من المستفيد من هذا؟
بقلم: علي الشدوي
أود أن أعرض في هذه المقالة القصيرة ما أراه مهما في مفهوم المفكر الهندي هومي بها بَها “التأويل النشط”. وأكثر من هذا أريد أن أشير إلى أهمية السؤال أعلاه؛ ذلك أن السؤال “من المستفيد من هذا؟” إذا لم يُسأل بحرية فلا يمكن من وجهة نظر هومي بها بَها أن يكون هناك مسار ديمقراطي، ويفسر هذا في ضوء العلوم الإنسانية؛ ذلك أن إرثها الأهم هو مصلحة البشرية؛ أي أن تكون منافعها مفتوحة لأكبر عدد من الناس دون إسكات الأقلية. ما الذي يمكن أن تعلمنا إياه العلوم الإنسانية؟ التأويل. من وجهة نظر هذا المفكر أن كل تخصصات العلوم الإنسانية تأخذ المعلومات وتحولها عبر مسار تأويلي إلى معرفة.
على هذه الخلفية سأورد هذه العبارة وسيتضح بالتدريج سبب إيرادها. وإني أرجو أن يبقى سؤال: من المستفيد من هذا؟ في ذهن القارئ لأنه هو الموجه لتأويلي والمفضي إلى “النتيجة”. كتب ابن بشر في كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد): “فلما حلّ القضاء، وانتهى الأمد المكتوب وانقضى، وانحلّ نظام الجماعة والسمع والطاعة، تطايرت شرر الفتن (...) وصار في كل البلدان فتن، وقتل وقتال ومحن، وظهر المنكر، وعدم الأمر بالمعروف (...) واندرس السؤال عن أصول الإسلام، وأنواع العبادات، وظهرت دعوى الجاهلية في كلّ البلاد، وتنادوا بها على رؤوس الإشهاد”.
ينطوي هذا الاهتمام المفرط بالتفاصيل الدينية التي ترتبت على انتهاء الطور الأول من الدولة السعودية على دلالات بعيدة المغزى؛ فما حدث يخضع لله الذي يهيمن على التاريخ. الله الذي يجري أحداث التاريخ بقضائه وقدره وليس للإنسان أن يغير ما يحدث خيرا أو شرا؛ إنما عليه أن يفهم الحكمة. ولا سبيل – إذن- إلى أن يتفادى رجال السياسة انهيار الدولة؛ لأنه مقدر سلفا، ولم ينتج عن الحركة الداخلية للعالم التاريخي وواجب الإنسان أن يسلم بحكم القضاء والقدر .
التاريخ إلهيّ إذن. وقد نتج عن التفكير بأنّ التاريخ إلهيّ أن عمل الإنسان هو أن يحيا وفق ما أراده الله، وأن يبحث عن مكان بعيد عن الفتن لكي يؤدي شعائر الله، وهذا سرّ (الجماعة والسمع والطاعة) لأن انحلال الجماعة يحول دون أن يقوم الإنسان بمهامه التعبّدية التي أمر الله بأدائها.
وفق تفكير أنّ التاريخ إلهيّ يمكن أن يستعمل الإنسان عقله لكن بشرط، فـ "من العبث أن يستطلع العقل أصل الحياة أو نهايتها، ومن العبث ذلك لأن الله قد عين الأصل والنهاية على النحو الذي أراد، ثم إنه أوحى إلى رسله ما شاء لنا أن نعرف عنهما، ومن العبث أيضا، بل ومن العصيان، أن يحاول العقل معرفة غاية الحياة، فالله وحده هو الذي يعرفها. وبعد ما عمل العقل؟ أن يبين للناس العلم الصادق الذي أطلعهم عليه الوحي الإلهيّ، وأن يوفق بين الأحداث والوقائع المتنوعة والمتنافرة لهم بالخبرة العملية وبين النسق العقلي للعالم المسلم به بالإيمان.
من منظور عمل العقل هذا فإن الحقيقة لا توجد في الواقع إنما توجد في النصوص الدينية، والمعرفة الحقيقية لا تتأتى بملاحظة الواقع وتحليله وتصنيفه واكتشافه بل تتأتى من قراءة هذه النصوص، والانشغال بالمعاش زمن ضائع بالنسبة لمعرفتها، وثقافة المجتمع في مجملها يلزم أن تخضع لمبدأ هيبة هذه النصوص، والبرهان على أي شيء يلزم أن يستند إلى الاستشهاد بها.
تُحفظ هذه النصوص المؤسّسة وتُشرح وتُفسر. يعني الحفظ في هذا السياق استظهار المعرفة بشكلها الأصلي، وكذلك يمكن أن تُجمع من قبل جامع ثقة. تعني الثقة في هذا السياق الإخلاص في النقل أو الجمع حفظا أو كتابة، والإحالة غير القابلة للشك إلى متن موجود وحقيقي صدر فعلا عن القدماء من غير أن يسعى أحد إلى أن يغير فيه أي شيء.
يترتب على هذا التصور أن هناك علاقة بين حفظ هذه النصوص وطبيعة المعنى. قد يكون هذه غريبا عند بعض القراء، لكن الحفظ لا ينتج معرفة، ولا يؤدي إلى تغيير في الخبرة، ولا يكوّن المعنى. وهذا يجعل المعنى ثابتا وصلبا لا يتغير بتغير الأمكنة والأزمنة والأجيال البشرية.
إن الحفظ معرفة خارجة. صحيح أن المحفوظ قد يكون له دور في تحصيل المعرفة الجديدة، لكنه في غالب الأحيان يندمج بشكل تعسفي في البنية المعرفية للشخص من غير أن يتفاعل مع ما هو موجود عنده. إن أي شيء نحفظه لا يؤدي أبدا إلى معرفة حقيقية، إنما يظل معلومة سطحية، من الممكن أن نعيد ما نحفظه، لكننا في الوقت نفسه ربما لم نفهمه، كما أننا لا نستطيع أن نعرفه في المضمون الأكثر تعقيدا لكلمة (يعرف)، وبالتالي فإن الحفظ لا يناسب تماما عملية بناء المعرفة الجديدة، لكنه مفيد في حالة رغبة البشر في حفظ ما يعتقدون أنه الحقيقة.
ولد هذا التصور مجموعة من العلماء تحترف المعرفة وتضطلع بمهمة توضيحها وتنظيمها ونشرها بين الناس. علماء يحترفون المعرفة، وهم وحدهم القادرون على فهم النصوص وشرحها وتفسيرها. أما بقية البشر فهم غير موجودين من وجهة نظرها، لذا ينبغي أن يتمثل هؤلاء طرق تفكيرها، ويتبنوا مواقفها، ويشاركوا في نشاطاتها لكي يتعلموا، وبعد ذلك يمكن أن يكونوا محميين منها، أو أصدقاء لها، لكنهم لن يرتفعوا أبدا إلى أن يكونوا أندادا لها .
هناك ما هو أكثر من هذا، فالتفكير التاريخي المستند إلى أن التاريخ إلهيّ يتصور الإنسان غير كامل ولا بد من سلطة (دولة) تكبح جماحه، وأن الحياة الدنيا ليست بالحياة الأسمى؛ لذلك لابد من السلطة ( الدولة ) التي يجب أن يكون لها وظائف أخلاقية وأيديولوجية.
وهناك أيضا ما هو أكثر من الأكثر فالتاريخ من وجهة نظر أنه إلهيّ في تدهور؛ ذلك أن الماضي كان مزدهرا؛ لذلك يستند (المشروع التاريخي ) إلى الحنين إلى الماضي، وأفضل وسيلة إعلان عن هذا الحنين هو محاكاة الماضي (السلفية). ولاستبقاء الصلة بالماضي والحفاظ عليه يحاكى الحاضر الوسط التاريخي الماضي الذي وقعت فيه مجموعة من الأحداث وبقيت معاصرة.
ولكي أظهر تفكير ابن بشر التاريخي (التاريخ إلهيّ) سأقارنه بتفكير تاريخي آخر هو أن (التاريخ بشري) أي أن التاريخ تاريخ البشر للبشر وبالبشر، أما ما سواه فهو إما تاريخ بشري مقنع أو خضع لمنطق آخر، منطق الملاحظة (الطبيعيات) أو الكشف ( الغيبيات).
سأقطع هذه الأفكار؛ لأن ما كُتب عنها لا يحتاج إلى مزيد. أتوقف لأسأل أي تفكير هو الصحيح؟ أهو التاريخ إلهيّ أم هو بشري؟ لا مجال لعرض سؤال كهذا، وما يجعله سؤالا عديم المعنى هو أن كلا التعريفين نتج عن الجو الفكري؛ فالتفكير في التاريخ على أنه إلهيّ نتج من الجو الفكري الذي يتصور الكون والإنسان على أنهما يسيران وفق مشيئة الله. والتفكير في التاريخ على أنه بشري نتج من الجو الفكري الذي يتصور العالم التاريخي من خلق الرجال والنساء، وليس الله، وهو الجو الفكري الذي ترتب على مشروع بيكون العلمي الذي قاد نهضة أوربا على امتداد أربعة قرون.
من المستفيد من فكرة أن التاريخ إلهيّ؟ رجال الدين الأصوليون. لماذا؟ للموقع المميز الذي يحظون به مقابل مساندتهم غير المشروطة للقوى السياسية. من المستفيد من فكرة أن التاريخ بشري؟ كل الناس. لماذا؟ للموقع المميّز الذي سيحظون به، وتحسين ظروفهم إن اعتمدوا على جهودهم.
أيهما أفضّل للمجتمع السعودي؟ بلا تردد التاريخ بشري بطبيعته؛ وإذا كنت أستطيع أن أسترسل في مناقشة ما سيترتب -على هذا التفكير - ويؤدي إلى تطور المجتمع السعودي؛ إلا أن مما لا أشك فيه قط هو أن منهج بيكون الاستقرائي للطبيعة أفضل لتطوره ومستقبله من منهج العلماء في الاستنباط من النصوص. كما أني لا أشك أن البرهان الذي يستند إلى التجربة والملاحظة أفضل من البرهان الذي يستند إلى النصوص. وأن قواعد بيكون بسيطة. اختبر أفكارك بالتجربة والملاحظة، ثم ابن على الأفكار التي نجحت في الاختبار وتخلّ عن تلك التي فشلت. اتبع الدليل أينما قادك. شكك في كل شيء. أنت طريقة الكون لكي يعرف نفسه. احذر. لست وحدك أنت مَن تملك الحقيقة. عليك أن تعلم أن مشروع العلم تعاوني يمتد عبر الأجيال. اقبل هذه الشروط البسيطة وتملك الكون.