الفيلسوف الرباني الإمام الشافعي
سلمان بن فهد العودة
المقـدمة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدي ماضي نعمه بأداءها نعمة حادثة يجب عليه شكره بها، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه، أحمده حمداً كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، واستهديه بهداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، واستغفره لما أزلفت وأخرت استغفار من يقر بعبوديته ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمداً عبده ورسوله.
بهذه الكلمات النيرة استفتح الإمام الشافعي المطلبي كتابه الخالد العظيم، كتاب الرسالة في أصول الفقه، صنعه في مكة، وذاع في بغداد، وأعيدت صياغته بمصر، قال عبد الرحمن بن مهدي: (والله ما صليت صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها).
فموضوعنا عن الفيلسوف الرباني محمد بن إدريس الشافعي.
ومن الطريف أن هذا العنوان ليس من بنات أفكاري، إنما هو من ثناء الإمام أحمد بن حنبل على الشافعي، فقد قال رحمه الله: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء :-
* فيلسوف في اللغة .
* فيلسوف في المعاني .
* فيلسوف في الفقه .
* فيلسوف في اختلاف الناس .
رواه البيهقي وابن عساكر في مناقب الشافعي .
ومن الظاهر أن الإمام لم يكن يقصد مجرد علم الشافعي بهذه المسائل بل ما وراء ذلك من عمق اللغة وإحاطة بالفقه.
ولا غرابة أن يكون الشافعي بذلك فيلسوفاً.
أما كونه ربانياً، فقد كان يقسم الليل أثلاثاً ثلث لطلب العلم، وثلث للصلاة والتهجد، وثلث للنوم.
وأكثر من هذا فإن الإمام أحمد قد رشح الشافعي لمنصب المجددية الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" أخرجه أبو داود (4291) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - فقال الإمام أحمد: نظرنا في رأس المئة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز ورأس الثانية الشافعي .
منذ سنين طويلة عقدت مجلساً عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله - ثم عقدت مجلساً آخر في الحديث عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله - وكان يدور في نفسي أن أعقد مجلساً يدور في الحديث عن الشافعي، وآخر في الحديث عن أبي حنيفة حتى يكتمل عقد الأئمة الأربعة المتبوعين. فإن هؤلاء الأئمة ـ الذين بقي لهم هذا الخلود والتميز في تاريخ الأمة ـ قمم شامخة حافلة بمواضع التأسي والقدوة، ولذا فإن تدارس سيرهم ذو أثر وفائدة كبيرة، ومن ثم جاء الحديث عن الفيلسوف الرباني سائلاً الله أن يغفر لنا ولهم ويرفع في درجات الجنان نزلهم "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك غفور رحيم".
السيرة الذاتية
الشافعي أول من كتب في سيرته الذاتية بعيداً عن الافتخار والادعاء الكاذب، يقول: أحق الناس بالقدر من عرف قدر نفسه. فوجدت له كلمات جميلة عن طفولته.
يقول الشافعي: ولدت بعسقلان - بلدة بفلسطين في قطاع غزة - ولما أتت عليّ سنة حملتني أمي إلى مكة.
وقد ولد الشافعي في العام الذي مات فيه أبو حنيفة، بل قال بعضهم: في اليوم الذي مات فيه أبو حنيفة. وقد ورد هذا بسند جيد، لكن قد يحمل اليوم على مطلق اليوم لا على اليوم المحدد.
وقال رحمه الله: كنت ألزم الرمي حتى تدربت عليه، فكنت أصيب من كل عشرة أسهم تسعة، وكنت يتيماً في حجر أمي ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم، فرضي المعلم مني أن أقوم على الصبيان فأخفف عنه في غيابه، وحفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت موطأ مالك وأنا ابن عشر.
ثم قال: أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ من أشعارها ولغاتها.
بعد ذلك استدعي الشافعي إلى بغداد سنة 184هـ وكان ذلك بناء على وشاية وصلت إلى هارون الرشيد عنه وعن جماعة من العلويين، فكان متهماً بالتآمر على الدولة العباسية، ضربت بين يديه تسع رقاب كان آخرهم شاباً من أهل المدينة قال للرشيد: لا أعود إلى ما كنت عليه. ثم توسل إليه أن يتركه حتى يراسل أمه في المدينة ولكنه لم يسعفه فقتله، ولما جاء دور الشافعي قال له: يا أمير المؤمنين أنا لست بطالبي ولا علوي وإنما أدخلت وسط هؤلاء القوم بغيا وظلماً وعدواناً، وإنما أنا رجل من بني عبد المطلب بن عبد مناف وعلى حظ من العلم والفقه والقاضي يعرف ذلك. وكان القاضي محمد بن الحسن الشيباني قاعداً بين يدي الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين نعم أنا أعرف ذلك وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع إليك من شأنه. فقال الرشيد: خذه حتى أبحث في أمره. فأخذه القاضي وكان هذا سبب خلاصه كما قال: لأمر أراده الله عز وجل. وكانت هذه الحادثة سبباً لبقاء الشافعي في بغداد لسنتين أو أكثر، وتتلمذ خلالها على محمد بن الحسن الشيباني، أما أبو يوسف فلم يلقه ولم يأخذ عنه، فقد مات أبو يوسف قبل أن يقدم الشافعي بغداد، فالرواية أنه قابله وناظره رواية مكذوبة موضوعة.
