ثوابت الأمة في ظل المتغيرات الدولية
أ.د ناصر بن سليمان العمر
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل في معرفة الثوابت
مقدمة وتشمل التعريف:
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبعد:
إن موضوع ثوابت الأمة في ظل المتغيرات الدولية موضوع عظيم وكبير، بيانه يحتاج إلى وقت وجهد وكلاهما عزيز، وحتى نخرج بفائدة في هذه العجالة أثرت أن يتعلق الحديث ببيان المنهج وذلك عن طريق ذكر أمور كلية وقواعد عامة يستفيد منها المسلم في معرفة الثغر الذي هو واقف عليه، والثابت الذي ينبغي أن يتمسك به، بدون خوض في التفاصيل فإن المجال لا يتسع لذلك، وقد قيل: "من حرم الأصول حرم الوصول، ومن عرف الأصول ضمن الوصول".
والحديث عن هذا الموضوع (أعني تقرير الثوابت) يمكن أن يتناول باعتبارات فهذا العنوان [ثوابت الأمة] ليس معنى شرعياً واحداً ثابتاً متفقاً عليه كمعنى الصلاة في العرف الشرعي، أو الصدقة أو غيرها من الألفاظ الشرعية المعروفة، وليس معنى اصطلاحياً وضع له أهل شأن تعريفاً جامعاً مانعاً لا يجوز لمن تحدث في شأنهم الحياد عنه، ولهذا سيكون حديثي عن المعنى اللغوي الذي يفهم من قولنا الثوابت وبضدها تتميز الأشياء ومنها المتغيرات، ثم أعرج على ذكر استعمالات أو اصطلاحات اختارها البعض لمقتضيات قد ينصرف الذهن إليها وليست عين ما أريد الكلام عنه، بل ربما كان بينها وبين ما أريد عموم وخصوص، ثم أشرع في بيان ما رأيته أليق بالعرض في موضع ثوابت الأمة بدون خوض في ذكر تفاصيلها.
الثوابت في اللغة:
"الثاء والباء والتاء كلمة واحدة، وهي دوام الشيء، يقال: ثبت ثباتاً وثبوتاً، ورجل ثبت وثبيت"[1].
تقول: "ثَبَتَ الشيءُ في المكان يثبُت ثَبَاتًا وثُبُوتًا دامَ واستقرَّ فهو ثابتٌ وثبيتٌ وثَبْتٌ"[2].
وفلانٌ على الأمرِ دَاوَمَهُ ووَاظَبَهُ[3].
والنحاةُ يقولون: ثَبَتَ الحرفُ أي لم يُحْذَف[4].
وثَبُتَ الرجلُ ثَبَاتَةً وثُبُوتَةً كان ثبيتًا شجاعًا[5].
ورجل ثَبْتُ الغَدْرِ إِذا كان ثابِتاً في قتال أَو كلام؛ وفي الصحاح؛ إِذا كان لسانُه لا يزال عند الخُصُوماتِ[6].
وداءٌ ثُبَات: يُثْبِتُ الإنسانَ حَتّى لا يَتَحَرَّكَ، ومَرِيْضٌ مُثْبَتٌ: ليس به حَرَاك[7].
ويقال: أَثْبَتَهُ السُقْمُ، إذا لم يفارقه. وقوله تعالى: "لِيُثْبِتوكَ" أي يَجْرَحوكَ جِراحةً لا تقوم معها[8]. وفي حديثِ مَشُورةِ قُرَيْشٍ في أَمر النَّبِيّ _صلَّى الله عليه وسلّم_، قال بعضُهم: إِذا أَصْبَحَ فأَثْبِتُوهُ بالوَثَاق[9].
كذا المُثْبِتُ، بِكَسْرِ الباءِ وهو الّذِي ثَقُلَ من الكِبَرِ وغيرِه، فَلمْ يَبْرَحِ الفِرَاشَ[10].
فكل هذه معاني روعي في أصلها الدوام والاستقرار ثم خصصت بحسب إضافتها إلى معان روعي فيها أصل المعنى.
ولهذا الجذر إطلاقات كثيرة وجميعها اشتمل على أصل المعنى بنوع تخصيص فمن ذلك:
1- قولهم: الثوابت من الكواكب غير السيارة[11]. فكأنهم أرادوا الدائمة المستقرة في مكانها.
2- وقالوا: أسَاسٌ ثَابِتٌ لاَ يَتَزَعْزَعُ أي رَاسِخٌ، مَتِينٌ[12].
3- وقولهم: ثَابِتٌ فِي مَوْقِفِهِ لاَ يَحِيدُ عَنْهُ بمعنى رَاسِخٌ، مُقيمٌ عَلَيْهِ لاَ يُغَيِّرُهُ، ومنه قول الله _تعالى_: "كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ" [13].
4- وقالوا: ثَابِتُ الإرَادَةِ وَالعَزْمِ أي الْمُسْتَقِرُّ، الْمُصَمِّمُ القَصْدِ[14].
5- وقالوا: أَمْلاَكٌ ثَابِتَةٌ أوْ أمْوَالٌ ثَابِتَةٌ أي أمْلاَكٌ أوْ أمْوَالٌ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ[15].
وغير ذلك من إطلاقات، ومما سبق يتضح ما يلي:
1- الثوابت تطلق على ما روعي فيه معنى الدوام والاستقرار.
2- الدوام والاستقرار قد يكون مطلقاً، وقد يكون نسبياً لاعتبار معين كما في جل الإطلاقات السالفة.
إطلاقات اصطلاحية:
الثبوت "ولا يخرج استعماله اصطلاحا عن الدوام والاستقرار والضبط"[16].
ومن الأمثلة للتعريفات الاصطلاحية الفقهية التي تضمن معان للثبوت مقيدة ثبوت النسب، والشهر، والحقوق وغير ذلك[17].
غير أن بعضهم يطلق "الثَّوَابِتُ وَالْمُتَغَيِّرَاتُ" على "مَا يَدُومُ وَيَرْسَخُ وَيَثْبُتُ غَيْرُ قابِلٍ لِلتَّحَوُّلِ أو التَّغَيُّرِ عَكْسَ الْمُتَغَيِّراتِ وَما هُوَ عَارِضٌ"[18].
وهذا المعنى وإن كان صحيحاً فليس بلازم اطراده لغة، بل هو اصطلاح لبعضهم، فقد يطلق الثبوت لمراعاة الدوام والاستقرار النسبي أو الاعتباري كما مر.
وبعض أهل الفضل يجعل الثوابت في الشرع هي الأمور القطعية ومسائل الإجماع ويلحق بها من باب الاعتبار النسبي الاجتهادات الراجحة التي تمثل مخالفتها نوعاً من الشذوذ أو الزلل. وهذا صحيح باعتبار العذر وعدمه للمخالف في المسائل. وعليه فهو اصطلاح لا مشاحة فيه.
على أن نراعي أنه قد يدخل في معنى الثوابت عند آخرين أمور أخرى باصطلاحات أخرى غير ما أشير إليه.
فالظني قد يكون من الثوابت بالنسبة للبعض لاباعتبار عذره المخالف من عدمه ولكن باعتبار قوله به واعتقاده لصوابه و ثباته عليه مهما كلف الأمر لما حفت به من قرآن عنده، ومن أمثلة ذلك من الفروع الفقهية طلاق الثلاث هل يقع واحدة أو ثلاث، فمع أن هذه مسألة فرعية ظنية اجتهادية غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية ثبت عليها وآثر السجن على التنازل عن الفتوى بها حتى مات _رحمه الله_.
الثوابت المطلقة والثوابت النسبية:
ولهذا لو قال قائل الثوابت المطلقة: هي نصوص الوحيين الصحيحة المحكمة، فقد أصاب فإن هذه ثوابت مطلقة لامرية فيها، أما الأحكام المستنبطة منها فقد تكون ثوابت مطلقة كالأحكام النصية[19] ومثالها حرمة الزنا المستنبطة من قول الله _تعالى_: "وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً" [الإسراء: 32].
ويمكن أن نجمل الثوابت المطلقة في ثلاثة أنواع هي:
"النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة، كوجود الله _تعالى_ ووحدانيته، وملائكته وكتبه ورسالة محمد _صلى الله عليه وسلم_ والبعث بعد الموت ونحو ذلك، فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف، من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين، مثل: مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج [عصاة] الموحدين من النار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي، فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم[20]..
النوع الثالث: [الأمور] المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنا، فهذا ليس موضعاً للخلاف، ومن خالف فيه فقد كفر"[21]. فهذه ثلاثة أنواع تندرج تحتها أفراد وجميعها ثوابت مطلقة ينبغي التمسك بها، والسبب توارد النصوص فيها، وإجماع السلف عليها، فإنكارها أو القول بجواز تركها إنكار للنص أو قول بجواز تركه، ولهذا تضافرت الأخبار عن السلف في الثبات عليها بل وعدم إعطاء بعضهم التقية فيها رغم الإكراه الذي يسوغ لهم إعطاؤها، ومن تأمل سيرة الإمام أحمد والإمام ابن تيمية وجد ذلك جلياً.
القسم الآخر الثوابت النسبية:
فقد تكون الأحكام المستنبطة من النصوص الثابتة ثابتة ولكنها نسبية، ومن قبيل هذا الأحكام الثابتة بالنسبة لمن قال بالنص ووافق الحاكم أو المجتهد في تحقيق المناط بعد تنقيحه أوتخريجه، فبالنسبة لهؤلاء يكون الحكم المعين ثابتاً في حقهم لازماً لهم، لكون القول بها قول بمقتضى السنة وسنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ "لا يسع أحداً تركها لقول أحد كائناً من كان"[22]، مع أنه قد يتغير إذا تغيرت اعتبارات عدة تأتي الإشارة إليها.
مثال: القول بأن فدية قتل المحرم لحمار وحش ذبح بقرة.
عُلِم بالنص أن المثلية هي مناط الحكم في فدية قتل الصيد للمحرم، قال الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ" [المائدة: 95].
فنقول المثل واجب بالنص، ولكن من قتل حمار وحش هل نقول يفدي ببقرة؟ وهل البقرة مثلاً؟
الجواب: مناط الحكم (المثلية) ثابت بالنص، أما تحقيق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد.
فمن وافقنا في تحقيق المناط فأصل الحكم (فدية مثل) وتطبيقه (البقرة) ثابت في حقه بهذا الاعتبار ويلزمه القول به والثبات عليه.
وكذلك قل فيمن قال بأن الضمان يلزم من أتلف عيناً، والضمان هو المثل في القيمة، غير أن تقدير قيمة هذا المثل قد تتفاوت فيها اجتهادات الناس، فمن وافقنا في تحقيق المناط فالحكم ثابت بالنسبة إليه.
ومن خالفنا في ذلك فمناط الحكم ثابت عنده وعندنا، وتطبيقه ثابت بالنسبة لنا لا له.
فائدة: هناك ثلاثة مصطلحات ينبغي أن نعيها.
تحقيق المناط : هو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور، بعد معرفة تلك العلة بنص أو إجماع أو استنباط، فإثبات وجود العلة في مسألة معينة بالنظر والاجتهاد هو تحقيق المناط[23].
تنقيح المناط : هو النظر والاجتهاد في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين، بحذف ما لا مدخل له في الاعتبار مما اقترن به من الأوصاف[24]. بمعنى أن "يكون الحكم قد ثبت في عين معينة، وليس مخصوصا بها، بل الحكم ثابت فيها وفي غيرها، فيحتاج أن يعرف مناط الحكم. مثال ذلك: أنه قد ثبت في الصحيح أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: "ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم". فإنه متفق على أن الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة، وذلك السمن; بل الحكم ثابت فيما هو أعم منهما، فبقي المناط الذي علق به الحكم ما هو؟"[25].
تخريج المناط : هو النظر والاجتهاد في إثبات علة الحكم إذا دل النص أو الإجماع على الحكم دون علته، وذلك أن يستخرج المجتهد العلة برأيه. كالاجتهاد في إثبات كون الشدة المطربة علة لتحريم شرب الخمر، وكون القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص في المحدد، وكون الطعم علة ربا الفضل في البر ونحوه حتى يقاس عليه كل ما سواه في علته[26].
ويتسع الخلاف في أمثلة تنقيح المناط إذ الخلاف في حذف بعض الأوصاف التي لامدخل لاعتبارها علة في الحكم قد يكون مظنوناً، ويزيد الاختلاف في أمثلة تخريج المناط.
تنبيه: يلحظ مما سبق أن الثوابت النسبية ليس شرطاً أن تكون ممدوحة مطلقاً وإن كان الأصل ثبات من بدت له عليها، ولعل تقسيم الأمور إلى ثوابت يذم مخالفوها ومتغيرات أمرها أهون، هو موضوع رسالة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي "الثوابت والمتغيرات" فلتراجع.
أما موضوع هذه الكلمة فمحاولة لإعلام الناظر ومساعدة القاصر في معرفة الثابت في حقه والمتغير الذي لا ينبغي أن يثبت عليه.
فهنا مسألتين: ما هي الثوابت والمتغيرات فجوابها في رسالة الشيخ الصاوي.
وكيف أعرف الثوابت والمتغيرات وهو ما أحاول إيضاح معالمه هنا بنوع إجمال، أما الثوابت المطلقة فقد مضت الإشارة إلى أنواعها الثلاثة[27]، وأما الثوابت النسبية فسوف يأتي الحديث عنها.
ولا يفوتني التنبيه هنا على أهمية مراعاة الفرق بين نظرية الحقيقة النسبية وما أتحدث عنه من ثوابت نسبية، فمراد التحرريون أو ما يسمون بـ(الليبراليين) ومن تأثر بهم في الحقيقة النسبية تكثير الصواب بتصويب المتناقضين على اعتبار أن كل واحد منهم يملك حقاً باعتبار، فالمسلم مصيب في معتقده معه حق نسبي، والملحد كذلك مصيب في إلحاده معه حق نسبي، والنتيجة لا إنكار إذ الكل مصيب باعتبار، أما الكلام على الثوابت النسبية فليس المراد به تصويب ما يجب أن يتقرر عند فلان من ثوابت نسبية، وإن كان قد قامت في حقه أمور يلزمه منها الثبوت على ما اختار، كما أنه لا يتعارض مع تقرير وجود ثوابت مطلقة مخالفها مذموم.
الثوابت النسبية قد تكون متغيرة في حق الشخص الواحد باعتبارات:
لو تأملنا مثال ضمان المثل لمن أتلف عيناً، فمع أن قيمة المثل قد تتفاوت فيها اجتهادات الناس إلاّ أن المثل قد يتغاير عند المجتهد الواحد وفقاً لتغير الزمان أو المكان أو غير ذلك.
من أسباب تغير الحكم على المسائل:
سبق بيان أن النصوص الصحية الصريحة ثابتة لا تتغير وأن ما يتعلق بها من أحكام ثوابت نسبية أو اعتبارية، غير أن هذه الثوابت النسبية الاعتبارية لا يلزم دوامها دواماً مطرداً [وقد مضت الإشارة إلى أن العرب تطلق لفظ الثبوت على ما من شأنه أن يتغير باعتبار حال فلا غضاضة منها الإطلاق كالمريض المثبت،وكذا الموثق المثبت وغير ذلك].
قال القرافي _رحمه الله_: "انتقال العوائد يوجب انتقال الأحكام كما نقول في النقود وفي غيرها فإنا نفتي في زمان معين بأن المشتري تلزمه سكة معينة من النقود عند الإطلاق؛ لأن تلك السكة هي التي جرت العادة بالمعاملة بها في ذلك الزمان، فإذا وجدنا بلداً آخر وزماناً آخر يقع التعامل فيه بغير تلك السكة تغيرت الفتيا إلى السكة الثانية، وحرمت الفتيا بالأولى لأجل تغير العادة، وكذلك القول في نفقات الزوجات والذرية والأقارب وكسوتهم تختلف بحسب العوائد، وتنتقل الفتوى فيها وتحرم الفتوى بغير العادة الحاضرة، وكذلك تقدير العواري بالعوائد وقبض الصدقات عند الدخول أو قبله أو بعده في عادة نفتي أن القول قول الزوج في الإقباض.."[28].
والحكم عند المجتهد الواحد قد يتغير بتغير عوامل عديدة بيد أنه ينبغي ملاحظة أن التغير قد لاينال المناط، ولكنه قد يجري على تحقيقه لا لشيء إلاّ لتغير عوامل مؤثرة على تحقق المناط في شيء كانت تلك العوامل حاكمة بتحققه فيه ثم تغيرت.
العوامل التي تجعل الثوابت النسبية متغيرة عند المجتهد الواحد:
هي عدة عوامل أهمها خمسة:
1- تغير الأزمنة.
2- تغير الأمكنة.
3- تغير الأحوال.
4- تغير النيات.
5- تغير العوائد.
فكل هذه أسباب تجعل المجتهد يغير من حكمه فيخرج على مناط آخر غير الذي كان رأى.
وقد أشار إليها الإمام ابن القيم في الإعلام يوم عقد فصلاً نفيساً في تقرير أن الشريعة مبنية على مصالح العباد، وقد عُنون له: بـ"فصل في تغيير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد" ثم قال: "الشريعة مبنية على مصالح العباد هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"[29].
أمثلة:
ضرب ابن القيم لذلك أمثلة منها:
"المثال الأول: أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر"[30].
ثم ذكر:
"المثال الثاني: أن النبي _صلى الله عليه وسلم_: "نهى أن تقطع الأيدي في الغزو"[31] رواه أبو داود ، فهذا حد من حدود الله _تعالى_ وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو" [3/13].
وذكر من أمثلته فيه قصة أبي محجن المشهورة عندما شرب الخمر فأسر، فلما أفاق ورأى قعقعة السيوف قال بيته المشهور:
كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأتـرك مشدوداً على وثاقي
والخبر معروف وفيه ترك جلده.
وذكر قريباً من هذا الوجه سقوط الحد عن التائب.
ثم ذكر:
"المثال الثالث: أن عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة" وهذا وإن كان في ثبوت وقوعه نظر[32] لكن معناه صحيح دلت عليه أصول الشريعة.
ثم ذكر:
"المثال الرابع: أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ فرض صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعا من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط[33]، وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم كمن قوتهم الذرة والأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره"[34]، وهنا ينبغي أن يتنبه إلى أن من خالف فقال بتعيين تلك الأصناف لم يخالف في تخريج المناط وإنما خالف تحقيق المناط وتنقيحه. غير أن هذا يصلح مثلاً لتغير الرأي عند من خرج المناط على قوت البلد إذ هو يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان.
ثم ذكر:
"المثال الخامس: أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ نص في المصراة على رد صاع من تمر بدل اللبن[35]، فقيل: هذا حكم عام في جميع الأمصار, حتى في المصر الذي لم يسمع أهله بالتمر قط ولا رأوه; فيجب إخراج قيمة الصاع في موضع التمر, ولا يجزئهم إخراج صاع من قوتهم, وهذا قول أكثر الشافعية والحنابلة, وجعل هؤلاء التمر في المصراة كالتمر في زكاة التمر لا يجزئ سواه, فجعلوه تعبداً, فعينوه إتباعا للفظ النص" ثم ذكر قول من قال إنما عين لكونه أغلب قوت البلد ولايلزم التعيين ثم عقب: " ولا ريب أن هذا أقرب إلى مقصود الشارع ومصلحة المتعاقدين من إيجاب قيمة صاع من التمر في موضعه, والله أعلم. وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان التي يقوم غيرها مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها كنصه على الأحجار في الاستجمار, ومن المعلوم أن الخرق والقطن والصوف أولى منها بالجواز, وكذلك نصه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب والأشنان أولى منه, هذا فيما علم مقصود الشارع منه, وحصول ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه"[36].
وقد ذكر أمثلة أخرى رحمه الله.
ولعل من هذا القبيل مراعاة عمر رضي الله عنه لمقصد الشارع في حد شارب الخمر ثمانين وذلك عندما رأى الناس قد ضعف عندهم الوازع الذي كان عند من شهد التنزيل واستضاء بأنوار النبوة. ومثله قيل في إيقاع عمر رضي الله عنه طلاق الثلاثة ثلاث طلقات.
وكل هذه أمثلة تدل على أن تخريج المناط قد يتغير رأي المرء فيه للأسباب التي سبقت الإشارة إلى بعضها، وهذا التغير ليس تراجعاً عن خطأ وإنما هو اختيار لصواب حكمت اعتبارات متعددة بصوابه، كما حكمت بصواب الأول اعتبارات أخرى مغايرة.
أما الاختلاف في تحقيق المناط وتنقيحه فاختلاله لدى الشخص يؤدي لتراجعه عن حكم كان يقول به لبدو خطأ قوله الأول ومن ثم الانتقال إلى ما يعتقد صوابه.
نموذج من الأمة: الثوابت المتعلقة بالجمعيات الخيرية
ما مضى جملة من القواعد والضوابط توضح الثوابت المطلقة والنسبية التي تلي المرء، ولما كان عنوان الندوة "ثوابت الأمة في ظل المتغيرات" فإن الأمة جماعات وأشكال مختلفة يلي بعضها ما لايلي الآخرين، إما لحالها أو مكانها أو غير ذلك، ولهذا آثرت أن ذكر الضوابط الكلية، التي تبين الثوابت المطلقة والثوابت النسبية، لأن تفصيل ما ينبغي أن يكون ثابتاً وبالأخص الثوابت النسبية لكل طائفة أو جنس أمر عسير يحتاج إلى جهد ووقت طويل. أما الثوابت المطلقة[37] فكتاب الدكتور صلاح الصاوى "الثوابت والمتغيرات" وفّى بكثير فيها.
وحتى أبين ذلك أضرب مثلاً بالثوابت المتعلقة بالجمعيات الخيرية فهذه يمكن أن تقسم ثوابتها إلى قسمين باعتبار طريق ثبوتها:
الأولى: ثوابت أملتها قواعد الشريعة الكلية ونصوصها العامة، سواء كانت مطلقة لامجال لرأي الجمعية فيها أو نسبية ارتأتها الجمعية وارتضتها، مراعية فيها قواعد الشريعة وأصولها، وهذه الأخيرة ينبغي أن ترسم منهج الجمعية وأهدافها وتحكم خط سيرها وطريقة عملها، وتعتبر في تقيم أدائها. مع ملاحظة أن لكل جمعية جملة ثوابت نسبية تتعلق بها مسائل تناسب اختصاصها وما تواجهه في نطاق عملها.
الثانية: ثوابت أملتها أهداف الجمعيات التي أنشئت لأجلها.
وهذه ينبغي الثبات عليها إذ التزعزع فيها نقض للهدف الذي من أجله تم إنشاء الجمعية أو المنظمة.
مثال: أنشأت جمعية من الجمعيات بهدف إغاثة المتضررين من المسلمين في الحروب والنكبات، وقد كانت هذه الجمعية في بلد ليست فيه حروب. [هدفها إغاثة المتضررين من الحروب في الخارج].
ثم حصلت نكبة أو كارثة لبعض مجاوريهم من إخوانهم، فينبغي أن تكون مسألة إغاثتهم من ثوابت تلك الجمعية، فتبحث عن السبل القانونية والطرق الشرعية المرضية التي تكفل لها القيام بما أنشئت لأجله وإلاّ فلا معنى لبقائها إذا اطرد العجز عن القيام بالهدف المنشود. مع أن نفس هذا الهدف قد لايكون له كبير اعتبار عند جمعية أخرى تعنى بنشر العلم الشرعي مثلاً.
ولايعني هذا جمود الجمعية أو المؤسسة في أسلوب عملها وعدم التغيير فيه ولكن المقصود أن يكون التغير محكوماً بالمبادىء والقيم والقواعد والأهداف التي من أجلها نصبت المؤسسة أو الجمعية.
فوفقاً لأهداف المؤسسة تقوم استراتيجيات بعيدة ثابتة تسلك المؤسسة في سبيل بلوغها وسائل وترتيبات مرحلية قد تكون متغيرة أو كما يقولون تكتيكات مختلفة.
فإن كانت المؤسسة الإغاثية على سبيل المثال تتعامل مع جهة معينة لتحقيق شيء من أهدافها أو استراتيجياتها (التدابير والأهداف المخطط لها البعيدة) فلا يمنع هذا تغير التكتيك والتعامل مع جهة أخرى في سبيل تحقيق ذات الأهداف.
من وسائل الثبات على الثوابت في ظل الهجمة[38]:
لاشك أن هناك هجمة شرسة على ثوابت الأمة وما أكثر الثوابت المهددة سواءً أكانت أصولاً عقدية كالولاء والبراء، أو أخلاقية سلوكية، أو اقتصادية تجارية، أو سياسية حكمية وصدق الله العظيم القائل: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، [البقرة: 217].
ولا شك كذلك في أن تلك الهجمة أثرت في بعض المصابين بالداء العضال؛ هشاشة الاعتقاد، فلا عجب أن تجد بعض هؤلاء يوالي أعداء الله ويحارب أولياءه، وينكر الجهاد أو بعضه، ويصم أهل المنهج الحق من المسلمين الطيبين بالتطرف والإرهاب المذموم.
ولعل الاستطراد بذكر فصل من ثوابت الأمة المهددة يغني عنه كتاب الشيخ الدكتور صلاح الصاوي. كما أنها ظاهرة لكثير من المهتمين بالعمل الإسلامي وذلك لأن العدو فَوّق سهامه نحو قضايا أساسية لايتجادل فيها إسلاميان.
لذا سأتجاوز ذلك إلى طرح جملة من الأسباب المعينة على الثبات على الثوابت التي يمكر لها صباحاً ومساء، وسوف أسردها بشكل مجمل إذا البسط لايتسع له مثل هذا المقام فمنها:
1- القناعة الراسخة بالثوابت التي يدين الله بها.
2- سلامة الأصول والمنطلقات التي يبني عليها ثوابته, وبخاصة في العقيدة.
3- والالتزام بالمقاصد العامة والكليات التي جاءت بها الشريعة, والبعد عن الشذوذ والغرائب.
4- الوضوح والبيان والبعد عن المجملات والعمومات وتحديد الأهداف بموضوعية وصفاء ونقاء.
5- الاعتدال والواقعية الوسطية والتوازن فلا إفراط وتفريط ولا غلو ولا جفاء.
6- التلازم بين القول والعمل, والانسجام بين الظاهر والباطن.
7- التيسير وسعة الأفق, والبعد عن التشديد والتنطع (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، [البقرة: 185]، "إنما بعثتم ميسرين"[39]، "يسرا ولا تعسرا"[40]، "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"[41].
8- البعد عن التبعية والتقليد والحزبية والتعصب, وبناء الفرد منطلقاته على علم راسخ وأصول معتبرة وأركان صلبة والأخذ بالاجتهاد فيما يسوغ فيه الاجتهاد بشروطه المعتبرة.
9- مراعاة الزمان والمكان والأحوال والقدرة على التجدد والتجديد دون ابتداع أو تحريف.
10- التقوى والورع والصدق ومجاهدة النفس والبعد عن التأويل والأهواء والفتن ما ظهر منها وما بطن.
11- المراجعة المستمرة والتقويم المطرد ومحاسبة النفس والقوة في الرجوع إلى الحق مع الحكمة في ذلك والإفادة من نصح الآخرين وملحوظاتهم. وكذلك الرجوع إلى الراسخين في العلم والتلقي عنهم والإفادة منهم.
12- التدارس والتشاور والتعاون مع أصحاب الاختصاص والشأن من المعروفين بسلامة المنهج قبل الإقدام على أي أمر ذي بال.
13- الإفادة من سير السابقين ودراسة أسباب ثباتهم كحال كثير من الأئمة والمجددين.
14- دراسة الأخطاء التي وقع فيها الآخرون ومن أصيبت ثوابتهم من أجل تجنبها وتلافيها والبدء من حيث انتهى الآخرون.
15- تصور عقبات طريق الثبات وما يكتنفه من شدة وعناء والأخذ بالأسباب الشرعية لتجنبها والخلاص منها وتلافيها.
16- دراسة فقه الجماهير والأسلوب الأمثل للتعامل مع القوى المؤثرة كالسلطة والعلماء والقرناء والاتباع حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها.
17- الاستعداد للتضحية في سبيل المبادئ والأهداف ورفض المساومات مع الصبر والتحمل طال الزمن أو قصر.
18- قوة الصلة بالله والالتجاء إليه وسؤاله الهداية والتوفيق والسداد فقد قال الله "يا عبادي استهدوني أهدكم"[42] مع الاستعانة بالعبادة على مشقات الطريق (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)، [البقرة: 45]، وكثرة الدعاء والاستغفار آناء الليل وأطراف النهار.
ومع هذه العوامل المعينة على الثبات على الثوابت يحسن التأكيد على تجنب العوامل المؤدية لتنازل عن الثوابت والتبدل فيها، ومن أهمها:
1- ضباية الأهداف وعدم تحريرها شرعاً.
2- فساد الأصل وضعف المنطلقات والأصول وهشاشة الأركان وقلة العلم وعدم وضوح الطريق.
3- عدم رسوخ القناعة بالمنهج وكثرة الشك والتردد والاجتهاد فيما لا مجال للاجتهاد فيه.
4- عدم القدرة على الدفاع عن أهدافه التي يسعى إليها ولو كان مقتنعاً بسلامتها وصوابها.
5- الاستعجال واتخاذ القرارات دون دراسة أو تمحيص والارتجالية في المواقف دون تخطيط أو استراتيجية.
6- الفردية وعقلية الأنا، ومنطق: "ما أريكم إلا ما أرى"، وسياسة شيخ القبيلة، وتهميش الآخرين، وبخاصة العاملين معه والمحيطين به.
7- الاستجابة للضغوط المباشرة وغير المباشرة من الأتباع والقوى المؤثرة والاصرار على مواجهة العواصف والرياح مع سعة الأمر بسبب الاستغراق في اللحظة الحاضرة والتأثر بردود الأفعال.
8- التناقض بين القول والعمل وعدم الانسجام بين الظاهر والباطن (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [البقرة: 44].
9- السعي لإرضاء جميع الأطراف على حساب المنهج والخوف من النقد.
10- عدم الإفادة مما يوجه إليه من نصح ونقد في تصحيح مسيرته.
11- الحزبية والتقليد والتبعية والتعصب للأشخاص والهيئات والجماعات والأجناس والبلدان.
12- إتباع المتشابه وترك المحكم والمسلمات والقطعيات والانسياق وراء الظنيات والمصالح الموهومة والملتبسات (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) [آل عمران: 7].
13- ضعف الإخلاص والتقوى والتعلق بالدنيا من منصب أو مال أو جاه وجعل النفس محور الولاء والبراء والحب والبغض والنصر والهزيمة.
14- التوسع في باب التأول وتتبع الرخص والتساهل ودعوى التيسير على الناس وتأليف قلوبهم والتسامح غير المسموح.
15- التأثر بتأخر استجابة الناس لدعوته وطول الطريق وقلة المعين وندرة الناصر (.. فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: جزء من الآية 16].
16- التنافس غير المحمود والاختلاف مع أصحاب المنهج الحق وكثرة الجدل والمراء "من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل"[43].
17- القرب من أهل الأهواء والبدع ومخالطتهم والتأثر بمناهجهم وطرائقهم وقراءة كتبهم والإعجاب بسيرهم ومواقفهم.
18- المثالية والغلو والتشدد ومجافاة الواقعية وضعف الالتزام بمنهج الوسطية في الاعتقاد والقول والعمل "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"[44].
19- إهمال السنن الكونية وعدم التدرج في تحقيق الأهداف ومجافاة الحكمة والأناة.
20- الجمود وعدم اعتبار تغير الأحوال والأماكن والأزمان وإغلاق باب الاجتهاد وإهمال قاعدة المصالح والمفاسد والتخوف من كل جديد والارتكاز على قاعدة الأخذ بالأحوط.
21- ضعف الصبر وعدم التحمل والاستعجال في طلب تحقيق النتائج واليأس وسوء الظن بالله.
22- المعاصي والآثام وضعف العبادة وعدم تجديد التوبة والغفلة عن الدعاء والاستغفار.
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الثوابت، وبالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
وفي الختام:
يجدر التنبيه إلى مسألتين:
الأولى: ليس كل تغير مذموم، وليس لزاماً أن يكون التغير الطارئ على فرد أو مؤسسة أو جماعة تغير في ثوابتها. أذكر هذا التنبيه لأن عدداً من الطيبين يلحظ تغيراً في مواقف بعض الدعاة أو العلماء فيظن أن ذلك تنازل عن الثوابت واضطراب في المنهج، بينما قد يكون الأمر مجرد سوء في التصور للثوابت أو عدم معرفة بالمنهج.
والخلاصة أن التغير منه ما هو مذموم ومنه ما هو محمود ومنه ما يعذر الإنسان فيه:
- فقد يكون محموداً :
- إذا رأى صاحبه أنه رجع إلى الصواب الذي تقرر عنده بالدليل، مثاله شخص تمنعه رؤيته الشرعية في حكم تصوير الفيديو من الظهور في الأشرطة الفيديوية ثم تغيرت رؤيته الشرعية وفقاً للأدلة التي ظهرت له أو بدا له وجه آخر فيها، ولعل ما عرف من مذاهب بعض أهل العلم كالإمام الشافعي في القديم والجديد خير مثال لذلك.
- إذا اختلف الواقع بحيث لا ينفع فيه الأسلوب الذي كان عليه، وهذا قد يقع حتى في معاملة بعض الناس، فقد تعامل إنساناً بالرفق ثم يتضح أنه لا تجدي معه إلاّ الشدة أو العكس.
- وقد يكون مذموماً :
- كأن يرجع عن حق تقرر عنده لمحض عرض من أعراض الدنيا، كحال بلعام بن باعورا، وجبلة ابن الأيهم، وأمية بن أبي الصلت. وهو موجود عند بعض المتبوعين. كعلماء السوء.
- أن يغير ما استقر عنده وثبت لكون فلان من الناس (مشايخه) تغير، أو بتعبير آخر بغير سبب شرعي، ومثل هذا يكون هشاً ينكسر ويتغير عند أول صدمة! وهو موجود عند الهمج الرعاع أتباع كل ناعق.
- وقد يكون معذوراً فيه :
- التغيير إلى نمط أدنى أو أسلوب أقل بسبب مصلحة ترجحت عنده، أو لظرف خاص يعيشه المتغيير.
- فقد القدرة أو الاستطاعة لأي سبب.
المسألة الثانية التي ينبغي التنبيه عليها:
هي أن الثوابت النسبية قد تتباين بين الناس ولايشترط أن يكون الاختلاف فيها اختلاف تضاد بل قد يكون اختلاف تنوع وهو الذي ينبغي أن يكون بين العاملين للإسلام، فيتمم بعضهم بعضاً للقيام بواجبات التكليف المناط بمجموع الأمة، ومن ثم فإن التباين في تلك الثوابت النسبية لايوجب عداوة وشقاق بل هو تباين يرجع في حقيقته إلى نوع ائتلاف وذلك عند النظر إلى المقصد الذي يصبوا إليه الجميع وهو نيل مرضات الله بالقيام برسالته وخدمة أمة الإسلام بالتخصص في شأن من الشؤون وفق الضوابط الشرعية المرعية.
هذا وقد مضى ذكر جملة من الضوابط التي يميز بها المسلم بين الثابت في حقه سواءً كان مطلقاً أو نسبياً وبين المتغير، وقد جاءت بصحبتها جملة من الأمثلة المختصر التي توضح المراد وتكفي اللبيب، ثم ختم ذلك بذكر بعض الوسائل المعينة على التصدي للهجمة الشرسة على ثوابت الأمة، وتؤهل الأفراد والمجموعات للمضي قدماً والاستقامة على ثوابتهم باطراد من غير اضطراب.
أسأل الله أن يجعل ما خُطَّ وما قد قيل نافعاً ولوجهه خالصاً، كما أسأله أن يبرم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إبرام رشد، يعز فيه وليه، ويذل فيه عدوه، والحمد لله أولاً وآخرا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (ثبت).
[2] ينظر محيط المحيط لبطرس البستاني، ولسان العرب لابن منظور.
[3] ينظر محيط المحيط.
[4] السابق، وكذا في اللسان.
[5] السباق.
[6] ينظر لسان العرب لابن منظور مادة (ثبت).
[7] ينظر المحيط للصاحب بن عباد، أول الباء والثاء وما يثلثهما.
[8] ينظر الصحاح للجوهري مادة (ثبت).
[9] ينظر تاج العروس للزبيدي باب التاء فصل الثاء، والأثر رواه عبدالرزاق في مصنفه 5/389، ورواه الإمام أحمد في المسند من طريق عبدالرزاق 1/348، وهو مشهور عند المفسرين يوردونه في تفسير قول الله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، [الأنفال : 30]، وقد ضعفه بعض أهل العلم كما في مشكاة المصابيح برقم (5877)، وحسنه آخرون ومنهم ابن حجر في الفتح 8/307، قال في الهيثمي في المجمع 7/27 :" رواه أحمد والطبراني وفيه عثمان بن عمرو الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره وبقية رجاله رجال الصحيح".
[10] ينظر تاج العروس السابق.
[11] ينظر المحيط لأديب اللجمي وشحادة الخوري وآخرون، وكذلك محيط المحيط لبطرس البستاني.
[12] ينظر الغني لعبد الغني أبو العزم (ثابت).
[13] السابق.
[14] السابق.
[15] السابق.
[16] تنظر الموسوعة الفقهية 15/9.
[17] السابق 15/9-10.
[18] ينظر الغني لعبدالغني أبو العزم السابق.
[19] على تعريف النص عند الأصوليين من نحو قولهم ما تأويله تنزيله أو مالا يحتمل إلاّ معناه.
[20] وهذا بعيد فقد قال يونس بن عبد الأعلى سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله وما يؤمن به فقال لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته لا يسع أحداً من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله القول بها فيما روى عنه العدول فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر أما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر ولا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها. [ينظر اجتماع الجيوش الإسلامية ص94].
[21] الموسوعة الفقهية 2/293-294 بتصرف يسير واختصار.
[22] ينظر إعلام الموقعين 1/58.
[23] تنظر الموسوعة الفقهية 10/232.
[24] تنظر الموسوعة الفقهية 14/77.
[25] تنظر الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية 2/158.
[26] تنظر الموسوعة الفقهية 11/40.
[27] تنظر ص6 من هذه الورقة.
[28] ينظر أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي 1/43.
[29] ينظر إعلام الموقعين 3/11.
[30] السابق 3/12.
[31] رواه أبوداود في كتاب الحدود باب الرجل يسرق في الغزو أيقطع (4408) 4/142، ورواه الترمذي في السنن كتاب الحدود، باب ما جاء أن لاتقطع الأيدي في الغزو (1450) 4/53، ورواه الدارمي في سننه كتاب السير باب في أن لاتقطع الأيدي في الغزو (2492) 2/303، ورواه البيهقي في السنن الكبرى باب من زعم أن الحدود لاتقام بأرض الحرب 9/104، وكذلك النسائي في سننه باب القطع في السفر (4979) 8/91، ورواه آخرون وهو حديث صحيح.
[32] روى الأثر البخاري في التاريخ الكبير 3/4، وابن أبي شيبة في مصنفه (28586)،5/521، و (28591)، 5/521، وعبدالرزاق في مصنفه (18990) 10/242، وابن حزم من طريقه في المحلى 11/343، وقد ذكر في تلخيص الحبير رواية وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني له في جامعه، التلخيص 4/70، والأثر ضعيف فيه مجهولان، وقد ضعفه الألباني في الإرواء (2428)، غير أن المعنى المقصود صحيح شهدت له عدة أدلة أشار إليها ابن القيم رحمه الله وغيره.
[33] كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد، البخاري (1435) 2/548، ومسلم (985) 2/678.
[34] ينظر إعلام الموقعين 3/18.
[35] كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، البخاري (2044) 2/756، ومسلم (1524) 3/1158.
[36] ينظر إعلام الموقعين 3/19.
[37] وتشمل هذه الإشارة ما أسماه الشيخ بالثوابت النسبية على اصطلاحه وهي الاختيارات العلمية الظاهرة الرجوح والتي ينبغي أن تتفق عليها الحركات.
[38] مستل من دروس بعنوان الاطراد والاضطراب في المنهج قمت بإعدادها وأرجو أن يتيسر لي إخراجها في القريب العاجل.
[39] جزء من حديث أبي هريرة رواه البخاري في صحيحه (217) 1/89، ورواه غيره.
[40] جزء من حديث أبي موسى الأشعري رواه البخاري في الصحيح (2873) 3/1104، ومسلم كذلك (1733) 3/1359.
[41] جزء من حديث "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" قال ابن حجر في الفتح: "أخرجه البزار... وصوب إرساله، وله شاهد في الزهد لابن المبارك من حديث عبدالله بن عمرو موقوف، والصواب أنه لا يصح رفعه"، قال الدارقطني: "رواه يحيى بن المتوكل عن ابن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر ورواه شهاب بن خراش عن شيبان النحوي عن محمد بن سوقة بن الحارث عن علي وروي عن ابن سوقة عن الحسن البصري مرسلا وعن ابن المنكدر قال وليس فيها حديث ثابت"، قال العجلوني في كشف الخفاء: "واختلف في إرساله ووصله ورجح البخاري في تاريخه الإرسال". قال السخاوي: " وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة في إرساله ووصله وفي رفعه ووقفه، ثم في الصحابي أهو جابر أو عائشة أو عمر" قال الألباني في الضعيفة 1/ 63 بعد أن ذكر الحديث: (وهذا سند ضعيف ) _ وبه علتان. لكن يغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين يسر، ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا...؛ أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا". وانظر كذلك الضعيفة 5/501 حديث رقم 2480.
[42] رواه الإمام مسلم في الصحيح (2577) 4/1994.
[43] سنن الدارمي (304) 1/102.
[44] حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في الصحيح (39) 1/23.
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/82346