العمل الدعوي والحركي وخطورة توسيد الأمر لغير أهله
أحمد التلاوي
عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة “رَضِيَ اللهُ عنه، أنه بينما الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”، في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابيٌّ، فسأله: متى الساعة؟، فمضى النبي “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”، يحدِّث، فقال بعض القوم: سمع ما قال، فَكَرِهَ ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع.
فلما انتهى الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”، من حديثه مع القوم؛ قال: “أين- أُرَاهُ- السائل عن الساعة؟”. قال: ها أنا يا رسول الله. قال “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”: “فإذا ضُيِّعَتْ الأمانة فانتظر الساعة”. قال: كيف إضاعتها؟. قال “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”: “إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة” [أخرجه البخاري].
يأخذ الكثيرون هذه العبارة على المعنى القريب المباشر للأمانة، والمتعلق بحقوق الآخرين، مثل أمانات الأموال وكذا، إزاء الإنسان المسلم، ولكن لو كان الأمر يقتصر على ذلك، ما كان الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” قد أكد على خطورة مسألة تضييع الأمانة، واعتبارها أحد علامات قرب الساعة.
فهذه العبارة، بجانب ما أراده منها الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”؛ بها قانون عمراني شديد الأهمية، ويتعلق بصلاح أو خراب المجتمعات الإنسانية، وتزداد أهميتها لدى المجتمعات المسلمة، والطليعة القائدة فيها، سياسيًّا ودعويًّا.
فلو تمعنَّا في حديث الصادق المصدوق “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”؛ سنفهم أيضًا أنه يشير إلى قانون مهم للعمران البشري؛ أن إسناد الأمر لغير أهله؛ يعني الخراب والدمار لذلك المجتمع الذي يقع فيه ذلك.
ويعود ذلك، إلى عِظَم مسألة تضييع الأمانة، فالأمانة معناها أكبر من مجرد الحفاظ على وديعة تركها شخص لدى شخص آخر؛ فكل أمر أوكل للإنسان أمانة، بدءًا من ودائع الآخرين، وأموالهم، وصولاً إلى الأمور الأهم في حياة الأمة، وعلى رأسها أمانة الحكم، وأمانة الدعوة.
ففي هذا الإطار، ترتبط الأمانة ارتباطًا وثيقًا بقضية الأمن المجتمعي، فعندما لا يطمئن الإنسان إلى حقوقه؛ تسود الفوضى، ويصبح الأمر لا ضابط له ولا رابط.
ولو أردنا تحرير المفهوم الذي نتناوله في هذا الإطار؛ فالأمانة لغةً ضد الخيانة، وأصل الأَمْن، طمأنينة النفس وزوال الخوف.
والأمانة مصدر “أَمِن” بكسر الميم، أَمِنَ أمانةً فهو أمين، ثم استعمل المصدر في الأعيان مجازًا، فقيل الوديعة أمانة ونحوه، والجمع أمانات، فالأمانة اسم لما يُؤمَّن عليه الإنسان،
ومن بين أهم الأمانات في حياة المجتمعات المسلمة، هي أمانة الدعوة، فهي أم الأمانات، وهي أساس وجود الإنسان على وجه الأرض؛ حيث استخلف الله تعالى الإنسان لحمل أمانة رسالاته، وتطبيق شريعته، بل إنه عندما نقول مصطلح “الأمانة” على الإطلاق؛ فإنما نعني أمانة تبليغ تعاليم الله عز وجل للإنسانية كلها.. فيقول الله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)” [سُورة “الأحزاب”].
ويقول ابن عباس إنها الطاعة، وعرضها الله عز وجل على السماوات والأرض عليهم قبل أن يعرضها على آدم “عليه السَّلام”، فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟، قال: يا رب، وما فيها؟، قال: إن أحسنت جُزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم “عليه السَّلام”، فتحملها، فذلك قوله تعالى: “وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”.
وقال ابن عباس كذلك إنها الفرائض، وقال في هذه الآية، كما جاء في ابن كثير: “عُرضت (الأمانة) على آدم، فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذبتك. قال: قبلت، فما كان إلا قدر ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم، حتى أصاب الخطيئة”، ولذلك قال تعالى في الآية: “وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا”.
وقال آخرون، ومن بينهم قتادة ومالك، إن الأمانة هي الدين، أو الفرائض (كالصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة)، أو الحدود، وقال القرطبي في تفسير لهذه الآية، إن الأمانة “تعم جميع وظائف الدين”.
وكلها أقوال لا يوجد أي تعارُضٍ بينها، فكلها تقود إلى تكليفات الله عز وجل، وقبول أوامره ونواهيه، وتبليغ شريعته وتعاليمه إلى الآخرين، ويؤكد ذلك حديث الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”: “ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء” [أخرجه البخاري وآخرون].
إذن فالأمانة هي الدعوة بشكل أو بآخر، ومن ثَمَّ؛ فإنه من الأهمية بمكان العمل على تحرِّي صفات الأمانة والمسؤولية فيها أكثر من غيرها من الأمور.
ويدخل في ذلك شؤون الحكم، فالحاكم في ديار الإسلام، ودولة المسلمين، هو الإمام، ومن بين أهم مهامه تبليغ دعوة الله عز وجل إلى غير المسلمين، والحفاظ على إقامة الطاعات والفرائض، وتطبيق الحدود، ومنع الانحرافات عن منهج الله تعالى في المجتمع المسلم.
ومن ثَمَّ؛ ندرك عِظَم الأمانة في الإسلام، وبالتالي، ضرورة حسن الاختيار، وهي أمور تناولها القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة.
فيقول الله تعالى في محكم التنزيل، على لسان نبيه يوسف “عليه السَّلام”: “قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)” [سُورة “يوسُف”]، كما نقل عن ابنة الرجل الصالح الذي التقاه موسى “عليه السَّلام”، في مدين: “قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)” [سُورة “القَصَص”].
وفي الآيتَيْن، إشارات واضحة نَصِّيَّة لا لبس فيها، أن النهوض على الشأن العام يلزمه توافر شرط الأمانة فيما يقوم بذلك، واختار الله عز وجل في الآية الأولى كلمة “حَفِيظٌ”، وفي الثانية اختار كلمة “الْأَمِينُ”، للتعبير عن ذلك.
والأولى، من الحِفظ، والحِفظ لغةً، يعني صون الشيء من الضياع، وحمايته من التَّلَف، والثانية من الأمانة، وسبق شرح معناها لغةً واصطلاحًا.
كذلك هناك شرط القوة، وفي ذلك يحضر الموقف الشهير ما بين الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”، وبين الصحابي الجليل أبي ذرٍّ الغفاري “رَضِيَ اللهُ عنه”، عندما قال له: “يا رسول الله. ألا تستعملني؟. قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال “صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم”: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها” [أخرجه مسلم].
ولقد حرر علماء السلف الصالح، وعلماؤنا المعاصرون سمات الداعية الناجح، في هذا الإطار، على أهمية وقيمة ما يقوم به، مثل الحماسة والقوة في حمل الدعوة، والصبر والمثابرة، على مشقَّة الحِمل والمسؤولية، في مواجهة قوى التدافع والشر التي تتصدى إلى نور الإسلام.
وغير ذلك الكثير من السمات، ولكن من بين أهم هذه السمات، كما يقول الدكتور راتب النابلسي، تقديم الداعية للقدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان.
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84...