رجع الشافعي إلى الحجاز وصار بعد وفاة مالك أشهر المفتين فيه نحواً من تسع سنوات، ثم قدم بعد ذلك إلى بغداد والتقى بأحمد بن حنبل هناك، وكان قد التقى به والله أعلم قبل ذلك بمكة، وبعد سنتين رحل إلى مصر حيث كان يحبه واليها ومكث بها حتى توفي سنة 204هـ عن 54 سنة.
تخلل هذا العمر القصير رحلات عديدة إلى اليمن وقبائل العرب كلها، وكان حريصاً على جمع العلوم الفقه والطب واللغة والفراسة.
عقــله ولسـانه
إذا كان المرء بأصغريه عقله ولسانه فلقد كان الشافعي على أوج التمام في ذلك، كان حكيماً عاقلاً بعيد الغور شهد له بالعقل كثيرون، حتى قال أبو عبيدة: ما رأيت أحداً أعقل من الشافعي.
وكذا قال يونس بن عبد الأعلى، حتى إنه قال: لو جمعت له أمة لوسعهم عقله.
وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إن فاتك عقل هذا الفتى أخشى ألا تجد مثله.
وقال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة واختلفت معه ثم افترقنا فلقيني من الغد وأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
قال الذهبي تعليقاً على ذلك: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون.
وهذه إحدى المسائل التي استوقفتني في سيرة الشافعي، فإن قوله للرجل: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة. يدل فعلاً على فقه نفسه وسعة عقله ونبله، فإنه يدرك أن الناس لا يمكن أن يتفقوا في عقولهم ولا في مداركهم ولا في علمهم ولا في شخصياتهم فلا يمكن أن يتفقوا على كل شيء، وليس أمامهم إلا أحد طريقين؛ إما أن يختلفوا اختلافا بعيداً، وإما أن يضعوا لأنفسهم قواعد عامة يتفقون على جميعها ويقبلون الخلاف في جزيئاتها وفروعها.
متى يتأدب الصالحون بهذا الأدب؟
ومتى تتسع صدورهم لمن يخالفونهم، ويقدمون أصل الأخوة الإيمانية على طارئ الخلاف الفرعي؟
وهل يمكن أن يتفق الناس؟
وهل يسع من رأى شيئاً غير ما ترى أن يكتم دينه الذي يدين الله به من أجل خاطرك ؟
وهل يجوز له أن يعصي الله ورسوله ليطيعك ؟
وهل تريد منه ما لا تصنعه أنت لنفسك؟
فإنك لو كنت تعتقد أمراً من الأمور لم يكن لك ديناً ولا عقلاً ولا مروءة أن تجامل فيما تقول، أو تراه من أجل هذا أو ذاك فكيف تريد لهم أمراً لا ترضاه لنفسك؟
إن من عقل الشافعي رحمه الله أن يؤصل هذه القاعدة في فقه الخلاف بين المسلمين.
ومن عقله أيضاً قوله: نظرت إلى العقل فوجدت له حداً ينتهي إليه، كما أن للبصر حداً ينتهي إليه.
فهو رحمه الله يدرك أن العقل الفطري المركب في الإنسان هو آلة للفهم والإدراك والنظر، كما أن البصر آلة للرؤية والإدراك ، وكما أن البصر له حد ينتهي إليه كبعد المسافة والحدود والجدران وغير ذلك فإن العقل كذلك له حد ينتهي إليه، فإن العقل إذا وضع في غير محله فسد.
وإلى جوار سعة عقله رحمه الله فقد كان فصيحاً متمكنا من ناصية اللغة مشهوداً له، حتى عدَّ العلماء قول الشافعي ونطقه حجة في اللغة العربية، وشهد له بذلك الأئمة الفحول كثعلب والمبرد، وأبي منصور الأزهري وابن هشام، بل قال الجاحظ المعتزلي: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم فلم أر أحسن تأليفاً من الشافعي المطلبي كأنه ينظم الدرر.
يقول يونس بن عبد الأعلى: ما كان الشافعي إلا ساحراً، ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله كأن ألفاظه سكر، كان قد أوتي عذوبة منطق وحسن بلاغة وفرط ذكاء وسيلان ذهن وكمال فصاحة وحضور حجة.
قيل للشافعي رحمه الله: كيف شهوتك للأدب؟ قال: أسمع الحرف منه مما لم أسمعه من قبل فتشدني أعضائي كلها كأن لكل عضو منها أذناً تسمع فتلتذ بذلك كما تلتذ الأذن. قيل: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على المال. قيل: كيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضيعة ولدها ليس لها غيره.
إذن لقد جمع الشافعي فقهاً وعقلاً وأدباً وحكمة، وجمع إلى ذلك فصاحة وبلاغة، وهذا يحدونا إلى أن ننظر فواصل من قوله، أذكر بعض ما كان يقول رحمه الله:
ليس بعد أداء الفرائض شيء أفضل من طلب العلم. قيل له: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله .
ونقل عنه ابن عيينة أنه قال: لم يعط أحد في الدنيا أفضل من النبوة، ولم يعط لأحد بعد النبوة أفضل من طلب العلم - وكأنه يشير بذلك إلى أن طلب العلم سبيل إلى معرفة ما جاء به الأنبياء عليهم السلام - ولم يعط أحد في الآخرة أفضل من الرحمة.
قال الربيع بن سليمان عن الشافعي: المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن.
لقد كان الشافعي كارهاً للمراء والجدل الذي كثيراً ما يثور بين طلبة العلم، فيختلفون في مسائل فيتناظرون ويتجادلون ويصبح هم كل منهم أن يظهر بالحجة وأن ينتصر على غيره، وقد يتكثر في المجالس بهذه الأغلوطات والمسائل التي لا ثمرة من ورائها، ولذلك قال رحمه الله: من إذلال العلم أن تناظر كل من ناظرك وتقاول كل من قاولك. فإن كثيراً من المسائل ينبغي لطالب العلم أن يكرم نفسه ويصونها عن الخوض فيها.
قال أبو ثور: قلت للشافعي: ضع كتاباً في الإرجاء. قال: دع عنك هذا. وكأنه ذم الكلام؛ لأنه شعر أن هذه المسائل ليست المراد بها العلم المقرب إلى الله تعالى.
ومع ذلك فقد نقل الربيع عنه قوله: لو أردت أن أكتب عن كل مخالف كتاباً لفعلت، ولكن ليس الكلام من شأني، ولا أحب أن ينسب إليّ منه شيء.
يقول الذهبي: وهذا النفس الزكي متواتر عن الإمام الشافعي.
ومع ذلك فقد كان الشافعي يناظر للمصلحة بكلمات معدودة ولكنه فصل في المقال .
جاء رجل للشافعي فقال: ما تقول في الإيمان؟ فنظر الشافعي في وجهه فعرف أن الرجل صاحب جدل، فقال: ما تقول أنت؟ قال: أقول: الإيمان في القلب فحسب. قال: وما دليلك؟ قال: إن الله تعالى قال: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" قال: والواو تدل على التفريق وأنهما شيئان. فقال: فأنت ترى أن الواو تدل على التفريق؟ فقال الرجل: نعم. قال: فأنت إذن تعبد إلهين؛ لأن الله يقول: "رب المشرقين ورب المغربين". فنكص الرجل ورجع عن قوله .
من أقواله رحمه الله.
يقول: ما ناظرت أحداً على الغلبة، ما ناظرته إلا على حق عندي، ما ناظرته إلا على النصيحة.
فمن يستطيع أن يبلغ هذا المستوى؟ وهذا يذكرنا بما نسب إليه من قوله: وددت لو أن الخلق تعلموا هذا العلم، وأنه لم ينسب إليّ منه حرف واحد.
إنه يدرك طبيعة النفس البشرية وحظ الإنسان من نفسه، وأن كثيراً من الناس يتفاخرون بالعلم كما يتفاخرون بالدنيا وكما يتفاخرون بالمال .. بالغلبة خصوصاً في ميادين الصراع والجدل والقيل والقال، ويتكاثرون بالأتباع، ولذلك كان يجهر بهذه الكلمات لتبيين منهجه وطريقته ويربي عليها من حوله. ويقول أيضاً: ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه، وما ناظرت أحداً إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى.
هذا هو المستوى الرفيع الراقي الذي ينبغي أن نفاخر به إلى يوم القيامة، وأن نجعل هذا قدوة لنا أيضاً في أحاديثنا مع الناس وفي نشرنا للعلم وفي مناظرتنا لمن نختلف معه فلا ننفره وألا نحشره في زاوية، وألا نعتقد أن التضييق عليه هو الذي يقربه إلى الحق؛ لأن الهدف من المناظرة الدعوة وليس الانتصار، كما ذكر عن رجل كان يناظر داود الأصفهاني فلما ناظره في مسألة قال: إن كنت قلت: كذا. فإنك قد كفرت والحمد لله. قال: كيف تحمد الله على كفر مسلم؟ كان يسعك أن تقول: ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو إنا لله وإنا إليه راجعون. أما الحمد فإنه يدل على تجدد نعمة حصلت لك فهل تحمد الله على كفر مسلم؟
ولم يكن الشافعي يجزم بصواب رأيه مطلقاً، إنما كان يقول قولته المشهورة التي أصبحت دستوراً للمتناظرين من الناحية النظرية، وإن كانت من الناحية العملية أبعد ما تكون عن الواقع، كان يقول: قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.
هذه حكمة تاريخية يتغنى بها الكثيرون لفظا لكنهم يخالفونها فعلاً، فيرون قولهم صواباً لا يحتمل الخطأ ويرون قول غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب، وقد حدث للشافعي قصة طريفة وجميلة لها تعلق بهذا المقام .
جاء الإمام أحمد بمكة إلى حلقة سفيان بن عيينة فأشار إلى إسحاق بن راهويه وكانوا يعدونه أمير المؤمنين في الحديث، فقال له: قم حتى أريك رجلاً ما رأت عيناك مثله. فأخذ بيده حتى جاءوا إلى مجلس الشافعي فجلسوا، وتحدثوا قليلاً، ثم قال إسحاق: هلم لنذهب إلى الرجل الذي لم تر عيناك مثله.
فقال أحمد: هذا هو الشافعي. فغضب إسحاق وقال لأحمد: أقمتنا من عند رجل يقول: قال الزهري. فما توهمت إلا أنك ستأتي بنا إلى رجل مثل الزهري أو قريبا منه، فإذا بك تأتي بنا إلى هذا الشاب! قال أحمد لإسحاق: اقتبس منه فما رأت عيناك مثله. فجلس إسحاق يناظر الشافعي، فناظره في مسألة في دور مكة، وكان الشافعي ناظره في جلود الميتة، فكان الشافعي يستدل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسحاق يقول: قال فلان وفلان. فقال الشافعي رحمه الله: ما أحقك أن تكون في غير هذا المكان أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول لي: قال فلان وفلان. فنظر إسحاق إلى الذين معه ورطن لهم بلغته التي لا يعلمها الشافعي، وقال كلمة معناها: هذا إنسان متعالم، فعرف الشافعي أن الكلام فيه ما فيه ولكنه أعرض عنه، ولمَّا تأمل إسحاق كلام الشافعي ندم أشدَّ الندم وقال: لما تدبرت ما قال الشافعي علمت أنه قد علم ما غاب عنا، واحيائي من محمد بن إدريس، ورجع إسحاق إلى مذهب الشافعي.
لقد كان التعصب للأقوال هو أكبر الأدلة عند من لا ينظرون في حجة المخالف بقدر ما يعبرون عن تعصبهم وتمسكهم بهذا القول الذي قرع أسماعهم وتشربته عقولهم، كما كان الانحياز إلى أحد الاتجاهات أو المذاهب هو ما يعنيه ويعول عليه الذي لا يتأمل في الأدلة.
أما الحياد فهو ربيبة العالم، فإن العالم لا يميل لشيء ولا يأخذ بشيء إلا بحجة وبرهان من الله عز وجل، ربما تكون هذه المسألة أو تلك عند غير العالم مقطوعاً بها لا تحتاج إلى نظر ولا تأمل، ولكنها عند العالم قد تكون خطأ أو تحتاج إلى نظر وتأمل أو على أحسن الأحوال هي صواب يحتمل الخطأ، لذلك يقول حرملة إن الشافعي كان يقول لهم: كل ما قلته لكم ولم تشهد به عقولكم أو تقبله فلا تقبلوه واضربوا به عُرض الحائط، فإن العقل مضطر لقبول الحق.
إن كثيراً من الطلبة إذا اختلفوا مع شخص تنقصوه وهجروه وربما تمنوا هلاكه، أو أن تنـزل به فضيحة في علمه أو دينه أو في دنياه، حتى يشمتوا به لفرط ما تشربت قلوبهم من ذلك .
وهذا من سوء الرأي وضيق الأفق وقلة الدين ، وقد بلغ الشافعي رحمه الله أن رجلاً كان يدعو عليه في سجوده يقول: اللهم أمت الشافعي حتى لا يذهب علم مالك رحمه الله.
لأن الشافعي خالف مالكاً في مسائل، وكتب بذلك كتاباً فقال الشافعي رحمه الله :
تمنى رجـال أن أموت وإن أمـت |
|
فتلك سبيل لست فيها بأوحد |
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى |
|
تهيأ لأخرى مثلها فكـأن قد |
وقد علموا لو ينفع العلـم عندهم |
|
لإن مت ما الداعي علي بمخلدِ |
ويقول الشافعي رحمه الله: ما ضحك أحد من خطأ رجل إلا ثبت صوابه في قلبه.
لقد لاحظت أن الشافعي رحمه الله كان عالماً خبيراًَ في النفوس متجرداً لله عز وجل، فهو يشير إلى الطرق والوسائل التي من شأنها أن تجعل الآخر يقبل الحق كما يشير إلى الأسباب التي تجعلهم يرفضون الحق وينصرفون عنه يقول: إذا ضحكت من خطأ رجل ثبت صوابه في قلبه، يعني شعر بأنك سخرت منه وازدريته وتنقصته فصار عنده في داخله تمسك بهذا الشيء الذي قاله وإصرار عليه، وثبت صوابه في قلبه، لقد كان الشافعي خبيراً في أدواء النفوس عليماً في كثير مساربها ومسالكها، وكان يسلك ذلك لدعوة الناس وإيصال العلم إليهم .
إن روح الحوار الموضوعي الرزين الذي يستهدف الوصول إلى الحق وليس الانتصار للنفس يحتاج إلى ترسيخ وتدعيم، وهذه قيمنا الأصولية في الحوار تبرز لنا على يدي رجل من أئمة الفكر الإسلامي الأصيل ، فهو يرسخ بقوله وبفعله قبل أن يكون الحوار لغة عالمية تطرح اليوم في المجامع العالمية، ونحتاجها نحن المسلمين أكثر مما يحتاجها غيرنا؛ فنحن لا نملك القوة لكننا نملك الحق. والحق إنما يظهر من خلال الحوار باللغة الهادئة، والأسلوب الجيد، والحجة التي تقرع أسماع الناس، فإذا فقدنا الحوار وفقدنا القوة فماذا بقي لنا؟
إنني أقترح بجد على المدارس والمؤسسات العلمية والثقافية والمراكز التربوية أن تحرص على تدريب شبابنا على لغة الحوار وأسلوبه وأدب المناظرة وكيفية فهم الآخرين والرد عليهم، وإعداد كتب وأشرطة ووسائل تعليمية في ذلك؛ فقد تحول الحوار إلى صراخ وضجيج وصخب ونوع من السباب والمشاتمة، ولو كانت هذه هي لغة الحوار وهي الحجة لكان الجهال أولى بها من العلماء.
إن ذلك نوع من التردي الأخلاقي والسلوكي والعلمي، يحتاج إلى استدراك من المربين والعلماء والمخلصين والدعاة والمهتمين بأمر هذه الأمة .
وهنا كلمة لابن الجوزي لا بد من الإشارة إليها حول موضوع الحوار والخلاف بين الفقهاء وطلبة العلم، يقول: رأيت جماعة من المنتسبين إلى العلم يعملون عمل العوام، فإذا صلى الحنبلي في مسجد شافعي (يعني صلى إماماً) ولم يجهر بالبسملة غضب الشافعية عليه، وإذا صلى شافعي في مسجد حنبلي وجهر غضبت الحنابلة عليه، وهذه مسألة اجتهادية والعصبية فيها مجرد هوى يمنع منه العلم .
قال أبو الوفاء ابن عقيل: رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العدل، ولا أقول العوام بل العلماء. ويقول: كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيام ابن يوسف فكانوا يتسلطون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع؛ حتى لا يمكنوهم من الجهر والقنوت وهي مسألة اجتهادية، قال: فلما جاءت أيام النظام ومات ابن يوسف، وزالت شوكة الحنابلة استطال أصحاب الشافعي على الحنابلة استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوا عليهم بالسجن وآذوا العوام بالسعايات، وآذوا الفقهاء بالنبذ، فكانوا يعيرون الحنابلة بذلك؛ لأنهم كانوا يثبتون الأسماء والصفات.
قال: فتدبرت أمر فريقين فإذا بهم لم تعمل بهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد يصولون أيام دولتهم ويلزمون المساجد أيام بطالتهم؟
وهذا الكلام يذكرني بمقولة مشهورة، تقول: الأخلاق الجيدة إنما تظهر في أوقات القوة. يعني كل إنسان إذا ضعف أي إذا افتقر مثلا من الدنيا تظاهر بالزهد وتظاهر بالإعراض عن الدنيا، وإنما هو زهد من حاول جهده أن يصل إليها فأبت عليه، وإنما إذا كان الإنسان كريما وتخلى عن الدنيا كما قيل: ليس الزاهد فلان وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فأعرض عنها.
فواصل في سلوك الإمام الشافعي
بعدما ذكرنا فواصل أقواله فإن هناك من ينظر للخلق الفاضل الجميل أحسن نظر، ويتكلم عنه كأطيب ما يكون الكلام، ولكنه يخفق على المحك العملي وربما لأول وهله، ولهذا كان جميلاً أن تظفر بمواقف شخصية من الإمام الشافعي تدل على أخذه نفسه بما يقتضيه العلم من الخلق الكريم.
سأله رجل من أهل العراق فقال: ما تقول في أبي حنيفة؟ قال: سيدهم. قال: ما تقول في أبي يوسف؟ قال: أتبعهم للحديث. قال: ما تقول في محمد بن الحسن؟ قال: أكثرهم تفريعاً. قال: ما تقول في زفر؟ قال: أحدُّهم قياساً.
لقد أعطى الإمام الشافعي كل ذي حق حقه، ولم يمنعه الخلاف مع بعض الأئمة أن يثني عليهم بخير وقد كان يختلف معهم، نعم أخذ عن محمد بن الحسن ومع ذلك كتب كتاباً يتبع فيه اختيارات محمد بن الحسن ويرد عليه بالحديث الشريف.
كما قال ولد الشافعي: ما سمعت أبي يناظر أحداً فيرفع صوته قط. لأن الصراخ والصياح هو بداية إعلان الفشل والإخفاق، قال المزني - وهو من تلاميذ الشافعي يوماً - أمامه: قال فلان من الرواة كذاب. قال له الشافعي: اكس ألفاظك. لا تقل فلان كذاب. قل حديثه ليس بشيء. والنتيجة واحدة.
خرج الإمام الشافعي يوماً إلى السوق فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم ويعيره ويتكلم فيه، فالتفت الشافعي إلى التلاميذ وقال لهم: نزهوا أسماعكم عن الخنا كما تنـزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه، ويحرص أن يفرغه في أوعيتكم.
فسامعُ الشرِّ شريكٌ لهُ |
|
ومطعمُ المأكولِ كالآكلِ |
مقالة ُ السوءِ إلى أهلها |
|
أسرعُ منْ منحدرٍ سائلِ |
ومنْ دعا النَّاس إلى ذمِّهِ |
|
ذمُّوهُ بالحقَّ وبالباطــلِ |
يقول الربيع : دخلت يوما على الشافعي فقلت له: كيف أصبحت؟ وكان الشافعي كثير الأمراض، قال: أصبحت ضعيفا. قال : قلت له: قوَّى الله ضعفك. قال: يا ربيع أجاب الله قلبك ولا أجاب الله لسانك؛ إن قوى الله ضعفي عليّ قتلني، ولكن قل: قواك الله على ضعفك. قال له: الربيع والله يا إمام ما أردت إلا الخير . قال: أجل يا بني إني أعلم. في هذا إشارة إلى أن كلام الناس لا يؤخذ بألفاظه وإنما يؤخذ بمعانيه ومقاصده ومراداته .
