علاقة الإيمان بالعمران في الرؤية القرآنية
أضافه الحوار اليوم في
محمد المنتار
عانت البشرية كثيرًا -ولا تزال- في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية من جراء عدم الاستبصار بمعالم وسمات الإنسان السوّي، والمجتمع السوّي، والعمران البشري الأمثل، المشكّلين للوحدة القياسية التي يجب أن يُتيمّم شطرها بالمناهج والبرامج التربوية، والخطط المستقبلية، والهندسة الحضارية، وكذا بمختلف أنواع الكسب العلمي والعملي.. وبسبب غياب هذا الوعي عرف تاريخ البشرية أضربا من التخبُّطات الفهميَّة والإدراكية أصابت بُنى المجتمعات، وهياكل العلاقات تربويا، واجتماعيا، وإنسانيا، وعمرانيا..
وقد ظهرت في البيئات الفكرية القديمة والحديثة -الدينية واللادينية- دراسات متنوعة، وطُوّرت من داخلها أنواع من النظم حاولت أن تحل إشكال الوحدة القياسية على الصعيد الاجتماعي من خلال إنتاج يوطبياتحول طبيعة مكونات المجتمع الفاضل والمدنية الفاضلة، وهي يوطبيات جرّت -لعدم مواءمتها لطبيعة الإنسان والكون- على العالمين وبالاً غير قليل(1).
وكان من نعم اللّه -عزَّ وجلَّ- على العالمين أن تولَّى سبحانه في مرحلة الختم بذاته العليّة حفظ الذكر:﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)، فحفظت بذلك آثار النبوة المنيرة، واستمر إمكان التعرف على النبي الشاهد وعلى حالة السواء من خلاله، مصداقا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ (الأحزاب: 21). وشكر هذه النعمة الجُلَّى يستوجب حسن التوظيف والتثمير والعمل الدؤوب للاستكشاف المتجدد للقدرات والهاديات الكامنة في هذا النص المرجعي؛ إذ هو مناط الاجتهادات البشرية الساعية لتوليد أسس بناء العمران، وباني هذا العمران؛ أي الإنسان؛ فهو كتاب كريم استهدف -منذ لحظات نزوله الأولى- تنظيم حياة المجتمع: فرديا، واجتماعيا، وسياسيا، واقتصاديا، وروحيا، وفكريا. وكانت آيات: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5) هي الإكسير الذي فعل فعله في حياة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وأمته من حوله؛ حيث انطلقت القافلة على حُداء الوحي في هداية العقول والنّص، وبناء الإنسان والعمران، مسترشدة بهدي خير العباد، عليه الصلاة والسلام، ومستمدة قوتها من النص المؤسس الذي حقق هدفه بنفخة واحدة، وصار مصدر إلهام فريد لانقلابات متشابكة حصلت في مجتمع بدوي؛ لكنها تعد أنموذجا يقتدى به في الأمم والحضارات، ووحدة قياسية يمكن النسج على منوالها والبناء عليها.
ولا شك أن بناء العمران ليس كمثله كل بناء ضخامةً، وتركيبًا، واتّساعًا، وشمولاً، واستيعابًا، وامتدادًا، وأهمّية وخطورة. وإذا كانت العمران الذي يمكن أن نفسره بأنه مجموع النشاطات المتعلقة بتنظيم الحياة الإنسانية، أو التصورات الفكرية والاعتقادية والفنية لأي أمة، أو كل الأوصاف الخاصة بوجودها المادي والمعنوي، وذلك حسب الرؤى والعقول والفلسفات والقدرة على التلقي؛ فإن أهم أركان هذا العمران هو الإنسان المؤهل -فردًا واجتماعًا- الذي ينتج بحواره مع مرجعيته؛ قرآنا وسنة؛ ليستخلص منها قبلته ووجهاته إليها، ووحدته القياسية، وينصاغ بجهده وبحواره مع الكون، ليمتحن منه قدرته على الفعل والتسخير، كل بحسب سهمه في الأيدي والأبصار.
