العبادات في الأديان من الطوطمية إلى التوحيد
عامر الحافي
تعددت أشكال العبادات وطقوسها في المجتمعات الإنسانية، فقد عبد الإنسان الكثير من مظاهر الطبيعة وأرواح الأسلاف وأنواعا مختلفة من الحيوانات التي أحس بالخوف منها، أو أثارت في نفسه الإعجاب، أو اعتقد أنها وراء ما هو فيه من خير, أو أنها قادرة على حمايته مما يحيط به من شرور ومخاطر.
والمتأمل في هذه العبادات الإنسانية التي صبغت معظم حياة الشعوب القديمة -من المصريين القدماء إلى السومريين والبابليين إلى الهنود والصينيين والعرب القدماء- يعلم أنها ليست نزوة أو انحرافا عابرا بقدر ما هي تعبير عن تجربة إنسانية وإحساس قديم بوجود قوة عاقلة خلف هذه المظاهر، وهي قادرة على حمايتة الإنسان, ومد يد العون له عندما تجتاحه مشاعر الخوف والضعف، وهذه الأنماط الطفولية للعبادة لم يكن أتباعها يقصدون بها الإساءة إلى أحد بقدر ما كانوا يبحثون عن ملجأ يلوذون إليه على قدر وُسعهم البشري.
لقد احتاج الإنسان إلى صورة مادية ملموسة ينطلق منها، فكانت السماء -بنجومها وكواكبها النورانية التي تبهر بصر الإنسان- الجهة التي توجه إليها في عبادته، ظنا منه أنها مقر عالم الآلهة التي أوجدت العالم.
أشار القرآن إلى حاجة الناس جميعا إلى المناسك والعبادات فقال: ﴿ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾(الحج 32), كما أشار القرآن إلى الدوافع الاجتماعية للعبادات الوثنية بقوله: ﴿وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا﴾(العنكبوت 24)، وعالج الاعتقاد الشائع في العبادات القربانية، والذي يذهب إلى أن الآلهة تحتاج إلى القرابين وأنها تتغذى عليها، فقال تعالى: ﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾(الحج 35).
الدين والعبادة:
اهتم عدد غير قليل من علماء الأديان بدراسة العبادات والطقوس الدينية، وعدها بعضهم مكونا جوهريا من مكونات الدين؛ بل إن بعض التعريفات أوشكت أن تجعل العبادة تستغرق الدين كله.
وعلى هذا الأساس يذهب سيسرون في تعريفه للدين بأنه: �الرباط الذي يصل الإنسان بالله�، ويقترب شلاير ماخر من هذه المقاربة بين الدين والعبادة عندما يقول: �قوام الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة�(1).
وما أشار إليه تعريف كل من سيسرون وشلاير ماخر يظهر أكثر وضوحا في تعريف إميل برنوف عندما يقول: �الدين هو العبادة، والعبادة عمل مزدوج: فهي عمل عقلي به يعترف الإنسان بقوة سامية، وعمل قلبي أو انعطاف محبة، يتوجه به إلى رحمة تلك القوة�(2).
وفي تعريف رابع للدين يصف الدين بأنه: �التأمل الصامت، والسيطرة التامة على البدن لنيل السكينة النفسية، والوصول إلى جوهر النفس المطلق اللامحدود�(3).
فالتأمل الصامت، والبحث عن السكينة، والوصول إلى جوهر النفس المطلق واللامحدود - هو تعبير عن أحد أعمق أشكال العبادة، فالعبادة هنا هي الفكرة التي ينفذ الإنسان من خلالها إلى الحقائق الكبرى.
ويعرفه جون ستيوارت مل بأنه �الاتجاه القوي المتحمس للعواطف والرغبات نحو هدف مثالي أسمى وأشرف من كل غرض أناني أو رغبةً ذاتية�(4).
كما يظهر معنى العبادة جلياً في تعريف �مل�، من خلال كونها التجسيد الأوضح للجانب العاطفي أو الشعوري الذي يدفع المتدين إلى التواصل مع ذلك الهدف المثالي الأسمى.
ولا يشك الباحث في العقائد الدينية في كون العبادة هي العنصر الأكثر أهمية عند عموم أتباع الأديان، سواءً منها الكتابية أم غير الكتابية.
فحتى الأديان التي لم تنشغل كثيراً في البحث عن الإله المفارق، كالبوذية والجينية والكنفشيوسية، نجدها قد اشتملت على أشكال مختلفة من العبادة.
وكما يقول دراز: �ليس هناك دين -أياً كانت منزلته من الضلال والخرافة- قد وقف عند ظاهر الحس، واتخذ المادة المشاهدة معبودة لذاتها، وإنه ليس أحد من عُبّاد الأصنام والأوثان كان هدف عبادته في الحقيقة هياكلها الملموسة، ولا رأى في مادتها من العظمة الذاتية ما يستوجب لها منه هذا التبجيل والتكريم، وكل أمرهم هو أنهم كانوا يزعمون أن هذه الأشياء مهبط لقوة غيبية، أو رمز لسر غامض، يستوجب منهم هذا التقديس البليغ�(5).
والعبادة بمعناها الواسع تعيد تشكيل المقدس، وتحوله من فكرة نظرية عن كائنات غيبية منفصلة عن عالم الإنسان إلى لحظة تواصل وانسجام بين هذين العالمين، فالذات أو الذوات الغيبية التي يعتقد بها الإنسان-والتي تتصف بكونها غيبية وروحانية- يتصل الإنسان بها من خلال العبادة �إلى حد أنه يجعلها جزءاً حيوياً من كيانه النفسي، ولذلك كلما حزبته حاجاته، وتعسرت عليه رغباته، تطلع إلى روح أشد قوة، يلتمس منها تلك الحاجات والرغبات�(6).
تذهب المدرسة الأنثروبولوجية إلى أن التصورات العقدية ليست هي الأكثر حضوراً في الإنسان المتدين، وإنما الانفعالات والتشنجات والعواطف النفسية(7).
إن أسبقية الانفعالات النفسية على التصورات المدركة هي من الآراء التي نادت بها بعض الاتجاهات البحثية،(8) وما تزال محل جدل ونقاش في الفكر الديني المعاصر.
ويشير إلى هذا المعني ما يشعر به الهندوسي الذي يكاد يعبد كل شيء يعجبه أو يشعر تجاهه بالرغبة والرهبة، فالهندوسية -كأقدم ديانة حية- ما تزال تختزن الكثير من العقائد الطفولية المبكرة.
تظهر العلاقة بين العبادة والعقيدة في البحث عن جذور العقيدة الدينية، وعلى هذا الأساس يربط د. دراز بين العبادة والاعتقاد بوجود ذات أو ذوات غيبية، ويجعله الباعث الذي يدفع الإنسان العابد على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد(9).
وجاءت العبادات تعبيرا عن ذلك الشوق الفطري الأزلي، الذي يكنه الإنسان لسبب وجوده في هذا العالم شكراً له على هذه النعمة، ودعاءً له على دوامها.
وبالرغم مما ينتاب الإنسان من شعور بعدم قبول قرابينه أو الاستجابة لدعائه وصلاته، فإن استمراره بالتضرع والسؤال يبقى هو الملاذ الأكبر الذي يعتصم به أمام شعوره العميق والمتواصل بالفقر والضعف.
وظيفة العبادة:
قدمت العبادة الغذاء الروحي والعزاء النفسي للإنسان منذ أقدم العصور، وعمقت لديه الإحساس بالضمير والرقابة الإلهية، مما دفعه إلى تقويم سلوكه وتهذيب أخلاقه.
وقد أسهمت العبادات الجماعية في تنمية الشعور بقيمة المساواة بين الناس جميعاً، فهم في شوقهم، وضعفهم، وضراعتهم، ودعائهم، وابتهالاتهم، إنما يعبرون عن المشترك الجمعي فيما بينهم.