يقول الربيع أيضاً: قرأت كتاب الرسالة على الإمام الشافعي - والربيع هو الذي روى هذا الكتاب - ثلاثين مرة فما من مرة إلا وكان الشافعي يصححه ثم قال في المرة الأخيرة؛ أبى الله تعالى أن يكون كتاب صحيح إلا كتابه.
إن الشافعي رحمه الله رد على مالك ورد على محمد بن الحسن وغيرهم، وكان في مذهبه الجديد والقديم. فإن الشافعي صحح الرسالة بمكة ثم صححها في العراق، ثم انتقلت إلى مصر وصاغها الصياغة الأخيرة، ولا يعرف بين الناس إلا كتاب الرسالة الذي صاغه في مصر وهكذا فإن الأقوال والاجتهادات محل مراجعة ومناقشة ونظر وتصحيح.
مروءات الشافعي ومكارمه
كان الشافعي من أهل المروءة والكرم، ومما يدل على ذلك أقواله: قال: من أحب أن يقضى له بالحسنى فليحسن الظن بالناس. وقال: للمروءة أربعة أركان؛ حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك. وقال: الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والابتعاد عنهم مكسب للعداوة فكن بين ذلك. وقال: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد. وقال: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته وقال: لا تبذل وجهك لمن يهون عليه رده.
وقال رجل للشافعي: انصحني. فقال له: إن الله تعالى خلقك حراً فكن كما خلقك الله.
وهذه المواضع الجيدة التي تبين بها أن الفقهاء المتقدمين كانوا يستخدمون كلمة الحرية بمعنى آخر غير الحرية من الرق.
وقال أيضاً: الحرية هي الكرم والتقوى، فإذا اجتمعتا في شخص فهو حر. وقال: الفتوة هي حلية الأحرار. ويقصد بالفتوة معاني من الكرم والشجاعة والنجدة كانت معروفة عند طلبة العلم والفتيان.
وقال أيضاً: لو أن رجلاً سُوِّيَ حتى صار مثل القِدْح لكان له في الناس من يعيبه ويعانده.
وكان رجلان يتعاتبان عند الشافعي رحمه الله فقال الشافعي لأحدهما: إنك لا تقدر أن ترضي الناس كلهم، فأصلح ما بينك وبين الله عز وجل، ثم لا تبالي ما وراء ذلك من الناس. وقال رحمه الله: صَاحَبْتُ الصوفيةَ عشر سنين، فما استفدت منهم إلا هذين الحرفين: الوقت سيف، ومن العصمة ألا تقدر .
لقد صاحب الشافعي الصوفية، وكان ينصحهم ويعلمهم ويؤدبهم كما ثبت عنه ذلك في سيرته .
كما أنه رحمه الله وإن كان ينتقد الصوفية، إلا أنه مع ذلك ذكر أنه استفاد منهم أن الوقت سيف، ومن العصمة أن لا تقدر، أي أن الإنسان يكون راغباً في شر ولكن الله سبحانه وتعالى لا يمكنه من ذلك. وكان يقول: الوقار في النـزهة سُخف. أي إذا ذهبت في نـزهة مع أسرتك أو أصحابك فمن السخف أن تكون متوقراً معهم، بل لا بد أن تطرح التوقر وتتبسط لهم.
أطرف تلاميذه ببعض الطرائف، فمنها أنه كان يقول: رأيت من عجائب الدنيا ثلاثة؛ رأيت رجلاً يكتب بشماله فيسبق الذين يكتبون بأيمانهم. ورأيت رجلاً سجنه القاضي في مدين من نوى. ورأيت رجلاً يدور على الجواري يعلمهن الغناء، فإذا جاء وقت الصلاة صلى جالساً.
وقال رحمه الله في مجلس آخر: إن رجلاً من أهل المدينة بعث غلاماً له متخلِّفاً وقال له: اشتر ليّ حبلاً طوله ثلاثون ذراعاً. فقال له ولده: طوله ثلاثون ذراع بعرض كم؟ قال له: بعرض مصيبتي فيك.
ومن أخلاق الشافعي أنه كريم حتى يقال: إنه تم إفلاسه ثلاث مرات على كثرة ما كان يأتيه من أموال، لأنه كان يصرفها على طلاب العلم والمحتاجين.
مكانتـه وآثاره العلـمية
كان العلماء في عصر الإمام الشافعي شديدي التعظيم له ، ومنهم الإمام أحمد. وقد عاتب يحيى بن معين الإمام أحمد في هذا التعظيم، حيث أخذ برأس بغلته وأكرمه وأنـزله وكان يناديه: يا أبا عبد الله، ويجله ويعظمه، فقال يحيى بن معين: إنك بالغت في تعظيم الشافعي! قال أحمد ليحيى: إن أردت الفقه فالزم ذيل البغلة.
كان بعض طلبة العلم في عصره منحرفين عنه لسبب أو لآخر، فاتهموه بأنه كان متشيعاً وحاشاه، ولم يكن الشافعي كذلك وإنما كان يحب أهل البيت وكلنا يحب أهل البيت، وله في ذلك قصيدته الشهيرة التي يقول فيها .
يا راكبا قف بالمحصب من منى |
|
واهتف بقاعد خيفنا والناهض |
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى |
|
فيضاً كملتطم الفرات الفائض |
إن كان رفضاً حب آل محمد |
|
فليشـهد الثقلان أني رافضي |
فقيل للإمام أحمد رحمه الله: إن هناك من يتهم الإمام الشافعي بالتشيع ومنهم فلان وفلان! فقال الإمام أحمد رحمه الله: أنا لا أدري ما يقولون، ولكن والله ما رأيت من الرجل إلا خيراً، وإن الرجل من أهل العلم إذ آتاه الله تعالى ومنحه شيئاً وحرم أقرانه منه فإنهم يحسدونه على ذلك ويرمونه بما ليس فيه. وهذه شهادة عظيمة للإمام الشافعي على لسان الإمام أحمد لم يحابها أقرب الناس إليه، وإن الإمام كان يشير إلى بعض طلبة الحديث الذين وجدوا على الشافعي ما وجدوا .
وكانت التهمة بأن الشافعي متشيع ربما كان لها علاقة بالخلفية السابقة، لأنه استدعي إلى الرشيد كما سبق .
أيضا اتهم الشافعي رحمه الله بالاعتـزال، وذلك لأنه تتلمذ على يد رجل من أهل المدينة اسمه إبراهيم بن أبي يحيى أخذ عنه في حداثة سنه، يوم كان يأخذ عن الإمام مالك رحمه الله، وكان الشافعي احتاج إلى مرويات إبراهيم هذا لما كان في مصر في آخر عمره وكان ينقل عنه ويقول: حدثني الإمام إبراهيم، أو حدثني الثقة و...إلخ .
كان إبراهيم بن أبي يحيى متروكاً عند أهل الحديث، أما الشافعي فكان له فيه رأي آخر وكان يروي عنه، ولما كان فيه من الاعتـزال، ألصق البعض هذه التهمة بالشافعي.
ويكفي في نفي هذه التهمة وردها أن الشافعي رحمه الله كان من أكثر العلماء ذما لعلم الكلام، وكلامه في ذلك كثير، وقد شنَّع عليهم حتى كان يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق ويقال لهم: هذا جزاء من خالف كتاب الله عز وجل، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان يصرح بأنه يثبت أسماء الله تعالى وصفاته على ما قال الله تعالى، وعلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما عليه أصحاب محمد والتابعون لهم بإحسان .
فكان الرجل سليم السريرة نقي الطوية صالح الاعتقاد سليم السلوك، ولكن القوم حسدوه كما قيل .
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه |
|
فالناس أعداء له وخصوم |
كضرائر الحسناء قلن لوجهها |
|
حسداً وبغضاً إنه لدميم |
لقد تحامل على الشافعي أيضا بعض المالكية، خصوصاً لما جاء إلى مصر فظنوا أنه سوف ينشر مذهب مالك، فوجدوا أن الشافعي لا يفعل ذلك وإنما يكتب كتاباً ينتقد مالك في مسائل منها :
قول مالك في إجماع أهل المدينة، حيث كان يعده إجماعاً ويأخذ به، فخالفه بذلك الشافعي وقال: ما نقله أهل المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حديث يروى كما يروى عن غيرهم، وما قالوا به من عند أنفسهم فهو اجتهاد يخطئ ويصيب.
وكذلك خالف الشافعي الإمام مالك في مسائل رأى الشافعي أن الحديث صح فيها بخلاف ما قاله مالك.
وربما كان من قصد الشافعي أنه رأى تعظيماً لمالك أكثر مما ينبغي، خصوصاً في بلاد الأندلس.
وربما بلغه شيء من ذلك حتى كان بعضهم يتبركون بآثاره ويبالغون في ذلك ويتعدون حد الاعتدل، فرأى نوعا من الإفراط في محبة الإمام مالك وتعظيمه، وهذا لا شك في ميدان تضعف فيه العقول عن النقد وعن التصحيح، وكثير من العوام يبتلون بمثل هذا، فأراد أن يعيد الميزان إلى اعتداله، فكتب كتاباً خلاف مالك، ونقد مالك في هذه الأشياء مع حفظه لقدره ومكانته، ولاشك أن الشافعي مات رحمه الله وهو يعتبر نفسه أحد التلاميذ الأوفياء لهذا الإمام العظيم الذي تلقى عنه وحفظ عليه، وكان كتابه الموطأ أول ما باشر عقل الشافعي وقلبه من العلم .
تأصيل علـم الأصول
كان الشافعي رحمه الله إماماً حجةً، وأقر له بالعلم أهل زمانه، وأخذوا عنه واعتبروه مرجعاً للفتوى والعلم والفقه والأصول وغيرها.
وكان أعظم عمل قام به الشافعي رحمه الله وخلد الله تعالى به ذكره هو (كتاب الرسالة) وهو كتاب مطبوع، وأفضل طبعاته ما كان بتحقيق الشيخ العلامة أحمد محمد شاكر، وهو في مجلد ضخم.
هذه الرسالة هي في أصول الفقه، وقد دوَّن فيها القوانين التي تحكم الفقه أو الاستنباط، وهي عبارة عن أصول مسلمة بالجملة لا شبهة فيها، أو قواعد يتمكن بها الطالب من الفهم والاستنباط من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو علم منطق العرب في مقابل منطق اليونان الذي وضعه أرسطو، فكان الشافعي يشير إلى أن علم أصول الفقه هو منطق العرب، وكان يعتبر العرب أحدَّ الناس عقولاً وأكثرهم ذكاء، ومن قواعد هذه الأصول:
أنه ما من مسألة إلا والحكم فيها الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
"وكل شيء فصلناه تفصيلا" فكل مسألة فلله فيها حكم إما تحريم أو جواز أو إباحة هذا من حيث الجملة .
أنه لا حكم إلا بدليل، فلا يحل لأحد أن يقول في شيء بحكم معين إلا بدليل .
إما القرآن أو الحديث أو الإجماع أو القياس .
هذه هي الأصول العامة، ثم شرع رحمه الله يفصل في هذه الأصول، ويبين الخاص والعام والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيد وغير ذلك، ويبن أيضا الصحيح من الضعيف سواء في الحديث أو القياس وقد قال رحمه الله بإبطال الاستحسان الذي كان يقول به الأحناف وغيرهم، وبهذا العمل الجليل الذي عمله الشافعي فقد قدَّم خدمة عظيمة لتقريب المدارس الفقهية؛ ففي عصره كانت مدرستان مدرسة الرأي، ويقصد بها أهل الكوفة، ومدرسة الحديث وكانت موجودة في الحجاز وغيرها، فكان بينهما فرق كبير ونوع من التراكمات والتباعد، فلما جاء الإمام الشافعي ووضع الرسالة قرَّب أهل الرأي إلى الحديث وقرَّب أهل الحديث إلى أهل الرأي، فإنه بيَّن الحديث الضعيف الذي لا يحل الاستدلال به .
فنجى بذلك أهل الحديث من الاستدلال ببعض الأحاديث الضعيفة كما نجى أهل الرأي من الاستدلال بالقياس الفاسد أو الباطل، وبذلك وضع أصولاً لمدرسة وسطية تنتفع من أهل الحديث كما تنتفع من أهل الرأي، ولم يكن هذا غريباً على إمام درس في حداثة سنه على الإمام مالك، وهو من أئمة أهل الحديث، ودرس بعد ذلك على محمد بن الحسن وكان من أئمة أهل الرأي.
لماذا تغـير مـذهب الإمـام الشافعي ؟
من المعروف أن الإمام الشافعي رحمه الله كان له مذهب في العراق، فلما ذهب إلى مصر غير مذهبه، واستحدث أقوالاً جديدة، وهذا أوجد للشافعي قولين القديم والجديد.
تغير مذهبه، أولاً: بسبب الاجتهاد فإن العالم يظل مجتهداً إلى أن يموت، والاجتهاد من العبادة "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" [الحجر:99]، فالاجتهاد إذاً من الثوابت التي لا تتغير، وإن كانت نتائج الاجتهاد من المتغيرات التي يجوز فيها أن تختلف بين وقت وآخر .
ثانـياً : لأن الشافعي رحمه الله جالس العلماء المصريين وأخذ عنهم وسمع حديثهم، وكان ممن أخذ عنهم الشافعي في مصر تلاميذ الليث بن سعد الذي كان في المدينة وزامل الإمام مالك، ووجد عندهم من حديث العلم وجديده ما أضافه إلى علمه القديم .
ثالـثاً : أن الإمام الشافعي بصر في مصر بحالات جديدة من الأوضاع العملية والعلمية والاجتماعية ولَّدت عنده نوعاً من الفهم الجديد، ولذلك تجد في كتبه التي كتبها في مصر ما ينم عن الأحوال والأمور التي كانت موجودة في مصر لا يعلمها أهل العراق .
رابعـاً : لأن الشافعي زاد عقله وتم نضجه ونمت تجربته بالسن، وبمخالطة الناس ورجال العلم.
ولذلك قال الإمام أحمد لمن سأله : عليك بالكتب التي وضعها الشافعي في مصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق من قبل ولم يحكمها أو يضبطها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذلك وضبطه.
ولهذا ولما جبل عليه الشافعي من الصدق والإخلاص والنية الصالحة في طلب العلم وتعليمه، ولما كان عليه من حسن الأدب والتربية والتعليم لمن حوله، ولما عنده من سعة العلم والفهم والاطلاع على نصوص الكتاب والسنة .
ولما أصله من القواعد التي احتاج إليه من بعده، حتى ظل كتابه (الرسالة) إلى اليوم هو أفضل كتاب في أصول الفقه، وكأن هذا الكتاب ولد متكاملاً أو على الأقل ترك بعد وفاة الشافعي مكتملاً لا يحتاج إلى مزيد .
لذلك كله كتب الله تعالى للإمام الشافعي القبول عند الناس وصار أحد الأئمة المتبوعين .
ولا يضر الإمام الشافعي في بعض من تبعوه نوع من التعصب، فإنه كان أبعد الناس عن ذلك، ولهذا قال الحميدي: رأيت الشافعي يوماً يستدل بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا إمام هل تقول أنت بهذا؟ قال: فغضب، وقال لي: هل رأيتني خارجاً من كنيسة أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول لي: هل تقول به!
وصح عنه قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وهذا منقول عن غيره من الأئمة.
فالواجب على الطلبة والأتباع أن يستفيدوا منه وألا يتعصبوا له؛ فكل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن يجعلنا من أتباعه ويحشرنا في زمرته، ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن نتحلى بآداب وأخلاق العلماء .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المصدر: https://uqu.edu.sa/page/ar/67939