ورطة الرأي
بقلم: يامن صابور
“اغمد سيفك، فكل من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك. أو تظن أنه لا يمكنني أن أسأل أبي، فيمدني بالساعة بأكثر من اثني عشر فيلقاً من الملائكة.” (متى 26: 52)
بهذه الكلمات دحض يسوع المسيح، بحسب إنجيل متى، الفكرة الشاذة التي تدعي أن الله وأنبياءه بحاجة لمن يدافع عنهم أو لمن يحمل السيف باسمهم، ومحدداً بذلك لتلاميذه أسس تقليد مسيحي استمر خلال قرون المسيحية الأولى حين كان أتباع الديانة الجديدة مادة تسلية الرومان في حلبات سيرك مكسيموس. ولكن تلاقح الدين بعدها مع السياسة فأنتج جيوشاً وصراعات وفتوحات وحملات صليبية وصكوك غفران ومحاكم تفتيش، وانحدر إلى مستنقعات العنف والحرب، وانتهى بعد عدة قرون إلى فشل مجتمعي وخضات دينية - سياسية عبر مسار التطور الحضاري للبشرية، والذي توصل أخيراً إلى إنشاء سلطة دينية محدودة بتنظيم شؤون الكنيسة، وسلطات دنيوية مستقلة تنتخبها الشعوب وتتبنى قوانين وضعية مشتقة من حاضر كل دولة أو مجتمع. ولقد كان من أهم نتائج ذلك الانفصال، وبالتالي التحرر من رقابة سدنة الهياكل وتفاسيرهم الخاصة للنصوص، تأسيس مبادئ حرية التعبير عن الرأي بكل أشكاله حيث يكون “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.” وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن جهتها دفعت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية هذه الحرية إلى مدى أبعد حين حكمت في العام 1976، بحسب الصحافي البريطاني براين ويتكر المختص في شؤون الشرق الأوسط، حين حكمت بأن حرية التعبير عن الأفكار لا تسري فقط على الأفكار التي قد تعتبر مسالمة أو محايدة بل هي تشمل أي أفكار يتم التعبير عنها بشكل صادم أو جارح لأي فئة؛ لأن حجب حق توجيه الإساءة سوف يفتح المجال واسعاً أمام أي أحد يدعي استياءه لكي يمارس الرقابة على الفكر. يستند هذا الحق، بطبيعة الحال، إلى حقوق أخرى تكفلها القوانين المدنية لأي كان، وتبدأ من حق الشخص المباشر والبسيط في كبسة زر واحدة تغير القناة التلفزيونية المسيئة أو في عدم استعراض الموقع الالكتروني الفاضح أو في عدم شراء الجريدة الجارحة، وتصل إلى حقه في رفع دعوى مدنية أمام المحكمة، وليقرر القاضي حينها في ضوء القانون والضمير وجود الإساءة من عدمها، وكل ذلك من دون تفجير أو قتل أو تدمير أو اضطهاد؛ ففي العالم اليوم يستطيع الإنسان أن يكون حراً في تصرفاته الخاصة طالما أنه لا يؤذي الآخرين جسدياً.
ولكن، وفيما نحن نمضي قدماً في القرن الواحد والعشرين، يبدو أن هذه المبادئ التي أصبحت (أو يجب أن تصبح) من الأمور الثابتة ومن بديهيات الحياة في الوجدان البشري، قد فشلت حتى اليوم في الوصول إلى أذهان الكثير من الناس وخاصة في العقل الشرقي، متوطناً كان أم مغترباً. ويبدو أن هنالك من يريد لحلقة الشر أن تتابع انغلاقها حول الفكر الحر، وكلما تصدعت قليلاً بفعل الكلمة يأتي من يصلحها بالدم وليوقف تقدم الزمن. “فأي زمان هذا الذي نعيش فيه؟ وأي حوار هذا الذي ينطق أحد أطرافه بالكلمات، فيرد الطرف الآخر بالطلقات؟” كما تساءل الشهيد فرج فودة منذ عام 1987 حول إشكالية تستمر بإصرار إلى يومنا هذا قاتلة كل أمل فينا ومهينة كل طموح.
وإذا ما حصلت خلال الأشهر المنصرمة أحداثاً صدمت الكثيرين فهي ليست سوى نقاط في حلقات الشر النشطة هذه ونتاجاً لهذه الذهنية بالذات والتاريخ المثقل بالدجل، الذي لا يزال يتحاشى أي نقد أو تفكيك. ليس الاعتداء على شارلي إيبدو – من جهة – الأول ولن يكون الأخير، وليس جلد المغرد رائف البدوي – من جهة أخرى – الأول ولن يكون الأخير، وليست الأفعال القمعية التي يمارسها تنظيم الدولة الإسلامية بشكل يومي بجديدة ولا هي آخر مطاف آليات القمع الفكري عبر الإيذاء الجسدي والإهانة الروحية، وهي كلها مشابهة لمئات من الأحداث حول العالم عبر السنين التي تفعل فعلها في توليد الصدمة لدى عامة الناس وفي توليد ملايين الدولارات للبعض الآخر أكان ذلك البعض قد اتخذ هيئة المنفذ الأعمى أم المكافح البطل.
ولهذا لا يجب أن نرتاح هنا في مناقشة ظاهرة تهديد رسام كاريكاتور أو اغتيال صحفي أو اضطهاد مفكر أو ذبح “الآخر” على أنها إرهاب وكفى المؤمنين شر إعمال الفكر؛ فهنالك من يستفيد من سرديات الإرهاب والحرب عليه حتى الثمالة ليظهر أن كل إرهاب في الدنيا هو نتاج فكر واحد في منطقة واحدة يصادف أنها غنية بالنفط والموارد والطاقات البشرية والممرات التجارية والأراضي والفضاء. إسرائيل اغتالت ولاحقت واضطهدت الكثير من الكتاب والصحافيين والرسامين ولم يعتبر أحد أن تلك الأفعال تندرج تحت بند الإرهاب ولا قامت المظاهرات ضدها. وأسامة بن لادن لم يكن يوماً إرهابياً طالما كان يطرد السوفييت من أفغانستان وممراتها الاستراتيجية وحقول الحشيش فيها. ألم تبلغ الحرب على الإرهاب عقدها الثاني ولا يزال “الإرهاب” في كل مكان في العالم “باقٍ ويتمدد؟” ونحن لا زلنا ننتظر الآخرين – بكل سلبية – ليشنوا “حروبهم” على “إرهابنا” فيما نحن غارقون في لجة النصوص والمماحكات والاجتهادات التي اصفرت أوراقها وتشققت، ونعود إلى وصفات وألاعيب ماتت من كثرة ما خابت، وننتحل رقعاً جديدة لكي نصلح بها أثوابنا المهترئة. ونرجع لنبدأ في حلقات مفرغة أخرى تستهلك كل طاقاتنا ووقتنا.
فليقطع الشرق إذاً، بجميع مكوناته وأديانه، هذا الطريق الشائك وليكسر حلقاته الجهنمية وليبدأ اليوم حواراً مع تاريخه المليء بالعنف والتناقضات والثغرات والطمس وليعمل على تحجيم وتعرية “إرهابييه” الذين يعيشون بمنتهى الرفاهية الفكرية فيه، بدل اعتصامات ومظاهرات يبحث فيها عن صك تبرئة من الغرب، وإعادة لحمة ساذجة مع الأطراف الأخرى في مجتمعه، ومشاركة إعلامية تافهة تضعه على سكة الضمير العالمي المستنكر للإرهاب ضد الأبرياء؛ فيما هو نفسه متخلف عن هذا الضمير في عشرات المواضيع ويمارس إرهابه الخاص في ميادينه المغلقة. وليشرع هذا الشرق في نقاش فكري ونقد تفكيكي لذاته أولاً وحول الآخر ووجوده وحرية معتقده وحياته وممارساته ثانياً. فالزمن الذي كان فيه التعامل مع “الآخر” لا يتم سوى بتحييده أو تغييره أو احتلاله أو قتله قد مضى ليصبح الآخر هو الذات التي قد تتخذ أشكالاً غير متناهية من التعدد والتميز، ليس بإمكانها التقليل من قيمة أي ذات أو تهديد أي من معتقداتها مهما كانت تلك الأشكال مهينة وسطحية أو عميقة وثابتة. فلتظهر مواد ومنشورات ورسومات ومقالات رائف أو شارلي إيبدو أو أي كان إلى الملأ مهما كانت سخيفة أو مبتذلة أو صفراء، لا لشيء سوى أن هنالك كم هائل من السخف والابتذال والاصفرار في شتى المواضيع وعلى صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي والتلفزيون، فلماذا لا يهين “رقينا الفكري” أو“عقيدتنا القويمة” سوى الدين ومواضيعه الإشكالية؟ ولنترك الجمهور يقرر صلاح هذه المواضيع من عدمها باستقلالية وهدوء.
ولكن طالما أن الشعور الديني يأخذ الطابع الجمعي الانفعالي بدل الطابع الذاتي الخاص، فستبقى حرية التعبير عن الآراء مهددة من قبل الدهماء التي تستثيرها القضايا العاطفية الرخيصة، خاصة عندما يرافقها حالات مكثفة من الشحن الإعلامي – غير البريء – وضغوط اقتصادية واجتماعية هائلة؛ فيأتي الانفجار بسبب رسم كاريكاتوري (غالباً لم يره أي من الحشد الغوغائي) ليس دفاعاً عن الإيمان الصالح بقدر ماهو تنفيس لغضب متولد ومتراكم داخل النفوس. فلماذا قد يشعر المؤمن الحق من أتباع أي من الأديان بالإهانة أو التهديد في حال تم التعرض لأي من رموزه المقدسة؟ ألا يفترض بذلك الشخص، في حال كان مؤمناً بالفعل بقوة وثبات ذلك الرمز، أن يسخر بنفسه من محاولات إهانة ذلك الرمز القوي بل قد يشعر بالشفقة حيال من يقوم بتشويه ذلك الرمز أو الإساءة له؟ أوليس من الأجدى له أن يسعى لعيشه وأمانه؟ أما في حال كان إيمان ذلك الشخص فوق كل اعتبار – بشكل يخالف أي منطق عقلاني – وهشاً لدرجة الشعور بأن معتقده مهدد بمجرد كاريكاتور، فلا بد من وجود قوانين تضبط ردة فعله. وهذه القوانين لا يمكن لها بأي حال أن تكون قروسطية وأن تعتبر أن الكفر أو الإلحاد يشكلان “جريمة” تستحق العقاب. فكما أبرز براين ويتكر في واحدة من مقالاته “التعامل مع الكفر على الطريقة السعودية” أن استنكار السعودية لحادثة شارلي إيبدو واعتبارها عملاً إرهابياً جباناً فيما كانت تنفذ حكم السجن والجلد ضد رائف البدوي إنما يأتي بالدرجة الأولى بسبب الإشكالية الإجرائية وليس بسبب النتيجة النهائية. فالكافر تجب معاقبته بالموت، ولكن العقاب يأخذ طريقه عبر محاكمة شرعية يترأسها قاض شرعي ويصدر أحكامه بحسب الشريعة، ولا يجب أن يتم تنفيذه من قبل أي كان. ولكن، وعبر التاريخ، من بالفعل التفت إلى الإجراءات وأهميتها؟ فلطالما سعينا إلى النتيجة أولاً ولنناقش فذلكة الإجراءات وصحتها فيما بعد.
وهكذا فإن رائف البدوي وصحافيي شارلي إيبدو وجيلاندس بوستن، ومعهم فرج فودة وسلمان رشدي ونصر حامد أبو زيد وابتهال يونس وطه حسين وقاسم أمين وأي فنان أو مفكر آخر، ونحن جميعنا الذين لا زلنا نخشى ما نكتب من مقالات أو تغريدات أو مدونات، جميعنا ضحايا ثقافة إقصائية بامتياز آن لها، لا أن تنتهي فهذا لا يزال أبعد من أحلامنا، بل على الأقل أن تقبل حوار الرأي المختلف بالكلمات بدل إسكاته بالرصاصات.