وثَّقَتْ العبادة العلاقة بين عواطف العابدين ومشاعرهم، وعمقت الإحساس بالمحبة والرحمة، فالعبادة هي وسيلة تطهير نفس الإنسان من البغضاء والعداء، وهي التي تؤدي بالبشرية إلى الوحدة الشاملة.
ولا ينبغي أن نغفل أثر العبادات في تطور العلوم والمعارف الإنسانية، فعلم الفلك -على سبيل المثال- ما كان له أن ينشأ دون مراقبة السماء والتأمل فيها، فالبابليون هم الذين وضعوا التقويم السنوي، والأشهر الإثني عشر(10).
* ������������� * ���������������� *
المبحث الأول: العبادات في الأديان القديمة
العبادة الطوطمية:
العبادة الطوطمية هي من أقدم أشكال العبادات، وعادة ما يكون الطوطم حيوانا، اعتقد الإنسان القديم بأنه أصل القبيلة وحاميها ومنقذها من الأخطار.
تدور العبادة في المرحلة الطوطمية حول عبادة الحيوانات، وهي -بطريقة أو بأخرى- تعكس الخوف الذي كان ينتاب الإنسان من الحيوانات الوحشية.
فالفهد (مثلاً) يحظى بعبادة خاصة لدى شعوب أفريقيا، كما تنتشر عبادة الأفعى على نطاق واسع، وتوجد معابد للأفاعي، ويحظر اصطيادها لدى الشعوب التي تتمتع فيها بالعبادة والتبجيل(11).
كان للعبادات الطوطمية دور كبير في الأديان الهندية قبل الغزو الآري للهند، وكانت تتمثل في عبادة الحيوانات، والأفاعي، والقرود، والفيلة، وغيرها من العبادات ذات الأصول الطوطمية، وإلى جانب ذلك كان لعبادة الماء وقوته التطهيرية أثر كبير في الديانة الهندوسية، فأصبحت عبادة نهر الغانج المقدس تحتل المرتبة الأولى؛ لما يحويه من مياه يمكنها أن تطهر الإنسان من أي ذنب اقترفه، ويعتقد المؤمن الهندوسي أن بَرَكةً عظيمةً ستحل به إذا ما حضرته الوفاة على شاطئ الغانج(12).
اعتقد الهندوس أن الآلهة تتجلى في مظاهر الطبيعة، كما يمكن لها أن تتجسد أحياناً في أشكال حيوانية أو بشرية، وهم يرون في البقرة محلاً لحُلول الآلهة عندهم.
وترجع قداسة البقرة في الديانة الهندوسية إلى المرحلة الفيدية، وقد جاء في كتاب الساما فيدا: �أيتها البقرة المقدسة، لك التمجيد والدعاء، في كل مظهر تظهرين به، أنثى تدرين اللبن في الفجر وعند الغسق، أو عجلاً صغيراً أو ثوراً كبيراً، فلنعدّ لك مكاناً واسعاً يليق بك وماءً نقياً تشربينه، لعلك تنعمين بيننا بالسعادة�(13).
عبادة المظاهر الطبيعية:
هناك تفسيران لهذه العبادة: الأول هو تفسير (تيلور) الذي يرى أن العقلية البدائية فيها من سذاجة الطفولة ما يقصر بها عن التمييز بين الجماد والحيوان، ويجعلها تعامل كلاً منهما معاملة الكائنات الحية، والرأي الثاني: ذهب إليه (سبنسر) أن عبادة الطبيعيات هي نتيجة التباس لغوي في أسماء الأسلاف المقدسين، ذلك أن الأسلاف كانوا يسمون أحياناً بأسماء مواد طبيعية، نجم، نمر، حجر، فانتقل التقديس من أصحاب تلك الأسماء إلى الأشياء المسماة بتلك الأسماء نفسها(14).
من الأهمية بمكان الاهتمام بدراسة العبادة في الأديان من جوانبها الإنسانية من حيث �الشعور بالخوف أمام المقدس، والإحسان بالسر الهائل، والجلال والقدرة الساحقة، والشعور بالتجلي الإلهي، ومخلوقية الإنسان وضعفه�(15).
رمزية المقدس المعبود غير مقبولة لدى غير معتنقيه، ويعبر إلياد عن هذه المشكلة بقوله: �يصعب على بعض الناس أن يقبل تجلي المقدس في الحجر أو في الشجر، مع أن الأمر لا يتعلق بتقديس الحجرة أو الشجرة بحد ذاتها، الحجرة والشجرة المقدستان لا تعبران بما هما كذلك؛ بل لأنهما ظاهرات إليه، فهما �تظهران� شيئاً لم يعد حجراً ولا شجراً؛ بل شيئا مختلفاً كلياً�(16).
آمن اليونان إلى جانب عباداتهم المحلية بأشكال قديمة من العبادات؛ مثل عبادة الحجر والأنهر والينابيع والجبال، ففي (أورخومين) كانت تعبد الحجارة المقدسة، التي زُعم أنها سقطت ذات يوم من السماء(17).
وإذا كان المعبد -كما يقول مرسيا الياد- هو: �صورة لعالم الآلهة، وهو نسخة أرضية عن نموذج سماوي�(18)، فإن العابد هو الذي أضفى على المكان المقدس هذه المعاني من خلال خبرته وأحاسيسه الدينية، العبادة هي سعي للنفاذ نحو المقدس من خلال صيغتيه المكانية والزمانية (المكان المقدس) و (الزمن المقدس)، وهي كل عمل يسعى الإنسان من خلاله إلى استحضار معاني المقدسين، سواءً أكان قرباناً، أو أدعية، أو تلاوات، أو حركات محددة، المكان المقدس هو اختصار للعالم كله، فالعالم هو أيضاً حقيقة مقدسة.
عبادة الزعماء:
شكلت عبادة الزعماء والملوك -الأحياء منهم والأموات- أهم صيغة من أشكال العبادة القبلية لدى العديد من الشعوب القديمة، ففي الديانة المصرية القديمة اعتبر الملوك الفراعنة أنفسهم أبناء إله الشمس (رع)(19)، وكانت العبادات المصرية القديمة تدور حول الفرعون.
وأما كهنة بابل فقد كانوا يؤكدون عبادة الملوك، خاصة وأنها حققت لهم استقراراً في وضعهم المتميز، وهذا النمط من العبادة مشابه تماماً لما كان عليه الحال في بلاد الشرق القديم؛ إذ أصبح القابضون على زمام السلطة أنفسهم مادة للقداسة والعبادة(20).
وعند (الميلاينزيين) كانت الزعماء أو الشخصيات التي تتمتع بمركز اجتماعي مرموق وبيدهم السلطة يتمتعون -بحسب معتقدات (الميلاينزيين)- بـ (مانا) كبيرة وقوية(21)، (والمانا هي قوة روحية خارقة موجودة في كل مكان) (22).
وأما الرومان فقد نال أول إمبراطور لهم مراسيم التبجيل التأليهي عند وفاته وهو (يوليوس قيصر) ثم أوكتافيان، الذي نال لقب (أغسطس) أي (المقدس)، وصنف بعد وفاته في عداد الآلهة، وكاليفولا الذي أعلن نفسه إلهاً(23).
عبادة القرابين:
كانت عبادة القرابين الوسيلة الرئيسة في العلاقة بين الهندوسي وآلهته، وكانت لديهم قرابين غير دموية: �الشراب المقدس (سوما) حليب البقر، زبد، عسل، أرغفة من الخبز، وكان تقديم القرابين يعدّ إطعاماً للآلهة، وكان الهندوسي ينتظر مقابلاً لقربانه...� إليك بالزبدة، فأين هداياك؟ �جئناك بالكثير من شراب السوما أيها البطل، ويدعوك الشاعر مرات كثيرة، فلا تُطل بقاءك بعيداً عنا، أَوْهِ أيها الكريم�(24).
الإله (سوما) -الذي هو قربان الشراب المقدس- هو من الآلهة الوسيطة في الديانة الهندوسية، والتي تقوم بدور الوسيط بين الناس والآلهة السماوية.
وعند (البولينيزيين) كانت الثمار والدجاج والخنازير والكلاب تقدم كقرابين، كما اشتملت القرابين المقدمة عندهم على ضحايا من البشر(25).
رغم التشدد في شكلية العبادات القربانية عند الرومان؛ فإن كلفة تلك العبادات كانت تدفع أهل الميت إلى التساهل والتهرب، فبدلاً من تقديم قرابين حيوانية للآلهة بعدد ما من الرؤوس، كان الروماني يكتفي بتقديم العدد ذاته من رؤوس الثوم(26) إلى الآلهة!!.
عبادة الكواكب:
عبد الهندوس الشمس واعتقدوا أن مجموعة من الآلهة تتجسد فيها، كما هو الحال مع الآلهة (سوريا، ميثرا، سافيترا، بوشان).
كان البوشميين(27) -كشعب صياد- يمارسون نوعا من (العبادة المهنية) يتوجهون في صلاتهم -للحصول على التوفيق إبان العمل- إلى مختلف الظواهر الطبيعية، وخاصة الكواكب �الشمس، القمر، النجوم...�، وقد جاء في آخر صلواتهم �أوه أيها القمر! هناك في الأعالي، ساعدني لأقتل غزالاً في الغد. أعطني لحم غزال آكله. أعني لأرمي غزالاً بهذا السهم. أعطني لحم غزال حتى الشبع...�(28).
تمتد عبادة الإله (ميترا) إلى عصور قديمة، وهو يمثل أحد تجسيدات الشمس، وكانت عبادته من أكثر العبادات الشعبية، وقد رسم الملك (ارتاكسيركس) (405-362 ق.م) عبادته رسمياً، وانتشرت عبادة ميترا في ظل الإمبراطورية الرومانية انتشاراً واسعاً تجاوز حدود إيران(29).
يؤمن الكنفشيوسيون بإله السماء (الإله الأعظم) وآلهة الشمس والقمر والكواكب والسحاب والجبال التي يختص بعبادتهم الملك وأمراء المقاطعات، ويقدمون لهم القرابين، أما عامة الصينيين فإن نصيبهم من العبادة يقتصر على آلهة الأرض.
ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد عبادة النجمة القطبية، وقد اعتقد الصينيون أنها تمثل المحور الذي تدور حوله السماء.
كما عبد العرب القدماء الشمس (عرب حمير)وتسموا بها، كعبد شمس، وامرئ الشمس، وعبد الشارق، كما عبد العرب -إلى جانب القمر والثريا- كوكب الزهرة، وهي التي عبدها الهنود باسم (مايا)، والفرس باسم (ميترا)، والفينيقيون باسم (عشتروت)، والآشوريون باسم (انايتيس)، وتعدّ الزهرة من أشهر المعبودات وأقدمها؛لأنها -بحسب اعتقادهم- إلهة الحب والجمال(30).
عبادة الأسلاف:
نشأت عبادة الأسلاف على أساس النظام الأبوي/العشائري، فعند الشعوب الأفريقية القديمة كان يجري تصوير أرواح الأسلاف كمخلوقات، تقوم بحماية العائلة والعشيرة، وهذه الأرواح هي التي تطلب القرابين وإبداء الخضوع، وهي قادرة على معاقبة الناس من خلال الأمراض والمصائب الأخرى(31).
عبادة حامي العشيرة أو السلف أو بعض الرموز العائلية مثل: عبادة الشعلة المنزلية، وهي الرمز المادي المعبر عن وحدة العائلة، واتخذت هذه العبادة شكلها المتطور خاصةً لدى شعبي الأنكوش والأستيين(32).
وكانت تلك العشائر تقيم صلوات كل عام ترفعها نحو الآلهة الحامية للعشيرة، ويتم ذلك في حرش مقدس أو في مكان آخر محدد بقيادة كبير العشيرة(33).
وقد عبد قدماء الألمان أرواح الموتى، واتخذت عبادة الموتى عندهم شكل عبادة عائلية عشائرية للأسلاف، وكان كهنة هذه العبادة من رؤساء العشائر والعائلات(34).
تعدّ عبادة الأسلاف في الصين بمثابة المحتوى الأساسي للعبادة الكونفوشيوسية، وأصبحت المكوّن الرئيس للمعتقدات والطقوس الصينية، وكان لكل عائلة معبدها العائلي الخاص أو مصلاّها، حيث تقام فيه طقوس العبادة العائلية في وقت محدد، وتقام القرابين والصلوات أمام رأس العائلة، أو الأكبر سناً في العشيرة. في الأزمان القديمة كانت تقام معابد بالقرب من قبر الموتى، حيث تقدم فيها القرابين، ولكن في عهد أسرة هان الملكية أخضع بناء معابد الأسلاف (مياو) لقواعد صارمة، فكانت الطقوس في هذه المعابد تؤدى في وقت معين من السنة، أو عند حدوث مناسبة عائلية ما، أو وقائع في العشيرة: عقود زواج، موت أحد أفراد العائلة، ولادة طفل، سفر رأس العائلة، وما شابه ذلك(35).
ومن الصلوات التي يتلوها رب العائلة قبل تقديم القربان العائلي في معبد الأسلاف: �أنا العابد الحفيد فلان الفلاني، اليوم، وبمناسبة حلول أواسط الفصل كذا، أود تقديم قربان لكم، أيها المرحومون، إلى القريب والجد، وجد الجد، وجد جد الجد، وإلى القريبة الجدة، وجدة الجدة، وجدة جدة الجدة، وأملك الجرأة لنقل لوحكم الخشبي إلى قاعة المنزل لأدعو أرواحكم لتنعم بقبول القرابين التي ستقدم مع فائق التبجيل�(36).
استمرت عبادة الأسلاف مع الديانة الكنفشيوسية، ولم يحاول كنفوشيوس تغيير شيء من مضمونها الغيبي؛ لكنه حاول تعميق أبعادها الاجتماعية، فقد حث كنفوشيوس أتباعه على القيام بتقديم القرابين وأداء الطقوس للأسلاف لا لأجل أرواح الأسلاف أو لاستدرار عطفها؛ بل لأن هذه الطقوس قديمة في المجتمع الصيني، ولأنها تعمق الاحترام بين الأبناء والآباء.
وقد حدث أن سأل أحدهم كنفوشيوس: هل تدرك أرواح الموتى ما يقدم لها من قرابين؟
فأجاب: �إذا قلت: إنا تعي، فسيلقي هذا الرعب في قلوب الأبناء البررة القائمين بواجبات ذويهم، وسيدفعهم لازدراء جميع المصالح الدنيوية، بانصرافهم لخدمة ذويهم الموتى كما يخدمون الأحياء، وإن قلت إنا لا تعي فيمكن التوقع أن الأبناء سَيَدَعُون ذويهم الموتى بغير دفن. أما ما يتعلق بهذا (السائل) فليست هناك ضرورة للحصول على جواب قاطع وسيأتي الوقت الذي ستعرف فيه بنفسك كلَّ شيء�.
وجاء في أحد مؤلفات كنفوشيوس في ذكر تمجيد الآباء خمسة واجبات على الابن البار أن يؤديها:
1- إبداء أقصى الاحترام على الدوام تجاه الأهل.
2- أن يقدم لهم أفضل ما يحبونه من الطعام.
3- الجزع واللهفة حين يمرضون.
4- الأسف من الأعماق على وفاتهم.
5- تقديم القرابين لهم رفقة حفل ديني بعد موتهم.
وفي الهند عبد الآريون الأسلاف القدماء إلى جانب الآلهة، وجاء في الرجفيدا: �عبادتنا موجهة الآن إلى آبائنا القدماء، إلى الآباء الجدد، إلى أولئك الذين يستقرون فوق الشعلة الأرضية،... أَوْهِ أيها الآباء، آباء بارهيشادا (المفترش العشب)، ندعوكم جميعاً لمعونتنا، تمتعوا بقربان كامل الاحتراق مما نقدمه لكم، هبونا غطاء السعادة، أبعدوا عنا الشر والإثم�(37).
وفي اليابان اعتقد أتباع الديانة الشنتوية أن الإمبراطور (ميكادو) هو سليل الآلهة (أمايتراسا) آلهة الشمس، وهو الواسطة بين الآلهة والناس.
العلاقة بين عبادة الأسلاف وعبادة أرواح الموتى:
هناك علاقة وطيدة بين عبادة الأسلاف وعبادة أرواح الموتى، وإذا عددنا نظرة أتباع المدرسة الروحية (Animism)(38) عبادةً؛ فإن عبادة أرواح الموتى هي أصل الأديان.
ومهما يكن من نقاش حول هذه النظرية فإن دراسة الأديان القديمة تطلعنا على أن العديد من الشعوب القديمة قد عبدت أرواح الموتى، ففي الديانة المصرية القديمة تظهر العلاقة وطيدة بين عبادة الإله (أوسيريس) وعبادة أرواح الموتى، والتي تُعدّ من الدلائل المبكرة على الاعتقاد بوجود حياة بعد الموت، وقد كان أوسيريس يصور كَمالِكٍ للموتى، وهو نفسه يموت ثم يبعث كل عام، فالأمل بالبعث وتحقيق الخلود الروحي للأموات قد دفع المصريين القدماء لعبادة (أوسيريس)؛ رجاء حمايته للميت، وتحقيق خلاص الروح النهائي.
وكانت بعض الطقوس تقوم على تحقيق مماثلة المتوفى بـ�–أوسيريس– ليس إلا هذا�(39). فالميت يصبح هنا –كالإله- قادرا على الحياة من جديد.
وعند الرومان ارتبطت عبادة أرواح الأموات والأسلاف بعبادة الآلهة ماني، فقد آمن الرومان بأن (ماني) هو الروح، أو ظِلُّ الموتى الحامي للأسرة والعشيرة(40).
عبادة الأسلاف وعبادة الأبطال:
هناك رأيان في تفسير ظاهرة عبادة الأبطال عند اليونان، يذهب الرأي الأول إلى أن هذه العبادة كانت نتيجة لانحلال نظام العشيرة السلالي، وأما الرأي الثاني فيذهب إلى أن عبادة الأبطال جاءت نتيجة انهيار الإيمان بالآلهة.
ويعتقد أن الأبطال كانوا في البدء أرواحا لسلالات عشائرية معينة، من الأسلاف الأوائل من رؤساء العشائر، قبل أن يصبحوا مادة خاصة للعبادة. كانت عبادة البطليْن (أريختيه) و (بوت) في أثينا، وكان وجهاء العشيرة يقبضون بأياديهم على مقاليد العبادة، التي اتخذت طابعاً أكثر شعبية من حيث الاتساع(41).
العبادات الزراعية:
وهي طقوس مرتبطة بالتنظيمات الزراعية والرعوية، فسكان الأبخاز كانوا يقيمون صلاة زراعية خاصة كل ربيع في شهر أيار (مايو) أو أوائل حزيران (يونيو)، وفي يوم الأحد يدعونها (صلاة أتسو)، وهناك كانت تذبح ذوات القرون ويسلق اللحم، ويجرى اختيار أحد الكهول وتقدم له عصا علق عليها كبد وقلب مع كأس نبيذ، وبعد ذلك يتلو الصلاة: �يا رب القوى السماوية، أرحنا واشملنا برحمتك، أعط الأرض خصباً، كي لا نعرف نحن مع نسائنا وأولادنا لا الجوع، ولا البرد، ولا الشقاء�(42).
ويدخل في العبادات الزراعية أعياد الربيع، مثل: عيد المحراث (شعوب ماري واكاتوى والتتار والبشكر)(43).
وأعياد نهاية الحصاد، وعيد الزراعة الصيفية، وطقوس الشكر، بعد جني المحصول، ولا يسمح بتناول الخبز المصنوع من قمح الموسم قبل الانتهاء من الطقوس(44).
اتخذت العبادة الزراعية لدى الصينيين سمات عبادة رسمية للدولة، وكان أحد صُروح هذه العبادة الرئيسيين (شن – نون) أو (المزارع الإلهي) وهو واحد من الأباطرة الأسطوريين الذي نسب إليه اختراع الزراعة، وقد شغلت الأرواح المحلية (تو – دي) مكانة بارزة في المعتقدات والعبادة الشعبية، وقد أُقيمت لها معابد في كل مكان، وكانت الصلوات توجه إليها كي ترسل الغيث وتعتني بالمواسم، ولتبعد كافة أنواع المصائب، وكانت كل مدينة تعبد إلهها الحامي الخاص بها(45).
وعند السومريين استمرت -إلى جانب العبادة الرسمية لآلهة حماة الدولة، وعبادة الملوك- عبادات أخرى في الوجود، وهي ولا شك تعود إلى أزمنة غابرة، وهي عبادات شعبية صرفة، وكان في مقدمتها العبادة الزراعية لإلهَيْ النبات والخصب، وكانت عبادة الإله الأنثوي -آلهة الخصب، التي عرفت باسم (عشتار)- تقام مثل عبادة الآلهة الحامية للمدن السومرية.
وكانت عبادة الإله (دوموزي) (تموز) الإله الزراعي مليئة بالمشاعر الجياشة، والبكاء والندب* على (تموز)؛ لاعتقادهم بمصرعه وانحداره إلى العالم السفلي: �سيد المصير لم يعد من الأحياء... قريني لم يعد من الأحياء... قضى سيد الأرض... ذاك الذي يدلل النبات في الأرض لم يعد يعيش،...�(46).
وعبادة (تموز) السامي وهو آدوني �أدونيس� في الشكل اليوناني واللاتيني، قد لاقت انتشاراً واسعاً فيما بعد في كافة أنحاء آسيا(47).
انتشرت عند اليونان العبادات الزراعية، حيث عبادة آلهة الخصوبة، وحماة الزراعية، والقرابين التي تتكون غالباً من الثمار والعنب وأقراص العسل وصوف الغنم... كل ذلك يقدم للإله (ديميترا) (48).
المبحث الثاني: العبادات في الأديان الكتابية
أولا: العبادات في العهد القديم:
جاء في الأسفار اليهودية المقدسة وصف لنوعين من العبادة, أولهما عبادة الأوثان, وما كان يرافقها من بناء المذابح وإشادة المعابد وتقديم الضحايا وإشعال النيران والرقص والغناء, عند العبرانيين أنفسهم أو عند جيرانهم في فلسطين وسورية ومصر واليونان والرومان. أما النوع الثاني فعبادة الله الواحد. وقد كان اليهود يخلعون أحذيتهم وقت العبادة، ويطأطئون رؤوسهم ويحنون أجسادهم ويسجدون حتى تمس رؤوسهم الأرض. وللعبادة وطقوسها أثر في العادات, وفي التراث الثقافي والفني للشعب الذي تجري فيه تلك العبادة، وهي في الوقت نفسه متأثرة بتلك العادات وبذلك التراث(49).
وسوف نركز في هذه الدراسة على عبادة الصلاة كأنموذج للعبادة في الديانة اليهودية، وكذلك الحال بالنسبة للمسيحية، وسوف نعرض لها من مصادرها الدينية التي يؤمن بها أتباعها، وذلك حرصا على موضوعية البحث العلمي أولا، ثم لكون أتباع الفكرة هم أحرص الناس على عرضها بالصورة الأمثل.
الصلاة في الديانة اليهودية:
تتضح أهمية الصلاة في الديانة اليهودية من خلال الوصف الذي يقدمه التلمود للصلاة بانها �أعلى مرتبة من الأضاحي، وهي أعلى منزلة من الأعمال الصالحة، لا أحد يفوق بأعماله الخيرة معلمنا موسى، كانت صلواته مستجابة�(50).
�الصلاة الحقيقة ليست تلك التي تخرج من الشفاه؛ بل التي تصدر من القلب، الصلاة التي يلفظها الإنسان لا يستجاب لها، إلى أن يضع قلبه بين يديه، كما قيل: �لنرفع قلوبنا مع الأيدي إلى الله في السموات� (مراثي أرميا 41: 3)�(51).
يعرف التلمود الصلاة بأنها محبة الله وعبادته بكل القلب: �أحبّوا الرب إلهكم، واعبدوه بكل قلوبكم� فإن سمعتم لوصاياي التي أنا آمركم بها اليوم فأحببتم الرب إلهكم وعبدتموه بكل قلوبكم وبكل نفوسكم� (تثنية 11، 13) والمقصود بعبادته في القلوب هي الصلاة(52).
على المصلي أن يكون خاشعاً في صلاته، وأن يوجه قلبه نحو السماء، وأن يخفض رأسه ويوجه نظره نحو الأرض، والقلب إلى الأعلى، وأن يعتقد أنه يقف أمام الله �عندما تصلون اعرفوا أمام مَنْ تقفون�(53).
وللصلاة الجماعية أهمية كبرى �لا تُستجاب صلاة الإنسان من الله إلا عندما يقدمها في الكنيس، إذا كان أحدهم معتاداً على الذهاب بانتظام للكنيس وانقطع مرة واحدة فإن القدوس الواحد يسأل عنه�(54).
ولا تكمن أهمية الصلاة في كونها فريضة لازمة؛ وإنما في كونها وسيلة للرحمة والفضيلة الإلهية، جاء في التلمود: �عندما تصلي لا تنظر إلى صلاتك على أنها قانون ثابت؛ بل طلبٌ للرحمة والفضيلة للرب الحاضر في كل مكان�(55).
جاء في التلمود التأكيد على أهمية الصلاة، ورأت أنه من خلال ممارسة الصلاة يكون الإيمان والتعبير عن الخلاص؛ �لأنها (الصلاة) وحدها توجه التماساً لله الذي نؤمن به وبإرادته في نجدة ومساعدة خليقته، أن تصلي لا يعني فقط الطلب وفقاً لحاجاتك الخاصة، وبالمعنى الأكثر سمواً، الصلاة هي: وحدة الشعور الحار بين الخالق والمخلوق، تلتمس الروح البشرية من أعماقها الروح الإلهية�(56).
�كي تكون الصلاة صالحة مسموعة لدى الله يجب ألا تأتي من روح صادقة صالحة؛ بل أن يكون من يقدمها جديراً بالحصول على جواب... من يعمل بإرادة الحاضر في كل مكان، ويوجه قلبه نحوه مصلياً، يستجاب له� (خروج 3: 21).
وعلى المصلي ألاّ يقنط من استجابة الله له �حتى لو أن سيفاً مسلطاً على عنقه، فلا ييأس من الرحمة الإلهية�(57)، ورغم وجود الصيغ المفردة في الأدعية والصلوات اليهودية؛ فإن الصيغة المفضلة هي صيغة الجمع عند تلاوة الصلاة، فنادراً ما يستخدم في شعائر العبادة في الكنيس اليهودي صيغة المتكلم المفرد في الصلاة(58).
ثانيا: العبادات في المسيحية:
كانت العبادات زمن المسيحية الأولى في غاية البساطة، ولم تكن هناك أية طقوس تقريباً، وربما كانت هذه السمة سبباً في انتصار المسيحية على غيرها من العبادات.
تدور العبادات في المسيحية حول الذبيحة الأفخارستية, والتي تعدّ أحد أهم الأسرار السبعة في الكنيسة(59).
تقيم الكنيسة شعائر العبادة العامة لمجد الثالوث القدوس, ومنها تسمع كلمة الله وتترنم بتسابيحه وترفع صلاتها، وتقرب ذبيحة المسيح الحاضر سرِّياً وسط الجماعة، وهذه الكنائس هي أيضاً أمكنة للتخشع والصلاة الشخصية(60).
علامتا الخبز والخمر (في الأفخارستيا) يتحولان إلى جسد المسيح ودمه، كانا في العهد القديم يقدمان قرباناً من بواكير الأرض علامة اعتراف بالخالق(61).
تنطوي عبادة الأفخارستيا على إعادة تمثيل الحدث المقدس عندما قال المسيح لتلامذته: �اصنعوا هذا الذكرى�، فالمسيح قد �وضع في العشاء الأخير-ليلة أُسلم- ذبيحة جسده ودمه الأفخارستية؛ لكي تستمر بها ذبيحة الصليب على مر الأجيال إلى أن يجيء�(62).
فالأفخارستيا تمثل منبع الحياة المسيحية وقمتها، وهي شركة الحياة مع الله ووحدة شعب الله، فالعابد يتوحد مع المعبود، وفي ذات الوقت يتوحد المؤمنون أيضاً(63).
الأفخارستيا هي عبادة تجمع بين الصلاة والقربان: فهي �صلاة قربانية� أو كما وصفها كتاب �التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية� هي صلاة شكر وذبيحة حمد لله، وهي تذكار تضحية المسيح، واستحضار له بقوة كلمته وروحه(64)، فالمسيح هو الذبيحة الذي بذل جسده لأجل الناس،
وعبر بهذه التضحية عن عظيم محبته للإنسان، فالأفخارستيا ليست مجرد استعادة لأحداث الماضي؛ بل هي الإشادة بالعجائب التي صنعها الله للأنام(65).
الصلاة المسيحية:
يذهب علماء المسيحية إلى أن الصلاة في العهد الجديد هي �العلاقة الحية بين الإنسان والله والمسيح والروح القدس�(66).
ويعرف القديس يوحنا الدمشقي الصلاة بقوله: �هي رفع النفس نحو الله أو التماس الخيرات الصالحة من الله�(67).
وأما القديسة تيريزا فهي تعرفها بأنها �هي توثب القلب، نظرة بسيطة تلقيها إلى السماء، هتاف شكر وحب في المحنة كما في الفرح�(68).
وعن أهمية القلب في الصلاة: �القلب هو الذي يصلي، وإذا كان بعيداً عن الله فالصلاة باطلة�(69).
صلاة المسيح:
جاء في إنجيل متّى على لسان المسيح: �للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد�. صلاة ليسوع هي تسليم متواضع وواثق لإرادته البشرية إلى مشيئة الله المحبَّة.
يعتزل يسوع مراراً في الخلوة، على الجبل، ولا سيما في الليل، لكي يصلي(70).
ذكر الإنجيليون صلاتين للمسيح كلاهما تبدآن بالشكر:
الصلاة الأولى (من 11-25-27) و (لو 10: 21-22): يحمد يسوع الأب، ويعترف به، ويباركه؛ لأنه أخفى أسرار الملكوت عمن يسمون أنفسهم علماء، وكشف عنها �للأطفال�.
والصلاة الثانية (يونا 11: 41-42): �يا أبت أشكر لك أنك سمعت لي، لقد كنت أنا عالماً بأنك تسمع لي على الدوام�.
آخر كلامه كان صلاة ودعاءً لله فقال: �يا أبتاه، في يديك أستودع روحي�(لوقا 23: 46).
سمات الصلاة المسيحية:
تشترط الصلاة التي علمها المسيح لتلامذته توبة القلب، والمصالحة مع الأخ قبل تقديم القربان على المذبح(71)، ومحبة القريب، والصلاة لأجل المضطهدين(72)، والصلاة في الخفية (متى 6: 6)، وعدم تكرار الكلام عبثاً(73)، والمغفرة من أعماق القلب في الصلاة(74)، ونقاوة القلب، وطلب ملكوت الله(75).
ولا بد للمصلي من التيقن باستجابة الله له؛ فقد جاء في الإنجيل على لسان المسيح ـ عليه السلام ـ: �كل ما تسألونه في الصلاة، فآمنوا أنكم قد نلتموه�(76).
وصلاة الحقيقية لا تكون بقول الإنسان: �يا رب. يا رب� وإنما بمطابقة القلب على عمل إرادة الأب (الله)(77).
والصلاة في المسيحية تتجه إلى الله من خلال المسيح، فقد ذكر الإنجيل أن المسيح بعد رجوعه وقيامته علم تلاميذه أن يسألوا الله باسمه(78)؛ لأنه (المسيح) هو (الطريق والحق والحياة)(79).
ويلخص القديس أوغسطينوس أبعاد الصلاة المسيحية بقوله: �إنه يصلي لأجلنا؛ لكونه كاهننا، ويصلي فينا بكونه رأسنا، ونصلي له بكونه إلهنا. فلنعرف إذن أصواتنا فيه وصوته فينا�(80).
الصلاة في التعاليم المسيحية -مهما كانت جماعية أو شخصية، كلامية أو قلبية- هي لا تصل إلى الله (الأب) إلا إذا كانت (باسم) يسوع(81)، ودعاء اسم يسوع القدوس هو السبيل الأبسط للصلاة المتواصلة(82)، ومريم هي المصلية الكاملة(83).
وللصلاة ثلاثة تعابير، وهي: الصلاة الشفوية، التأمل، الصلاة العقلية، ويجمع بينها خشوع القلب(84).
تفترض الصلاة جهداً كبيراً وجهاداً للنفس ولحيل الشيطان، وجهاد الصلاة لا يمكن فصله عن (الجهاد الروحي)، �يصلي الإنسان كما يعيش؛ لأنه يعيش كما يصلي�(85).
ومن أهم أشكال الصلاة في المسيحية:
1-����� صلاة الطلب وموضوعها المغفرة.
2-����� صلاة الشفاعة أي (الطلب من أجل الآخر).
3-����� صلاة الشكر، الشكر على كل شيء وكل فرح وكل مشقة.
4-����� صلاة التسبيح، وهي منزهة عن المصلحة تتوجه نحو الله وتتغنى به وتمجده إلى ما هو أبعد من أفعاله(86).
5-����� الأفخارستيا تحوي كل صيغ الصلاة وتعبر عنها(87).
ومن أهم الصلوات المسيحية ما يسمى بصلاة �ساعة يسوع� عندما حانت ساعته، وتوجه بصلاته إلى الله (الأب)، وهذه الصلاة -بحسب اعتقادهم- تتناول كل تدبير الخلق والخلاص(88).
كما تعدّ �صلاة مريم� عليها السلام من أهم الصلوات في الديانة المسيحية، وهي تعبير كامل للطاعة والتسليم لأمر الله: �أنا أَمَةُ الرب فليكن لي بحسب قولك�.
الصلاة الرَّبية (صلاة الرب)
يذكر الإنجيل أن الحواريين عندما سألوا المسيح أن يعلمهم الصلاة، علمهم صلاة �أبانا الذي في السموات...� (89).
ويعتقد المسيحيون أن هذه الصلاة تتوجه إلى الله السماوي (الأب)، وأنها جاءت بصيغة الجمع وليس المفرد �أبانا� وليس �أبي�، وهي تحوي وتختصر جميع الصلوات التي في الكتاب المقدس كله، فهي خلاصة الإنجيل كله وأكمل الصلوات، وقلب الكتاب(90)، والصلاة الربية تجعل المسيحي يدخل في شركة مع الله (الأب)، ومع يسوع (الابن)، وهي تنمي في المصلي إرادة التشبه به، إلى جانب الإحساس بالثقة، والتواضع أمام الله(91).
الطلبات الثلاثة الأولى من (الصلاة الربية) موجهة إلى الله: تقديس الاسم، إتيان الملكوت، تتميم المشيئة الإلهية، والأربع الأخرى هي طلبات تتعلق بحياة الإنسان نفسه: أعطنا خبزنا، اغفر لنا، لا تدخلنا في تجربة (ابتلاء)، نجنا من الشرير. ثم تنتهي الصلاة بلفظة آمين.
المبحث الثالث: العبادة في الإسلام
يتحدث القرآن عن جذور العبادة والإيمان التى غرسها الله فى نفوس الناس جميعا كما فى قوله تعالى: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾(الإسراء 23)، وقال تعالى: ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمـٰـوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَّكَرْهًا وَّظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾(الرعد 15).
والعبادة بمعناها العام هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة(92)؛فالعبادة ليست محصورة في الصلاة والصيام والحج وما يلحق بها من التلاوة والذكر والدعاء والاستغفار؛ وإنما هذه الشعائر العظيمة والأركان الأساسية في بناء الإسلام -علىمنزلتها وأهميتها- هي جزء من العبادة، وليست كل العبادة التي يريدها الله، فدائرة العبادة -التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة ومهمته في الأرض- دائرةٌ رحبة واسعة تشمل شؤون الإنسان، وتستوعب حياته كلها.
من أجل العبادة أرسل الله جميع الرسل، قال تعالى: ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾( البقرة 21).
ورد في بعض الكتب الإلهية: �يقول الله تعالى: ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء..�(93).
أقسام العبادة:
قسم أبو الحسن العامري العبادات إلى خمسة أنواع، هي محل اشتراك بين عموم الأديان، وهي:
1-����� العبادة النفسانية، وهي الصلاة المشتملة على ذكر الله تعالى، وإخلاص النفس له بالخضوع والخشوع.
2-����� والعبادة البدنية، وهي الصيام المشتمل على صورة التقلد للأمانة في أشياء ينجذب إليها الطبع، والصبر على حفظها مع دواعي النفس إلى الإخلال بها.
3-����� العبادة المالية، وهي الزكاة المشتملة على التسمح بالأموال.
4-����� العبادة الملكية، وهي الجهاد المشتمل على حراسة الملة.
5-����� العبادة المشتركة، -التي هي النسك الأعظم– والتي تشتمل على عبادة نفسانية وبدنية ومالية وملكية وهي الحج، ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾(94-95).
والعبادات تنقسم إلى قسمين: العبادة العامة وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأفكار، والعبادة بالمعنى الخاص وهي (الصلاة والصوم والزكاة والحج) (96)، وهذه هي أركان الإسلام وقواعده الرئيسة.
وهناك من قسم العبادة إلى عبادات محضة (كالصلاة والصيام والحج والزكاة)، وعبادات غير محضة (كالجهاد وطلب العلم).
العبادة والذكر:
إن القصد الأول من العبادات كلها هو تذكير الإنسان بربه الأعلى، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾(97).
وقال رسول الله –عليه الصلاة والسلام-: (إنما فرضت الصلاة، وأُمر بالحج وأُشعرت المناسك، لإقامة ذكر الله).
وهذا الذكر لا يتم إلا بحضور القلب والعقل وهو متضمن في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾(98-99).
والذكر هو اسم من أهم الأسماء التي يسمى بها القرآنكما في قوله تعالى: ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾(الحجر9).
الذكر نوعان: ذكر اللسان وذكر القلب، أما ذكر اللسان فبه يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، وهو غاية ذكر اللسان.
يقول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في الذكر: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال﴾(الأعراف205).
وقد جعل الله ثواب من ذكره فوق كل ثواب مادي عندماقرن ذكر عباده له بذكره لهم فقال ﴿فاذكروني أذكركم﴾(البقرة 152) وعن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: �قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم...�(101).
والذكر موصول بكل العبادات التي أمر الله بها عباده، فالصلاة ذكر ﴿قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى﴾(الأعلى14،15)، والحج ذكر ﴿ويذكروا اسم الله في أيام معلومات﴾(الحج28)، والتسبيح ذكر، والحمد ذكر، والاستغفار ذكر.
العبادة والأخلاق:
تظهر الصلة القوية بين العبادة والأخلاق في العديد من الآيات القرآنية، فقد قرن الله تعالى بين العبادة والأخلاق كما في قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾(102).
فجاءت جميع هذه الأخلاق التي ذكرتها الآيات بين آيتين تخصان الصلاة للمؤمنين، الأولى ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، والثانية ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.
وقال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾(103).
فذكر حسن أخلاقهم مع الخلق قبل حسن صلاتهم وقيامهم لله.
كما وصل القرآن بين الصبر والصلاة: ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها﴾(104).
وبين التواضع والعبادة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾(105).
نظرة الإسلام للعبادات الأخرى:
جاءت آيات القرآن مستوعبة للأسباب التي تدفع الإنسان إلى العبادة، فالإنسان مشغوف بعبادة خالقه بفطرته ﴿وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(106). وعبادة من يرزقه وينعم عليه ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا﴾(107).
ومن بيده النفع والضر ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾(108).
وقد أشار القرآن الكريم والسنة النبوية إلى العبادات التي كانت سائدة قبل البعثة وفي أثنائها، وسعى كل منهما إلى تقويم ما خالف أفراد العبادة لله الواحد الأحد، ومن أبرز تلك العبادات:
1-عبادة الشيطان: ﴿أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾(109).
2-عبادة الملائكة والجن: ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾(110).
3-عبادة الطاغوت: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا﴾(111).
4-عبادة الأحبار والرهبان: ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾(112).
5-عبادة الزعماء: ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾(113).
6-الشمس والقمر: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾(114).
7-عبادة الكواكب: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾(115).
8-عبادة أرواح الأموات، انتقدت الأحاديث النبوية عبادة القبور وتقديم الذبائح والنذور لغير الله، فالقرآن ينتقد العبادة الملفقة وغير الواعية، وهو يرفض النظر إلى العبادة كعادة يتلقنها الإنسان عن آبائه وأجداده، ويقرر أنها خضوع إرادي ومحبة صادقة تنبع من وجدان الإنسان، وتلتقي مع ما يريده الله منه.
سمات العبادة في الإسلام:
أعظم أشكال الخضوع في العبادة أن تكون كما يريدها من تؤدَّى إليه، وهو الله تعالى، فَمَنْ خَلَقَ الإنسان هو وحده الجدير بتقرير شكل العبادة التي يريدها منه، ولذلك كانت العبادات في الإسلام �توقيفية�، وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزالي: �إن العبادات لصحة قلب الإنسان، كالأدوية لصحة بدنه، وليس كل إنسان يعرف خواص الدواء وسر تركيبه إلا الطبيب أو العالم الذي اختص بمعرفته... فكذلك بان لي على الضرورة أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحددة المقدرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء؛ بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة لا ببضاعة العقل�(116).
إن الذي يقرر العبادة ويحدد وسائلها هو خالق الإنسان، خاصة وأن الإنسان مندفع بفطرته إلى البحث عن وسائل يعبر فيها عن خضوعه ومحبته لمن أوجده في هذا العالم، وجعله متسلطاً على سائر خلقه فيه، مما يؤدي به دوما إلى اختراع وسائل تعبدية يعتقد أنها تقربه إلى الله زلفا.
نظر الإسلام إلى العبادة نظرة متوازنة، فلم يجعلها تلغي حاجات الإنسان وسعيه في طلب رزقه ومعاشه، فنهى عن الغلو في العبادة.
ودعا إلى التيسير ورفع المشقة عن الناس في العبادة، فخلافا لأحكام السبت التي جاءت شاقة وتمنع أي شكل من أشكال العمل طيلة اليوم، كانت أحكام يوم الجمعة ميسرة ولم تنه عن العمل إلا وقت صلاة الجمعة فقط: ﴿فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون﴾(الجمعة: 10).
وجعل الإسلام للعبادات رخصاً ليخفف بها المشقة عن الناس، كما هو الحال في جَمْعِ الصلاة، وقَصْرها في السفر، وفي الحرب، وجعل للمريض وأصحاب الأعذار أحكاما تناسب حالهم.
العبادة بين الرمزية والوثنية:
العبادة في جوهرها هي �توجه إلى مبدأ روحي غير مادي�(117) -فهي وإن كانت تبدأ من رمز أو جهة أو كائن طبيعي ما- تنتهي إلى ذلك المبدأ الروحي.
وعلى هذا الأساس فإن الأصنام والصور التي قدسها معظم أتباع الأديان لم يعبدوها لذاتها؛ بل استخدموها كوسائل فكرية للتأمل والتركيز، فلقد أدرك الإنسان منذ القدم أن الله ليس صورة يرسمها بريشته ولا تمثالا يصنعه بيديه، رغم أنه أطلق عليه اسم الإله، وأنه ليس محصورا بجدران معبد، رغم أنه بيت الإله.
إن الرموز ليست موضوعا للعبادة بحد ذاتها، فالهندوس لا يقصدون عبادة تمثال الاله اندرا أو سيفا أو وشنو عندما يتلون أمامها الصلوات والتضرعات، والمسيحيون لا يقولون بعبادة الصليب أو الصور والأقانيم، وإنما يتخذونها أداة لتركيز التفكير والتأمل بما وراءها من المعاني الروحية السامية.
ويرى أتباع هذه الأديان أن التركيز على الصورة أو التمثال ليس سوى خطوة أولى في اتجاه البحث عن الحقيقة الإلهية التي لا نهاية لها، فالعبادة وإن كانت تبدأ من صورة أو مكان مخصوصين إلا أن الإنسان يجب أن يشعر بوجود الإله في كل مكان.
وفي الإسلام نجد الرموز الدينية حاضرة، فالقبلة والكعبة والحجر الأسود هي وسائل يتعبد من خلالها المسلم ولا يقصدها لذاتها، ﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين﴾(البقرة 176).
وقول عمر ـ رضي الله عنه ـ للحجر الأسود: �والله إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله قَبَّلك ما فعلت�.
وفي مناسك الحج نجد الشبلي ـ رحمه الله ـ يربط بين الرمز والمرموز إليه (المظاهر والحقائق)، فيقول: �نزع الثياب -أي الإحرام- يلزمه التجرد عن كل شيء، والتطهر يلزمه إزالة كل العلل، ودخول المسجد يلزمه الدخول في قرب الله، ورؤية الكعبة يلزمها رؤية رب الكعبة المقصودة�(118).
وإذا كانت الكعبة من حيث الظاهر تعني البيت الذي يذكر فيه اسم الله، ويتجه إليه الناس، فإنها من حيث الباطن تعني قلب العبد المؤمن التقي النقي الذي يعمره الحق بتجلياته، ولذلك يقول: �البيت المعمور� وهو القلب الذي وسع الحق فهو عامر(119).
يمر الجنيد بتجربة؛ إذ أنه أخذ درساً من جارية كانت تطوف وهي تنشد شعراً في الحب، فنهرها الجنيد، فسألته الجارية إن كان يطوف بالبيت أم يبغي رب البيت، فرد بأنه يطوف البيت، فنعتته الجارية بأن قلوبهم كالحجر، وقالت: �يطوفون بالأحجار يبغون قربة إليكَ وهم أقسى قلوباً من الصخر�(120).
إن الدلالات الرمزية للطواف حول الكعبة عديدة وبليغة، فحينما يطوف الطائف فكأنه يتسامى ويرقى بطوافه من المستوى الحسي إلى المستوى العقلي أو الروحي الأعلى، فإن طوافه يتخذ معنى جديداً، حيث يصبح كالطواف حول العرش الإلهي، وبهذا يكون موقفه من العرش في طوافه كموقف الملائكة الطائفة حوله منذ الأزل(121).
خاتمة:
أسهمت العبادات والطقوس في تشكيل الهوية الثقافية للأمم والشعوب وتدعيم الروابط الأسرية والاجتماعية، وقد رافقت العبادة الإنسان في مسيرته الفكرية ومعاناته الإنسانية، فكانت ساذجة وطفولية في فترة سذاجته وطفولته، فكانت العبادات الطوطمية وعبادة مظاهر الطبيعة وعبادة الأسلاف، ثم تطورت مع تطور الفكر الإنساني، وتبلور تجربته الروحية فبدأت تتجه نحو ذوات علوية، راحت تتجرد عن مشاكلة الخلق ومشابهته، هذا وبالرغم مما يبدو عليه هذا التفسير من قبول بالنظرة التطورية للظاهرة الدينية، فإن ذلك لا يعني أن العناية الربانية لم تكن ترشد الإنسان بين الفينة والأخرى إلى الأمثل والأقوم من العبادات والاعتقادات.
وأخيرا فإن المتأمل في عبادات الأمم والشعوب لتأخذه الحيرة والدهشة لما درجوا عليه من طرائق ووسائل عبادية تخالف ما اعتاده المسلم من عبادات وشعائر، إلا أن هذا لا يعني بحال أن الدوافع الإنسانية والطموحات البشرية كانت شيئا آخر غير الذي نطمح إليه جميعا، وعلى وجه العموم ما تزال معظم الدراسات الإسلامية بعيدة عن الاهتمام بالاعتبارات الإنسانية والموضوعية التي أسهمت في تطور الطقوس والشعائر الدينية، هذا بالرغم من التطور الكبير الذي شهدته هذه الدراسات وراء المتوسط.
************************
الحواشي:
*) باحث وأكاديمي من الأردن.
[1]) محمد دراز، الدين، دار الفكر العربي، ص29.
2) دراز، الدين، ص30.
3) محمد كمال، دار الثقافة، الدوحة، ط1، 1985، ص16.
4) محمد كمال، ص16، 17.
5) دراز، الدين، ص38.
6) دراز، الدين، ص41.
7) انظر: سيرغي أ.توكاريف، الأديان في تاريخ شعوب العالم، ترجمة: أحمد م. فاضل، دار الأهالي، دمشق، ط1، 1998، ص27. نظريات ما قبل السماوية(Preanimistizm) وأيدها ز.فرويد.
8) انظر: سيرغي ص27.
9) دراز، الدين، ص49.
10) سيرغي، ص344.
11) سيرغي، ص163.
12) سيرغي، ص310.
13) أحمد شلبي، أديان الهند الكبرى، ص34.
14) دراز، الدين، ص140.
15) مرسيا الياد، المقدس والدنيوي، ترجمة نهاد خياطة، العربي للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 1987، ص11، 12.
16) الياد، المقدس والدنيوي، ص14.
17) سيرغي، ص412.
18) الياد، ص57.
19) سيرغي، ص322.
20) سيرغي، ص342.
21) سيرغي، ص89.
22) سيرغي، ص86.
23) سيرغي، ص459.
24) سيرغي، ص298.
25) سيرغي، ص95.
26) سيرغي، ص451.
27) قبائل أفريقية مستقلة يعتقد أنها من أقدم شعوب أفريقيا، سيرغي، ص155.
28) سيرغي، ص165.
29) سيرغي، ص364.
30) جرجس داود، أديان العرب قبل الإسلام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1981، ص337.
31) سيرغي، ص161.
32) سيرغي، ص198.
33) سيرغي، ص198.
34) سيرغي، ص237.
35) سيرغي، ص270-271.
36) سيرغي، ص272.
37) سيرغي، ص298.
38) دراز، الدين، ص133، 142. ومن رواد هذا الاتجاه (تيلور Tylor) و (سبنسر H.spencer).
39) سيرغي، ص325.
40) سيرغي، ص441-442.
41) سيرغي، ص411.
42) سيرغي، ص199-200.
43) وهي من شعوب حوض الفولغا والأورال الغربي.
44) سيرغي، ص210.
45) سيرغي، ص278.
46) سيرغي، ص342-343.
47) سيرغي، ص343.
48) سيرغي، ص413.
49) قاموس الكتاب المقدس، مجموعة من الباحثين، دار الثقلفة القاهرة، ط11، 1997، ص593.
50) كوهين، ص141.
51) كوهين، ص142.
52) كوهين، ص142.
53) كوهين، ص142.
54) كوهين، ص143.
55) كوهين، ص144-145.
56) كوهين، ص140.
57) كوهين، ص141.
58) كوهين، ص141.
59) التعليم، ص347.
60) التعليم، ص368.
61) التعليم، ص405.
62) التعليم، ص402.
63) التعليم، ص402.
64) التعليم، ص412.
65) التعليم، ص413.
66) التعليم، ص720.
67) التعليم، ص719.
68) التعليم، ص719.
69) التعليم، ص720.
70) (مر1: 35: 6: 46) (لو 5: 16). وانظر التعليم، ص730-731.
71) متى 5: 23-24.
72) متى 5: 44-45.
73) متى 6: 7.
74) متى 6: 14-15.
75) متى 6: 21، 25، 33.
76) مرقص 11: 24.
77) متى 7: 21.
78) يو 14: 3.
79) يو 14: 6.
80) التعليم، ص735.
81) التعليم، ص749.
82) التعليم، ص750.
83) التعليم، ص753.
84) التعليم، ص764.
85) التعليم، ص749.
86) التعليم، ص744.
87) التعليم، ص743.
88) لوقا، (11: 1).
89) التعليم، ص776-779.
90) التعليم، ص786.
91) التعليم، ص786، 787.
92) ابن تيمية، العبودية، المكتب الإسلامي، دمشق، ط5، 1979، ص38.
93) البغدادي، جامع العلوم والحكم، مؤسسة الرسالة بيروت، ط7، 1997، ج1، 362.
94) سورة الحج، آية 67.
95) أبو الحسن العامري، الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق أحمد عبد الحميد، دار الأصالة، الرياض، ط1، 1988، ص139-146.
96) شعبان محمد، العبادة في الإسلام، دار الشباب، القاهرة، ط1، 1980، ص11.
97) سورة طه، آية 14.
98) سورة النساء، آية 43.
99) القرضاوي، العبادة، ص213-214.
101) البخاري، الصحيح، دار ابن حزم، 2003، ط1364, 1.
102) سورة المؤمنون، آية 1-9.
-103 سورة الفرقان، آية 63-64.
104) سورة طه، آية 132.
105) سورة الأعراف، آية 206.
106) سورة يس، آية 22.
107) سورة العنكبوت، آية 17.
108) سورة الأنبياء، آية 66.
109) سورة يس، آية 61.
110) سورة سبأ، آية 40-41.
111) سورة الزمر، آية 17.
112) سورة التوبة، آية 31.
113) سورة المؤمنون، آية 47.
114) سورة فصلت، آية 37.
115) سورة الأنعام، آية 76.
116) الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: سميح دغيم، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1993، ص89.
117) دراز، الدين، ص140.
118) أكرم أمين، حقيقة العبادة عند محي الدين بن عربي، دار الأمين، ط1، 1997، ص252.
119) المرجع السابق، ص268.
120) المرجع نفسه، ص247.
121) المرجع نفسه، ص256.