﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ فروض العين وفروض الكفاية

عبد الرحمن السالمي

إذا تأملنا الآية القرآنية نجدُ أنها تتضمن ظاهراً خمسة أمور وهي: مطلبُ العمل على تكوين جماعةٍ أو نخبة، على أن تكون لها ثلاث مهام: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأمر الخامس: رجاء حصول الفلاح والنجاح عن طريق دعوات ومسالك الخير.

وبالنظر إلى ضخامة المهامّ التي ينبغي على الأمة أو الجماعة القيام بها؛ فإنه ينبغي الالتفاتُ إلى المسألة من حيث المضمون وطرق تكوينها؛ فالملحوظ أولاً أنّ جماعة الدعوة تُسمىَّ �أمة�، وصحيحٌ أن معاجم اللغة تجعل الجماعة أو الفئة معنىً من معاني الأمّة؛ لكنّ المفهوم من الترادُف في هذا السياق أنّ نخبة الدعوة هذه هي بمثابة الأمة بكاملها؛ لأنها تمثّلُها في القيام بالدعوة وعليها؛ أي أنها تمثل الرسالة التي جاء بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الأمة، أمة الإجابة (فاستجابت لها واعتنقتها).

وكانت نتيجة ذلك أن صارت الرسالة دينها الذي تدين الله به، والعلماء هم ورثة العلم عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم كذلك ممثلون للأمة في توجهاتها لتعليم دينها لأبنائها، ومتابعة ذلك في حاضر الأمة ومستقبلها، ونشر الدعوة في العالم.

وهكذا، فقد كانت تسميةُ الجماعة العالمة والداعية بالأمة إشعاراً لها بأنها تمثل الأمة من جهة، وأن مهمتها شديدة الأهمية من جهةٍ أُخرى.

أما الأمور التي تدعو إليها فهي ثلاثةٌ ظاهراً، وواحدٌ في الحقيقة، وتفصيل ذلك أنّ المطلوب من الجماعة العالمية: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

والواقع أنّ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر يأتيان تفسيراً لدعوة الخير؛ فالخير عامٌّ وشاملٌ، ويتضمن الاعتقاد السليم، والتزام الحياة الفاضلة (المعروف)، والانتهاء عن حياة الفساد والإفساد (المنكر)، ولا تقتصر الدعوةُ إلى الخير على ذلك رغم ضخامة الأمرين واتساعهما؛ ففي آيةٍ قرآنيةٍ أخرى هي قوله تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ جاء التكليف بصيغة الجمع، وبذلك يتسع المجال لتكون الدعوة إلى الخير دعوةً للبشر جميعاً، وهي تعني البحث عن المشتركات، والبحث عن التصحيح والتقويم خارج حياة الأمة الإسلامية، إضافةً إلى تطلُّب المعروف وتعليمه بالتربية والقدوة داخل الأمة، وبذلك نفهمُ أنّ المقصود من �العلماء� ليس علماء الدين الذين يُلقِّنون العقيدة والعبادات وحسب؛ بل فئات شتّى ممن عرفوا الدين وعلوم الدنيا والعقائد الأخرى للشعوب والأمم، وهم بالطبع فئات متنوعة، وليسوا فئةً واحدة، ويجب أن يكونوا كذلك؛ ليستطيعوا أيضاً -بالمعرفة والفهم- رؤية دعوة الإسلام إلى الخير والدعوات الأخرى في صعيدٍ واحدٍ من حيث القدرة على الإقناع من طريق إظهار المشتركات وتظهيرها، والإقناع أيضاً بالانطلاق من المشتركات إلى آفاقٍ أبعد، نستطيع فيها أن نعمل معاً نحن وأهل الأديان والثقافات الأخرى، وعندما تصل الآية الكريمة إلى الحديث عن �الشهادة� نشعُرُ أنّ أمر الدعوة وصل إلى أعلى مستوى، ففي القرآن الكريم أيضاً: ﴿وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون﴾ فقد فسّر علماءُ القرآن الذكر بأنه القرآن، لكنّ ذلك المعنى لا يصحُّ الاقتصار عليه؛ فقد جاء في القرآن أيضاً: ﴿إناّ نحن نزلنا الذكر وإناّ له لحافظون﴾ فالله سبحانه وتعالى ضمن لنا الحفاظ على نصِّ القرآن الكريم.

فالحديث في المعرض الحاضر أنّ النجاح يولِّد �الفلاح�، وهو نجاحٌ للأمة ودعوتها، ولعلمائها على اختلاف مفاهيم النجاح والفلاح والفوز، وذلك يقتضي عدة أمور: أن تحمل الأُمة الرسالة بالفعل، بحيث تبذل أقصى طاقتها في الأمانة للرسالة، وفي اتباعها، وفي تبليغها.

