أهداف الدعوة ومنطلقاتها
د. محمد إسماعيل المقدم
المراد بالدعوة :
الدعوة لغة: مأخوذة من الدعاء، وهو النداء لجمع الناس على أمر ما، وحثهم على العمل له. الدعوة إلى قضية يراد إثباتها أو الدفاع عنها حقاً كانت أم باطلاً .
فمن الدعوة إلى الباطل : ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) سورة يوسف: 33.
ومن الدعوة إلى الحق : قوله تعالى: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) سورة الرعد:14، وقوله صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل : (أدعوك بدعاية الإسلام ) أي دعوته، وقال مؤمن آل فرعون: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) سورة غافر :41.
ومن معاني الدعوة : المحاولة القولية أو الفعلية والعلمية لإمالة الناس إلى مذهب أو ملة.
ومن معانيها: الابتهال والسؤال : دعوت الله أدعوه: أي أبتهل إليه بالسؤال، وأرغب فيما عنده من الخير، وقال تعالى: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ )سورة يونس:25 . قيل في لسان العرب (ودعاء الله خلقه إليها كما يدعو الرجل الناس إلى مَدعاة أي إلى مأدبة يتخذها، أو طعام يدعو الناس إليه).
فدعوة الله عز وجل عباده إلى دار السلام وهي الجنة هي دعوته تعالى لعباده إلى اتخاذ أسباب دخولها عن طريق الالتزام بدينه، فمن استجاب صار من حزب الله ( أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة المجادلة: 22 ، أما المعرضون فهم أتباع الشيطان : ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ) سورة إبراهيم:22 وقال تعالى: ( إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) سورة فاطر:6 .
أهداف الدعوة إلى الله :
1- بيان الحق والبلاغ المبين :
من القرآن قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) سورة الرعد:7، ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ )سورة المائدة: 67 ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : (بلغوا عني ولو آية).
2- الدعوة إلى الاستجابة للدعوة وامتثالها قولاً وعملاً:
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ) سورة النحل:36.
3- التبشير والإنذار:
هو مفتاح النفس الإنسانية فهي مجبولة على طلب الخير لذاتها، ودفع الشر عنها، (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) سورة الأنعام: 48 ، قال صلى الله عليه وسلم: ( مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق ) متفق عليه.
البشارة في الدنيا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)سورة النحل:97 ، ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) سورة طه:123 .
البشارة في الآخرة : (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)سورة النساء:13.
النذارة في الدنيا: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا )سورة طه:124 ,(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)سورة فصلت:13 .
النذارة في الآخرة: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)سورة النساء:14.
حسبك أن تطالع كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله، وتقرأ منه على إخوانك ومن تدعوهم إلى الله، ثم انظر إلى أثر هذا في نفسك وفي نفوس السامعين .
4- إصلاح النفوس وتزكيتها:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) سورة الشورى: 52، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سورة الجمعة:2 .
- تزكية النفوس :
تطهيرها وتطييبها وتنقيتها من قبائحها – زكا الزرع : نما وأينع، رائحة زكية : طيبة.
(قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)سورة الشمس:9 ، (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)سورة الشمس:10 .
لا يستحق الجنة إلا من زكى نفسه: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)سورة الزمر:73.
- التزكية : مهمة من مهمات النبي وغاية أساسية من رسالته:
سبب وجود طعم الإيمان: ( وأن يزكي المرء نفسه: أن يعلم أن الله معه حيث كان ).
هي السبب في دخول الجنة (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا )سورة آل عمران:136.
- أعلى التزكية : تطهير القلب من نجس الشرك وتزكيته بالتوحيد:(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)سورة التوبة:28, (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ)سورة فصلت:6, (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ )سورة فصلت:7.
- الصلاة تزكية: ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) سورة العنكبوت:45.
المرأة التي أخبر عنها أنها تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها (هي من أهل النار) (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ، ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)سورة البقرة:138 ، ( كان خلقه القرآن ) ، ( إنما بعثت لأتتم مكارم الأخلاق ).
ومما يتفرع عن ذلك من أهداف : إيجاد المسلم الحقيقي أو صناعة الرجال : ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)سورة الأحزاب:23 ، ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ(36) , رِجَالٌ)سورة النور:36-37 من خلال التعليم والتربية.
5- تقويم الفكر المنحرف ودحض العقائد الزائفة:
- التوحيد هو الأصل: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ )سورة الروم:30, (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ )سورة البقرة:213 , ( وكل مولود يولد على الفطرة )، ( إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فأتتهم الشياطين، فاجتالتهم ) .
- التصدي للغزو الفكري:
القديم: الفرق الضالة – الشيعة – الصوفية – القاديانية – البهائية.
الجديد: العلمانية – الليبرالية – الوجودية – الماركسية – الديمقراطية.
6. إقامة الحجة والإعذار إلى الله بأداء الأمانة:
( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) سورة النساء:165 ، وأتباع الرسل يخلفونهم في هذه المهمة : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي )سورة يوسف:108 .
والذين يرفضون دعوة الرسل، لا يملكون إلا الاعتراف بظلمهم إذا وقع بهم العذاب في الدنيا: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ(11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ(12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (13) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ )سورة الأنبياء:11-14,وفي يوم القيامة أيضاً يسألون عن ذنبهم فيعترفون: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ(9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ )سورة الملك:8-10 ، وحين يدخلون جهنم: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا) سورة الزمر :71، وإذا أحاط بهم العذاب من كل جانب: ( قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)سورة غافر:50.
المدعو: إما أن يستجيب ويهتدي فيتحقق هدف هداية الناس إلى الحق، وإما أن يعاند ويكفر فيتحقق هدف إقامة الحجة لله تبارك وتعالى وينقطع عذر المعاند أمام ربه يوم القيامة: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء ) سورة البقرة:272 ، ( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ) سورة الشورى:48, (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)سورة الغاشية:21 , ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ)سورة النازعات:45.
إقامة الحجة شاملة: للتوحيد والإيمان ثم الأركان والفروع والآداب والمستحبات (ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )سورة البقرة:208 ، وتجزئة الدين اتباع لخطوات الشيطان .
هناك جماعات تضيع حظاً من الدين (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) سورة المائدة:14 ,(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)سورة البقرة:85 ، (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا )سورة الأعراف:164 لأنهم لا يرجعون عن غيهم (قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) سورة الأعراف:164 .
أما هداية الناس : فهو بأمر الله ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء )سورة القصص:56 (وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) سورة الإسراء:97.
وإقامة شرع الله في الأرض: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)سورة القصص:55.
ومنهج أهل السنة والجماعة : لا يضع أمامه هدفاً محدوداً يحصر طاقته فيه فإذا لم يقدر يبقى عطلاً من وظيفة وهدف، منهج لا يعرف اليأس لأن عمله لن يذهب سُدى، ولا يجزِّئ قضايا الإسلام.
7. سياسة الأمة وإقامة المجتمع الإسلامي :
( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ )سورة المائدة:48 ، (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) سورة ص:26، ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي قام نبي ).
وقال تعالى عن التوراة: ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ) سورة المائدة:44، ولله تعالى أحكام في المعاملات والحدود والسياسات العامة والحكم لا يمكن تطبيقها إلا بأن يدين المجتمع بدين الله، ويذعن لشريعته.
المنهج السلفي يعي العقبات التي تقف في سبيل تحقيق ذلك، ويبني طريقه على أساس الجهاد والصبر الطويل، الأمة التي بلغت من القوة والمجد بحيث استغرقت قروناً لتنهار هل تبنى من جديد بين عشية وضحاها؟
منطلقات الدعوة
أولاً: أعمال الدعوة عبادة يتقرب بها إلى الله ، لا يعملها المسلم لهوى في نفسه، أو رغبة في العلو في الأرض ، لكن يندفع إليها وينقاد امتثالاً لقوله تعالى: ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)سورة آل عمران:104 وقوله عز وجل : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) سورة فصلت:33، وطمعاً في ثواب الله عز وجل :( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم),
وفي رواية:
( خير لك مما طلعت عليه الشمس ) ، وفي الحديث: ( إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر يصلون على معلم الناس الخير) وقال صلى الله عليه وسلم: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ( الدال على الخير كفاعله )
وقال تعالى : ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )سورة العصر:3.
من مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق :
أ. هيجان الرعونات النفسية ، والحظوظ الشخصية ، وقيام حجاب الأنانية ، وحب الذات
وعلاجه ذكر الله بقلب حامد : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) سورة الأعراف:201.
ب. تحول الدعوة إلى مجرد فكرة أو مذهب سطحي يقارع به المذاهب الأخرى ، دون أن يعيش في الحقيقة الإسلامية الكلية ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )سورة الأنعام:162.
ج. الانفصال بين الفكر والسلوك : بعض الناس يتذاكرون أمور الدعوة إلى الإسلام وينسون في غمار حديثهم أهم الواجبات الدينية القيام إلى الصلاة في وقتها، ثم ما يتنبهون إليها إلا آخر الوقت متثاقلين فيصلون بسرعة خاطفة شأن من يريد أن يسرع ليتخلص من عبء يلازمه.
ثانياً: أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) سورة الأنبياء:107 ، ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) .
وأكثر ما يصد المنحرفين عن الحق ما قد يشعرون به في تضاعيفها من التعالي والأنانية، وحب الانتصار للنفس أو للجماعة، فيكون رد الفعل تعالياً أشد وأنانية أقوى واندفاعاً أسرع إلى الانتصار للذات.
بعض الآثار: (لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد, فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية ).
ثالثاً: اليقين بأن القيام بأعباء الدعوة (البيان – الحكمة – الموعظة الحسنة – التضحية) واجب من جملة التكاليف التي خاطب الله بها المسلمين، بغض النظر عن النتائج والآمال.
بعض الناس يحملون أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به جلباً للنتائج وتطلعاً إلى الغايات وربما قفزوا ووثبوا في غمار تطلعاتهم فوق كثير من الأسباب والوسائل الواجبة عليهم مما يدخل تحت إمكانهم ويخضع لطاقاتهم، ومن هذه الواجبات :
أ. الالتجاء الشديد إلى الله عز وجل، وكثرة ذكره في الخلوات ، ومراقبة النفس والسعي إلى تزكيتها بكل الوسائل.
ب. مراقبة بيوتهم والقيام بدقة على إصلاح حال الأهل والأولاد، وإشاعة ذكر الله وعبادته بين أعضاء الأسرة .
فإذا طبقوا الإسلام واستقاموا عليه ثم فعلوا ذلك مع أهليهم ومن يلوذون بهم يكافئهم الله بالتمكين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) سورة النور:55.
ليست طبيعة دعوة الإسلام كغيرها من المذاهب والأنظمة ،فأصحاب المذاهب لا يعتمدون إلا على أنفسهم في تطبيقها وإشاعتها في المجتمع ، لأنها مذاهب وضعية ابتدعوها، وهم المسؤولون عن رعايتها وتطبيقها وصبغ المجتمع بها, فينجرف كثير من المسلمين الذين يمارسون الدعوة إلى الإسلام إلى السبيل ذاته، ويسعون بالطرق والأساليب نفسها، فتراهم يتنافسون أو يتصارعون معاً هم وأصحاب المذاهب الأخرى على طريقة واحدة من الأسلوب والمعالجة والتصور، وينسون في الحقيقة أنهم ليسوا إلا موظفين لله جل جلاله للقيام بمهام معينة تدخل في حدود طاقتهم، مقابل ما يمنّ به عليهم من تحقيق المجتمع الإسلامي المنشود.
وآية ذلك أنك ترى بعضهم –في غمار هذا التقليد والنسيان لهويتهم- لا يهتمون من الإسلام إلا بما فيه من الواجهة الاجتماعية التنظيمية – مثلاً - ليقارعوا به الأنظمة الأخرى، وعندئذ يسقط الفرق بينهم وبين أولئك الآخرين في ميزان الله تعالى وحكمه، إذ لا قيمة لشيء من الأحكام والأنظمة الإسلامية إلا من حيث هي دين يخضع من خلاله الإنسان لسلطان الله وألوهيته.
وهذا هو السر في أن هؤلاء الناس لا يفهمون كلمة (الحكم بما أنزل الله) في نطاق الدعوة الإسلامية إلا ما يبرز منه في واجهة المجتمع، ويتكون منه النظام العام، فأما الحكم بما أنزل الله في معاملة الإنسان نفسه، وأهل بيته، وأسرته، وأولاده، وعلاقاته مع الآخرين فما أكثر ما يغفلون عنه، بل ربما أعرضوا عنه تماماً.
لماذا منهج الأنبياء؟
1. لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم, فقال جل وعلا بعد ما ذكر جملة من الأنبياء عليهم السلام في سورة الأنعام: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) سورة الأنعام:90، وأرشد المؤمنين جميعاً إلى التأسي به عليه السلام فقال: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) سورة الممتحنة:4.
كان صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة: للشاب المستقيم في شبابه، وللداعية في دعوته وللزوج والوالد في حنو العاطفة وحسن الخلق، وللمربي في تربية أصحابه، وللمجاهد الشجاع، والقائد المنتصر، والسياسي الناجح، والجار الأمين، والمعاهد الوفي، والحاكم المستقيم، والعالم العامل، وهي صفات لا تجتمع أبداً في أي زعيم أو مصلح، ولهذا أمر الله عز وجل بطاعته مطلقاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ) سورة النساء:64، أما غيره صلى الله عليه وسلم فطاعته مشروطة بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2. لأن الأنبياء معصومون من الشرك والإضلال، والزيغ والأهواء، والفسق والعصيان وهم أشرف الناس نسباً وأفضلهم أخلاقاً، وأعظمهم أمانة، وأقواهم حجة: ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)سورة الأنعام: 124 ، (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )سورة طه:41.
3. جميع الأنبياء دعاة إلى الإسلام: ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) سورة آل عمران:19جميع الأنبياء دعاة إلى حزب الله : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )سورة آل عمران:81.
4. لأنه المنهج الوحيد الكفيل بإعادة الخلافة على منهاج ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ) سورة يوسف:108، ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) سورة الأنعام:153.
بعض الناس ينظرون إلى بذل المال والنفس على أنها أعلى المراتب دون مراعاة ما يجعل بذل المال والنفس مجدياً، إذ ليس الأمر مجرد بذل وكفى، إذ البذل لا يعطي نتائجه إلا بشروطه، والوعي والعلم هو الوقود الذي يجعل الاستمرار ممكناً كي لا ينقطع العمل في بدايته كما ينطفئ المصباح حين يفقد وقوده.
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/82160