مخاطر انحراف القضاة عن إقامة العدل.. دروس من الربيع العربي!
أحمد التلاوي
من بين الأمور الغائبة عن مدركات وفهم الكثيرين من أبناء الحركة الإسلامية، والكثير من العامة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، الأهمية الكبرى لوظيفة القضاء؛ حيث ينظر الكثيرون إلى وظيفة القضاء والقضاة، باعتبار الصورة القريبة للذهن؛ حيث يحكم القاضي في خصومات الناس، ودعاواهم إزاء بعضهم البعض، وحالة أمام حالة، من دون النظر نظرة أكثر شمولية لطبيعة هذه الوظيفة.
يُعتبر القضاء أحد أهم أركان الاستقرار المجتمعي، وتحقق هذه الوظيفة العدل بين الناس، بما يضمن قبول وتراضي المجتمع إزاء بعضه البعض، ويكون ذلك رهنًا بشرط شديد الأهمية، وهو ثقة الناس والمجتمع في أن القضاء وقضاة المنصة يقيمون العدل، فهنا سوف يتأسس شكلٌ من أشكال القبول المجتمعي إزاء أحكام القضاء في مظالمهم.
أما لو حدث وفقد الناس الثقة في المؤسسة وأحكامها؛ فإن الكثير من الأزمات المجتمعية سوف تنشأ، بسبب عدم التزام أفراد الشعب بأحكام القضاء في مظالمهم وقضاياهم.
ومع اتساع رقعة عدم العدل، وإحساس الناس بالظلم؛ فإن رقعة الخلافات سوف تزداد، وبالتالي المشاحنات بين الناس، والتي قد تصل إلى درجة القصاص باليد في جرائم الدم والشرف، وغيرها من الحقوق التي تمس حياة الناس، وبالتالي يهتز الاستقرار المجتمعي.
“إذا فقد الناس الثقة في المؤسسة القضائية وأحكامها، فإن الكثير من الأزمات المجتمعية سوف تنشأ، بسبب عدم التزام أفراد الشعب بأحكام القضاء في مظالمهم وقضاياهم.”
وعلى أهمية وظيفة العدل؛ خصها الله تعالى باسم من أسمائه، وصفة من صفاته عز وجل، وأكد عليها في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ومن بينها آية “النساء” التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (134)}.
فهذه الأية تؤكد على عدد من الأمور التأسيسية في وظيفة القضاء ومن يقوم بها بين الناس، وعلى رأسها، العدل، والتجرد والموضوعية، مع نهي عن اتباع الهوى، وتحذير من رب العزة سبحانه من نفسه، لهؤلاء الذين يخالفون هذه السُّنَن.
والقضاء وظيفة خطيرة، أدرك الأولون خطرها وتأثيرها السياسي والمجتمعي العميق، ولذلك كان للقضاء العدول في التاريخ الإسلامي، مكانةً مهيبة، توازي مكانة علماء الدين، بل كان العلم شرطًا مهمًّا لتولي وظيفة القضاء في الإسلام؛ لضمان أكثر من أمر، أولها أن يكونوا على إدراك كامل بأهمية هذه الوظيفة، وفق النظرة الشرعية لها، وأن يكونوا على إدراك كامل- أيضًا- بمتطلبات القيام بهذه الوظيفة.
ومن بين أبرز الأسماء التي يتذكرها التاريخ، لقضاة لعبوا بعدلهم وعدم خشيتهم في الحق لومة لائم، العز بن عبد السلام، وابن قدامة المقدسي، وابن دقيق العيد، وأسد بن الفرات.
هذه الشخصيات صنعت لنفسها تأثيرًا سياسيًّا ومجتمعيًّا عميقًا، بعلمها وعدلها، وثباتها في وجه طغيان السلطان، أو العدو الخارجي الذي طرق أبواب الأمة، كما في حالة العز بن عبد السلام وابن تيمية، وقت الغزو المغولي الهمجي للعالم الإسلامي، وهو ما جعل لها شعبية هائلة، كانت محل نظر وتقدير الحاكم، في أي زمان ظهرت فيه مثل هذه الشخصيات، على إدراكها لقيمة الحكم السليم، والرؤية الصائبة.
فتجاوزوا في حركتهم وتأثيرهم منصة القضاء، وحركوا المجتمعات العربية والإسلامية بأكملها، وكانت النتيجة باهرة؛ إما إسقاط طاغية، أو صد عدو غازٍ ذو جبروت وقوة.
وتزداد وطأة غياب العدل وتأثيره في الجانب السياسي والمجتمعي؛ لو كان تجاوز القانون، وغياب العدالة عن منصات القضاء، سياسة ممنهجة للدولة، وفي قضايا وأمور عامة في المجتمع، وتمس الدم وأرواح المواطنين وحقوقهم التي لا يمكن التصرُّف فيها.
وهي، ومن دون مبالغةً، واحدة من أهم القضايا التي تشغل بال الكثيرين في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي.
” البلدان العربية لا تعرف الحكم الرشيد، في أي جانب من جوانبه، ومن بينها الفصل الكامل والحقيقي بين السلطات، وبالتالي فإن السلطة القضائية، هي أحد أركان الأنظمة السياسية لإحكام سيطرتهاعلى السلطة والحكم والمجتمعات”
ولمناقشة ذلك؛ يجب التأكيد على حقيقة مهمة، وهي أن البلدان العربية لا تعرف الحكم الرشيد، في أي جانب من جوانبه، ومن بينها الفصل الكامل والحقيقي بين السلطات، وأن الحكم فيها لا يستند إلى نظام سياسي ودستوري سليم، وبالتالي فإن السلطة القضائية، ومؤسسة القضاء، هي أحد أركان الأنظمة السياسية لإحكام سيطرتها على السلطة والحكم، وعلى المجتمعات في آنٍ.
وبمعنىً آخر؛ فإن القضاء تحول في عصر الفساد والاستبداد الحاكم لعالمنا العربي والإسلامي، بعد تفكيك الجماعات الهدامة وقوى الاستعمار العالمي، لدولة الخلافة الإسلامية، إلى ركن ركين لما اصطلح على تسميته بالدولة العميقة، التي هي الحاكم الحقيقي في الكثير من الدول العربية والإسلامية.
ويعني هذا المصطلح ببساطة غير مُخلَّة، التراتبية الحقيقية للدولة، وتركيبة الحكم الحقيقية، بعيدًا عن الإطار الرسمي الذي يحدده الدستور والقانون، للدولة وسلطاتها ومؤسساتها، وتكون في الغالب مكونة من كبار مسؤولي الدولة السياسيين، ومن المسيطرين على المؤسسات الأمنية، بجانب أصحاب الثروات والنفوذ المجتمعي.
وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي؛ كانت ساحة القضاء إحدى أهم الساحات التي دارت معركة الحق والباطل على منصاتها.
فلقد كانت أول مطالب الجماهير في مصر وتونس وغيرها من بلدان الثورة في عالمنا العربي، هو محاكمة رموز الفساد والاستبداد من العهود البائدة، ومعاقبتهم على ما ارتكبوه من جرائم في حق الشعوب والأوطان.
في تلك المرحلة تدخلت الدولة العميقة وبقايا الأنظمة التي تمت الإطاحة بها، بأكثر من صورة، من بينها إخفاء أدلة إدانة هؤلاء، وإطالة أمد القضايا التي تنظرها منصات القضاء، وشغل الرأي العام بقضايا لا أهمية لها، حتى حان الحين.
وعندما وقعت الارتكاسات على الربيع العربي، وبدأت الدولة العميقة في التحرك لاستعادة مواقعها ومُلكها؛ كان القضاء أيضًا أحد أهم أدوات تضليل الشعوب، ومحاولة إقناع الرأي العام بموقف الانقلابيين، المعلَنين كما في مصر وليبيا، أو المستترين، كما في تونس واليمن.
ففي مصر، أقيمت قضايا ضد الإخوان المسلمين، وضد رموز إدارة الرئيس المنتخب محمد مرسي، وضد مرسي ذاته، وبات القضاء، مع الإعلام الحكومي والخاص الموالي، هو البوق الأساسي الذي يصب في آذان وعقول الناس، الصورة المشوشة المطلوب أن تنتقل إلى الرأي العام عن القوى الإصلاحية ورموزها التي تحمل راية التغيير والإصلاح الجدي للوطن.
وباتت الأحكام القضائية في هذه القضية أو تلك، تصدر بناءً على إرادة سياسية، ووفق ما يرى أصحاب الحكم والمُلك، وليس بناءً على اعتبارات العدالة، ووفق أحكام القانون.
هذه المشكلة زعزعت ثقة المواطنين في الكثير من المجتمعات العربية، في مؤسسة القضاء، وهو ما يهدد أحد أهم أركان الاستقرار المجتمعي، في مشكلة جديدة يتوجب على أصحاب الرأي والموقف في هذه المجتمعات البحث عن معالجة لها، تضمن ألا تنزلق مجتماعتنا إلى المزيد من الفوضى!
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D9%85%D8%AE%D8%A7%D8%B7%D8%B1-%D8%A7%D9%86...