والأمر الثاني: أنّ من مقتضيات الأمانة للرسالة إعداد النُخب التي تنقلها إلى الأجيال القادمة وإلى العالم.

الأمر الثالث: أنّ هذه الرسالة تتضمن ثلاثة مفردات: الخير، والمعروف، وتجنب المنكر والفساد.

والأمر الرابع: أنه لكي يحصُلَ الفلاحُ فلا بد أن ننجح في الداخل، وأن ننجح في الخارج.

والأمر الخامس: أن الفلاح بهذا المعنى يقتضي اتّباع القرآن من جهة، والاجتهاد في فهم متغيرات الزمان والمكان وإعداد العُدّة لها بالإبداع من أجل التقدم أو من أجل التلاؤم مع المتغيرات والضرورات من جهة أخرى، وهذا المعني بفروض الكفاية.

ففروض العين -فضلاً عن ورودها بنصِّ القرآن- تشملُ الأفرادَ جميعاً، ولا يُغني فيها فردٌ عن فرد. أماّ فروض الكفاية فهي التي يقتضيها الزمان والمكان ومقتضى الحال، ويمكنُ فيها لبعض الأفراد أن يحلوا محلَّ المجموع في قضاء الواجب ذي الشعبتين: سدّ الضرورة، وتطوير حياة الأمة وقدراتها على تجاوز الصِعاب، وقد مثل العلماء قديماً لفروض الكفاية بمسائل دينية، مثل صلاة الجنازة، ومثل صلاة الاستسقاء...إلخ، وكان هنالك مَنْ تجاوز ذلك لاعتبار �المصالح� الكبرى والصغرى من فروض الكفاية، من مثل إنشاء الجيوش للدفاع عن المقدَّسات والأوطان، أو طلب العلم في بعض المجالات التي ليس في الأُمّة مَنْ يبرع فيها، من أجل إحداث التقدم في سائر العلوم كالعلوم الطبية مثلاً، أو تعلُّم اللغات والاطّلاع على الأديان الأخرى، من أجل صون الإسلام، والدفاع عنه، ونشر دعوته بالمعنيين: الإسهام والمبادرة لمشاركة العوالم الأخرى فيما يعود بالخير على المسلمين وعلى العالم أجمع.

وقد كان هنالك من العلماء مَنْ جعل أمر فروض الكفاية (مما ليس فيه نصٌّ بل هو من مقتضياته) من ضمن لواحق القياس الفقهي، أو من ضمن مسائل �تحقيق المناط�، وقد ظل هذا المسلك سارياً حتى القرن السابع الهجري، ولدى علماء الأصول؛ بيد أنّ بعضهم البعض رفع ذلك إلى مرتبة النظرية، فلم تعد رعاية المصالح العامة للأمة من فروض الكفايات، أو من مقتضيات الضرورات؛ بل تجاوز الأمر ذلك إلى اعتبارها لديه من المقاصد الكلية للشريعة.

والمقاصد الكلية أو المصالح الضرورية باستقراء للكتاب والسنة هي خمسٌ: حقوق النفس، وحقوق العقل، وحقوق الدين، وحقوق النسْل، وحقوق المِلْك؛ فكلُّ ما يؤدّي إلى صون الحياة الإنسانية لجهات الإبقاء والمعرفة وحفظ الأديان (الأخلاق والانتظام) والأُسَر والأموال المكتسبة من حلال، فكلُّ ما يؤدي إلى تحقيق هذه الأمور هو من مقاصد الشريعة، وبذلك تُصبح فروض الكفاية مختصّة بالضرورات الشرعية، وذات معنىً تعبُّدي، وتُصبحُ المسائل التطويرية والتحسينية والمساعي والجهود من أجل التقدم ذات طابع مقاصدي، يتصل من جهةٍ برسالة الأمة، ويتصلُ من جهةٍ ثانيةٍ بسيادتها وتقدمها وازدهارها، وما يمكن أن تُسهم به في خدمة جهودها، وخدمة العالم أجمع.

فلتكن آيةُ الدعوة إلى العالم والعلماء والنُخب العالمة والخير والمعروف والفلاح رائدنا في عوالم الحاضر والمستقبل، في عملنا من أجل صون المعنى الكبير لأمتنا، وتطوير مسائل عيشنا وتقدمنا للتأهُّل والمشاركة في حضارة العصر وعصر العالم، ومن أجل ذلك كان هذا المحور بمجلة �التسامح�، في نطاق المسعى لتحقيق التقدم من جهة، والاقتدار على المُضيّ نحو التعارُف والتفاهم على الصراط السواء من جهة أخرى.

المصدر: http://tasamoh.om/index.php/nums/view/34/753

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك