الصلابة الداخلية

د. عبد الكريم بكار

حين يحاول المرء صيانة ذاته وتطويرها، فإن من المهم أن يعرف الطبيعة الثقافية والحضارية للعصر الذي يعيش فيه، وهي طبيعة مختلفة عن طبائع كل 

العصور الماضية، وليس في هذا الكلام أي نوع من المبالغة، في الماضي كان الناس في بلدانهم وأماكنهم المختلفة يعيشون وفق معطيات عقدية وثقافية محلية وموروثة، ولهذا فإنهم كانوا يكيِّفون كل شيء في حياتهم وفق تلك المعطيات، ومنها سلوكاتهم ومواقفهم المختلفة.

أما اليوم فإن على معظم الناس أن يتكيفوا مع أفكار ومفاهيم ومعتقدات قادمة من قارات أخرى، أو من أماكن بعيدة داخل قارتهم، وهذا يعني أن علينا أن نتوقع دائمًا أن نواجه ما يصدمنا، أو يشكّل امتحانًا حقيقيًا لنا؛ وعلى سبيل المثال فإن المواد الثقافية الواردة من الغرب مثل الأفلام والبرامج التلفازية والقصص والروايات والكتب والمجلات والدوريات الفكرية والسياسية…. تنشر أفكار ومفاهيم (ما بعد الحداثة) والتي تعني في جملة ما تعنيه تشجيع الانفلات العام من أي أصول أو ثوابت أو كليات أو مرجعيات، والتنظير للفكر السائل والنسبي، فالتطور في كل شيء ودون حدود، هو شرعة الحياة.

كما أن فكر عصر (ما بعد الحداثة) يجنح إلى (التفكيك) فلكل مجال قيمه الخاصة به، ولا مجال للقيم العامة، وعلى سبيل المثال فإن (عالم الاقتصاد) يحكم بقيم من داخله، وهي القيم التي تؤدي إلى نموه وتعامل الناس فيه مع بعضهم على نحو لا يثير الكثير من النزاع، أما قيم الحلال والحرام وما يتصل بالربا والجشع والعقود الفاسدة وكل ما شاكل ذلك، فهي قيم وافدة من مجال المعتقدات الغيبية، ولهذا فإنها غير ذات قيمة.

وفي مجال الجمال وإظهاره وتوظيفه والاستمتاع به… لا معنى لقيمة (الستر) والاحتشام لأنها ورادة من مجال آخر، على حين أن الإسلام يعلمنا على أن الستر يشكل أولوية أو إطارًا للجمال فالمرأة المسلمة تتزين في إطار الستر وعدم إثارة الآخرين، ولا أريد أن أستطرد في شرح مفردات عصر (ما بعد الحداثة) واستعراض التحديات التي تسببها لنا، لكن أقول: إن المسلم لم يمر في تاريخه الطويل بظروف وأوضاع ثقافية تستدعي منه اليقظة الفكرية والشعورية.. كالظروف والأوضاع التي يمرّ بها اليوم، وهو يحتاج إلى درجة عالية من اليقين بصواب منهجه ودرجة عالية من الصلابة في التمسك بقيمه ومبادئه الإسلامية، وهذه الصلابة تتوفر له من خلال الآتي:

1- التصميم والعزم الأكيد على ألا يقبل أي نوع من المساومة على مبادئه، ولاسيما في مجال المال والأعمال، حيث إن عصر ما بعد الحداثة هو عصر محو المحرمات والمقدسات، والمستفيدون للعولمة يروجون لذلك بغية تجريد الناس من أي قيم يمكن أن تمنحهم التأبي والتمنع في وجه زيادة الأرباح وزيادة الاستهلاك والحراك المالي والاقتصادي عامة.

الإنسان لم يكن إنسانًا بمكوناته الجسمية أو بصورته، وإنما بروحه ووجدانه وخُلُقه، ومن ثم فإنه لا يعادل خسارة المرء لنفسه شيءٌ سوى خسرانه للمبادئ التي يؤمن بها، وإن الذي يبيع دينه، ويعمل ضد عقيدته ورؤاه وقيمه، لا يصح أن يقال فيه: إنه حقق أي مكاسب أو نجاحات، يمكن أن يغبط عليها.

“الصلابة الداخلية تعني كذلك أن يتخذ المسلم من مبادئه ملهمًا له ومحرِّكًا على مسرح الحياة وفي شأنه كله، كما يتخذ منها مرشدًا وموجهًا، فهو يُقْدِم ويبذل ويضحي في هدي تلك المبادئ”

وحتى لا يدخل في اختبار أي مساومة، فإن عليه أن يبتعد عن المجالات والمواقف المشبوهة، والمناطق الرمادية التي يختلط فيها الخير بالشر والحق بالباطل، كما ورد من قوله –صلى الله عليه وسلم-: “فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه” (متفق عليه).

2- الصلابة الداخلية تعني كذلك أن يتخذ المسلم من مبادئه ملهمًا له ومحرِّكًا على مسرح الحياة وفي شأنه كله، كما يتخذ منها مرشدًا وموجهًا، فهو يُقْدِم ويبذل ويضحي في هدي تلك المبادئ، وهو كذلك يحجم ويتأبي ويقاوم في ضوئها وبحسب مدلولاتها، والحقيقة أنه لا يعادل صفاء العقيدة سوى صياغتها لسلوك صاحبها.

إن المبادئ تظل هشة وغائمة واحتمالية ما لم تُدعَّم بالمواقف الصلبة، والحاجة إلى هذا شديدة اليوم لأن كثيرًا من المسلمين صار يعاني من ازدواجية بغيضة في أعماق شخصيته، فهو يعتقد أن الصواب في كذا وكذا، لكن تطلعاته وطموحاته ومساعيه تمضي في سياق مضاد! حين يتقاعس الناس عن المبادرة نحو أنواع من الخير، فإن المبادئ تستحث صاحبها على أن ينطلق ولو كان وحده، وحين يتدافع الناس في اتجاه الاستحواذ على شيء من متاع الدنيا، فإن المبادئ تدفع بصاحبها نحو الانشغال بشيء مختلف؛ فالمبادئ تلهم وترشد وتحفِّز، وتكبح… إنها فعلاً نظارة يرى المرء من ورائها الوجود، وقوة تحركه في تحقيق ما يراه!

3- رجل المبادئ يبرهن على تمسكه بمبادئه من خلال تمحوره حولها، واعتزازه بها، على حين أن الذين لا تشكل المبادئ بالنسبة إليهم أكثر من تكميل شكلي أو ظاهري (ديكور) يذهبون في التمحور مذاهب شتى، فهذا يتمحور حول المنصب الذي احتلَّه، وذاك يتمحور حول الأسرة التي ينتسب إليها، وآخر يتمحور حول الثروة التي جمعها… إنهم جميعًا يعتزون بأشياء صنعها غيرهم أو أشياء يستعملونها بأيديهم… أما الذين يتمحورون حول مبادئهم فإن مصدر اعتزازهم هو تلك الأشياء العظيمة التي صنعوها لأنفسهم في أنفسهم! إن الحياة لا تكون ثرية وسعيدة وقيِّمة إلا إذا كان في قلوب الذين يحيونها معان ورمزيات يُضحّى بالحياة نفسها من أجلها، وهذا هو الدرس البليغ الذي يلقيه علينا الشهيد.

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%A9-...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك