فإن النظام الدولي تشكل في الواقع من كل بلدان العالم بصرف النظر عن طبيعة مسلكها السياسي في الحكم, مما أفرز "مجتمعا عالميا" وحّدته السوق المعولمة وتقنيات الاتصال؛ لكن ضمن هيكلة تراتبية تعمق الفوارق التنموية بين بلدان العالم؛ لكنها في الآن نفسه تفرض عليها التعاون في مواجهة مخاطر مشتركة(27).من هذه المخاطر ما ينجم عن اختلالات البيئة والتفاوت الاقتصادي، وتجارة السلاح والمخدرات، والإرهاب,مما يسمح بالرهان على أن عولمة هذه المخاطر تكرس موضوعيا واقع "المجموعة غير الإرادية" المؤسسة على مخاوف وتهديدات جماعية.

 

ينهي هابرماس قراءته لمشروع كانط في السلم العالمي الأبدي الذي يتبناه في صياغته الجديدة بسجال فلسفي قوي مع نقاد المقاربة الكوسمبولوتية التي لا خلاف في كونها تتأسس على مبدأ "الكونية الأخلاقية" الذي هو الفكرة الموجهة للمشروع الكانطي. ومع أن هذا النقد يرجع إلى هيغل، فإنه تركز في العصر الحالي في فكر الفيلسوف القانوني الألماني "كارل شميث" الذي اشتهر بنظريته للحرب المناقضة للأطروحة الكانطية(28) التي رأى فيها أن النزعة الإنسانية تقوم في "مغالطتها" على "خديعة" التصورات السلمية القانونية التي تطمح إلى شن "حروب عادلة" باسم القانون الكوسمبولوتي, من خلال آلية التدخل الشامل الذي يفضي إلى "التجريم الشامل" للحرب.

 

إن ما يريد أن يبينه "كارل شميث" هو أن سياسة حقوق الإنسان تفضي إلى إشعال الحروب بذريعة العمل البوليسي الأمني الذي يستند لذرائع أخلاقية في تحويل الخصم إلى عدو فاقد لإنسانيته.

 

للرد على أطروحة "شميث" يبين هابرماس أن مفهوم حقوق الإنسان ليس مفهوما أخلاقيا من حيث مصدره وخلفيته,بل هو مفهوم قانوني من حيث كونه صيغة خاصة من صيغ التصور الحديث للحقوق الذاتية، فطابعها الأخلاقي الظاهر ليس ناتجا عن مضامينها أو بنيتها بل عن "معنى صلاحيتها" الذي يتجاوز النظام القانوني للدول القومية الحديثة(29).

 

مدونة حقوق الإنسان من هذا المنظور تستجيب للشروط العقلانية نفسها التي تتأسس عليها شرعية القوانين في مجتمع ديمقراطي، بيد أنها -من حيث هي معايير دستورية مؤسسة للنظام القانوني- تتمتع بميزات خصوصية، من بينها طابعها الكلي الذي يتعلق بالنوع الإنساني بدلالته الشاملة,فهي بذا وان كانت غير فاعلة إلا في إطار قانوني وطني فإن مجال صلاحيتها يتجاوز حقل المواطنة المحدودة، وبذا تلتبس بالمعايير الأخلاقية رغم اختلافها عنها. فإذا كانت المعايير الأخلاقية تتأسس على التزامات ذاتية تتعلق بالإرادة الحرة لأفراد يتمتعون بالاستقلالية؛ فإن الالتزامات القانونية تنبع -على عكس ذلك- من القيود الشرعية المضروبة على الحريات الذاتية (30).

 

 فبالرجوع إلى تعريف كانط للقانون بأنه دائرة التحكيم الكلية بين إرادات حرة متعددة، يتبين أن حقوق الإنسان تنتمي للحقل القانوني، مثل غيرها من الحقوق الذاتية التي لها مضمون أخلاقي، وهذا الطابع القانوني هو الذي يمنحها السمة الإلزامية القهرية.

 

ومن هنا يمكن تفنيد أطروحة كارل شميث حول الأثر المدمر لسياسة التدخل باسم حقوق الإنسان التي لا بد -حسب شميث- أن تتحول إلى "صراع ضد الشر",والحال أن القانون الدولي الكلاسيكي لا يزال من القوة بحيث يحول دون حصر الحروب في الإطار "المدني المتحضر". وما يجري راهنا ليس الاتجاه إلى تحويل أخلاقيات حقوق الإنسان إلى بديل عن القانون، وإنما اعتبارها في إطار النظام القانوني للدولة حسب إجراءات قانونية مؤسسية كغيرها من الأفعال الإجرامية.

 

وإذا كان كارل شميث يرفض التمييز بين الحرب العدوانية والحرب الدفاعية من منظور التصور المحايد أخلاقيا للحرب، الذي هو وحده الملائم لمبدأ سيادة الدولة، فإنه يريد أن يبرهن على أن عدم التفريق بين صنفي الحرب هو المسلك إلى الحد من الحروب، وهو شرط اتقاء الحرب الكلية المدمرة, وهو بذا يستبدل خيار القضاء على الحرب من منطلق السلام الكوسمبولوتي بخيار أكثر واقعية، هو خيار الحرب المحدودة، إلا أن هابرماس يبين أن الأحداث الراهنة أثبتت أن الرجوع للقانون الكلاسيكي يعني اطلاق يد الدول في العنف المتوحش الذي ضاعفت التقنيات العسكرية من أثره التدميري, ولذا فقد يكون من الأنجع عمليا تعويضه بخيار العقوبة والتدخل الذي تضطلع به مجموعة منظمة من الشعوب(31).

 

لا تهمنا في هذا الحيز امتدادات حوار هابرماس-شميث حول ماهية السياسة التي عرفها "كارل شميث" بأنها في جوهرها ممارسة صراعية تتشكل عبر ثنائية "الصديق والعدو"(32)، في الوقت الذي ذهب هابرماس في اتجاه المقاربة الإجرائية العقلانية للشرعية السياسية التي هي أيضا من آثار التركة الكانطية.

 

****************************

 

الإحالات والمراجع:

 

*) باحث وأكاديمي من موريتانيا.

 

1-J.Habermas: critique de la philosophie de la modernité Gallimard, 1988 p 23.

2 - Kant: qu'est ce que les lumières?(1784)

راجع الترجمة الفرنسية في:

Kant: vers la paix perpétuelle,que signifie s'orienter dans la pensée، qu'est - ce que les lumières? GF Flammarion 1991 pp43-51.

3- Habermas: l'espace public Payot, 1978 p 112.

صدر النص الألماني سنة 1962

4- من هذا المنطلق يقدم قراءته النقدية لأعمال هايدغر وفوكو ودريدا في؛

Le discours philosophique de la modernité (op.cit)

5-Kant: vers la paix perpétuelle ….GF Flammarion, 1991.

6- عنوان أحد كتبه الأخيرة:

Kant: anthropologie du point de vue pragmatique trad، Alain Renaut Garnier -Flammarion 1993

وقد ترجم فوكو النص نفسه إلى الفرنسية وقدم له بمقدمة هامة رأى فيها الأنتربولوجيا مدخل النظام المعرفي للحداثة، مما بنى عليه أطروحته الشهيرة في كتابه الكلمات والأشياء.

7- ibid, p41.

8-Kant: la logique Vrin, 1989 p 25.

9- kant: Métaphysique des mœurs

Flammarion, 1994 t 2 p 17.

10- Hugo Grotius: le droit de la guerre et de la paix Puf 2012.

11- Samuel Von Pufendorf: le droit de la nature et des gens tome 2, Presses universitaires de Caen, 2010.

12-Abbe De Saint-Pierre: Projet pour rendre la paix perpétuelle en Europe Fayard 1987

13-John Rawls: theory of justice Harvard University Press 1971

عالجنا النظرية ونقد هابرماس لها في: السيد ولد أباه: الدين والسياسة والأخلاق، دار جداول، بيروت 2014، ص241-260.

14-J.Habermas: De l'éthique de la discussion Cerf, 1992 (pp111-199).

J.Habermas: Morale et communication Cerf, 1991 (pp63-130).

15- يقركانط بوضوح بتأثره الواضح بفلسفة كانط في المجال القانوني

J.Habermas: Droit et démocratie Gallimard 1997 p 9

16- كانط: الدين في حدود مجرد العقل، ترجمة فتحي المسكيني، دار جداول بيروت 2012

17-Habermas: Entre naturalisme et religion: lesdéfis de la démocratie Gallimard, 2008 p14.

18- J.Habermas: La paix perpétuelle: le bicentenaire d'une idée kantienne Cerf 1996.

19- ibid, p7.

20- J.Habermas: Apres l'état - nation: une nouvelle constellation politique Fayard, 2000 p 83

21- J.Habermas: La paix perpétuelle p 10.

22- ibid p 15-16.

23- ibid p 26.

24- ibid p48.

25- يشيرهابرماس إلى بعض بنود وثيقة الأمم المتحدة التي تشرع القوة لمواجهة العدوان، وإلى بعض المؤسسات الحقوقية الدولية التي تشكلت بعد نهاية الحرب الباردة.

La paix perpétuelle, p52-55

26- ibid, p58

27-ibid, p66

28-Carl Scmitt: Writings on War Polity Press 2011.

29- J.Habermas: La paix perpétuelle, p86.

30- ibid, p89-90.

31- ibid, p101

32- Carl Schmitt: la notion du politique Calmann Levy 1972 p66.

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك