الهجرة .. حدث تاريخي أسس لدولة المساواة والعدل
أحمد التلاوي
احتفل المسلمون قبل أيام عديدة بذكرى مهمة تتعلق بحدث تاريخي غير وجه العالم، ولسنا مُبالغين عندما نقول وجه العالم؛ لأنه من الناحية الموضوعية، أسست هجرة الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، والصحابة الأوائل الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، لكيان سياسي نما وتوسع بعد ذلك، وغيّر خريطة القوى السياسية العالمية التي كانت قائمة في ذلك الحين، في بضعة عشرات من السنين لا غير.
أزالت دولة الإسلام قوى الظلام والعبودية التي كانت مسيطرة على ما يُعرف في العلوم السياسية الحديثة، بالنظام العالمي، وهي دولة فارس والدولة الرومانية، واللتان كانتا تسيطران على غالبية مناطق العالم القديم المعروف في ذلك الحين.
وخلال قرون تالية، لعبت دولة الخلافة الإسلامية دور القوى العظمى في عالم اليوم، وكان لها أعظم الأثر في تغيير وجه الحضارة الإنسانية بأكملها، من خلال الإنتاج الفكري والثقافي والمعرفي الذي نما وترعرع بين جنباتها، وخصوصًا في أوقات ازدهارها، كما في بغداد، في عهد المنصور وهارون الرشيد، وفي الأندلس، طيلة أكثر من ثمانية قرون.
في المقابل، كان انهيار الدولة الإسلامية الجامعة، في عشرينيات القرن الماضي، عندما نجحت قوى الاستكبار العالمي في مخططها الذي استمر قروناً لتفكيك هذا الكيان العبقري الذي استطاع تحقيق المعادلة الصعبة في الحكم، بإقامة دولة المواطنة في كيان كان يضم مئات الأعراق وأصحاب الديانات السماوية والوضعية، في منظومة لم تسمح بظهور أية صراعات عرقية أو حروب دينية أو طائفية، إلا في أوقات ضعف السلطة المركزية للدولة.
وحتى هذه الصراعات كانت محدودة بالقياس إلى عمر وحجم الدولة، وما كانت تضمه من كيانات وأعراق وديانات، ويعود ذلك إلى المنظومة التي أقرتها الدولة في جانب ما نطلق عليه في وقتنا الراهن، الإدارة المحلية؛ حيث كانت خليطًا من المركزية واللا مركزية، بما سمح بفرض سلطة الدولة وتطبيق قوانينها، في إطار من اللا مركزية التي سمحت للأقاليم والأطراف بالتعبير عن نفسها، وبممارسة شكل من أشكال الحياة الخاصة والعامة، بناء على خصوصيتها الثقافية والاجتماعية.
ويمكن فهم عظمة إنجاز دولة الإسلام في هذا المجال، بالنظر إلى تجارب أخرى لدول إمبراطورية، مثل الدولة الرومانية، التي كانت تحكم الطيف المجتمعي والديني والعرقي الذي كان يعيش في المناطق التي كانت تسيطر عليها، بمنتهى الظلم والعسف، وهو ما قاد إلى أكثر من نتيجة.
النتيجة الأولى، هي الحروب الدينية والعرقية التي اجتاحت أوروبا لقرون، وكان الحل الوحيد لها هو تأسيس دول قومية تضم كلٌّ منها عرقية أو أصحاب ديانة أو مذهب داخل حدود معترف بها، وفق ما تم الاتفاق عليه في صلح ويست فاليا عام 1648م.
قبل ذلك انشقت الدولة الرومانية في أكثر من موقف تاريخي، بل وانشقت الكنيسة نفسها، إلى ثلاثة كنائس، الأرثوذكسية في القسطنطينية، التي أصبحت اسطنبول بعد الفتح الإسلامي لها، والكاثوليكية في روما، والبروتوستانية في الإقطاعيات الألمانية والإنجليزية، ثم أصبح لكل من هذه الكنائس دولة تتنازع الأخرى، ثم دولاً متعددة كما أشرنا، بعد إنهاء الحروب الدينية في أوروبا بصلح ويست فاليا.
النتيجة الثانية، تؤكد عظمة دولة الإسلام وعدلها، وتتمثل في ترحيب الشعوب والمِلَل والنِّحَل التي كانت تحت حكم فارس والروم والكيانات التابعة لكلا الإمبراطوريتَيْن، كما في دولة الغساسنة في الشام، والدولة الساسانية في بلاد الرافدين، بالفاتحين العرب المسلمين، مع إدراكهم، مما سمعوه، لعدالة هذا الدين.
حدث عظيم
بدأ هذا الحدث العظيم في العام الثاني عشر للبعثة، ببيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية، بعد ذلك بعام، والتي كانت الأساس الحقيقي للهجرة وللدولة.
ففي العام الثالث عشر من الدعوة الإسلامية، أتى من المدينة، ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من قبيلتَيْ الأوس والخزرج، وعقدوا اجتماعًا مع الرسول “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، واتفقوا معه على تأييده في دعوته، وكذلك ضمان حمايته ومن سيهاجر معه كما يحمون أبناءهم وإخوانهم، وأن لهم الجنة.
فالرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، أدرك -وهو الذي لا ينطق عن الهوى- أنه لا يمكن لدعوة الإسلام أن تنتشر من غير شوكةٍ تحميها، والشوكة ليست قوى حربية أو عسكرية فحسب؛ بل هي -وفق علوم النظم الحديثة- يمكن أن تكون سياسية أو اقتصادية.
“الرسول الكريم، أدرك أنه لا يمكن لدعوة الإسلام أن تنتشر من غير شوكةٍ تحميها، والشوكة ليست قوى حربية أو عسكرية فحسب؛ بل هي -وفق علوم النظم الحديثة- يمكن أن تكون سياسية أو اقتصادية”
والشوكة هنا كانت دولة وليدة، أو كيان له استقلاله السياسي والاجتماعي والاقتصادي عن مكة المكرمة، يرعى الدعوة، في ظل سيطرة تحالف القبائل والعشائر التي كانت تعادي دعوة رسول الله “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، على مكة؛ حيث لعب مشركو مكة وتحالف القبائل التابع لهم، دورًا كبيرًا في إفشال الجولات التي قام بها “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” قبل العام العاشر للبعثة، على قبائل العرب المحيطة بمكة، لنشر الإسلام.
وكان على رأس هؤلاء أبو لهب، أو عبد العزى بن عبد مناف، عم الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، حيث قام بتحريض ثقيف بالطائف، وغيرها من القبائل التي خرج إليها الرسول “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، لدعوتها إلى الإسلام.
ولقد اختار الله تعالى المدينة لهذه الدور، وعندما دعت قبائل المدينة الرسول “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” لزيارتها، قبل هذه الدعوة للعوامل السابقة، في المقابل وجد أهل يثرب -قبل أن تصبح المدينة- في هذه البيعة مكسبًا سياسيًّا لهم، أولاً في مواجهة اليهود وأطماعهم في أرض المدينة، وثانيًا الإصلاح بين قبلتَيْ الأوس والخزرج، كبرى قبائل المدينة.
وبجانب العوامل السابقة التي جعلت من المدينة المنورة هدفًا للهجرة الثالثة للمسلمين، بعد الهجرتَيْن الأولى والثانية إلى الحبشة، كان هناك عامل مهم في هذا الاختيار، يمت للعصبية بصلة، ففي المدينة بيت أخوال رسول الله “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، ومن ثَمَّ؛ فسوف يكونوا من بين أهم داعميه بناء على صلة القربى والرحم بينه وبينهم.
وعندما هاجر “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، إلى المدينة، بادر على الفور إلى إقرار “وثيقة المدينة”، وهي أول دستور مدني في التاريخ الإنساني، وفيه كان الاعتراف الكامل بأهلية القبائل وما دونها من صور العمران البشري والاجتماع الإنساني، كأساس لدولة الإسلام الأولى.
في هذه الوثيقة، تم إقرار المرجعية العليا للدولة، للشريعة الإسلامية، وكفالة جميع حقوق الإنسان المتعارف عليها، كالحرية في الاعتقاد وممارسة الشعائر.
ويقول المستشرق الروماني كونستانس جيورجيو عن وثيقة المدينة:
“حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندًا، كلها من رأي رسول الله. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان، وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء”.
وفي الأخير، فإن دولة الإسلام التي تأسست بحدث الهجرة، كانت دولة المساواة والعدل، دولة أقامت صرحًا حضاريًّا خسرت الإنسانية كثيرًا بزواله.
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%AD...