وقد قدم القرآن الكريم شبكة من المقتضيات المنهاجية تعد بمثابة الأسس لكل حديث عن تأسيسالعمران، وفي مقدمة هذه الأسس مفهوم الإيمان أو التوحيد، باعتباره يمثل حجر الزاوية في تكوين وبناء الرؤية الكلية عن الكون والحياة والأحياء والإنسان، في إطار الرؤية القرآنية.
وعلاقة الإيمان بالعمران في الرؤية القرآنية لا يمكن أن تفهم في أبعادها المختلفة والمتعاضدة في آن من دون استيعاب شبكة مفاهيمية في مقدمتها: مفهوم التوحيد، ومفهوم العمران، ومفهوم الرؤية القرآنية، ومفهوم الاستخلاف، ومفهوم التسخير.
أولا: مفهوم الإيمان أو التوحيد في الرؤية القرآنية
إن الحديث عن العمران في القرآن الكريم لا ينفصل عن التصور العقدي الناظم لعلاقة الإنسان بالكون(2) في إطار الرؤية القرآنية؛ ذلك أن الإيمان بالله -عزَّ وجلَّ- أو التوحيد هو أول مقاصد الشارع، ومن أرقى منافع الإنسان الروحية العرفانية على الإطلاق؛ إذ "لا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديان، والكفر والفسوق والعصيان"(3).
ولأجل هذه المقاصد النفعية الإيمانية العالية، حفل القرآن الكريم بما لا حصر له من البراهين الكونية الدالة على الذات العلية، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ. فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌقَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: 95-99).
من هنا، كان البحث عن المنافع الكونية من أهم ما يجب على الإنسان التوسُّل به للتعرف على الله تعالى، وتحصيل حلاوة الإيمان به، كما قال ابن رشد: "فوجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع الموجودات"(4).
وبالنظرِ إلى أهميةِ الإيمانِ ومكانتهِ في المنظومةِ الإسلاميةِ؛ فَقَدْ وَرَدَ فِي الشرْعِ الحكيمِ اسْماً لِجَمِيعِ فُرُوعِ الدين، ليشمل جميع العقائد والعبادات والأخلاق والآداب وسائر المعاملات... ولعل أبرز خاصية يُذْكَرُ بها الإسلام عندما يقارن بغيره من الأديان هي التوحيد، ولئن كان التوحيد عنواناً عاماً تشترك فيه مختلف الأديان -لا سيما ذات الأصل السماوي- فإن للتوحيد في الإسلام خاصية تميزه عن غيره؛ بل ربما تتنافى مع دعوى التوحيد لدى غيره، وذلك بما له من بساطة وشمولية تؤسس للرؤية الكلية القرآنية للحياة والأحياء والكون. ويمكن لأي متأمل في آيات التوحيد في القرآن الكريم أن يلحظ هذه المعاني لوحدانية الله وحضورها في حياة المسلم، ويمكن أن يلحظ هذا الحضور من خلال تواتر ذكر الله وصفاته في القرآن الكريم.
ولا يخفى أن مقتضى الإقرار بالتوحيد هو الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- خالقاً ومالكاً وحاكماً للوجود كله بلا شريك. ويترتب على هذه الشهادة الإقرار بأن الإنسان خلق لغاية؛ تتمثل في تحقيق الإرادة الإلهية المتعلقة بهذا العالم، الذي تتخذ منه الحياة البشرية مسرحاً لفعلها الحر المسؤول.
وفي لغة القرآن الكريم قلّ أن يذكر الإيمان منفصلاً عن العمل(5)؛ حيث نجد هذا المفهوم القرآني مقرونًا بالعمل الصالح، والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 82)، وقوله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾ (النساء: 57)، وقوله سبحانه: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ (النساء: 173)، وقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة: 9)، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ (الرعد: 29)، وقوله: ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ (إبراهيم: 23)، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ (الكهف: 30)، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (مريم: 96)، وقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ﴾ (الروم: 15)، وقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97)، وقوله: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا﴾ (طه: 112)، وقوله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ (الأنبياء: 94)، وقوله: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ (طه: 75)، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِ
الحوار الخارجي: