عمارة الأرض بين الإيمان والعمران: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾
عبد الرحمن السالمي
يقيم القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته ارتباطاً بين ثلاث مقولاتٍ هي الإيمان، والاستخلاف، والعُمران. وهذا نهجٌ واضحٌ القسَمات يعده كتابُ الله النهج السليم لإحلال الإنسان في الأرض، ولاستمراره وازدهاره فيها. فالإيمان بالله -عزَّ وجلَّ- هو الطريق الحقُّ في سبيل إعمار الأرض. وتلك حقيقةٌ ظهرت في الوحي الإلهي بأشكالٍ مختلفة؛ فالقرآن الكريم يؤكِّدُ أنّ الناس كانوا أمةً واحدة، وهذا يعني أنّ الأصل في إنسانية الإنسان هو الإيمان. أما الاختلاف، والخروج على نهج السداد والتسديد فقد حصل بعد ذلك. وهذا الخروج كان السبب في إرسال الرسل، ونشر الرسالات؛ لإعادة البشر إلى جادّة الصواب. ولذلك فلسفةٌ وضحها القرآنُ - كما سبق القول - عندما ربط الوجود الإنسانيَّ الأول بالمهمة التي أَوكلَها الله سبحانه لبني البشر باستخلافهم على الأرض: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس: 14). هل كان الإيمان شرطاً من شروط الاستخلاف؟ هذا الذي يدلُّ عليه قولُهُ تعالى: ﴿ألستُ بربكم قالوا بلى﴾. أما وقد حصل الأمران؛ أي الإيمان والاستخلاف؛ فإنّ الإعمارَ المَهديَّ هذا هو الذي يكفل وصول الوجود الإنساني إلى غاياته أو غايته الكبرى في السواد وحُسْن الرشاد والاسترشاد. فالعمران في المنهج القرآني، والمعْني العمران الباقي، هو الناجم عن الأمرين السالفَي الذكر.
وقد يقول قائلٌ: لكنّ الإعمار المشاهَد أو الحضارات التاريخية والحاضرة في مجملها (وهي جميعاً عُمرانٌ من نوعٍ ما) لا يمكن وضْعُها في سياق المقولات الثلاث، أو أنّ مَعْلَماً واحداً أو اثنين يكونان غير حاضرَين بالقوة المنتظرة. وهذا التخالُفُ - إذا صحَّ التعبير- ليس جديداً. فقد ذكر القرآنُ أنّ البشر - وبعد المرحلة الأُولى - سرعان ما خرجوا أو خرج بعضُهم على نهج السداد، فأرسل الله سبحانه الأنبياء والرسل لإعادتهم إلى نهج السداد الأول. وهكذا وعلى الرغم من أنّ الاستخلاف ارتبط بالعهد الأول مع الله، فإنه صار أمراً وجودياً ظاهراً في فطرة البشر وعملهم. وهم يستطيعون بالفعل وبفطرة الخَلْق إنشاءَ التجمعات البشرية. فالإنسانُ مفطورٌ على الأُنس أو كما يعبِّر الفلاسفة أنّ إنسانيته لا تكتمل إلاّ بالاجتماع مع نظائره، وتأسيس الأُسَر والمجموعات. بل إنّ الإنسانَ الفرد لا يستطيعُ - بحسبهم - قضاء كلِّ حاجاته بمفرده، فيحتاج الأمر إلى تقسيمٍ بدائيٍ للعمل لا يلبث أن يتطور ويتعقد، من الاشتراك أو التشارك والتبادُل في قضاء الحاجات الأساسية في المأكل والمشرب والمسكن واللباس. ثم يتجاوز الأمر ذلك إلى الحاجات والتحسينات. ومع تعقُّد الاحتياجات، وتطور التجمعات الإنسانية والدخول في الاستقرار، تتدخل الأهواء والنوازع والغرائز، فيعي عقلاءُ الناس أنه لا بُدَّ من سُنّةٍ ومَعْدَلةٍ؛ لكي لا تُدمِّر نزعاتُ الطمع والشر ومزايداتُهما المجتمعاتِ الناشئة. وهنا يتفارق النهجان: نهج مكافحة الأهواء بالقوة المجرَّدة، ونهجُ الهداية الدينية الأُولى أو المقياسية التي يُسلِّم لها الجميعُ؛ لأنها تُلزمُ بالحق والتساوي بين الحقوق والواجبات؛ أي أنها تُلزِمُ بما هو خيرٌ للجميع. وهذا معنى إرسال الرسل للتوعية من طريق الدعوة إلى النهج الأرشد. فمن الممكن أن تقوم تجمعاتٌ على غير دينٍ واستقامة؛ لكنّ التجمعات الباقية والمزدهرة هي تلك التي تقومُ على الرضا والتراضي من خلال الهداية الربّانية. فالاستخلافُ حاصلٌ على العهد الأول الذي قد ينساه بعض الناس؛ لكنّ الله سبحانه وتعالى ضمن للبشر - من خلال الرسالات المتوالية - أن يستقيم وجودُهم، وأن ترتفع تجمعاتهم إلى درجة المدينة أو الحضارة، كما يقول المؤرخون والمفكرون. فقد أطلق رسول الله - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه - على يثرب بعد هجرته إليها اسم المدينة، والمدينة تجمعٌ حضَريٌّ كبير، يلبي احتياجات الناس مهما بلغ من تعقُّدها. وليس الأمر كذلك في التجمعات التي تسودُها وجوهُ التغالُب والصراع: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (النحل:112).
إنّ الاستخلاف حاصلٌ إذن؛ بيد أن الاستخلاف الحقيق - الذي يقودَ إلى العُمران المكتمل - هو المستند إلى دينٍ جامعٍ أو دعوة خيرٍ سامية. لكن حتى في هذه الحالة؛ فإنّ البشر يخطئون، والأقوياء يطغون. ولذا يطلب الله - سبحانه وتعالى - من القائمين على هذا الاجتماع الاستغفار والتوبة. وهذا يعني الرجوع إلى نهج الصواب المستند إلى عهد الإيمان الأول. هذا الأمر تؤكِّدُهُ الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 115). وفي الآية ملحظٌ شديد الأهمية، وهو ربْط الإصلاح بالصلاح. والصلاح قد يعني التقوى، وقد يعني في هذا السياق الكفاءة والتأهُّل لعمليات الإعمار الكوني والإنساني، والفردي أيضاً. أما الملحظ الآخر فيعبّر عنه القرآن بالاستبدال: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد:38). وبذلك فإنّ العمران المكتمل أيضاً قد يصبح أنواعاً: العمران المستند إلى الإيمان والمراجعة الدائمة وتلمُّس الحق والخير والصواب؛ والعمران الذي يزدهر ظاهراً ازدهاراً هائلاً؛ لكنه يظلُّ عُرضةً للانتكاس؛ لعدم استناده إلى الإيمان والصلاح والإصلاح. والعمران الذي يقع بين بين بسبب التردد بين النهجين أو بين نهج الاستخلاف الصالح، والآخَر المغتر بالنجاح السريع، وقدرات السيطرة والسطوة، على طريقة: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ (الكهف:34).
يعرض القرآن إذن مشاهد كبرى لنجاح نهج الترابط بين الإيمان والاستخلاف والعمران، كما يعرض مشاهدَ هائلةً أيضاً لفقد عنصر أو عنصرين من هذا المثلث مما يؤدي إلى الفشل والانهيار في العاجل أو في الآجل.
يقول الله -سبحانه وتعالى- عن النهج الذي بترابط فيه الإيمان والعمران: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور:55) هناك إذن خطواتٌ أو عوامل تتضافر في نهج العمران السليم: الإيمان الذي يستدعي العمل الصالح فيدفع بالوعي الهادف إلى تأسيس عُمرانٍ مزدهرٍ في الأرض يقوم على الإصلاح والصلاح. والله - سبحانه وتعالى - يقرّر أنّ هذا الطريق مسلوك ومعروف من قبل كثيراً. وكما يترتب عليه استقرار العمران، يترتب عليه أيضاً ظهور الصلاح الديني وانتشار الأمن والأمان ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ (قريش:4). والأمن هنا يتناول الأمن الشخصي والأمن العام، بمعنى استقرار الحضارة واستمرارها. وفي نهاية الآية هناك تنبيهٌ بارزٌ إلى الأخطار التي تتهدد العمران المزدهر: شُحّ النفوس. وقد يقال: لكنّ هذه أمور فردية؛ إنما نحن نعلم من قراءة تاريخ الحضارات أنّ هذا " الشُحّ" بالذات يتحول إلى منحىً عام فيما سمّاه تومس هوبز: حرب الجميع على الجميع! وهذه ليست حالةً بدائيةً دائماً كما قد تُشعر الأنثربولوجيات؛ وإنما أفظع مظاهرها وأكثرها ضرراً تلك التي تكون في الحضارات الكبرى والمسيطرة؛ إذ تُسيطرُ منازعُ الجشع والتغالب بالداخل، وتتحول إلى سياسات تُحدثُ أضراراً وكوارث على تلك الدولة أو الحضارة، وعلى الحضارات الأُخرى بالفِتَن الداخلية، وبالحروب الإقليمية والعالمية. إنها السُنةُ التي تحدث عنها سبحانه وتعالى في قوله: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا﴾ (فاطر:43).
بيد أنّ "السنّة" أو الثوابت - التي لا تتغير لعواقب الصلاح والفساد - لا تعني حصول التبدل في حظوظ الأفراد والأُمم والحضارات بصيغةٍ واحدةٍ أو شكلٍ واحد؛ فقد تأتي النُذُرُ الخفيفةُ أو الثقيلة للاتعاظ والعبرة والردّ إلى الأمر الأول. وإن لم تؤدّ تلك النُذُرُ إلى المراجعة، فقد تحدث انتكاسةٌ كبرى على فترات متطاولة، أو يستبدل المولى الصالحين بالذين ظلموا في النهاية: ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾، بمعنى أنّ الصلاح يحلُّ محلَّ الفساد. وفي الحالات كلِّها يخبرنا -عزَّ وجلَّ- أنّ رحمته وحياطته لبني البشر هي ثابتٌ دائمٌ أوضحه -عزَّ وجلَّ- للملائكة عند خَلْق الكون والإنسان: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30).
إنّ غاية الاستخلاف الكبرى هي العمران البشري والإنساني في العالم وللعالم. والقرآن الكريم يشرع نهجاً وسنةً للاستخلاف والإعمار معاً، ويعالج الاختلالات التي يمكن أن تحصل بما يشكّل رؤيةً للعالَم ونهجاً قرآنياً لإعماره. كما أنه يوضّح العواقب على المستويين الفردي والجماعي والإنساني لمفارقة هذا النهج أو الاختلالات فيه.
إنّ هذا العدد من مجلة التفاهم يقرأ من خلال مقالات كُتّابه هذه الأُطروحة الواسعة للوجود الإنساني والعمل الإنساني، في الدين والفلسفة والتاريخ ومنظومات الأفكار والمفكرين في الحاضر. ونتوخّى من وراء ذلك بلوغَ استناراتٍ معينةٍ في المسائل الكبرى التي تتعلق بوجودنا وحضارتنا ومصائرنا.